علياء

«علياء» شابة طويلة سمراء، ملامحها حادة قوية، لا يمكن أن تضيع ملامحها من ذاكرة من يراها ولو مرة واحدة، إن عينيها من ذلك النوع الذي يستحوذ على الإنسان، ويفرض عليه أن يحترم صدقها وذكاءها، وإن بلغ أية درجة من الجنون أو الخروج عن المنطق المألوف لأغلبية البشر.

قالت لي وفي صوتها رنَّة خفيفة من السخرية: لم أكن أتصور أنني أدخل عيادة طبيب نفسي في يوم من الأيام. كنتُ شديدة الغرور بإرادتي وقدرتي على تحدي العالم، والتعبير عن نفسي بكل صدق وشجاعة، ولم أكن أتصور أن شيئًا يحطمني، ولكنني أدركتُ أن المرأة لا يحطمها إلا زوجها.

وقاطعتُها قائلةً: «لا أظن أن شيئًا يمكن أن يحطمك، هذا هو إحساسي قبل سماعي لمشكلتك». ابتسمتْ بطريقتها الهادئة الممزوجة بالسخرية الخفيفة وقالت: ولكني محطَّمة فعلًا يا دكتورة، لقد تأكدتُ من ذلك في الأيام الأخيرة؛ فأنا لا أنام إلا بالأقراص المنوِّمة، ولا أصحو إلا بالأقراص المنبِّهة، ولم أعد أطيق أي شيء في حياتي، حتى الكتابة التي كانت المتنفَّس الوحيد لي أصبحتُ عاجزة عنها، وأقدمت على الانتحار عدة مرات، ولا يشغلني الآن سوى اختيار أفضل وسيلة للموت، لقد كنتُ أظن أن الانتحار دليل الضعف، الجبن، الهروب من الحياة، ولكني أعتقد الآن أن الانتحار دليل القوة، والصلابة، ومواجهة الحياة بشجاعة، لم أعد أرى في الحياة شيئًا يستحق أن أعيش من أجله.

تغيرت ملامحها بسرعة، وكَسَتْها مسحةٌ غريبةٌ ومفزعةٌ من الكآبة والحزن، انتقلتْ إليَّ كأنما بالعدوى، فشعرتُ أن قلبي ثقيل، وأخذتُ أُنصِت إليها دون أن أقاطعها.

وقالت علياء بعد أن أشعلت سيجارتها: أخرجني أبي من الجامعة وأنا في السنة الأولى ليزوِّجني من رجلٍ تاجرٍ ثريٍّ، ولكن هذا الرجل طلَّقني بعد سنة ونصف السنة، أنجبتُ فيها طفلًا، وكان سبب الطلاق أنه نظر في وجه طفله بعد ولادته فأحس أنه ليس ابنه، وأن الطفل لا يشبهه، ودهشتُ لهذا؛ لأني كنت صغيرة (في الثامنة عشرة من عمري)، ولم أكن أعرف أي رجل آخر. قال إنه يشكُّ فيَّ منذ ليلة الزفاف لأنني لم أكن عذراء، دهشتُ أكثر وأكثر؛ لأني لم أكن قد اتصلت جنسيًّا بأي رجل قبل الزواج، وصارح هذا الرجلُ أبي وجميعَ أسرتي بكل شكوكه وأرسل إليَّ ورقة الطلاق، ورفع أبي عليه قضية نفقة لي وللطفل، ولكننا عرفنا أنه صفَّى جميع أعماله التجارية وغادر البلاد إلى كندا ومعه زوجةٌ أخرى، وأصبحت أنا وطفلي نعيش في كنف أبي الذي كان يتذمَّر دائمًا من طفلي وكثرة المصاريف، ويلمِّح لي دائمًا بأن شكوك زوجي ربما كانت حقيقية، لكني كنت أؤكد له دائمًا أن زوجي كان كاذبًا في شكوكه، وأنه تعلل بكل هذه العلل ليطلِّقني في ظل تلك الفضيحة التي تُسهِّل عليه التهرب من دفع النفقة لي وللطفل، حتى يغادر البلاد مع زوجته الأخرى. كانت حياتي أنا وطفلي في بيت أبي جحيمًا ومهانةً، ولم تكن أمي تملك شيئًا ولا إخوتي الستة الصغار، وفكرتُ في أن أعمل بالثانوية وأعول نفسي وطفلي، وكنت أشعر برغبة شديدة للكتابة، وكتبتُ قصة، قرأتُها لإحدى صديقاتي، فأُعجبتْ بها جِدًّا، وشجعتني على أن أحاول نشرها في إحدى المجلات وآخذ عنها أجرًا.

وحصلتُ على عملٍ كتابي بإحدى المؤسسات الصحافية، وبالرغم من أن عملي لم يكن فنيًّا إلا أن جو العمل هيَّأ لي الاتصال ببعض الصحفيين والكُتَّاب، وبدأت أفهم الحياة وأقرأ كثيرًا، وأكتب من حين إلى حين.

ثُمَّ قابلتُ زوجي الحالي، وهو محامٍ، وأحبَّني وأحببته، وتزوجنا منذ خمسة عشر عامًا، وأنجبتُ بنتين، وبذلك أصبح لديَّ ولد وبنتان، صارحتُ زوجي قبل الزواج بكل ما حدث لي في حياتي قبل أن أقابله، وصدَّقني، وطلب مني أن أنسى ما فات، وأن أفكر في المستقبل. وفعلًا فعلت ذلك، وبدأت أعمل من أجل مستقبلي ككاتبة، فقد أحسست أن الكتابة هي مستقبلي الوحيد. وكنت أفرح كلما نُشِرَت لي قصة وحازت إعجاب بعض الناس، ولم يكن ينغِّص عليَّ فرحتي إلا زوجي، الذي بدأتُ أدرك أنه يحاول أن يعطلني عن الكتابة، وكان يتعلل بأن الكتابة تشغلني عنه وعن البيت، لكني عرفت أنه يغار من أي نجاحٍ أدبي أحصل عليه، وبدأ يظهر ضيقه كلما تقدمت في الكتابة وعرفني الناس، وإذا نَشرتْ عني إحدى الصحف خبرًا أو نشرت صورتي فالويل لي في هذا اليوم. إن زوجي لا بد أن يتعمد مشاجرة في البيت لأتفه الأسباب، وكنت أتحمل زوجي لأنني كنت أحبه، وكنت أحب أسرتي وأولادي، ولا أريد أن تتحطم حياتي الزوجية للمرة الثانية. وكان زوجي يقسو عليَّ كلما تحملته، وكلما تنازلت عن حق من حقوقي من أجل إرضائه طمع في المزيد، وظللتُ على هذا النحو حتى وجدتُني في النهاية قد تنازلت عن كل مستقبلي الأدبي، ولم أعد أكتب، ولم يعد زوجي يجد أي سبب للتشاجر معي، لكني بدأت أشعر بالصداع والأرق، وشعرت بكراهيةٍ لحياتي ورغبة في الموت، وذهبت إلى طبيب نفسي، فأعطاني أقراصًا مهدئة وأقراصًا منومة، ونصحني بأن أحاول الكتابة مرة أخرى، لكني أصبحت عاجزة عن الكتابة، وعاجزة عن التفكير في شيء أو التركيز، كراهيتي لزوجي تزيد يومًا بعد يوم؛ لأني أشعر أنه السبب فيما حدث لي، ولم أعد أشعر معه بأية رغبة عاطفية أو جنسية. وقد اتهمني منذ شهور بالبرود الجنسي، وهددني بأنه سيذهب إلى امرأةٍ أخرى؛ فلم أشعر بأي اهتمام، بل شعرت بشيء من الراحة لأنه سينشغل بامرأةٍ أخرى عني، علاقتي بأولادي لم تتغير كثيرًا، لكني أشعر أنني أصبحت أكثر ابتعادًا عنهم، وأكثر رغبةً في الانطواء على نفسي. وفي إحدى الليالي كنت مؤرقة وأشعر بصداع شديد واختناق، وحينما رأى زوجي حالتي ثار وغضب، وقال إنه لا يعترف بشيءٍ اسمه مرضٌ نفسي، وأنه لا يرى أي سبب في حياتي يدعوني إلى الاكتئاب، وأنني يجب أن أحمد الله لأني عثرت على زوجٍ رضيَ أن يتزوجني رغم الماضي الذي عشتُه، وكدت أصعق من قسوة الكلام الذي قاله لي، والذي أكد لي فيه أنه لم ينس أبدًا ما قلته له، وأنه كان يشك فيَّ أيضًا، وأن من الأفضل لنا أن ننفضَّ، واعترف لي صراحةً أنه تزوج امرأةً أخرى، وفي اليوم التالي أرسل إليَّ ورقة الطلاق.

وسكتت علياء قليلًا لتستريح، ونظرتْ إليَّ في تساؤل قائلةً: ألا ترين يا دكتورة أن هذا الزوج حطمني؟

قلت لها: أنت التي حطمتِ نفسك حين تخلَّيتِ عن الكتابة وهجرتِ الفن الذي كان يعطيك معنًى للحياة.

قالت: ولكني فعلت ذلك من أجل إرضاء زوجي وعدم تحطيم حياتي الزوجية.

قلت لها: ولكن حياتك الزوجية تحطمت رغم ذلك، أليس كذلك؟

قالت: بلى.

قلت: إذن، كان من الأفضل ألا تهجري الكتابة أبدًا؛ إن الكتابة جزء من نفسك، لا تستطيعين أن تعيشي بغيره، أمَّا زوجك فلقد عجزتِ أن تعيشي معه قبل أن تنفصلا رسميًّا بالطلاق، لقد انفصلتِ عنه منذ فقدت رغبتك العاطفية والجنسية نحوه، ولم تكن حياتكما معًا بعد ذلك إلا نوعًا من الطلاق غير الرسمي، وإني أعتقد أن حالتك ستتحسن كثيرًا بعد هذا الطلاق، وأنك ستعودين إلى الكتابة، وتجتازين هذه التجربة القاسية بنجاح كما اجتزتِ غيرها من قبل.

قالت: لا أظن أنني سأستطيع هذه المرة.

قلت: ستستطيعين يا علياء، أنت نوع من الناس الذين لا يمكن أن تهزمهم الحياة.

تساءلتْ بدهشة: كيف عرفتِ ذلك؟

قلت لها: أرى ذلك في عينيك.

ابتسمت ابتسامةً واهنة، وشدت قامتها بعض الشيء، وقالت: كنت أحس ذلك، ولكن الآن … أحس أنني تحطمت.

قلت لها: لا شيء قادرًا على تحطيمك ما دمتِ قادرة على الحصول على ورقة وقلم.

وابتسمتْ أكثر إشراقًا وتساءلت: أتظنين أنني سأستطيع أن أكتب مرةً أخرى بعد كل هذا التوقف.

قلت لها: أنت لم تتوقفي يا علياء، لقد كنت تقاومين دائمًا، وهذا الصداع والأرق والتعب النفسي لم يكن إلا نوعًا من المقاومة، إنك لم تستسلمي أبدًا، وسوف تكون كتاباتك أكثر نضجًا وخبرةً بالحياة.

وحينما نهضت علياء وصافحتني أحسست من يدها وهي تشد على يدي كأنها تمدني بشيء، وأنها قادرة على الوفاء، أحسست بهذا العهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤