كلمة حول علاج المرأة من العُصاب

لعل من أهم مشاكل المرأة أيضًا أنها إذا ما أُصيبت بالعصاب أو أي أزمة أو مرض نفسي فإنها لا تجد أمامها إلا الطبيب النفسي الذي تذهب إليه، فيُشبِع جسدها بالحقن أو الأقراص، أو يوجِّه إلى رأسها الجلسات الكهربية.

ولأن معظم أسباب العصاب وغيره من أمراض المرأة النفسية ليست داخل رأس المرأة أو جسدها، وإنما هي في المجتمع والأسرة والمدرسة والشارع وأماكن العمل؛ لذلك فإن الحقن والأقراص والجلسات الكهربية لا تفيد شيئًا، ولا تعالج المرض من جذوره، وإنما قد تساعد بعض الشيء في تخفيف الألم أو التخدير المؤقت.

إن علاج الأمراض النفسية من جذورها أو بمعنى آخر إزالة أسبابها الحقيقية يُسَمَّى علميًّا باسم الطب الوقائي النفسي، أُسوةً بالطب الوقائي الجسدي الذي يمنع الأمراض العضوية عن الناس قبل أن يُصابوا بها، ولكن الطب الوقائي (سواء كان وقاية من الأمراض العضوية أو الأمراض النفسية) لا يتقدم التقدُّم المطلوب الذي يتناسب مع أهميته البالغة لتحقيق الصحة الجسدية والنفسية للناس، والسبب في ذلك هو أن تقدم الطب الوقائي يتعارض مع مصالح الأطباء ومفهوم مهنة الطب بصفةٍ عامة؛ إن تقدم الطب الوقائي (النفسي والجسدي) معناه عدم حدوث أمراض جسدية أو نفسية، وهذا معناه إفلاس عيادات الأطباء الخاصة.

وحينما دخلتُ كلية الطب (في بداية هذا الدخول) كنت أومن بأن مهنتي في الحياة ستكون الطب؛ فقد كنت أعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الطب رسالة إنسانية، وفي اليوم الذي تخرجت فيه من كلية الطب (بعد ٦ سنوات ونصف) كنت قد آمنت بأن مهنتي في الحياة لن تكون بأي حال من الأحوال هي الطب، وأن الاعتقاد بإنسانية الطب ليس إلا حلم مراهقة.

وهمستُ في أذن أحد زملائي بهذا التغيير الضخم الذي حدث لي خلال سنوات الدراسة، فإذا به يصيح بصوتٍ عالٍ: وأنا أيضًا، وكلنا مثلك.

وقد حاولت أن أفهم الأسباب الحقيقية وراء هذا التغيير الذي يحدث للطالب أو الطالبة خلال سنوات الدراسة، فأدركتُ أن هذه الأسباب تنقسم إلى قسمين:

  • (١)

    الجو أو المناخ العام الذي يعيش فيه طالب أو طالبة الطب ويستنشق القيم المعوقة لنموه النفسي الإنساني.

  • (٢)

    المعلومات التي تدخل رأسه خلال هذه السنوات، والتي تفسد نظرته الشاملة إلى الإنسان كوحدةٍ متكاملة من جسد ونفس ومجتمع.

أمَّا من ناحية الجو العام أو المناخ الذي يعيش فيه طالب الطب، فهو مناخ يدفع بالطالب إلى التطلع إلى عربة أستاذه الطويلة الفارهة، وإلى يافطة عيادته الطويلة، والطريقة التي يضع بها فم سيجاره الذهبي في فمه. لا أنكر أن بعض أساتذتي في الطب كانوا يأتون إلى الكلية راكبين الترام العتيق الذي كان يمشي في شارع القصر العيني، ولكن هؤلاء كانوا قلة قليلة نادرة، وكان معظمهم من أساتذة الطب الوقائي أو الصحة العامة؛ مما يجعل طلبة الطب يربطون بين التخصص في الطب الوقائي وبين ركوب الترام.

وحيث إنَّ أيَّ إنسانٍ مهما كانت طبقته الاجتماعية يكره ركوب الترام البطيء المزدحم، فيبدأ الشعور بالكراهية ينمو في أعماق الطالب تجاه الطب الوقائي، ويعتقد أن التخصص في الطب الوقائي ليس إلا نوعًا من الكوارث التي يجب أن يحصِّن نفسه ضدها وأن يتفنن في أساليب الوقاية منها قبل أن تحدث.

كنت وأنا طالبة أحب قراءة كتب علم النفس والفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد أدركت من هذه القراءات أن أسباب الأمراض النفسية (وكثير من الأمراض العضوية أيضًا) تكمن خارج الإنسان؛ أي في المجتمع والبيئة الخارجية، بسبب الفقر والجوع والظلم والقهر والكبت والكذب … إلخ؛ ولهذا أدركتُ أن الطب الوقائي سيكون مصيري وليس الطب العلاجي، وهمستُ بهذه الرغبة في أذن إحدى زميلاتي، فإذا بها تشهق في فزع وكأنني همست لها برغبةٍ جنسية آثمة أو مُحرَّمة، وصاحت: ماذا؟ الطب الوقائي؟ لماذا يا أختي؟ هو أنت فيك عيب أو عاهة؟

كان المناخ الدراسي العام داخل كلية الطب يُرسِّخ في أعماقنا العميقة ازدراء الطب الوقائي، وإحساسًا بأن الاتجاه نحوه أو التخصص فيه لا يمكن أن يحدث لطالبٍ ذكيٍّ متكامل القوى العقلية والجسمية، وإنما لا بد أن يكون هناك عيب ما فيه يمنعه من الاتجاه نحو التخصصات الطبيعية المشروعة في الطب، والتخصصات الطبيعية المشروعة في الطب هي التخصصات العلاجية، مثل الجراحة وأمراض باطنة ونساء وولادة وصدرية وجلدية وعصبية وتناسلية وعيون وغيرها، أمَّا التخصص في أي فرع من فروع الطب الوقائي فهو جنوح عن الطبيعة وخروج عليها، ولا بد أن يكون ذلك لسببٍ قهري، أمَّا أن يكون اختياريًّا فهذا هو ما لا يقبله أي عقل.

أمَّا عن المعلومات التي تدخل رأس طالب أو طالبة الطب خلال سنوات الدراسة، فهي معلومات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تؤهل الطبيب أو الطبيبة لمعرفة الأسباب الحقيقية للأمراض النفسية (وكثير من الأمراض العضوية أيضًا)، وإني أعترف بأنني لم أفهم في جسم الإنسان أو نفسه أو بيئته إلا بعد أن تخرجت في كلية الطب، وذلك من احتكاكي بالمجتمع وقراءاتي الخاصة في العلوم المختلفة. إنَّ الدراسة في كلية الطب تفصل الإنسان عن المجتمع، وتجعله جسدًا معزولًا كجسد الفأر الذي يُعزَل في المعمل؛ وبالتالي يجهل معظم الأطباء الأسباب الاجتماعية (وهي الأسباب الحقيقية) للأمراض في أحيان كثيرة (الأسباب الاجتماعية تعني الأسباب الاقتصادية والسياسية بطبيعة الحال).

أمَّا عن نفس الإنسان فهذا هو ما لم يُعرِّفنا به أحد خلال سنوات الدراسة في كلية الطب، اللهم إلا محاضرة أو محاضرتين في السنة الثانية، لا توضح لنا نفس الإنسان بقدر ما تزيدها غموضًا.

ولست أعتقد أنه يمكن لنا أن نعالج الأمراض النفسية (وكثيرًا من الأمراض العضوية) ما لم تُعالَج الأسباب الاجتماعية لهذه الأمراض، وأول خطوات العلاج هي أن نعرف هذه الأسباب الاجتماعية لنعرف كيف نعالجها، ولعلنا قد أدركنا الآن بعض هذه الأسباب، وعرفنا أن عدم المساواة، والكبت، والقيود على الحرية، والخوف، وغيرها من العوامل الاجتماعية التي تتعرض لها البنت منذ طفولتها حتى كهولتها، هي التي تُسبِّب لها العصاب والأمراض النفسية.

ولهذا ليس أمامنا من وسائل العلاج إلا علاج هذه الأسباب، وإزالة التفرقة بين الجنسين، وإزالة الكبت في حياة البنات والنساء، وإزالة القيود التي تمنع البنت والمرأة، وإزالة الخوف الذي يجعل البنت أو المرأة تكذب على نفسها والآخرين، فتصبح عاجزة عن ممارسة الحب الصادق، وتهيئة الظروف والإمكانيات التي تساعد المرأة على العمل المنتج الخلاق، وتحقيق ذاتها كإنسانة لها عقل وليست مجرد جهازٍ تناسلي لولادة الأطفال وإشباع الزوج.

ومن هنا نرى أن علاج النساء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية تحرير المرأة، وأن قضية تحرير المرأة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية تحرير المجتمع من الأسباب التي تدعو إلى استغلال الإنسان للإنسان، والتفرقة بين البشر، وتمزيق الناس إلى مجموعات فقيرة كادحة يمرضها التعب والجوع والإرهاق والهموم، ومجموعات ثرية مستريحة تمرضها الراحة والفراغ والتخمة، وتمزيق الناس إلى جنسين: جنس أنثوي مقهور، يُمرِضه القهر والخضوع والكبت والخدمة والطاعة العمياء، وجنس ذكري عدواني يمرضه العدوان والبطش والظلم والاستبداد بالرأي.

إنَّ الحكَّام المستبدين يتعرضون بسبب الاستبداد للسادية، تمامًا كما يتعرض المحكومون المستعبدون للماسوشية. إنَّ الاستبداد والاستعباد وجهان لعملة واحدة، وهما يُسبِّبان السادية والماسوشية، ولا يمكن لنا أن نُعالج السادية والماسوشية بالأقراص والحقن والكهرباء، ولكن علاجهما الوحيد هو علاج الاستبداد والاستعباد.

ومن هنا تأتي أهمية عدم الفصل بين العلوم السياسية والعلوم الطبية، أو أهمية ربط السياسة والطب؛ فالسياسة بمعناها الحقيقي لا تعني تدبير المؤامرات أو المناورات، أو لعبة الانتخابات، ولكن أهداف السياسة الصحيحة هي نفسها أهداف الطب الصحيح، وليس هناك أي تعارض بين الطب والسياسة، بل لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر.

ولعل هذا هو السبب في أن بعض الأطباء والطبيبات حين يدركون هذه الحقيقة يقودهم عملهم الطبي الصحيح (في الأنظمة الاستبدادية) لا إلى الثراء وشراء العمارات والأطيان، وإنما إلى السجون أو إلى المستشفيات النفسية، حيث يتعلمون عن طريق اختلاطهم بالمرضى أو المساجين حقائق الحياة أكثر وأكثر. إن هؤلاء المنبوذين من المجتمع، سواء كانوا مرضى أو مساجين، يمسكون في أيديهم وفي حياتهم كثيرًا من الحقائق التي يخفيها المجتمع، وقد قال غاندي: «من أجل زعزعة نظام الطوائف، يكفي تركيز الجهود على نقطة حساسة في المجتمع: المنبوذين.» وأنا أقول: من أجل زعزعة الاستغلال في المجتمع والأسرة الأبوية، يكفي تركيز الضوء على نقطة حساسة في المجتمع: النساء المريضات بالعصاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤