الفلسفة في المغرب

تأخَّر ظهور الفلسفة في المغرب عنها في المشرق حول قرنَين من الزمان، ذلك أن السريان في الشرق نقلوا الفلسفة اليونانية إلى السريانية فبقيت محفوظةً في مدن الشام، حتى إذا خضع الشام للإسلام واستقرَّت الدولة الأُموية، لم يجد العرب جهدًا في نقل الفلسفة، وهو العمل الذي نهض به السريان بتشجيع الخلفاء والأمراء. وبدأت هذه الحركة بالأمير خالد بن يزيد الأُموي، وقويت في عهد المنصور العباسي، واشتدَّت في عصر المأمون.

وكما بدأت حركة النقل بالعلوم ثم الفلسفة في المشرق، كذلك مرَّت حركة طلب العلم ثم الفلسفة في المغرب؛ فقد كانت الأندلس كما يقول صاعد صاحب طبقات الأمم: «خالية من العلم، لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به … ولم تزل كذلك عاطلةً من الحكمة إلى أن افتتحها المسلمون سنة اثنتين وتسعين، فتمادت على ذلك أيضًا، لا يُعنى أهلها بشيء من العلوم إلَّا بعلوم الشريعة وعلم اللغة، إلى أن توطَّد الملك لبني أمية فتحرَّك ذوو الهمم منهم لطلب العلوم وتنبَّهوا لإشارة الحقائق.» ثم يُضيف أنه منذ وسط المائة الثالثة تحرَّك أفراد في طلب العلوم، ولم يزالوا يظهرون ظهورًا غير شائع إلى قريب وسط المائة الرابعة. وكان بعضهم من أهل الأندلس ذهبوا إلى المشرق لطلب العلم وبخاصة الطب، ثم عادوا للاشتغال بهذه الصناعة. وفي بعض الأحيان الأخرى كان علماء من الشرق يفدون إلى الأندلس والمغرب ويستوطنون بها، مثل أحمد الحراني الذي وفد في زمان الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكانت عنده مجرَّباتٌ حِسان بالطب، فاشتُهر بقرطبة وحاز الذكر فيها.

وتحرَّك قوم آخرون لطلب علم الحساب والفلك لحاجة الناس إليهما في العمران. يقول صاعد: «فممن اشتُهر من العلماء ما بين وسطَي هاتَين المائتَين — أي المائة الثالثة والرابعة — فاعتنى بعلم الحساب والنجوم، أبو عبيدة مسلم بن أحمد ابن أبي عبيدة البلنسي المعروف بصاحب القبلة. وكان عالمًا بحركات الكواكب وأحكامها، وكان مع ذلك صاحب فقه وحديث … تُوفي سنة ٢٩٥ﻫ.»

وظلَّت الحال على هذا المنوال طوال القرنَين الثاني والثالث، حتى كان القرن الرابع، فاشتدَّ الطلب على الكتب الفلسفية إلى جانب الكتب العلمية، بفضل الحكم الثاني (٣٥٠–٣٦٦ﻫ) الذي جلب كتب الفلسفة، وغرائب ما صُنِّف بالمشرق؛ فقد كانت الكتب التي تُؤلَّف في فارس والشام تُعرف بالأندلس قبل أن تُعرف في المشرق. وممَّا يُروى في ذلك أن الحكم أرسل ألف دينار من الذهب إلى أبي الفرج الأصفهاني ليقتني منه أول نسخة من كتاب الأغاني. وقد قُرِئَ هذا الكتاب بالفعل في الأندلس قبل أن يُقرأ في العراق. وكان يبعث في شراء الكتب رجالًا من التجار، وجمع في قصره الحُذَّاق في صناعة النسخ، والمهَرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده. وبذلك أصبحت الأندلس منذ أواسط القرن الرابع ممهدة لظهور الفلسفة القائمة على الطب من جهة، وعلى الرياضيات من حساب وهندسة وفلك من جهة أخرى.

فمن الذين مهَّدوا لظهور الفلسفة عن طريق علم الهندسة والنجوم أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل قرطبة. عاش في زمان الحكم، وكان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم. وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغفٌ بتفهُّم كتب بطليموس المعروف بالمجسطي، كما كان عالمًا بالكيمياء. ومن تلاميذه الكرماني الذي رحل إلى المشرق وجلب معه رسائل إخوان الصفا.

وقد لمع بالأندلس بيت اشتُهر بالطب، أبًا عن جد، هو بيت ابن زهر، أولهم أبو مروان عبد الملك بن زهر، رحل إلى المشرق ودخل القيروان ومصر وتطبَّب هناك زمنًا، ثم رجع إلى الأندلس. ثم ابنه أبو العلاء وكان في دولة المرابطين، وله علاجات مختارة، وكان شديد الاعتداد بنفسه وعلمه إلى درجة أنه ذم قانون ابن سينا واطَّرحه ولم يُدخله خزانة كتبه. ويبدو أن ابن زهر هذا كانت له يد في مصرع ابن باجة كما سنذكر فيما بعد. ثم ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء بن زهر، الذي دخل في زمانه المهدي بن تومرت الأندلس ومعه عبد المؤمن الذي أصبح يُعرف بأمير المؤمنين. وكان أبو مروان معاصرًا لأبي الوليد بن رشد، ألَّف الأول في الطب كتاب التيسير في الأمور الجزئية، وألَّف الثاني كتابه المشهور الكليات.

ابن باجة (؟ – ٥٣٣ﻫ/؟ – ١١٣٨م)

وفي هذا الجو العلمي ظهر أول فيلسوف أندلسي، أبو بكر محمد بن يحيى ابن باجة، المعروف بابن الصائغ. وُلد في أواخر القرن الخامس، وتُوفي سنة ٥٣٣ﻫ/١١٣٨م، ليس تاريخ مولده معروفًا. اتصل بالسياسة، وتولَّى غرناطة وسرقسطة عشرين عامًا لعلي بن يوسف المرابطي. وذهب إلى فاس حيث مات مسمومًا فيما يُروى بدسائس خصومه. واتُّهم بالكفر، كما ذكر الفتح بن خافان حين نسبه إلى التعطيل، وأنه «نظر في كتاب التعاليم، وفكَّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم … إلخ.» وكان اتهام الفلاسفة في المغرب بالكفر شائعًا على خلاف الحال في المشرق. ثم إن ابن باجة كان متبحِّرًا في العلوم الطبيعية والرياضيات والفلك والموسيقى، كما كتب شروحًا على أرسطو، ففتح بذلك الباب أمام ابن رشد، وكثيرًا ما كان ابن رشد ينقل عنه في كتبه، وقد تأثَّر به إلى حدٍّ كبير.

وقد امتدحه ابن طفيل، فقال عنه: «إنه أثقب المتأخِّرين ذهنًا، وأصح نظرًا، وأصدق رؤية، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي غير كاملة، ومخرومة من أواخرها ككتابه «في النفس» و«تدبير المتوحِّد» …»

وما ذكره ابن طفيل صحيح، فلم يتسع وقت ابن باجة للتأليف الفلسفي، على خلاف الشيخ الرئيس الذي كان أيضًا مشتغلًا بالوزارة، ولكنه استطاع أن يُتم تأليف أعظم كتبه «الشفاء» و«القانون». ومن حسن الحظ أن كتابَيه «تدبير المتوحِّد»،١ و«النفس»، وكذلك «رسالة الاتصال» قد طُبعت كلها، ولا تزال بعض رسائله الأخرى مخطوطةً لم تُنشر بعد.
و«تدبير المتوحِّد» كتاب في الأخلاق والسياسة على نسق «المدينة الفاضلة» للفارابي. وخلاصة رأي ابن باجة يمكن استخلاصه من العنوان. ونبدأ ﺑ «المتوحِّد» فنقول: إن المقصود بذلك هو انعزال الإنسان، يعيش في برج عاجي، يتأمَّل العلوم النظرية، فيصل بذلك إلى الاتصال بالعقل الفعَّال. حقًّا إن العزلة التامة مخالفة لطبيعة الإنسان من حيث إنه مدني بالطبع، ولكن ابن باجة يذهب إلى أن هذا المتوحِّد خير بالعرض. ويحسن بنا أن ننقل نص كلامه، قال: «فلذلك يكون المتوحِّد واجبًا عليه في بعض السير أن يعتزل عن الناس جملة ما أمكنه، ولا يُلابسهم إلَّا في الأمور الضرورية أو بقدر الضرورة، أو يُهاجر إلى السير التي فيها العلوم — إن كانت موجودة — وليس هذا مناقضًا لما قيل في العلم المدني، ولما تبيَّن في العلم الطبيعي، فإنه تبيَّن هناك أن الإنسان مدني بالطبع، وتبيَّن في العلم المدني أن الاعتزال شر كله، لكن هذا إنما هو بالذات، وأمَّا بالعرض فخير، كما يعرض في كثير ممَّا في الطبع …»٢

الواقع يُتابع ابن باجة الفلسفة اليونانية، وبخاصة الموروثة عن فيثاغورس، من قسمة الناس قسمين؛ الجمهور والنظار، وعلى رأس النظار الواحد، وهو الذي انتهى عند أفلاطون بأن يكون الحاكم الفيلسوف. وهذه نظرية جاء الإسلام فألغاها، وسوَّى بين الناس، ولم يُفاضل بينهم إلَّا في التقوى. وسنرى أن ابن طفيل في «حي بن يقظان» يسلك هذا السبيل؛ لأن «حي بن يقظان» إنسان فرد متوحِّد استطاع بمفرده أن يتعلَّم جميع العلوم والصناعات، وأن يصل إلى معرفة الله. كما سنرى أن ابن رشد يُتابعه كذلك فيُقسِّم الناس إلى جمهور وسعداء.

و«التدبير» يُقصَد به سياسة الناس ووضع الأمور في موضعها، لا مجرَّد التأمُّل والمعرفة البحتة. وجدير بنا أن نقف عند تعريف ابن باجة للتدبير، إذ يقول إنها تدل: «على ترتيب أفعال تُحقِّق غايةً مقصودة.» ومن أجل ذلك كان التدبير إنسانيًّا؛ لأنه يطلب غايةً عن قصد، ثم يُرتِّب الأفعال التي تُحقِّق هذه الغاية. وهذا الترتيب لا يكون إلَّا بالفكر، والفكر لا يكون إلَّا للإنسان فقط.»

ليس من غرضنا في هذه الأسطر القليلة عرض نظرية ابن باجة في «تدبير المتوحِّد»، ولكنا نقول إنه كان مطَّلعًا على جمهورية أفلاطون، وعلى النواميس، وعلى «المدينة الفاضلة» للفارابي، وغير ذلك من النظريات السياسية، وخرج من ذلك كله بنظرية خاصة به، ولكنها على الجملة متأثِّرة بالنزعة اليونانية. ويمكن أن نُلخِّص نظريته في عبارات بسيطة هي: أن الإنسان كائن متوسِّط بين الإلهي والبهيمي، ويحسن به أن يسلك المسلك الإلهي ما أمكنه، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا بالتوحُّد.

وفي «رسالة الاتصال» يُقسِّم ابن باجة الناس ثلاثة أقسام؛ الجمهور، والنظار، والسعداء باعتبار الصور المعقولة. فالجمهور يُدرك صور المعقولات من النظر إلى الموجودات المحسوسة، وبارتباطها بها. أمَّا النظار فإن اتصالهم بالمعقولات أولًا، ثم بالمحسوسات ثانيًا. وهذه الصور يُسمِّيها ابن باجة «الصور الروحانية». وأمَّا السعداء — وهم قلة قليلة جدًّا — فإنهم يتصلون بالمعقولات مباشرة، وهم الذين يرون الشيء بنفسه.٣

ابن طفيل (٥٠٦–٥٨١ﻫ/١١١٠–١١٨٥م)

أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل، الأندلسي القرطبي. وُلد على مقربة من غرناطة بالأندلس، وليس تاريخ مولده معروفًا بالضبط. اشتغل في ابتداء أمره بالطب، واشتُهر بهذه الصناعة وله فيها تآليف ضاعت، وكانت بينه وبين ابن رشد مراسلات حول كتاب «الكليات» لابن رشد، ممَّا يدل على رسوخ قدم ابن طفيل في الطب، كما كانت له آراء في علم الفلك ذكرها البطروجي المنجِّم. وهذا يُؤيِّد ما ذهبنا إليه من أن فلاسفة الإسلام كانوا علماء متبحِّرين في العلوم قبل اشتغالهم بالفلسفة.

واتصل ابن طفيل بأبي يعقوب يوسف المنصور خليفة الموحِّدين، فأصبح طبيبه الخاص من سنة ٥٥٨ إلى ٥٨٠ هجرية. وكان أبو يعقوب يُقرِّب العلماء والفلاسفة، فسأل ابن طفيل أن يشرح كتب أرسطو، فقدَّم إليه أبا الوليد ابن رشد ورشَّحه لهذا العمل، فقام به خير قيام. ولمَّا تنحَّى ابن طفيل عن وظيفته طبيبًا للسلطان، خلفه في ذلك ابن رشد. وكان أبو يعقوب متعلِّقًا بابن طفيل شديد الشغف به والحب. ولمَّا تُوفي أبو يعقوب ظل ابنه أبو يوسف محتفظًا بصداقته، حتى إنه حضر بنفسه جنازة ابن طفيل بمراكش.

ولم يبقَ لنا من مؤلَّفات هذا الفيلسوف إلَّا رسالته المسمَّاة «حي بن يقظان»، وهي رسالة مشهورة في العربية واللاتينية على السواء، ترجمها بوكوك في القرن السابع عشر، ولها ترجمات حديثة بالإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.

وتُسمَّى هذه الرسالة أيضًا «أسرار الحكمة المشرقية»، ويكفي أن ننظر إلى عنوانها الصحيح وهو «رسالة «حي بن يقظان» في أسرار الحكمة المشرقية، استخلصها من درر جواهر ألفاظ الرئيس أبي علي ابن سينا الإمام الفيلسوف الكامل العارف أبي جعفر (كذا) ابن طفيل»، لنعلم أنه يُتابع الشيخ الرئيس في حكمته المشرقية أو الإشراقية، التي ألمعنا إليها فيما سبق، وهي فلسفة صوفية متأثِّرة بالأفلاطونية المحدثة.

ذلك أن ابن سينا ألَّف رسالةً تُسمَّى «حي بن يقظان» سلك فيها مسلك الرمز، ﻓ «حي بن يقظان» رمز للعقل، ومعه رفقة ترمز إلى الشهوات والغضب وسائر الملكات الإنسانية، والجدل بين «حي بن يقظان» ورفقته يرمز إلى الصراع بين العقل والشهوة.

وقد رتَّب ابن طفيل رسالته على مقدِّمة ثم قصة «حي بن يقظان»، فيبيِّن في المقدمة الغرض من هذه الرسالة، وأنه معاينة الحق على سبيل أهل الذوق والمشاهدة في طور الولاية، وهذا شيء لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب، وإنما الذي يمكن هو الرمز، وذكر القصة على سبيل التشويق والحث على دخول الطريق. ثم قرَّر ابن طفيل في هذه المقدِّمة رأيه في فلسفة الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة.

ترمي القصة — في رأينا — إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، بين العقل والشرع.

وقد عُنِيَ مؤرخو الفلسفة حديثًا في إسبانيا بدراسة هذه القصة، وتُرجمت ترجمةً إسبانيةً حديثة، قام بها «جونزالس بالنسيا» سنة ١٩٣٤م، وذهب الأستاذ المستشرق «غارسيا جوميز» إلى أن قصة «حي بن يقظان» مأخوذة من قصة «الصنم والملك وابنته» التي شاعت في الأندلس قديمًا، وصاغ ابن طفيل قصته على نسقها.

وخلاصة القصة كما أوردها الأستاذ «جوميز» تجري على النحو التالي:

«في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وفي ظروف طبيعية ملائمة، يولد طفل من طينة تخمَّرت على مر السنين من غير أب ولا أم. وفي قول آخر إن البحر حمله إلى هذه الجزيرة في تابوت أحكمت أمه قفله بعد أن أروته من الرضاع، وكانت أمه أميرةً مضطهدةً في جزيرة مجاورة، فاستودعت ابنها أمواج البحر حتى تُنجيه من الموت. ذلك الطفل هو حي بن يقظان.

ثم تبنَّته غزالة وأرضعته وحنَّت عليه كأمه. ونما «حي» وأخذ يُلاحظ ويتأمَّل. وكان الله قد وهبه ذكاءً وقَّادًا، فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه، فاهتدى إلى النار، وصنع الآلات والأدوات والسلاح، بل استطاع أن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يُدرك بنفسه أرفع حقائق الطبيعة وما وراءها. وقد وصل إلى ذلك بطريقة الفلاسفة، وأدَّت به هذه الطريقة إلى أن يُحاول عن سبيل الإشراق الفلسفي الوصول إلى الاتحاد الوثيق بالله. وهذا الاتحاد — أو الاتصال — هو العلم الغزير والسعادة القصوى المتصلة الخالدة. ولكي يصل «حي» إلى ذلك دخل مغارةً وصام أربعين يومًا متوالية، مجتهدًا في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن بدنه بوساطة التأمُّل المطلق في الله؛ لكي يبلغ الاتصال به، حتى أدرك ما أراد.

وعندما بلغ هذا المبلغ لقي رجلًا تقيًّا صالحًا يُسمَّى «أسال»، أقبل من جزيرة مجاورة يحسبها الناس مهجورةً من البشر. وقام «أسال» بتعليم صاحبه المنفرد بنفسه الكلام، وهو سبيل التفاهم والإفهام. وأطلع «أسال» على الطريق الفلسفي الذي ابتكره «حي» لنفسه، ورأى فيه تعليلًا علويًّا للدين الذي كان يعتقد، كما رأى فيه تفسيرًا لكل الأديان المنزلة.

ثم اصطحب «أسالُ» حيَّ بن يقظان إلى الجزيرة المجاورة التي كان يحكمها ملك صالح يُسمَّى «سلامان»، وهو صاحب «أسال» الذي كان يرى ملازمة الجماعة وتحريم العزلة، وطلب إليه يكشف إلى أهل الجزيرة عن الحقائق العليا التي وصل إليها، فلم يُوَفَّقْ. وعندئذٍ اعترف كلٌّ من «أسال» و«حي بن يقظان» أن الحقيقة العليا لا تتفق مع طبقة العامة؛ لأنهم مكبَّلون بأغلال الحواس، وعرفا أن الإنسان إذا أراد الوصول إلى التأثير في أفهامهم الغليظة، فلا مفرَّ له من أن يصوغ آراءه في قوالب الأديان المنزلة. وكانت نتيجة هذا أن قرَّرا اعتزال هؤلاء الناس المساكين إلى الأبد، مع نصحهم بالتمسُّك بأديان آبائهم وأجدادهم. وعاد «حي» وصاحبه إلى الجزيرة المهجورة لينعما بهذه الحياة الرفيعة الإلهية الخالصة التي لا يُدركها إلَّا القلائل من الناس.»٤

الأساس الفلسفي لهذه القصة هو التوفيق بين الدين والفلسفة، وبيان الطريق الذي سلكه فلاسفة الإسلام متبعين الأفلاطونية الحديثة. «وحي» رمز للعقل الإنساني، ويقظان رمز لله.

ابن رشد (٥٢٦–٥٩٥ﻫ/١١٢٦–١١٩٨م)

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، فيلسوف قرطبة.

نشأ في أسرة من الفقهاء والقضاة، كان أبوه قاضيًا، وكذلك جده الذي اشتُهر بالفقه، ويُسمَّى كذلك أبا الوليد الجد تمييزًا له عن أبي الوليد ابن رشد الحفيد.

وُلد أبو الوليد الفيلسوف بقرطبة وتعلَّم الفقه والرياضيات والطب، وتولَّى القضاء بأشبيلية ثم بقرطبة، وكان منقطعًا للبحث والاطلاع والكتابة والمداومة عليها، وصفه ابن الأبَّار بقوله: «لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا. وكان على شرفه أشد الناس تواضعًا، وأخفضهم جناحًا. عُنِيَ بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حُكِيَ عنه أنه لم يدَع النظر والقراءة منذ عقل إلَّا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله. وأنه سَوَّد فيما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره. وكان يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب.»

وقد اشتُهر ابن رشد في أوروبا اللاتينية باسم «الشارح»؛ أي شارح أرسطو، لا تقِلُّ منزلته عن الإسكندر الإفروديسي وثامسطيوس. وابن طفيل هو الذي رشَّح ابن رشد ليشرح كتب المعلِّم الأول، وقدَّمه إلى أبي يعقوب يوسف الموحدي (٥٧٧–٥٧٩ هجرية)، وهذه هي رواية عبد الواحد المراكشي في سبب ذلك، قال: «أخبرني أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي تلميذ ابن رشد قال: سمعت أبا الوليد يقول غير مرة: لمَّا دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يُثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين — بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي — أن قال لي: ما رأيهم في السماء — يعني الفلاسفة — أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلَّل وأُنكر اشتغالي بعلم الفلسفة. ولم أكن أرى ما قرَّر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الرَّوْع والحياء، فالتفت إليَّ ابن طفيل وجعل يتكلَّم عن المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منهم غزارة حفظ لم أظنَّها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرِّغين له. ولم يزل يبسطني حتى تكلَّمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلمَّا انصرفتُ أمر لي بمالٍ وخلعةٍ سنية ومركب.

وأخبرني تلميذه المتقدِّم ذكره قال: استدعاني أبو بكر ابن طفيل يومًا فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكَّى من قلق عبارة أرسطوطاليس — أو عبارة المترجمين عنه — ويذكر غموض أغراضه ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يُلخِّصها، ويُقرِّب أغراضها، بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا؛ لقرب مأخذها على الناس. فإن كان فيك فضل قوة لذلك، فافعل. وإني لأرجو أن تُعنى به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، ولا يمنعني من ذلك إلَّا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد ابن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخَّصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.»

ونهض ابن رشد بالعبء، وشرح ولخَّص كتب أرسطو، وأخرج ثلاثة أنواع من الشروح؛ الأصغر والأوسط والأكبر.

التلخيص يتحرَّر فيه ابن رشد من نص عبارة أرسطو، ويحكي آراءه الخاصة التي تُعبِّر عن مذهبه، ولو أنه يُحاذي فيها آراء المعلِّم الأول. وله في المطبوع حاليًّا تلخيصات كثيرة، منها عدة كتب في مجموع نُشرت في الهند، وهي «السماع الطبيعي»، و«السماء والعالم»، و«الطبيعة»، و«الكون والفساد»، و«النفس»،٥ و«ما بعد الطبيعة».٦
والشرح الأوسط يبدأ فيه ابن رشد بهذه اللفظة «قال»، يُريد أرسطو، فإمَّا أن يكتفي بذلك، أو يورد طرفًا يسيرًا من نص أرسطو، ثم يشرع في التلخيص والشرح. وقد طُبع له بالعربية «تلخيص المقولات» و«تلخيص الخطابة».٧

والشرح الأكبر نُشر منه بالعربية «تفسير ما بعد الطبيعة» في خمسة أجزاء (نشره الأب بويج في بيروت).

ونحن نرى أن من يُريد الاطلاع على مذهب ابن رشد المتحرِّر من سلطان أرسطو فعليه أن يطلب في التلخيصات التي هي الشرح الأصغر.

وله كذلك شروح على معظم كتب أرسطو الطبيعية والمنطقية والأخلاقية، معظمها موجود في تراجمه اللاتينية، أو تراجمه العبرية، مفقود في مخطوطاته العربية، ممَّا يدل على الأثر العظيم الذي بلغه ابن رشد في أوروبا وفي التفكير العالمي.

وابن رشد بدأ فقيهًا، وله في الفقه أثر كبير أيضًا في العالم الإسلامي. وكتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» مشهور، يدل على أنه صاحب رأي في الفقه، كما كان صاحب مذهب في الفلسفة.

ثم تطوَّر ابن رشد فأصبح طبيبًا، لا تقل منزلته في الطب عن ابن سينا في المشرق. له في ذلك كتاب «الكليات» الذي نُقل إلى اللاتينية، وكان يُدرَّس في جامعات أوروبا إلى جانب «قانون ابن سينا». وقد اقتصر ابن رشد في كتاب «الكليات» على الأصول دون الفروع، والتطبيقات الجزئية، وهو الذي أشار على صديقه ابن زهر أن يُؤلِّف كتابًا في الطب يبحث في الأمور الجزئية، والذي يمتدحه ابن رشد نفسه بقوله: إن أوفق الكنانيش «الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألَّفه في زماننا هذا مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته.»

وله كذلك كتب في علم الفلك مفقودة في العربية، وتُوجد ترجمات لها في العبرية؛ وهذا يدل على أن ابن رشد الفيلسوف أقام فلسفته على العلم.

أمَّا فلسفته فيمكن التماسها في ردِّه على «تهافت الفلاسفة» للغزالي، في كتابه المشهور باسم «تهافت التهافت»، والذي تُرجم إلى اللاتينية، وتاثَّر به القديس توما الأكويني.

وله في التوفيق بين الدين والفلسفة كتابان صغيران، ولكن قيمتهما عظيمة، هما؛ «الكشف عن مناهج الأدلة»، و«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».

وفي أواخر حياة ابن رشد أُصيب بمحنة شديدة؛ إذ سعى الفقهاء لدى الخليفة فأوقعوا بينهما، حتى غضب عليه ونفاه إلى مدينة قريبة من قرطبة تُسمَّى أليسانة، ثم أفرج عنه، وانتقل إلى مراكش عند أبي يعقوب، ومات سنة ٥٩٥ه. ولم تقم للفلسفة قائمة بعد وفاته؛ ذلك أن الشرط الذي من دونه لا يمكن للفلسفة أن تزدهر وهو حرية الفكر، قد أُلغي باسم الدين.

ونستطيع أن نُجمل مذهب ابن رشد في أنه مذهب عقلي.

إنه يُقدِّس العقل، ويرفع من شأنه، وبه يُفسِّر المعرفة والوجود على سواء.

والعقل يقوم أساسًا على المعاني الكلية التي تضم تحت جناحَيها أشتات الجزئيات. وقد ثار جدل طويل في العصر الوسيط حول الكليات أهي مجرد أسماء، أم لها وجود حقيقي في الخارج، نعني خارج الذهن، أم أنها تصوُّرات عقلية؟

وابن رشد صريح حاسم في أن الكليات تصوُّرات ذهنية، وليست موجودةً في الخارج، على عكس ابن سينا الذي يمسك العصا من وسطها.

يقول ابن رشد في «تلخيص ما بعد الطبيعة»: «وأيضًا متى أنزلنا هذه الكليات موجودة خارج النفس، لزم أن يكون لها كليات أُخَر خارج النفس، بها يصير الكلي الأول معقولًا، والثاني ثالثًا، وذلك إلى غير نهاية. وليس يلزمنا هذا الشك متى وضعنا أن وجود الكلي في الذهن.»٨

والفيلسوف صاحب المذهب العقلي لا بد له أن يُؤمن بارتباط الأشياء ارتباطًا ضروريًّا بالأسباب والمسببات. والإيمان بالسببية أساس العلم الطبيعي، وأساس الفلسفة العقلية. وقد حاول الغزالي أن يهدم الارتباط الضروري بين الأسباب والمسببات حتى يُفسح المجال للقدرة الإلهية، وهاجم الفلاسفة في كتابه «التهافت» لقولهم بهذا المبدأ، فانبرى له ابن رشد وردَّ عليه قائلًا: «أمَّا إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تُشاهَد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلِّم بذلك إمَّا جاحد بلسانه لما في جنانه، وإمَّا منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك …» ثم ردَّ الأسباب إلى العلل الأربع التي قال بها أرسطو وهي المادية والصورية والفاعلة والغائية. إلى أن قال: «فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ودفع له.»

وابن رشد العقلي يُفسِّر الدين تفسيرًا عقليًّا، مع رجوعه في ذلك إلى القرآن؛ فهو في «فصل المقال بين الحكمة والشريعة»، يذهب إلى أن معرفة الصانع لا تكون إلَّا بالنظر في الكائنات التي خلقها الله للاستدلال منها على وجود الصانع، وقد ساق الله في كتابه دليلَين لخَّصهما ابن رشد في دليل العناية ودليل الاختراع، فالآيات التي تدل على الاختراع مثل: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ … (الحج: ٧٣)، ومن الآيات الدالة على العناية قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (النبأ: ٦–٧) … إلخ.

وقد كان أثر ابن رشد في أوروبا عظيمًا، حتى لقد انقسم المفكِّرون بشأنه ما بين محبذٍ ومنكر. وتُعرَف هذه الحركة في تاريخ الفلسفة باسم الرشدية اللاتينية، وذلك بسبب آرائه في التوفيق بين الدين والفلسفة.

١  نشر «تدبير المتوحِّد» الأستاذ أسين بلاسيوس في مجلة الأندلس ١٩٤٦م، مع ترجمتها إلى الإسبانية. ونشر دكتور المعصومي كتاب «النفس» في دمشق في مطبوعات المجمع العلمي سنة ١٩٦٠م. ونشرتُ «رسالةَ الاتصال» — وهي صغيرة — مع كتاب «تلخيص كتاب النفس» لابن رشد، القاهرة ١٩٥٠م.
٢  «تدبير المتوحِّد» ص٧٨.
٣  انظر «رسالة الاتصال» لابن باجة، منشورة مع «تلخيص كتاب النفس» لابن رشد، ص١٠٢–١١٨.
٤  «جونثالث بالنشتيا»: تراث الفكر الأندلسي — ترجمة حسين مؤنس — ص٣٤٩-٣٥٠.
٥  انظر «تلخيص كتاب النفس» لابن رشد، نشر أحمد فؤاد الأهواني، مكتبة النهضة.
٦  انظر «تلخيص ما بعد الطبيعة»، نشر عثمان أمين، مطبعة مصطفى الحلبي.
٧  انظر «تلخيص المقولات» نشرة بويج في بيروت، و«تلخيص الخطابة» نشرة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة.
٨  «تلخيص ما بعد الطبيعة»، ص٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤