البَحْرُ المُهْمَل

١

إذا ما نُظِرَ إلى خريطةٍ رُسِمَت حوالَي سنة ١٦٠٠ وُجِدَت مشتمِلةً على لونيْن للبقاع الساحلية، ولم يَحْدُث منذ سنة ١٥٠٠، منذ أنضرِ عَهْدٍ للإمبراطورية الرومانية، أن مَلَك سادةٌ قليلون هذا العالَم القديمَ المقسومَ بين كثيرٍ من الأمم والمصالح، ويَمْضِي زمن على ذلك العهد فيأتي من الأدوار ما تقوم فيه عشرون دولةً مستقلةً على سواحل البحر المتوسط، ولما حَلَّتْ سنة ١٩٤٠ كان عددُ ما هو قائم على شواطئه من الدول أربعين، ولكنك إذا رَجَعْتَ البَصَر إلى سنة ١٦٠٠ تقريبًا لم تَجِدْ بجانب بُقْعتين مُلَوَّنتين غيرَ خمسِ بُقَعٍ ساحليةٍ صغيرة؛ أي الساحلِ الفرنسيِّ الذي يكاد يطابق الساحلَ الحاضر، ودولةِ الفاتيكان وتُوسْكانة وجِنِوَة والبندقية، وقد هَبَطَت هاتان الأخيرتان إلى مرتبة الدول الصغيرة هبوطًا محزنًا.

واللونُ التركيُّ واللونُ الإسبانيُّ هما اللذان يسيطران على الخريطة لعِدَّة قرون، وكانت إمبراطورية آل هابسبرغ في دَوْر بُلُوغها شأوَ مجدها شاملةً لإسبانية وألمانية وإيطالية، غير أن الإمبراطورية التركية قد اشتملت لزمنٍ أطول من ذلك على بلادٍ أعظمَ اتساعًا فكانت تمتدُّ من بودابسْت إلى زارة ومن الدِّنيِبَر إلى رودس، ومن القِرِم إلى مَرَّاكِش، وأباطرةُ الرومان وحدهم قد سيطروا على أملاكٍ بالغةٍ ذلك الاتساعَ، وإذا ما اعْتُرِض على هذا بأن التُّرْك لم يملِكوا شمالَ أفريقية إلَّا اسمًا أمكن الجوابُ بأن بعض الولايات الرومانية كان يتمتع باستقلالٍ داخليٍّ واسع أيضًا.

وما كان حَوالَي سنة ٢٠٠ من جَمْع تراجانَ إمبراطوريةَ الرومانِ في يَدٍ واحدةٍ مع دينٍ رسميٍّ واحد ودستورٍ واحد وقانونٍ واحد وجيشٍ واحدٍ قُسِّم بين تُرْكية وإسبانية حَوالَي سنة ١٦٠٠، وكان يفصل كلَّ واحدةٍ من هاتين الدولتين عن الأخرى أفكارٌ ومظاهرُ أفكارٍ؛ أي عاملان يثيران الحقدَ بين الشعوب في أدوارِ عدمِ التسامح، وكان ذوو الطموح من الرؤساء ينتفعون بهذين العاملين إلهابًا للجماهير، كما لو كانوا يُحَدِّثونها عن الموادِّ الابتدائية وعن الذهب. وكانت الشعوب تتعارض بالدينِ ولونِ الجلد فيما بين سنة ١٥٠٠ وسنة ١٧٠٠، فهلكت الملايينُ من الآدميين في حروبٍ لا حَدَّ لها بين النصارى والمسلمين على غير حَقٍّ وبلا مُسَوِّغ. والواقعُ أن الرجل الأبيض لم يكن ناصعَ اللون وأن تركيَّ مصرَ لم يكن أسمرَ من نَصْرانيِّ أشبيلية، ويُسْأَل عند ذكر الفرق الدينيِّ: أَوَليس اللهُ واحدًا قادرًا لطيفًا لا تدركه الأبصار كَربِّ النصارى؟ أَوَليس عيسى من أعظم الأنبياء لدى المسلمين؟

ولم يكن الدينُ وحدَه ذريعةً لحروب الفتح، أَجَلْ، كان أقوى ملوك إسبانية مملوءًا حَمِيَّةً تبشيرية، وكان ملوكُ إسبانية، والبابا في بعض الأحيان، يَحْلُمُون بإشعالِ حروبٍ صليبية جديدة في أثناء حروب الفتح الكُبرى بين البحر المتوسط الشرقيِّ والبحر المتوسط الغربيِّ وفي أثناء المعارك من أَجْلِ أفريقية الشمالية وإيطالية والأرخبيل الإيجيِّ وفلسطين، غير أن النار المقدسة كانت هامِدةً منذ زمن طويل، وعاد الدين لا يُوحِي بالأفكار، ولما وُجِّه الخطَابُ إلى مشاعر الجماهير الدينية بَرَز المرتزقةُ في الميدان بدلًا من الفرسان وقام الحقدُ على الكافرين مقام الأماكن المقدسة، وإذا كانت الجماهير قد أُشْرِبَتْ بُغْضَ الكافرين فإنها كانت أشدَّ ضِغْنًا على الملحدين.

وقد أبدى ملوك فرنسة الذين كانوا يُلَقَّبُون ﺑ «الملوك الكثيري النصرانية» صداقةً ثابتةً للسلاطين مُفَضِّلِين تأييدَ الإمبراطورية التركية على اقتسامها هم وزملاؤهم النصارى، ولا مِرَاء في أن الدين كان يَشْغَل أَسْمَى مكانٍ في روح أمم البحر المتوسط في أواخر القرون الوسطى، بَيْدَ أن دورَ النهضة قد أَحَلَّ المبدأَ الوثنيَّ ومبدأَ التمتع بمتاع الدنيا محلَّه، ولا مراءَ في بلوغ اصطراع المشاعر المتناقضة أقصى حدوده بين سنة ١٢٠٠ وسنة ١٥٠٠. بَيْدَ أن هابسبرغَ إسبانيةَ قاوموا الإصلاح سنة ١٥٥٠ فسيطرت محاكم التفتيش واليسوعيون مُجَدَّدًا على العالَم والبحرِ المتوسطِ على الخصوص، وحُرِّق السَّحَرَة وفَرَضَت المحاكمُ عقوباتٍ على الملاحدة فأدى هذا الإحراق بالنار إلى إظْلام المُدُن أكثر من إنارتها، ومع ذلك صار من المتعذر إثارةُ تَعَصُّب الجُمُوع الشعبية التي استطاعت قبل ذلك أن تُقَدِّر التسامحَ والحريةَ الدينية.

واعتنق الناسُ مَثَلًا عاليًا بعد اليوم، اعتنقوا القوميةَ فصاروا يَنْشُدُون الوَحْدَةَ وَفْقَ لغتهم وأصلهم ودينهم، وقد مَثَّلَ الدينُ دورًا مهمًّا أيضًا، وذلك عن معارضته الكاثوليكَ بالأُرثوذُوكسِ والمذاهبِ المُصْلَحَة، وذلك عن معارضته بعض المذاهب ببعضٍ على العموم. ومَن يُفَكِّر في كون حربِ السنين الثلاثين قد دارت، كما زُعِمَ، حَوْلَ تناول القربان حُبًّا لله وبَصَرًا بالأمور وفي كونها لم تَنْته بنصرٍ حاسم، لا يَجِد ما يحمله على الاعتقاد بالذرائع التي حاول النصارى أن يستأصلوا الإسلام بها غيرَ مرة، وعُدْتَ، بعد سنة ١٥٠٠، لا تَرى في البحر المتوسط، ولا في الشمال، رؤساءَ أو شعوبًا مستعدةً لرفع السلاح قتالًا للترك في سبيل النصرانية.

والذي غاظَ ملوك أوروبة هو أن تصرُّف الكافرين في الحرب كان خيرًا من تصرُّف النصارى، وقد كان يوجد خَلْفَ مختلف القبائل حضارةٌ أَلفِيَّةٌ قلبًا وقالبًا، حضارةٌ غَدَت فارسيةً أكثر منها عربيةً. وكان هؤلاء التركُ، هؤلاء الجنودُ الممتازون، هؤلاء الفاتحون الحُرَصاء على الاقتباس، سادةً لإمبراطوريةٍ في آسية الوسطى حوالَي سنة ٦٠٠، وهم لم يَتَحَوَّلوا من قبائلَ بدويةٍ إلى أمةٍ محاربة مُنَظَّمَة إلا بعدَ سبعمائة سنة بقيادة رئيسهم عثمان الذي نُسِبُوا إليه، وأسفر ما أُصيبت به هذه الإمبراطورية من انحطاط دام قرونًا كثيرة عن تمَثُّلِ التركيِّ لأوروبة رجلًا غليظًا مِكْسَالًا كما وُصِفَ في كثيرٍ من الأخبار ودُور التمثيل، والواقعُ أن من الصعب أن يَتَبَيَّن الإنسانُ من صورةِ شائبٍ شاحب ضعيف أيامَ شباب هذا الشيخ.

ومع ذلك فإن هذا الفَتَاءَ الذي دام من سنة ١٤٥٠ إلى سنة ١٥٥٠ تقريبًا قد أعان الترك على العيش مُسِنِّين على الرغم من ضعفهم، وقد عَيَّنَ وجودُ هذه الإمبراطورية العظيمة على شواطئ البحر المتوسط مصيرَ هذا البحر مدةَ ثلاثة قرون أخرى مع إشرافها على الموت. والتركُ، وإن لم يَحُوزوا شيئًا من العِلم والمعارف التي جلبها العرب إلى شواطئ البحر المتوسط، كفى كيانُهم الثقيل الجامد لتسكين المنافسات النصرانية وتقريرِها في الغالب.

وإذا عَدَوْت ما لاقاه المسلمون من تسامحِ ملوكٍ سَرَاةٍ كفردريك الثاني، وَجَدْتَ هؤلاء المسلمين قد أَبْدَوْا تسامحًا نحو النصارى أكثرَ مما أبداه النصارى نحو المسلمين، وهذا في القَرْن الذي بلغ فيه كلٌّ منهما أَوْجَ عظمته، أَوَلم يكن أحدُ سلاطينهم العظماءِ، مرادٌ الأولُ، ابنًا لنصرانية؟ ولما استولى الترك على القسطنطينية لم ينتقموا فيستغلوا مَن ذهبوا ضحية سادتهم، فصان محمدٌ الثاني الرومَ النصارى، واستخدم بايَزِيدُ أناسًا من النصارى واليهود، ولكن مع إزالة كلِّ مَنْ يُهَدِّده، وهذا ما بدا به هؤلاء السلاطينُ من أَنصاف البرابرة إزاء معاصريهم من الملوك النصارى.

وعلى مَنْ يَوَدُّ وصفَ الترك بالقُسَاة أن يُفَكِّرَ في العصر الذي نشأت فيه أخلاقهم وفي البلاد التي تكونت فيها طبائعُهم. أَجَلْ، إن السيفَ التركيَّ قَطَعَ رءوسَ الألوف من الأبرياء، ولكن ما الذي صنعه معاصروهم من النصارى؟ ولما أراد البندقيون أن يقهروا الكرواتيين الثائرين باستمرارٍ حَوالَي سنة ١٥٧٠ أرسلوا إليهم حاكمًا حاملًا أوامرَ مكتوبةً بدَمٍ، ولم يَكْتَفِ هذا الحاكم بإعدام زعماء الفتنة ومَنْ وَالَاهم شَنْقًا، بل بَقَرَ أمام الشعب المُتَجَمِّع بطونَ أربع نِسوةٍ حَبَالَى شريفاتٍ مُخْرِجًا ما كُنَّ يَحْمِلْنَه من الأجِنَّة، والفرنسيون هم مصدر هذا النبأ.

وأجدرُ الأمور بالذكر دفاعًا عن التُّرْك هو ما كان يَتَمتع به العبيد من حالٍ، فالمماليكُ، مثلًا، كانوا عبيدًا، وكان للمماليك منذ القرن التاسع، مع ذلك، من التأثير البالغ في وراثة سلاطين مصر ما هو أقوى من تأثير الحَرَس القيصريِّ في وِراثة أباطرةِ الرومان. ويحلُّ القرن الرابعَ عشرَ فيُبْدأُ بتأليف كتائبَ مختارةٍ من فِتْيَان أُسارَى النصارى، ويؤلِّف هؤلاء، بعد سقوط بزنطة على الخصوص، ضَربًا من مُنَظَّمَات الغِلْمَان والفِتْيان ويُجْمَع فيها أكثرُ هؤلاء استعدادًا ويُحْمَلُون على اعتناق الإسلام ويُعْنَى بتربيتهم في ست سنين أو سبع سنين، وهؤلاء هم الإِنْكِشارِيةُ المشهورون الذين لم يَلْبَثُوا أن شَغلوا في الجيش والدولة مناصبَ عالية، ومنها الصدارةُ العُظْمَى في بعض الأحيان، ويُحْظرُ عليهم الزواج حتى سنة ١٦٠٠ حَمْلًا لهم على وَقْفِ أنفسهم على الدولة على طِراز المُنَظَّمات الدينية، وهكذا قام مبدأٌ أساسيٌّ ظَلَّ وحيدًا في التاريخ، وهو أن يَحْفَظ الدولةَ ويُدَبِّرَ أمورَها عبيدٌ من الأجانب.

ومن المحتمل أن بقيت وَجَاهةُ بِزَنْطَة وطبائعُها ومبادئُها حَيَّةً في القسطنطينية الجديدة بتُرَاث هذه الجماعات، ولم يكن مَنْ هو أعظمُ من السلطان مظهرًا، وترانا نعْرِضُه طاغيةً شرقيًّا ذا زُخرف بَهِيٍّ انتحله البلاطُ الإسبانيُّ وَفْق ما في بعض الصُّوَر الفُسَيْفِسائية على ما يُحتمل، والفارقُ هو أن العرش الفارسيَّ الذي أُدْخِلَ إلى استانبول كان واسعًا غيرَ عالٍ كالعروش الغربية فنُظِّم ليستطيع السلطان أن يَضْطَجع عليه، ونَعْلَم من نقوشٍ قديمةٍ أن حارسيْن مُخْتارَيْن كانا يقومان بحفظ كلِّ واحدٍ من السفراء أكثر من قِيادته، ولم يكن لملِك إسبانية عرشٌ أعلى من عرش السلطان، وكان يجلس عليه متوترًا تحت مِظَلَّة مماثلة.

ومن المصادفات العجيبة أن جَلَسَ كلٌّ من العاهليْن على عرش مملكته في وقتٍ واحد، وأن ظلَّ كلُّ واحد منهما قابضًا على زمام الملك زمنًا طويلًا مع بقاءِ العاهل التركيِّ حيًّا مدةَ عشر سنين أطول مما بَقِيَ العاهل النصرانيُّ، وقد مَثَّلَ كلٌّ منهما شأوَ المجد في زمنه كما مَثَّلَ عبقريةَ آله، ويبدأ عهدُ كلٍّ من شارلكن وسليمانَ المَجِيد سنة ١٥٢٠.

٢

تُبْصِرُ، مع فاصلةِ أيامٍ قليلة، أن وارث العرش العثمانيِّ تَقَلَّد سيفَ أبيه ابنًا للخامسة والعشرين من سِنِيه وأن سليلَ آل هابسبرغ تُوِّجَ ملكًا لألمانية في إكس لا شابل ابنًا للعشرين من عمره، وقد جلس الأولُ على العرش بعد أن قَتَل منافسِيه، وقد جلس الثاني على العرش بعد أن فاز في الانتخابات بمبلغٍ كبيرٍ من الذهب أقرضه إياه آلُ فوغِر الذين كانوا أبناءً وحَفَدَةً لصانعٍ ألمانيٍّ.

وكان حَقُّ سليمانَ في الوِراثة يكفي لنيل السلطان، وعلى العكس أمرُ شارلكن الذي لم يكن ليستطيعَ جَمْعَ الإمبراطوريتين الهابِسْبُرْغِيَّتَيْن للمرة الأولى إلَّا بنَيْلِه أصواتَ أمراء ألمانية الناخبين وإن كان وارثًا شرعيًّا للتاج الإسبانيِّ، وما كان ليُعْنَى بالبحر المتوسط إلَّا عن تُرَاثِه الإسبانيِّ، وما كان ليُبَالِيَ به إلَّا قليلًا.

وكلا العاهلين كان مقاتِلًا، والتركيُّ فاتحٌ والإسبانيُّ مطالبٌ بأملاكٍ كان آله قد جاهدوا في سبيلها منذ زمن طويل، وكان سليمانُ محتاجًا إلى الحرب ليَحْيَا، وإلَّا لمات في قصره ودائرة حريمه مَلَالًا. وكان يمكن شارلكنَ أن يعيش بلا فُتُوحٍ ومن غير معاركَ، ولم يُعَدَّ شارلكنُ لسياسةِ تَوَسُّعٍ عن طُمُوحٍ أو مزاجٍ، ولكن شارلكن قد قاتل ضاريًا كلَّ مَن حاول أن يَنْزِع منه ما كان خاصًّا به. أَجَلْ، دُرِّب بدنُه النحيفُ على الفروسية، غير أن جميع أعضائه كانت ترتجف عندما تَتَمَثَّلُ له أسلحتُه، ومع ذلك كان يَبْدُو أشجعَ من الجميع إذا ما خاضَ غِمَار المعركة، وكان من طبيعته أن يكتفيَ بإدارة أملاكه الواسعة التي وَرِثَها إذا لم يناهضه أحد. وعلى النقيض كان التركيُّ راغبًا في فتح إمبراطورية عالَمية، والتركيُّ قد شَهَرَ حروبًا وفَتَح فارس وسورية ومصر، والتركيُّ قد جلبَ من مصرَ لقبَ الخلافة كغنيمة حربية،١ مع أن شارلكن خَلَعَ أحد البابوات فاختار بدلًا منه لتتويجه، على أنه لم يُحْتَفَلْ بهذا في رومة، وكان شارلكن آخرَ إمبراطورٍ تَوَّجَه بابا.

وكِلَا الرجلين — المسلم والكاثوليكيِّ — سار على مثالٍ واحد، وكلا الرجلين فَكَّرَ في شبابه في تقليد الإسكندر، غير أن السلطان الشابَّ، الذي تقدَّم من وطنِ الإسكندر مقدونية نحو فارسَ التي فتحها هذا الأخير، كان أقربَ إلى المثال المشترك من شارلكن الذي أُشْرِب في شبابه قِصَصَ أبطالٍ من النصارى.

وقام العاهلان بمعاركهما الحاسمة ونالا أعظمَ انتصاراتهما في سِني شبابهما الأولى، واضْطُرَّ شارلكن إلى محاربة ملوك فرنسة فكان الفوزُ حليفَه في بدءِ الأمر، ثم كانت النتائج متحولةً في ثلاث وقائع.

وما كَسَبَه في حروبه؛ أي ميلان ونابل، قَدَّرَ أنه ناله بحقِّ الوراثة، وذلك ما دُمْنا لا ننظر إلى عهده إلَّا من حيث البحرُ المتوسطُ، وكذلك السلطانُ كان يَرَى أنه ذُو حَقٍّ في بعض أقسام البلقان، ففتح في أول شبابه صِرْبيَة وأملاكًا مُهِمَّةً في هنْغارية، والواقعُ أن التركيَّ مدينٌ بانتصاراته لشارلكن على وجهٍ غير مباشر، والواقعُ أن الفرنسيين لم يُعاهِدوا السلطان إلا لأنَّ شارلكن كان قد غَلَبَهم.

وما كان من انتصارات سليمانَ وضغطِ سلطانه العَرِيض ووعيدِه وصولتِه حالَ دون ظهور شارلكن أقوى رجال عصره، وإذا عَدَوْتَ هذا وَجَدْتَ جميع الممكِنات لدى شارلكن، كسعي كُورْتِزْ في فتح المَكْسِيك، وهذا إلى إِحباطه بجيوشه ما كان يَحْلُمُ به سليمانُ من احتلال فِينَّة، ولا مناصَ من حُلول الحِين الذي يتصادم فيه هذان العاهلان، وقد قلَّلَ التاريخُ مَدَى هذا الصِّدامِ بعدم معارضته كتائبَ السلطان، في ثلاث حَمَلاتٍ قامت بها منذ زحفها إلى فينة، بغير أخٍ لشارلكن، فأما المرةُ الأولى فقد طَرَدَ الشتاءُ فيها الكافرَ، وأما المرةُ الثانية فقد اجتَنَب فيها القتال في سورية، وأما المرةُ الثالثة فقد أُنْقِذَت فيها فينَّة بضربٍ من البطولة غيرِ المنتظَرة كالتي أُنْقِذَت بها إنكلترة في زماننا مع أنه كان يُعْتَقَدُ ضَياعُها، حتى في تلك الأحوال اضْطُرَّ الهابِسْبُرْغِيُّ إلى إعطاء السلطان جِزْيةً.

أَجَلْ، حارب الرجلان على البحر المتوسط في تلك السنين نفسِها (والحروب قد امتدت إلى ما بعدَ عُقُود٢ عهدِ كلٍّ من العاهلين)، ولكن من غير مواجهة. أَجَلْ، كان التركيُّ أفضلَ من الإسبانيِّ أسطولًا ولكن من غير مزية، وكان الاثنان يجهلان المِلاحة كما يَلوح، وظَلَّ الترك ككلِّ شعبٍ من الفرسان سليلٍ لبدويين، غرباءَ عن البحر، ومن قول الترك: «إن الله أنعم بالقوة في البَرِّ على المسلمين، وأنعم بالقوة في البحر على الكافرين.»

ولم يكن آلُ هابسبرغ مَلَّاحين حقيقيين، وقد خَسِرَ شارلكن نصفَ جيشه في عشرة أيام بالجزائر، وكاد يخسر بحريتَه وحياتَه، وما ناله من نَصْرٍ في تونس كان قصير التأثير غيرَ ذي جَدْوَى، وهو، على ما كان من نصبه الجنوِيَّ أَنْدرِه دُورْيا، الذي اشْتَهر بأنه أحسنُ مَلَّاح في زمنه، أميرًا للبحر لم يُوَفَّقْ للاستِيلاء على أرضٍ يَمْلِكُها الترك في البحر المتوسط، وما انفكَّ سلطان إسبانية في البحر المتوسط يزول في القرن السادسَ عشرَ مع زيادة سلطان تركية وحليفتِها التقليدية فرنسة على هذه النسبة.

ومصدرُ هذا الوضع الجديد هو تَفَوُّقُ دُوَلِ القراصين التي نبحثُ فيها عمَّا قليلٍ، ولم تكن هذه الدُّوَل تابعةً للسلطان إلَّا اسمًا، وكان يُعَدُّ قهرُها مُتَعَذِّرًا، وكان هذا أمرُها في الواقعُ، ولم يَجِد السلطان للسيطرة على البحر المتوسط غيرَ نَصْبِ لِصِّ البحر الشهير خير الدين بارباروس أميرًا للبحر، ولم يقتصر هذا اللصُّ البحريُّ على تخريب صِقِلِّية، بل أرهب البابا بأن أَنْزَل السلطانَ إلى رِيجْيُو وأُذِنَ له في الاستيلاء على نيس، وقد غَلَب ذاتَ مَرَّةٍ جيوش إسبانية وجِنوَة وفلورنسة مجتمعةً كما غَلَبَ الدولةَ البابويةَ في معركةٍ بحرية كبيرة بالقرب من جِرْبة. وكان سليمانُ قد انتزع في شبابه جزيرة رودس المنيعةَ من فرسان القديس يوحنا، فلَمَّا كاد يَشِيب أَمَرَ أسطوله بنزع جزيرة مالطة من فرسان المُنَظَّمة المسماة باسم هذه الجزيرة، ولكن الأسطول اضْطُرَّ إلى الرجوع غيرَ ظافرٍ بعد حصارٍ طويل. وقد بلغ سليمان من شِدَّة الغَيْظ ما حَظَرَ معه على المراكب العائدة دخولَ ميناء القسطنطينية، ويَعْرِض علينا بَطَلُ مالطة المشهورُ، وصاحبُ لافالِيت الكبيرُ، أجملَ رأسٍ للفارس الأشْمَط، مع عدم قسوةٍ وعدم تعصُّب.

وقد اشتعلت جميعُ هذه المعارك لنَيْل السُّلْطةِ في الحقيقة فكانت سِجَالًا، وقد أُوقِدَت باسم التعاليم الدينية على العموم فكان يُقْصَى السببُ الدينيُّ بعُنْفٍ في بعض الأحيان، وهذا يُذَكِّرُنا بالكلام القوميِّ المُنَمَّق الذي تستتر تحته اليومَ مصالحُ شِرْكات استخراج البَتْرُول مع أن هذه الشِّرْكات تعامِلُ أعداءَ بلادها.

ومِنَ البابوات مَنْ كانوا يتاجرون مع السلطان من أَنْسُوني،٣ وقد سُمِّيَتْ راكُوزَةُ٤ ﺑ «المدينة ذات الأعلام السبعة» لانحيازها إلى مَن يبدو ذا قُوَّة لِوَقْتٍ ما، ويُمْكِنُ إطْلَاقُ مثلِ هذا الوصف على كثير من المُدُن في أيامنا.

ومع ذلك فإن البابا بُولُس الرابع بَلَغ من الحماسة ما جَرُؤَ معه على تحريم التجارة مع الكَفَرَة؛ أي ما أقدم معه على المجازفة بسلامة روح التاجر النصرانيِّ، ولكنْ لَمَّا طلب بابا آخرُ من الملِك فرنسوا الأولِ حسابًا عن محالفته سليمانَ أجاب قائلًا: «إن الكافرين قسمٌ من المجتمع البشريِّ مثلنا، وتُعَلِّمُنَا الطبيعة أن حُطَامَ الدنيا خاصٌّ بجميع الناس، وليس من الطبيعة ما هو واقعٌ بين الناس من اختلاف.» غير أن من الرَّزايا أَلَّا تَصْدُر هذه الحقيقةُ عن الملك البالغ الكَثْلَكة إلَّا حين احتياجه إلى مدافع المسلمين، ولم يتأخر الكاثوليكيُّ الحقيقيُّ شارْلكن عن محالفة هنري الثامن الذي كان قد التمس من البابا حِرْمَه.

وإننا حين نقابل بين العاهليْن، الإسباني والتركيِّ، نرى سليمانَ أكثرَ إطلاقًا وحُرِّيةً من شارلكن، مع أن شارلكن كان مستبدًّا مطلقًا أيضًا فلا يشاورُ أحدًا قبل قضاءٍ في الأمور، وإنَّما كان السلطان خليفةً؛ أي مثلَ البابا، على حين كان الإمبراطور، على العكس، يُضْطَرُّ إلى مقاتلة البابوات وخَلْعِهم وإلى فتح رومة قبل أن يُمْكِن تتويجُه، وإنما كان على السلطان أن يُطْفِئ فتنةَ بعض الولايات المفتوحة، كسورية مثلًا، على حين كان على شارلكن أن يقضيَ على تَمَرُّد مُدُنٍ إسبانية وعلى عصيانِ نصفِ ألمانية في ثلاثين سنة. أَجَلْ، لم تتحول الثورة الذهنية والروحية التي عُرِفَتْ باسم الإصلاح الدينيِّ إلى تمردٍ سياسيٍّ إلا نادرًا، غير أن ما بين أمراء ألمانية من قِتَالِ الأخ لأخيه قد اكتسب طورًا ارتبط معه الإمبراطورُ التقيُّ في الكنيسة بأوثقَ مما تؤدي إليه معركةٌ حربيةٌ يُسْتَرَدُّ بها تُرَاثٌ.

ولَمَّا رَفَضَ البروتستان الذين تَحَوَّلوا عن البابا في أول الأمر أن يُوَالوا الإمبراطور، كانت ألمانية مَسْرَحًا لحربٍ أهلية بين جيشين فصار الإمبراطور بذلك محرومًا عنصري القوة والحرية اللذين يمكنه أن يَتَطَوَّر بهما في إمبراطوريته العالمية وَفْقَ طَبْعه، وهكذا أضاع في نهاية الأمر قسمًا كبيرًا من الهَدَف الذي وَقَفَ عليه حياتَه، ولولا ثورةُ الإصلاح الدينيِّ لاحْتُمِلَ سَحْقُ إمبراطورية السلطان الناهضة من قِبَل نصرانِيَّةٍ مُوَحَّدَة. بَيْدَ أن المذاهب كانت تَتَقاتل بأقسى مما تُقَاتِل به العدوَّ المشترك، شأنُ مختلِفِ الأحزاب الاشتراكية التي أدت بسلوكها إلى بقاء عَدُوِّها المشترَك، رأسِ المال، ظافرًا حتى أيامنا؛ ولذا كان من حَقِّ لُوثِر أن يقيم له السلطان أثرًا.

ومَنْ يَدْرُسْ حياةَ هذين العاهلين يَجِدْ لِزَامًا عليه أن يُهْمِل الزعمَ القديمَ القائلَ إن الآسيويين أقسى من الأوروبيين، وما كان الدينُ ليمنع الجنديَّ النصرانيَّ، ولا الجنديَّ المسلمَ، من اقتراف طائفةٍ من الفظائع، أَفَلَا تزال الكبائرُ تُرْتَكَبُ في أيامنا؛ أي بعد أربعمائة سنة من ذلك التاريخ؟ ولَمَّا دخل جيشُ شارلكن، المؤلفُ من إسبان كاثوليك وألمانٍ بروتستان، رومةَ عَنْوَةً في سنة ١٥٢٧ أَتَى من المظالم مثل ما أتى أجدادُهم الوَندالُ قبل ذلك بعشرة قرون. ومن الحَقِّ أن يُقَال إن الإمبراطور ارتاع بما قُدِّم إليه من تقاريرَ حول هذا الموضوع، فألغى ما نُظِّمَ من احتفالاتٍ ابتهاجًا بولادة ابنه البِكْر، فما كان السلطان ليُصنع بهذا المقدار.

ويظهر أن الاثنين كانا ذَوَي شعورٍ عميقٍ بمسئوليتهما، وقد تَكَلَّمَت حكومة سليمانَ الشعبيةُ بما يلائم هذا الافتراض، ولدينا عن شارلكن بضعُ صَفَحَاتٍ، على شكل يومية، كتبها في الخامسة والعشرين من سنِيه فقال فيها: «ما أصعبَ الإلزامَ على البَتِّ في كلِّ أمر لِمَا ينطوي عليه من إيلامٍ كالمَرَض! وبما أنني أرى وأشْعُرُ ما مَرَّ الزمن وما مَرَرْنا معه فإنني لا أريد الموتَ من غير أن أتركَ تذكارًا كريمًا، ومع ذلك فإنني لم أُنْجِزْ حتى الآن شيئًا يُعَدُّ عَوْنًا لي على مجدي الشخصيِّ.»

ولا يتسع صدر هذا الكتاب لتفصيل أخلاقه بأكثرَ من ذلك، وتجد في كتاب «تاريخ الألمان» للمؤلف نفسِه بيانًا أوفى من ذلك.

ومن المُؤَثِّرات العميقة أن يُرَى العاهلان، اللذان حَنَاهما العُمُر وأضناهما المرض، يذهبان ذاتَ مرةٍ إلى القِتال بمثل بأسهما السابق، وقد حاول الإمبراطور، الذي كان يعاني أَلَم النِّقْرِس فيقضي مُعْظَم الوقت ضاجعًا في العَرَبَة، حصارَ قلعة مِتْز فلم يُوَفَّق، فهنالك اتخذ قرارًا مهمًّا بأن تنزَّل عن العَرْش من تلقاء نفسه كما كان ديُوكْليسيان قد جَرُؤ عليه من قَبْل، وتكفي الخُطبة التي ألقاها أمام أشياعه المجتمعين في بروكسل لأن تجعل منه أهلًا لخلافة شارلمان وفردريك الثاني.

وقُلْ مثلَ هذا عن السلطان الذي كان أحسنَ فارسٍ بين شعب الفرسانِ التُّرْكِ، فقد لَحِق بعربته جيشَه المُغِيرَ على الهُنْغاريين، وقد قاومت القلعة، التي كان يدافع عنها البطل المجريُّ نقولا الزَّرِينيُّ، زمنًا طويلًا، فمات السلطان البالغُ من العُمُر إحدى وسبعين سنةً بغتةً قبل سقوطها بثلاثة أيام. وكان لدى شارلكن من الوقت ما تُكَرَّر معه مآتمه وما يموت معه وَفْق الطقوس الإسبانية، ويُؤْتَى بجثمان السلطان إلى عاصمته محمولًا على عَجَلَةٍ بلغارية تَجُرُّها خَيْلٌ هَزيلة.

ومن المحتمل أنك لا تَجِدُ أحدًا قد حَزِن على وفاة العاهلين، وكان ابنُ الإمبراطور شارلكن: فليب قابضًا على ناصية الحكم حينما كان أبوه، الذي لم يُحبَّه قَطُّ، حَيًّا، وقد لَقَّب التاريخُ ابنَ سليمانَ ﺑ «السِّكِّير». وقد قضى نظامُ الحَريم على حياة أُسْرَة السلطان منذ زمنٍ طويل كما في كلِّ وقت، وكانت رُوكْسالَانُ الشهيرةُ أَمَةً ذاتَ مستوًى خُلُقِيٍّ يَعْدِل مستوى امرأة الإمبراطور قسطنطين التي هي أقدم منها بعشرة قرون، فكانت مُغْرِيَةً باغتيال ابن سليمانَ المفضلِ؛ أي اغتيالٍ عَقَبَتْهُ سلسلةٌ من أعمال القتل بين الآل.

وعاش شارلكن وزوجته البرتغالية الحسناءَ أربعَ عشرةَ سنةً مع الانسجام التامِّ الذي لم يَنْتَه إلَّا بموت الإمبراطورة، ولم يكن للإِمبراطور من العلاقات الجنسية إلَّا قبلَ زواجه وبعد أَيْمِهِ، وأسفرت هذه العلاقاتُ عن إنجابه بولديْن موهوبيْن، بمَرْغِرِيت وجان النمسويِّ، وما أشدَّ ما كان يساور فليب من رغبةٍ في إزالة أخيه النَّغيل على الطريقة التركية! وقد استطاع أن يقضي على ابنه الخاصِّ، دون كَرْلُوس، قضاءً شرعيًّا مع ذلك …

ومَن ينظر إلى العاهلين من حيث آثارُهما الثَّقافية يَجِد التركيَّ أفضلَ من النصرانيِّ بما يثير الحيرة، وقد تَجَلَّى ذوقُ الإمبراطور الكاثوليكيِّ في الأعياد والثياب، وفي سلوكه أيضًا، فالتزم طريقًا وسطًا بين الاتِّضَاع والانتفاخ وقد قضى حياةً تناقضُ روحَ عصر النهضة، فكان اعترافُه بنَغِيلَيْه كلَّ ما تَنَزَّل عنه لعادات زمنه.

وبدأ شارلكن بإِنشاء بناءٍ مستديرٍ فخمٍ بجانب الحمراء، ولكنه لم يستطع إكمالَه، ولم يترك لنا هذا المليكُ أيَّ قانونٍ دائم كان، ولا يكاد مرسومٌ أَصدره يَجْعَلُه من حُمَاة الفنِّ، ولو لم نتصرف في بعض الأقاصيص وبعضِ الرسائل الخاصة وبعض الصور التي رَسَمَها تيِسْيَان لأُحيط وجهُه بظلٍّ.

والسلطانُ، على العكس، لُقِّبَ ﺑ «القانونيِّ» من قِبَل رَعَاياه، والسلطانُ وحدَه هو الذي يَحْمِل هذا اللقب بين بني وطنه، وإذا ما نُظِر إلى نتائج قانونه المدنيِّ في الشرق مُدَّةَ ثلاثة قرون نُزِعَ إلى وضعه بجانب جُوسْتِينْيان ونابليون، ويَلُوحُ أن سِرَّ حكومته كان في نظام شئون المالية وانتظامها؛ أي في الأمرين اللذين لم يَتَعودْهما الشرقيون، وقد فُصِلَت أموالُ السَّرَاي الخاصةُ عن الخزينة العامة التي تُحْفَظُ في «الأبراج السبعة». ولولا صفاتُ السلطان سليمان الفريدةُ هذه ما وُفِّقَ في سيطرته على ثلاثين قطرًا وعلى ١٤٠٠٠ كيلومتر من السواحل، ولم يَفُقْه بلدٌ أوروبيٌّ في القرن السادسَ عشرَ ثَقافةً من حيث ما أنشأه في آسية من مدارسَ ابتدائيةٍ وجامعاتٍ ومَشَافٍ. وقد قال مؤرخٌ معاصر: «كانت تمازج فؤادَه ثلاثةُ أمور: فتحُ فِينَّة وإنشاءُ مسجدٍ ضخم وقَنَاةٌ تَسْقِي الآستانة.»

والواقعُ أن هذا السلطانَ العظيم شاد في الآستانة مسجدَ «السليمانية» في الزمن الذي كانت تنهض فيه كنيسةُ القديس بطرس في رومة تحت إشراف يولْيُوس الثاني، ولا تزال قِبَابُ بيتَي الله هذيْن ترتفع نحو السماء. وكان ميكل أَنْجِلو الآستانةِ سِنَانُ مُرْتَدًّا عن النصرانية، وكان من أسباب ابتهاجِه أن أَتَمَّ أثرَه بنفسه على حين حُرِم البَنَّاء الفلورنسيُّ تنفيذ تصامِيمه. وكان سِنَان مهندسًا وبَنَّاءً كالأساتذة الإيطاليين، فأنشأ عِدَّةَ جُسُورٍ حديثةٍ على الخصوص، وقد استطاع أحدُ زملائه أن يُتِمَّ إنشاءَ المجاري التي تَسْقي الآستانة من مِنْطقة البحر الأسود في قَنَوَاتٍ كبيرة، ولَسُرْعان ما أُنشئت عُيُونٌ جارية في العاصمة، وقد اجتمع الشعراء في الأسواق كما في قصر السلطان فدَعَوْا أحَدهم «حافظَ الجديد».

ويُدْعَى اسمُ سليمانَ بعد سبعين عامًا من وفاته في يوم عيده، وذلك من فوق ٢٠٦٠ مسجد، وإذا استثنيت قانونَ التعذيب المعروف بالكارُولِينَا وجدتَ الإمبراطور شارلكن الذي وقَفت جيوشُه السلطانَ أمام فينة لم يترك خَلْفَه قوانينَ ولا آثارًا. وقد انهارت المَلَكيَّةُ الإسبانية بعد موت هذا العاهل بثلاثين سنة، ونرى للمرة الثانية عاهلًا يَخْسَرُ كلَّ شيء، كما كانت حال فردريكَ الثاني، فيظلُّ أمام الأعقاب حَيًّا نهائيًّا بأجلَّ مما عليه نظائره.

وقد رُدِّدَ سُمُوُّ شخصية شارلكن حَوْل خصمه لُوثر على الخصوص، فكان له في أوروبة مثلُ شعاع ذكرى عَدُوِّه المنصور سليمانَ في العالَم الأسيويِّ، والناسُ في آسية قليلو المعرفة باسم شارلكن قلةَ معرفة الناس باسم سليمان في أوروبة، ويثبت هذا الجَهلَ المُتَبَادَل إثباتًا بليغًا ما يُرَى من فَرْقٍ تامٍّ بين حضارتين انتسب إليهما هذان العاهلان وتقاتل في سبيلهما عالَما البحر المتوسط.

٣

لقد تَرَجَّحَت جُمهورية البندقية التي هي أقدمُ دارٍ للتجارة في البحر المتوسط بين الدول المتقاتلة مُدَّةَ قرنٍ، وهي لم تُمْحَق كما مُحِقَت بيزة، وهي قد ظَلَّت أكثرَ استقلالًا من جِنوة، وهي قد ظَلَّت لها فروعٌ على طول البحر الأدرياتي وفي الأرخبيل. وهي قد بَرَزَتْ للدفاع عن قبرسَ مستعينةً بدولٍ قوية فقضى التُّرْك أربعًا وعشرين سنة قبل أن يستطيعوا احتلالَ هذه الجزيرة، وعاد السلطان لا يُوَزِّع احتكاراتٍ، وغَدَت البندقية، التي كانت قد تَغَلَّبت على القسطنطينية وورثت منها، تُسَلِّمُ إلى سادةِ بِزَنطة الجُدُدِ تُرَاثَها مقدارًا فمقدارًا من غير أن يستولوا عليها فعلًا، وقد استردَّ أشراف البندقية رءوسَ أموالهم من التجارة البحرية ليشتروا بها أملاكًا على اليابسة، شأنَ الحسناء التي كانت تُمَالَقُ فدخلت، للمرة الأولى، رَدْهَةَ رقصٍ مع ابنتها التي صارت غيرَ قادرة على تأخير تَمتُّعها بالدنيا.

ويمكن وصف تُرْكية وفرنسة بأنهما وارثتا البندقية، ولكن هذا الوصف غيرُ صحيح في سوى القرن السادسَ عشرَ، وقد أسفرت شِرْكَة هذين البلدين عن زيادة سلطانهما التجاريِّ، ولم يَسْمَح السلطان في طويلِ زمنٍ لغيرِ الفرنسيين بالمِلاحة في المياه التركية تحت ظِلِّ علَمهم الخاصِّ فكانت الدول الأخرى تُضْطَرُّ إلى استعارة العلَم الفرنسيَّ، وكان التاجر الفرنسيُّ وحدَه، ويَعُدُّه التُّرْكُ حليفًا لهم، هو الذي يُحْمَى، ونالت فرنسة حَوالَي سنة ١٦٠٠ امتيازَ الدفاع عن الأماكن المقدسة للمرة الأولى، فكان لتجارتها في الشرق فائدةٌ كبيرةٌ من وراء ذلك، ومع ذلك عزم ملك فرنسة على شهر حَرْبٍ صليبية في الوقت نفسه، أو تظاهر بأنه يَنْوِي ذلك على الأقل، حتى إن وزيره وضع من الخِطط ما يضمن سَلْمًا قائمةً على أساس إبادة تُرْكية. والواقعُ أن كلَّ شخصٍ ذي خَطَرٍ في ذلك الدَّوْر، كالأب جوزيف وفلِنْشتاين وغوستاف أدولف، كان كَلِفًا بِشَنِّ حروبٍ صليبية، غير أن خِطَطَهم نامت في خزائن الوزارات الأوروبية لِمَا كانت تَقْتضيه المُوضَة من استلهام «عقل الدولة» في الاعتذار بِغُلُوِّ القَوْمِيَّة.

وما انفكت البندقية تَتَرَجَّح، وعادت سِلَعُ آسية لا تصل إلى البحر المتوسط بَرًّا منذ صار البرتغاليون في الهند، وتصبح قناة السويس موضوعَ بحث مرةً أخرى، ويُوَكَّدُ تَعَذُّر إنشائها مرةً أخرى، ومع ذلك كانت البندقية تجعل دِبْلُمِيِّين ماهرين من تجَّارها الحاذقين كما كانت تَصْنع القسطنطينية فيما مضى، وبينما كان هؤلاء الدبلميون يَتَلَهَّوْن في البَلَاطات الملكية الأجنبية، كانوا يَجْلُبُون إلى وطنهم البحريِّ الغنيِّ أَحدثَ الأزياء وأكثرَها أناقةً. وكان آل هابِسْبُرْغ الشبابُ النِّشَاط في ذلك الحين يُهَدِّدون تجارة البندقية بميناء تِرْيَسْتة الذين يُنْمُونه، ولَمَّا قبضت سُفُنٌ للبندقية طوَّافةٌ على سُفُنٍ تجارية ألمانية في البحر الأدرياتيِّ، اجتمع أشراف البندقية وفِينَّة للنِّقاش في قصورهم الرائعة بين الولائم الفاخرة، ويضعون تواقيعَهم وخَوَاتمَهم على بعض الرُّقوق على حين يَعْفِن مَلَّاحو سفينتي الأعداء في قَعْرِ البحر، فالحقُّ أن الدِّبْلُمِيَّة الحديثة بدأت في البندقية لا في باريس.

وبما أن البندقيين صاروا لا يسافرون نحو الشمال وأصبحوا يسافرون نحو الشرق أقلَّ مما في الماضي، فإنهم استبدلوا مُنْتَجَاتِهم الخاصةَ بالسلع الأجنبية التي عادوا لا يبيعونها، وهل كان يمكن هذه المدينةَ الأسطوريةَ الرائعة أن تصنع شيئًا آخرَ غيرَ السِّلَع الأسطورية الرائعة؟ لقد ازدهرت مصانعُ الزجاج والمُفَرَّضات والمدبوغات والمنسوجات، وكان يُضَاف إلى جميع هذه الصِّناعات فنُّ الحياة الذي بلغ ضروبًا جديدةً من النعيم.

حتى إنه كان يوجد مَلِكٌ في جُمهورية البندقية، وقد بلغ من العمر مائة عام كما جاء في الأساطير. ولو قام مبدأ الكمال البشريِّ على النشاط المبْدِع الناشئ، وعلى الجِدِّ والمياومة والانسجام، وعلى تحقيق ما يمكن الرَّبَّ أن يجمعه في شخصٍ من رُجولةٍ، لوجب أن يُعَدَّ تيسيانُ إنسانًا اتفق له أكملُ ما يتمتع به متفنن.

وكان هذا المصور البندقيُّ الكبيرُ أقوى ملوك البحر المتوسط من حيث ذلك المعنى، وهو لم يَخْدِم سيدًا غيرَ العناصر والبحر، ومناظرُ مَسْقَط رأسه ونساؤه وألوانه وحدَها هي التي كان يُعْنَى بها كما كان يُعْنَى بالجبال التي تحيط بالبندقية والتي تُشْرِف على الجُزُر والبحر، وقد كان سليلَ الرُّبَّان المَدْعُوِّ تِيْزيَانُو فِيشِلْيُو، وقد كان ابنًا للجبال والحرب والحُبِّ. ويمكننا أن نَتَمَثَّلَ من الصور التي تُبْدِي تِيسْيَانَ متقدِّمًا في السِّنِّ مقدارَ ما كان عليه هذا المصور من جمالٍ في شبابه، ويمكننا أن نَتَنَوَّر ذلك أيضًا من حُظْوته لدى النساء في جميع الأجيال، والنساءُ هنَّ اللاتي حَفِظْن قدرتَه في دورٍ طويلٍ خارقٍ للعادة، والنساءُ هُنَّ اللاتي ألَّهْنَهُ عن شكرانٍ لتخليده إياهنَّ.

وعاش تيسيان حتى دورِ الرَّجْعِيَّة الدينية، ومع ذلك لا تَجِدُ من المتفننين مَنْ هو أكملُ منه تمثيلًا لدور النهضة، وقد مات معاصرُه ميكل أنجلو في التسعين من سِنيه، وقد ظَلَّ تيسيانُ حَيًّا بعده كما ظَلَّ حيًّا بعد جميع الذين مُلِئَ القرنُ السادسَ عشرَ بمجدهم. وهو لم يبلغ درجة المجد إلَّا في الأربعين من عُمُره تقريبًا، ويرتبط كيانه المئويُّ في فَنِّه حول الحياة والتصوير من بعض الوجوه، وهو ليس دون برَامَانْت وميكل أنجلو وليونار دَفنْسي إلَّا من ناحيةٍ واحدة، إلَّا من حيثُ اقتصارُه على التصوير وعدمُ مزاولته شيئًا آخرَ غيرَ الفن. وهو، على العكس، كان فوق الجميع بحياته المليئة، ورُوبِنْسُ وحدَه، وروبنسُ مع كثيرِ تأخرٍ عنه، هو الذي يمكنه أن يُقاسَ به من تلك الوِجْهة ومن حيثُ غِنَى أثره.

وأحاطَ تيسيان نفسَه بغموضٍ أقلَّ مما أُحِيط به سادةُ فلورنسة وميلان، وهذا ما جعله أخًا لرجال النهضة الذين صاروا رؤساءَ ودوكاتٍ وبابواتٍ، وكان يمكنه أن يكون أحد رجال العمل بأسهلَ مما يَبْلُغه ميكل أَنْجلو وليونار دفنسي. وكانت حُلُولِيَّة تيسيان بالغةَ الجُرْأة، فما كان أحدٌ غيرُه ليَجْرُؤَ على تصوير ألواحٍ ﮐ «عيد فِينُوس» و«أعياد باخوس»، وكان تيسيانُ أكثرَ استلهامًا لروح بركلس من كلِّ واحدٍ من متفنني عصر النهضة.

وكانت زوارقُ البندقية وقَنَواتُها قد صُوِّرت في كثيرٍ من ألواح ذلك الدور، فشجعته البندقية بذلك على فَيْضِ وثنيته، وذلك على حين كان الخُلُقِيُّون المُتَشَدِّدون المُتَحَرِّرُون في رومة وفلورنسة يحافظون على نفوذهم. وقد أَنعمت البندقية على تيسيانَ بصفةٍ أميرية أعظمَ مما كان يستطيع أن يناله من إمارة، وذلك أن البحر الذي كان مَغْنَاه ومُحْتَرَفُه قائميْن عليه يبدي له آفاقًا لا تعْرِفُها البلاد البَرِّية، وكان العالَم يبدو للمصوِّرين العظماءِ الآخرين مِثْلَ فارسٍ جائل، وكان تيسيانُ يرى العالَم آتيًا من الشرق العجيب على سفينة.

وكان ما يُصَوِّرُه من المناظر يختلف عن مناظر الهُولَنْديين الذين لا يَعْرِضُون البحر ولا السُّفُن، ولم يُصَوِّر تِيسْيانُ البحرَ حَصْرًا تقريبًا، وإِنما كان تيسيان، على العكس، يَبْعَثُ وجوهَ البحر المتوسط الأُسْطوريةَ فيَرْسُم صورةَ أمراءِ عصرِه وملوكه، وقد صَوَّر أعظمُ رَسَّامٍ في الجَنوب (وكان هُلْبَايِنُ ابنًا للشمال) شارلكن ثلاث مرات، فكان يظهر عاهلان في هذه الأوضاع متناظرين متواجهيْن تمامًا. وتُعَدُّ أسطورة القَلَمِ الشَّعْرِيِّ الذي التُقِطَ نَمُوذَجُه للمُصَوِّر أمرًا خاصًّا؛ وذلك لأن مثلَ هذه الأُسطورة لم يُنْسَج حَوْلَ رفائيل وبِلِّيني، وليس المرسومُ الإمبراطوريُّ الذي قُلِّدَ به تيسيانُ لقبَ الشُّرَفاء إلَّا علامةَ شُكْرَانٍ هزيلةً تِجاه شَرَفِه الحقيقيِّ. وبَيْنَا كان الأمراء يَدْعُون أكابرَ مُصَوِّري العَصْرِ، كان تيسيان يَدْعُو الأمراءَ إلى مائدته فيُلَاقُون حَوْلَها فولتيرَ عصرِ النهضة: أَرِيتَن، على ما يُحتمل، ومع أن على الإمبراطور أن يختار مُفَضِّلًا إسبانيًّا أو ألمانيًّا، لا رَيْبَ، فإنه دعا هذا البندقيَّ، البالغَ من العمر سبعين عامًا آنئذٍ، أن يكون مُصَوِّر البَلَاط في ألمانية، وهو قد سار على هذا الوجه لِمَا بينه وبين المُصَوِّر من ملاءمة.

وكان زهو العِزَّة الخليقُ بملكٍ والذي يَتَجَلَّى في جميع ما صَوَّره تيسيان ينعكس على حياة تيسيان هذا وعلى أثره ما غَدَت نماذجُه ملوكًا وإلاهات. أَجَلْ، قد يبدو جِيُورْجيُونِي أعمقَ منه أحيانًا، وقد يبدو بالما الأَسَنُّ أعذبَ منه أحيانًا، وقد يبدو فِيرُونيزُ أسطعَ منه أحيانًا، غير أن تيسيان قد أحاط بهم جميعًا بطول عمره على الخصوص. والواقعُ أنه كان له ثلاثون عامًا من الماضي عندما فَرَّ من الوباء الذي أهلك أستاذَه الشابَّ جيورجيوني، والواقعُ أنه داوم على تصوير عَشَرَاتٍ بعد أن بدأ تِنْتُورِه ينازعه نِزاعًا صامتًا في البندقية نفسِها.

ولتيسيانَ من الآثار الضِّخَام ما لشكسبيرَ ورَنْبرانْت، وليس له من الألواح ما يُلَخِّص به جميع الأخرى أو يسيطر عليها، كما هي حال «الإيقاع» لجيورجيوني أو «القِدِّيسة حَنَّة» لليُونَار دفنْسِي. ويتألف مما يَظْهَر على نُسُج تيسيان من الرجال، ومن النساء على الخصوص، ضَرْبٌ من المُنَظَّمات الروحية التي تَظهر على أعضائها سِمَةُ المتفنن، وهذا إلى أن كثيرًا من آثار ميكل أنجلو ظلَّ ناقصًا وَفْقَ هَزَج حياته المهتزِّ الذي يُذَكِّرُنا بهَزَج الدكتور فاوْست، ويكاد المَدُّ والجَزْرُ يكونان خافيين في آثار تيسيان خفاءَهما في البحر المتوسط. وكان تِيسْيان يُحِبُّ زُرْقَة النهار الذهبيةَ؛ أي لونَ البحر المتوسط، وكان يَعْرِف العواصفَ أيضًا فيصورُها في ألواحه.

وكان بندقيًّا إلى فَقَارِه، حتى في طَلَبِه الغِنَى وحِذْقِه الأعمالَ، فاكتشف مُجَدَّدًا جمالَ النساء في مدينة الغرام والهَوَى هذه، وقد فَضَّلَ دَوْمًا ما في نساءِ الشعب من شهوةٍ غريزية على حُبِّ الأميرات المصنوع، وليس كثيرًا إلى الغاية عَدَدُ مَن صَوَّرَهُنَّ من النساء، وتُعَدُّ صورة الإمبراطورة إيزابلَّا أَجْمَلَ صورة امرأةِ بَلَاطٍ على ما يُحتمل، وعلى العكس تَجِدُ له ألوفَ الصُّوَر لنساءٍ مجهولات. ومَن ينظرْ إلى اللَّوْحِ المشهورِ المعروف ﺑ «الحُبِّ السماويِّ والحبِّ الأرضيِّ»، والذي كان يجب أن يُعْرَف ﺑ «الإقناع الغراميِّ»، يُدْرِكْ أن تيسيانَ كان ينظر إلى النساء بنظر ملِك كما كان ينظر إلى بقية العالَم، ومن ثَمَّ كان إبداعُ تيسيان لكثيرٍ من المَلِكات اللاتي تَرَكَ الواحدةَ منهنَّ بعد الأخرى.

وتُفَسِّرُ أَلواحُه الأخيرةُ سببَ سماح الطبيعة له بأن يَبْلُغَ المائة من العُمُر، فقد بلغت آثارُه الأخيرةُ ممن الكمال ما لا يَقْدِر عليه في سِنٍّ أصغرَ من التي رَسَمَها فيها، وما وَكَّده الشيخُ في مساء حياته شجاعًا بَطَلًا من طابعٍ خاصٍّ في آثاره لم يُساوِه أحدٌ من معاصريه فيه غيرُ ميكل أنجلو. وقد ترك تيسيانُ في الدَّوْرِ الأخير من مشيبه جمالَ الألوان الخالصة التي سار بها نحو الكمال أكثر مما صَنَعَ أيُّ مُتَفَنِّن آخر، وذلك ليُصَوِّر ثلاثةَ ألواحٍ، أو أربعةَ ألواحٍ، مُبَشِّرةٍ برَنْبرَانت قبل ظهوره بستين سنة. أَجَلْ، يمكن قياسُ هذا الاعتزالِ الاختياريِّ لسلطانه باعتزال الإمبراطور شارلكن الذي صَنَعَ له صورةً رائعة قبل ذلك بزمنٍ قليل، غير أن اعتزالَ الإمبراطورِ الاختياريَّ نشأَ عن إنكارِ نفسٍ وخيبةِ أملٍ، وأن اعتزالَ المُصَوِّر صَدَر عن حِكْمةٍ وعلمٍ بالمستقبل.

ولمَّا مات تيسيانُ عن عُمُرِ مائة سنة بالوباء حَدَث في البندقية ما لا سابقَ له، وذلك أن من العادة أن يُسْرَعَ في دفن ضحايا الوباء خشيةَ العَدْوَى، وذلك أن جميع الشَّعب قد تَجَمَّع ليشترك في تشييع جنازته الرسمية إلى كنيسة فَرَارِي، وذلك أن شعبَ الجُمهورية أدرك أنه فقَدَ مَلِيكَه.

٤

سيطر القراصين على البحر المتوسط ثلاثةَ قرون قوةً وإرهابًا، ولم يُمْكِن الخلاصُ من سلطانهم إلَّا نادرًا وفي أقسامٍ منه فقط، وكان للوعيد الذي يُمَثِّلُه لصوص البحر تأثيرٌ عظيم في التجارة البحرية وفي الحضارة نفسها. وكان سلطانُ القراصين يستند إلى تأييد السلاطينِ، والسلاطينُ كانوا يَرْعَوْنَ نشاطَهم في مَرَّاكِش والجزائر وتونسَ على الخصوص، وهذا إلى ما كان من خضوع ممالكهم للسلاطين بالاسم. ويَحِلُّ القرنُ السابعَ عشرَ، ويَظْهَر الترك عند أبواب فِيِنَّة ويهيمنون على البحر المتوسط، ويَتَحَدَّى قراصينُ مسلمي شمال أفريقية مجتمعَ الملكِ الشمس وآلِ هابسبرغَ الإسبانِ والبابواتِ الرومانِ البالغَ التَّمَدُّن فيَرْبُكُون غربَ البحر المتوسط.

وتَعْرِضُ إمارةٌ كبيرةٌ عليهم عَوْنًا وأرضَا، ومَنْ يحتلَّ شمالَ أفْرِيقيَّةَ الغربيَّ المشتملَ على جبلِ طارقٍ في ذلك الزمن يمكنه أن يَرْقُبَ إيطالية الجَنُوبية ومرسيلية وجِنوَة ومدخلَ البحرِ المتوسطِ الشرقيَّ مع بقائه في حِرْزٍ حَرِيز. والواقعُ أن البحر على هذه الشواطئ يكون كثيرَ الزوابع في الغالب، والواقعُ أنك لا تَجِد مرافئ لذلك البلد في ذلك العصر كما لا تَجِدُ ماءً وراء شاطئ ذلك البلد.

من أَجْل هذا الوضع الجغْرافيِّ الممتاز كان ملوكُ النصارى يدارون هؤلاء اللصوصَ البحريين المعروفين بالقراصين في أثناء تنافسهم. ومن نتائج الحقد الذي يَغْلِي فيما بين أولئك الملوك أن كان يَحْفِزَهم إلى تأييد الكافرين ضِدَّ أعدائهم سِرًّا، وليس صاحب الجلالة الشديدُ النصرانيةِ الملكُ فرنسوا الأولُ وحدَه هو الذي كان يبيع بارودًا من الكَفَرَة ليُوَجِّهوه إلى الإسبان، فمن البابوات مَنْ مَنَحَ رُخَصًا بمثل هذه التجارة قابضًا عشرةَ آلاف دوكًا دخلًا سنويًّا.

وأَخَوَان هما اللذان كانا أولَ مَنْ نَهَضَ نهوضًا خياليًّا بالقرصنة القديمة في شمال أفريقية، وقد ظَلَّ أبناؤهما وحَفَدَتُهما قابضين على زمام الأمور مدةً أطولَ مما اتَّفَقَ لمُعْظَم أُسَرِ الأمراء. ومن المُسَلَّمِ به أن كان أُرُوج (عروج) وخيرُ الدين ابنين لنصرانيٍّ مُرْتدٍّ رَبَّاهما قُرْصانين مع خُيَلَاء مُلَقِّنًا إياهما بعضَ المشاعر الفُرُوسية مُعَلِّمًا إياهما أن يحافظا على نقاء دمهما كحرصهما على انتهاب مَلَّاحي النصارى والفتك بهم، ولم يَثْبُت أنهما سلبا مراكبَ إسلاميةً. وكلُّ ما نعْرِفه أن سلطان الجزائرِ دَعَا إليه أُروج ليساعدَه فخَنَق ابنَ دينه بيده في حَمَّامه، وقد عُدَّ هذا من المآثر لفَقْدِه إحدى ذراعيه منذ بضع سنين فاتخَذَ ذراعًا من فضةٍ صنعها له صائغٌ عربيٌّ، ومع ذلك كان هذا عَمَلَ خيانةٍ ونقضًا لحقِّ القِرَى فأثار فتنة.

ويَقْبِض خير الدين، المُسَمَّى بارباروس بسبب لحيته، على زمام الأمور بعد قَتْلِ أخيه، أو يقوم بأعمال النهب طليقًا مدة أربعين عامًا، ثم يَزْدَلِفِ من الخليفة القادر المُطْلَق في الآستانة، ويُؤَدي تحالفُ هذين الرجلين، اللذين كان كلٌّ منهما يَنْشُدُ الآخرَ عن رَهْبَةٍ، إلى رفع القرصان إلى منصِب الأمير الأكبر للبحرية التركية، وتشابه هذه التوليةُ إقرارَ الملوك بشرعية خليلاتهم اللائي لا غُنْيَة لهم عنهن. ولم يكن في تقبيل خير الدين السَّبْعِينِيِّ خُفَّ السلطان الذهبيَّ في سَرَايِ استانبول من الضَّعَة أكثرَ من ضَعَة السلطان حينما قَلَّد ابن الخَزَّاف العادِيِّ هذا سيفَ الذهب وعصاه.

ومن المحتمل أن نشأت قوة القراصين عن عدم عَدِّهم أنفسَهم غيرَ قراصين، والواقعُ أنهم لم يصنعوا غير إنجازهم بانتظامٍ ومن غير تَرَدُّدٍ ما كان المَلَّاحون قبلهم يحاولون أن يُسَوِّغوه بذرائعَ خادعةٍ، ويلوح أن حقدًا عميقًا على المجتمع وزهوًا دينيًّا يضفوان على الوَلَع بالذَّهب هما اللذان حَمَلَا هؤلاء الناسَ على تعريض أنفسهم للموت دَوْمًا، وما كان من وجود القَرْصَنَة والنخاسة لدى النصارى أيضًا يؤيد حِسَّ الشرف في القراصين الذين يشعُرون، كبَشَرٍ، بأنهم أَسْمَى من النصارى. ولم يُرِد خير الدين، الصعلوكُ الكارهُ للوارث الإمبراطوري، أن يصدِّق الأُسارى الذين رَوَوْا له خبرَ قيام الإمبراطور شارلكن بالقيادة بنفسه في متاريس تونس، وكان الإمبراطور يَمْقُت، من ناحيته، هذا الثوريَّ مُجَرِّدًا ضِدَّه حملتَه الثانية، غَزْوَةَ الجزائر المشئومة، وَفْقَ رأي نُبَلَائه وكُبَرَاءِ إسبانية وعلى الرغم من نصيحة حديث النعمة كُورْتِز المعاكسةِ، ويُصَاب شارلكن بأعظم هزيمةٍ في حياته في غَزْوِه هذا.

وقد تَغَنَّى اللورد بايرون وشعراءُ آخرون بمشاعر الشرف لدى الخُصُوم محَوِّلِين ما يساورنا من رأيٍ عاديٍّ حول القراصين. وكان أَنْدرِه دُورْيا الذي عُدَّ مَلَّاحًا كبيرًا في العالَم النصرانيِّ قد اغتنى من القرصنة كخير الدين مع أنه قضى جميع أوقاته فارسًا حتى الأربعين من سِنِيه، ويستخدمه الإمبراطور للقضاء على عدوه الذي لا يُقْهَر، وقد توارى هو ومراكبه يوم المعركة الحاسمة بالقرب من برِيدِيزا مع أنه كان يُظَنُّ أن الجِنوِيِّين يحاربون من أجل حليفةِ الإمبراطور البندقيةِ، ومما يُرْوَى أن دُورْيا وخيرَ الدين اتفقا سِرًّا على مراعاة كلٍّ منهما لمجد الآخرِ الحَرْبيِّ.

وكان القَرَاصِين يُطلِقُون أَسْرَاهم غالبًا في مقابل فِدْيةٍ كبيرة، ولم يكونوا إذَنْ أظلمَ من أيِّ صاحب سُفُنٍ كان يُقَرِّن مئاتِ العبيد في الأصفاد على صُفَّات مراكبه، ولا ينبغي إذَنْ أن يُنْظَرَ إلى نظام القرصنة القويِّ، الذي عيَّن حياةَ البحر المتوسط في قرنين أو ثلاثة قرون، من الناحية الخُلُقِية، وكان الحقْدُ الاجتماعيُّ يتجلَّى في كلِّ مكان تجليًّا يمكن أن يُرَدَّ به وَضْعُ القراصين إلى ضَرْبٍ من التَّمَرُّد الدائم ضدَّ المجتمع البُرْجوازِيِّ. ولَمَّا جلب خيرُ الدين إليه ضباطَ مركبٍ أسيرٍ ومَلَّاحيه أَحَسَّ في بدءِ الأمر ما يساور الأُسارى من غمٍّ، ثم صَرَّح قائلًا: «أريد أن أَعْفُوَ عنكم بدلًا من أن أذبحكم، فيكون المَلَّاحون أحرارًا ويصير الضباط عبيدًا.»

وكان القراصين من رجال عصر النهضة ولكن مع عَدِّهم خارجَ حماية القانون، وهم قد سيطروا على البحر المتوسط كسيطرة الرؤساء على القارَّة، وقد جعل هؤلاء وأولئك أنفسهم تحت تصرُّف مَنْ يُجْزل العطاء لهم أكثر من غيره. وقد كان هؤلاء وأولئك من البأس والإرهاب ما يحاول جميع العالم معه أن يبتاعهم، وقد كان بُعْدُهم من الأخلاق مستقلًّا عن كلِّ دين موروث أو مُنْتَحَل. وقد قَبَضَ ربابنةُ الملكةِ إليزابِت الإنكليزية على سفنٍ إسبانية أيضًا، فباعوا أشرافًا من الإسبان في سوق دُوفر جاعلين ثمن الواحد منهم مائة لِيرَة. وكان الملاح، حَوَالي سنة ١٦٥٠، يُفضِّل أن يَقْبِض عليه القراصينُ المسلمون على أن يَقْبِض عليه الإنكليز؛ وذلك لأمله أن يَشْرِيَ حريتَه من قراصين المسلمين؛ ولأن الإنكليز كانوا يقتلون مَلَّاحي كلِّ سفينة يأسِرُونها من العدو ويستولون على وَسْقِها ويُغْرِقونها.

وحاول الإنكليز حتى القرنِ الثامنَ عشرَ أن يستأثروا بِخِدَم قراصينِ أفريقية انتزاعًا للبُرِّ الأفريقيِّ من الفرنسيين، وتَنَسَّم رئيسُ القراصينِ الأعلى في ذلك الزمن، تَنَسَّم دايُ الجزائر، مثلَ ذلك حينما اشتعلت الثورة الكبرى في فرنسة فأقرض فرنسة الفتاةَ في سنة ١٧٩٠ خمسةَ ملايينَ فرنكٍ بلا فائدة، ويُثْبِتُ هذا الأمرُ إعجابَ القراصينِ العظيمَ بالثورة الفرنسية ومقدارَ ما كانت الجزائر قد جمعته من الثَّرَوات بالقرصنة.

وكانت أعمالُ السلب والقتل تُقْتَرَفُ من الناحيتين، من قِبَل النصارى والقراصين، كما كان يُؤْتَى بأعمالٍ فُرُوسِيَّةٍ، ولم يكن لأيٍّ من هذين العالَمين إذَنْ أن يَعُدَّ نفسَه أرقى من الآخر. ولَمَّا فتح الإمبراطورُ شارلكن تونسَ عانق العَبْدَيْن الأبيضيْن اللذين أعتقهما في بدءِ الأمر، ولَمَّا وَجَّه نظره رجلٌ من بَلاطه إلى رائحة هؤلاء العبيد هَتَفَ قائلًا: «إن نار الهَوَى تُصَفِّي الهواء!» وقد دفع خير الدين نصف ماله إلى دُورْيا فِدْيةً ثمنًا لحرية نائبه وصديقه. ومما كان يحدث أحيانًا أن يحتفل الملوكُ الشرعيون بزملائهم القراصين احتفالًا حارًّا إذا ما حالفوهم، ومن ذلك أن دُوك دو بُورْبُون احتفل في مَرْسيلية بخير الدين احتفالًا رائعًا لم يَعْرِف للبابا ما هو أبْهَى منه، وقد تقاطرت السيدات لمشاهدة القرصانِ الشهير، وقد رأَت الفَتَيات أحلامًا غرامية.

ويظهر أن القرصنةَ حِرْفَةٌ صحية إلى الغاية، فقد عَمَّرَ رؤساءُ القراصين كثيرًا، ومن المحتمل أن كان هذا نتيجةَ بساطة حياتهم ما كان هؤلاء الأقوياء الأغنياء غيرَ محتاجين إلى شيءٍ غيرِ النساء، وكانوا يُعَلِّمون القناعة في مدارسهم حيث يُدَرَّب الفتيان على المِلَاحة والقرصنة. وكان لا يُؤْكَل في السُّفُن غيرُ كَعْكٍ وأَرُزٍّ، وكان لا يُشْرَب غيرُ ماءٍ، فإذا ما وُجِدَ ضائن في مركبٍ مَلْطِيٍّ مقبوضٍ عليه قال القراصين إن هذا عارٌ على الرُّبَّان.

وقد تَعَلَّمَ القراصينُ علمَ النفس من هذه المِهْنَة الخطرة، والواقع أنه كان يجب عليهم أن يَعْرِفوا قيمة الأَسْرَى، وتُذَكِّرُنا التقارير التي وُضِعَت في هذا الموضوع بتقارير الجِسْتَابو، وإذا ما كانت يَدَا الأسير بيضاوين قَضَوْا بأن ثيابه البالية هي للخِدَاع؛ وذلك لأن الشخص في ذلك الزمن إذا لم يعمل بيديه وَوُجِد في البحر حُكِم بأنه غنيٌّ لا ريب، وكانوا يُدَقِّقُون في الشَّعْر والسَّيْر وطِرَاز الكلام. وكان التجار الذين يَشْرُون عبيدًا من سوق النِّخاسة يُنَظِّمُون الأُسَارَى المَعْرُوضين عُرَاةً للشمس المُحْرِقة، والذين كانوا أمسِ يعتقدون أنفسهم سادةَ العالم، فيَحْمِلُونهم على الوُثُوب وعلى الألعاب الرياضية ويأمرون بجَلْدِهم في بعض الأحيان. وكان السفراء الأوروبيون، إِذا ما خاطبوا الدَّايَ الذي كانت له أوَّلِيَّةُ اختيارِ ثُمُن العبيد لنفسه، يستعملون تعبيرَ «جلالتكم» حتى سنة ١٨٢٠.

وكانت قُوَّةُ الحياة في القراصين أقربَ إلى الخيال، والمرءُ إذا ما قرأ أن خير الدين عاش ثمانيًا وتسعينَ سنةً تَمَثَّلَتْ له صورةُ تيسيانَ المئويِّ القويةُ. ولما بلغ خيرُ الدين الثامنة والسبعين من سِنِيه تَزَوَّجَ فتاةً نصرانيةً حسناءَ من رِيجْيُو، اسمُها دونا مارْيا، فحَمَلَها على الإسلام، وغَمَر أهلَها بأجمل الهدايا التي كان رجالُه قد سَرَقُوها من ساحلٍ آخرَ لا ريب. وقد صان خيرُ الدين مدينةَ ريجْيُو ولم يَتَعَرَّض لها مُؤَدِّيًا إليها ثَمَنَ ما كانت تُمَوِّنه به من ميرَةٍ وماء، وقد كان خيرُ الدين يَصْنَع ذلك إكرامًا لمَسْقط رأس زوجته، وقد عاش معها حتى أواخرِ أيامه في قصره المُشْرِف على البُسْفُور مُؤَسِّسًا مثلَ كُلِّيُونِي دارًا لأبناء المَلَّاحين وواضعًا رَسْمَ ضريحه الخاصِّ، فَظَلَّ كلُّ مركبٍ يَمُرُّ أمام هذا الضريح يُطْلِقُ قذيفةَ مِدْفعٍ للتحية مدةَ مائة سنة، والحقُّ أن خير الدين قضى حياةً سعيدةً مليئة إلى آخر عمره.

وكان خَلَفُهُ، الذي شَرَاه من الأَسْر ابنًا للأربعين من سنيه، قد أَسَرَه رجلٌ من آلِ دُورْيا له مثلُ نصف عُمُره، وقد قاسى أسوأ معاملة، وظَلَّ مقيدًا بسلاسلَ في إحدى السفن أربع سنين. وقد كان أحد فرسان مالطة المشهورين مُكَبَّلًا في مركبٍ تركيٍّ، ثم أُطْلِق فأبصر عَدُوَّه مُقَيَّدًا في مِثْل مكانه، فسأله ساخرًا: «أهذه عادات الحرب؟!» فأجابه الآخر: «هذا هو طالع الحرب!» ويَنِمُّ هذا التحاور المؤلَّف من بضع كلمات على ما كان بين القراصين الكافرين والفرسان المُتَّقِين من مشاعر الإخاء. وبما أن فرسان مُنَظَّمَة مالطة قد وَقَفُوا أنفسهم على قتال المسلمين، فإنهم ضربوا الرَّقْمَ القياسيَّ العالَميَّ في غِنَى الغنائم حينما قبضوا في سنة ١٦٤٤ على سفينة حاملةٍ لقاضي مكةَ الذي خَسِرَ منزلته فهاجر، فَيَظْهر أن هذا القاضيَ كان يساوي مع خزائنه ونسائه تسعة ملايين دولار ذهبيٍّ.

وكانت مصايرُ المرْتَدِّين في القَرْصَنَةِ أدعى الأمورِ إلى الالتفات كما في كثيرٍ من المِهَن. وكان إنْدِي عليُّ الذي يُعَدُّ أعظمَ مَلَّاح في عصره سليلَ أُسْرَة نصرانية ممتازة في قِلَّوْرية٥ فأُسِرَ في صِبَاه، ويُرْوَى أنه ظَلَّ مُقَيَّدًا سنينَ كثيرةً على مقعده في إحدى السفن شاحبًا صامتًا مُفَضِّلًا هذه الحالَ على انتحال الإسلام، ويَضْرِبُه جنديٌّ تركيٌّ على وجهه بِجُمْع كَفِّه فيَشْفِيه بذلك من عناده، ويُقْسِم أن ينتقم لنفسه ولكن من غير ظالميه، ويسير على غرَار فاوْست فينهمك في الملاذِّ، ويَنْذِر أن يثأر من أَرُومته، ويُسْلِم، ويَعْرِف أن يرتَقِيَ إلى أعلى المراتب السلطانية بفضل قوته ودهائه، ويَقْضِي عشراتِ السنين في سلب ألوف النصارى وتقتيلهم فيُرْهَبُ كأقسى القراصين، ويَشِيبُ فيُظْلِم مِزَاجًا ويَظَلُّ عدَّةَ سنين لابسًا ثيابًا سُودًا ولا يَحْتَمِل صوتًا بشريًّا، ويَتَّهِمُه الإِنْكِشارية بأنه يمارس النصرانية سرًّا فيُهَنِّئُه أُسْقُفٌ فرنسيٌّ على ذلك، ويموت في التسعين من سِنِيه كأسلافه، وذلك بين ذراعَيْ معشوقته الأخيرة كأتِّيلَا. ويَخْلُفُه على رأس القراصين سِكَّالا الذي له مثلُ شهرته والذي كان ابنًا لامرأة شريفة من مَسِّينة، وكان قد أُسِرَ في شبابه أيضًا، ثم يَبْلُغ من شِدَّة الشوق إلى رؤية أُمه ما يلتمس معه الإذن له في ذلك من نائب الملك في صِقِلِّية، ويُرَدُّ طلَبه فيُمْعِن في تخريب سواحل هذه الجزيرة مدةَ أربع سنين، وتصبح عِدَّةُ رهائنَ قبضتَه فتُرْسَل أُمه إليه، وتمكث في السفينة عنده بضعَ ساعات، ويعيدها إلى البَرِّ، ولا يَمَسُّ صِقِلِّية بعدَ ذلك مطلقًا.

وكان من القراصين أناسٌ يَنْصَرِفون بعد غُنْمٍ مُوَفَّق، شأنَ صِغَار البُرْجوازية الذين يَكْسِبون في «اليانصيب». وكان من القراصين أناسٌ يعودون بعد ذلك إلى النصرانية بأسماءٍ جديدة ويعترفون فلا يُعْرَفُ ماضيهم إلَّا بشهادة شهود من الشِّيب أو بوثائقَ يُبْرِزونها. وكان من القراصين أناسٌ يُولَعون في مشيبهم بخَمْر الحقد كبعض القِرَدَة المُسِنَّة الخبيثة ما دام دَوْرُهم في الغرام قد انقضى، ومن ذلك أن بايًا شائبًا من بايات تونس كان يأمر بقَطْع آذان أعدائه ويحْمِلُهم على أكلها، ومن ذلك أن هذا البايَ ذَبَحَ رجالًا وسَلَخ جلودَهم مالئًا إياها بالتبن جاعلًا منها دُمًى عارضًا لها على الجُمهور، وتُذَكِّرُنا هذه الأعمال الوحشية بأواخر أباطرة الرومان وبالطُّغاة المعاصرين.

وقليلٌ من العبيد النصارى مَنْ استطاع أن يترك للعالَم قصةَ آلامه، فقد كان معظمهم من شدَّة الوَهْن ما كانوا يَعْجِزُون معه عن الكتابة بعد إعتاقهم، وكان وَضْعُ كثيرٍ منهم معروفًا، وما كان اشتراؤهم ممكنًا مع ذلك لتَعَذُّر معرفة المكان الذي يُكْتَشفُون فيه. وكانت هذه، مثلًا، حالُ عالِمٍ يونانيٍّ أرسلَه فرنسوا الأولُ ليبحث له عن مخطوطات قديمة فمات مقيدًا في مركبٍ، وقد ظلَّ المصلحُ الاسكتلنديُّ جُون كنُوكْس مُكَبَّلًا في سفينةٍ فرنسية سنتين من غير أن يُرْوَى عنه كبيرُ شيءٍ بعد تحريره. وقد كَرِه كَهَنُوتيٌّ بَهِيٌّ آخرُ، كَرِه سبرَاغُ هذا، أن يتركَ رفقاءَه وحدَهم فأَسْلَاهم في الأَسْرِ سنينَ كثيرةً، ثم وُفِّقَ للفِرَار معهم في زورقٍ لَيِّن صنعوه من نسيج، فاستطاعوا أن يغادروا تونس ويَصِلُوا إلى ميورقة. وقد جُرِح الكاتب الكبير سِرْفانْتِس جَرحًا خَطِرًا في صدره وفَقَد إحدى ذراعيه في معركة ليبانتة، وبينا كان عائدًا إلى بلده إذ قبض القراصين عليه فبقيَ عبدًا خمسَ سنين، وما كان يَحْمِلُه من كُتبِ التوصية جعل له قيمةً عظيمة فبلغ ما طلبه القراصين من الضخامة ما لم يَسْطِع أحدٌ معه أن يؤدِّيه. وكان كلُّ مَلَّاح يَعْرِف أن عليه، عند هجوم القراصين، أن يطرح أوراقَه من فوق المركب قبل كلِّ شيء، وهذا الشاعر وحدَه هو الذي نَسِيَ اتخاذ هذه الحَيْطَة، وبما أن القراصين كانوا لا يستطيعون الانتفاعَ به جَدَّافًا فإنهم أَلْقَوْه في السجن حيث انتظر مدةً أطول من المدة التي قضاها أخوه الذي أُسِرَ معه لوصول فديةِ أخيه قبل فديته، ويَسْهُل إدراكُ درجةِ رَفْع الأثر الكبير للرجل، فمن يطالِع هذه القصة يودُّ لو أن الشاعر حُرِّرَ قبل أخيه، ثم استطاعت أُمُّه أن تنقذه وأن تنقذ من أجل العالَم قصة «دُون كِيشُوت» التي لم يكتبها الشاعرُ بعدُ والتي لم يكن ليقدِر على كتابتها في السجن.

وتُقْرَأُ على كتابةِ قبرٍ في قورسقة قصةٌ فريدة، تُقْرأ أغربُ قصة بين قِصَص العبيد، وذلك أن مَيِّتَةً اتخذت حجرَ قبرها الخاصِّ لبيان ما فيه إنقاذُ حياةٍ بشرية، وإليك تلك الكتابة: «أيها المَلَّاحُ الشماليُّ الذي لا أَعْرِفه، أَخْبِرْ وِلْهِلْم لُوِنْستِرْ السِّتْرالْسُنْدِيَّ بأنك رأيت قبر زوجته التي بِيعَتْ أَمَةً في تونس ثم حُرِّرت وماتت هنا في شهر يونية سنة ١٦٩٨، وأن ابني لا يزال عبدًا في تونس، فلْيَأْتِ أبوه وينقذه، وهو إذا مَرَّ من هنا أمكنه أن يرفع الحجر الذي يَسْتُر رُفاتَها فيجدَ بقايا أُفْرَازِينَتِهِ، وإذا ما أَسْفَتْها الريحُ فإن دموعه تُبَلِّلُ قبرها، فافْهَم رجائي أيها الغريب وإلَّا كنتَ غيرَ إنسان.»

ويُفْتَح القبرُ بعد حينٍ فتوجَدُ فيه الوثيقة الآتية: «أيها النَّبَّاشُ الذي لا أعرِفه، اعلم أن ج. فاخْتِنْدُنْك هو الذي أتاني بنبأ موت أُفْرازِينَتِي، وقد بحثت عن ابني في أفريقية فوجدته مَيْتًا فدفنتُ رفاتَه هنا بجانب رُفات أُمِّه العزيزة.»

٥

كان السلطان يقيم بقصره الزاهي زِينةً والمشرفِ على البُسْفُور من مكانٍ يُعَدُّ أكثرَ ما في البحر المتوسط شرقيةً، وكان السلطان يدير دولته بواسطة وزرائه، وكان يسيطر على البحر مستعينًا بقراصينَ نائبينَ عنه، وكان ملوك الإسبان في الطرف الأقصى من الغرب يصنعون مثلَ ذلك مع الفارق القائل بتَسْمِية خُدَّامهم دُوكاتٍ وغرانداتٍ وتسميةِ أسطولهم أَرْمادَا. وكانت حرارة السَّراي الأبلق في اسْتَانبُول مع بُسُطِه ومصابيحه وستائره ومُتَّكآتِه وعيونه وأبراجه الكثيرة تُنَاقِض مَحْبَس الإسْكُوريالِ الرَّماديَّ القاتمَ الذي بناهُ ملك إسبانية الشاحبُ فِلِيب، وكان أحدُ البِنَاءَيْنِ قد شِيدَ في سبيل الغرامِ وملاذِّ الحياة، وكان البناء الآخر قد شِيدَ عن زَهْوٍ وعن تواضع؛ أي عن شعورين كان فليب يُظْهِرُهما مناوبةً وببرودةٍ تِجَاه الناس تارةً وتِجَاهَ الرَّبِّ تارةً أخرى. وكان ابنا العاهليْن سليمانَ وشارلكنَ وارثيْن نَمُوذجيين من حيث خُسْرانُهما السلطانَ الذي انتقل إليهما من والديْهما، ولم يَمْلِك التركيُّ غيرَ ثمانية أعوامٍ، وقد مَلَك الإسبانيُّ نحو أربعين عامًا، وتَرَك فليب وراءَه إسبانْيَةً خَرِبَةً على ما كان من رَصانته عند قياسه بمُنَافِسه التركيِّ السِّكِّيرِ الخَلِيِّ، وذلك على حين أمكن السلاطينَ أن يَنْهَمِكُوا في المَلَاذِّ ثلاثةَ قرونٍ أخرى من غير أن يُوهِنُوا سُلْطَتَهم تقريبًا.

وإذا استثنيتَ أغسطس، على ما يُحتمل، وجدتَ فليب الثانيَ أَبْرَدَ وجهٍ أنتجه البحر المتوسط المُشْمِس لا رَيْبَ، وقد يكون رأسُه الرَّخْوُ الأصفرُ الأشقرُ الأغبشُ العينين مع وضوحِ زُرْقةٍ رأسَ خَيَّاطٍ سَكْسُونيٍّ كما يُرَى في الروايات الألمانية الهزلية القديمة، ومع ذلك فإن قَوَامَه وثيابَه وولعَه بالشَّكْلِيَّات، وتعصُّبَه على الخصوص، أمورٌ تَنِمُّ بجلاءٍ على نصيب الدَّم الإسبانيِّ فيه، وكان يُرَى أحيانًا، ولكن نادرًا، أنه يَتَبَسَّم، وكانت لديه خليلةٌ في الحين بعد الحين، وكانت رصانته والناحية القاتمة في سجيته تحرِمانه كلَّ سعادة، حتى إن أظلم أحكامٍ تَصْدُر عن محاكم التفتيش كانت لا تَمْلَؤُه سرورًا حقيقيًّا.

وكانت مبادئ السلطة والدين تجتمع فيه كمُرَكَّبٍ رمزيٍّ، وقد اتَّخَذَ عقيدةَ الكنيسة والبابا وسيلةً لتأييد سياستِه مع شِدَّة تَدَيُّنه، وسياستُه هذه كانت لا تَهْدِف إلى غير عظمة إسبانية كاثوليكيًّا، وقد غدا مَلِكًا بعد جُهْدٍ كبير مع أن أباه شارلكن وُلِدَ مَلِكًا، وهذا يُفَسِّرُ طابعَ حياتِه وبَلاطِه القاتمَ. أَجَلْ، قِيلَ إن الشمس لا تغيب عن إمبراطورية فليب، فلو قيل إِن الشمس لم تَطْلُع في إمبراطوريته قَطُّ لكان هذا أقربَ إلى العدل، وقد صَدَرَ أعنفُ هجومٍ ضِدَّ روح النهضة عن قشتالة ما دام فليب لا يرتاح لطَبْع الأَرْغُونيين الخفيفِ. وكان من الصواب أن يُسَمَّى هذا الدورُ دَوْرَ مناهضة النهضة بدلًا من تسميته دَوْرَ الإصلاح الديني.

وكان مغامرو الإسبان حَوالَي سنة ١٥٧٠ ومغامرو الطليان حَوالَي سنة ١٥٠٠، وهم الذين يمكن أن يُقاسَ بعضُهم ببعضٍ بسالةً وقسوةً، يختلفون اختلافَ صُوَرِ غرِيكُو عن صُوَر تيسيان، فقد حَلَّ تعصُّب فاتحي الإسبان الدينيُّ في القيام برسالتهم الربَّانية وهَوَاهم الفُرُوسِيُّ الذي خُلِّد بسُخْرِية دون كيشوت محلَّ نشاط «النهضة» المُشْرِق الذي يُوَكِّدُ الحياةَ والسعادةَ والقوة ويحاول نيلَها، وما سَرَقه الإسبانُ من ذهبٍ وفِضةٍ من رعاياهم الجُدُد في أثناء فتح أمريكة ضُرِب مع سِمَةِ الصليب حَمْلًا لطابعٍ أدبيٍّ، وقد كُرِّر هذا الرِّئاءُ طويلَ زمنٍ فلاحت هذه الثَّرَوَات التي كُسِبَت كسبًا آثمًا من المُقَدَّسات، وقد أَدَّى المزاجُ الشَّديد الذي امتاز به بعضُ الأشخاص كالقديسة تِيرِيز والقديس إغنَاس دُولْوَايُّولَا إلى انتصار العَصْرِ أَوَّلًا ثم إلى اختلاله آخِرًا.

ولم يقترف ملكُ إسبانية ولا السلطانُ أعمَالهما الجائرة عن حَيَوِيَّةٍ فَيَّاضة أو عن حَقِّ الأقوى، فكلاهما كان يستفتي دينَه وينال منه حِلًّا مُتَذَرِّعًا باتِّباعه أهدافًا عالية، وهكذا سَوَّغ فِلِيب تقتيلَه العربَ واليهودَ والبروتستانَ، وأما السلطانُ فلم يُفَكَّر حتى في قيد جرائمه، وعاهلُ الترك هذا كان حَبْرَ دينه الأعلى فيمكنه أن يَسْخَر من القوانين، وملكُ إسبانية كان على العكس يَنْظُر إليها نظرًا جِدِّيًّا، وملكُ إسبانية كان يمكنه من نافذةٍ في غرفة نومه القريبة من معبد قصره أن يُبْصِرَ وهو على سريره صورةَ المصلوب في ناحية الهيكل، وبهذا كان يَتَجَلَّى خُشُوعُ سيد نصف الدنيا، وعلى النقيض كان هذا السيد يَجْلِس في مجالس الدولة على كرسيٍّ بالغ الارتفاع فيُضْطَرُّ وزراؤه القاعدون في المكان الأدنى إلى رفع أصواتهم ليُسْمَعُوا.

أَجَلْ، كان الملك يَسْمَع ممثلي الشعب أيضًا، بَيْدَ أنه كان لا يُؤْذَن لهؤلاء ولأولئك في غير إبداء رغائبَ. وكان الأسبانُ، حَوالَي سنة ١٦٠٠، أقلَّ حريةً مما كانوا عليه قبلَ هذا بقرنين أو ثلاثة قرون، وكان عدمُ الحرية هذا يُصِيب جميعَ الأُمة بالفالِجِ فيُفَسِّر ضَيَاعَ سلطانِ إسبانية الاستعماريِّ بالنسبة إلى إنكلترة، وقد تَنَبَّهَ حِسُّ الحرية في إنكلترة باكرًا، وقد أُنْمِيَ فيها دَوْمًا، وهو لم يَخْبُ فيها مُطْلَقًا، ولا يمْكِن أن يُسَيْطَرَ على الأمم الأخرى مع الزمن إلَّا من قِبَلِ أمم مسيطِرةٍ على مصيرها وغيرِ عارفةٍ لسادةٍ لها غيرِ نفسها، شأنَ الأغارقة والرومان والإنكليز في أحسن أيام تاريخهم، ولو أَبْحَرَ كرِيسْتُوف كُولُونْبُسَ تحت عَلَمٍ إنكليزيٍّ، كما كان ناوِيًا، ما كان لإسبانية مستعمَرَاتٌ قَطْعًا، ولا مِرَاءَ في أن الإسبان كانوا من الجُرْأة ما يغامرون معه بحرًا، ولكن الحريةَ كانت تُعْوِز الإسبان فَيَحُول هذا دون تَحَوُّلهم إلى شعبٍ استعماريٍّ.

ولم يكن كيانُ الأمةِ الإسبانيةِ السياسيُّ من القوة ما تقوم معه بالأعمال الاستعمارية التي حُمِلَت عليها باكِرًا من الناحية الاقتصادية، وما فتئَت السُّفُن الحاملةُ ذهبًا وفِضَّةً تَرِدُ من أمريكة فتَحُطُّ حَمُولَتَها في قادسَ أو البرتغال التي كان فليب فاتحًا لها حديثًا، ومع ذلك فإِن المالية الإسبانية كانت تَنْحَطُّ نتيجةً لِعَدَم المسئولية في إدارة الأموال العامة ولِعَدَم وَضْع ميزانية منتظمة. وكان أهمُّ ما عَرَفه التاريخُ من القُرُوض حتى ذلك الحين يُؤخذُ من المصارف الألمانية والإيطالية ويُضاف إلى الكنوز الأسطورية التي تأتي من البلاد التي كُشِفَتْ حديثًا، وما كانت تلك القروض لتَحْفَظ توازنَ تلك الإمبراطورية العُظْمَى الماليَّ مع ذلك، فقد أفلست الدولةُ ثلاث مرات في عشرين سنة.

وقد انتصر الإسبان على الترك نصرًا حاسمًا مع ذلك، وقد طَلَع نهارٌ من شهر أكتوبر سنة ١٥٧١ على معركةٍ بحريَّةٍ وقعت بالقرب من ليبانتة لم يَعْرِف البحر المتوسط مثلها منذ معركة أكْسيُوم قبل ستةَ عشرَ قرنًا، وقد كانت هذه آخرَ معاركِ المراكب ذاتِ الأشرعة والمجاذيف والمعروفة بالغَالِير، وقد اشترك في هذه المعركة نحوُ خمسِمائة مركب، وقد تَوَقَّف الفوزُ فيها على المهارة في الصعود إلى ما بين طبقتي مراكب العدو من جُسُورٍ مُكْتَظَّةٍ يتصارع الفريقان فيها تصارعًا هائلًا. وقد عُيِّنَ مصيرُ هذه المعركة بعبقرية رئيسٍ قاتَلَ عَدُوًّا غيرَ مُجَرَّب وببسالته، عُيِّن بدُون جُوَانَ النمسويِّ الذي كان نَغيلَ شارلكن فَورِث من أبيه هذا بعض عبقريته لأنه نغيلٌ على حين كان فليب الضعيف ابنَ فِرَاش، وما كان يحمله الملك من حَسَدٍ نحو أخيه النَّغِيل الذي حُمِلَ على الاعتراف بأنه غراندُ إسبانية وَفْقَ وصية أبيه حَفَزَه مُقَدَّمًا إلى محاولته عرقلةَ نَشاط هذا الفتى الشجاع. وكان يقود الأسطولَ التركيَّ فتًى أشدُّ حَدَاثةً، شابٌّ نال هذه القيادة عن حُظْوَةٍ لدى السلطان، وكان الأسطول التركيُّ مُلْقِيًا مراسيَه في خليج كُورِنْث على وضعٍ رائع، ولكن بعد الأوان، وكان على الأسطول التركيِّ أن يظلَّ ساكنًا ما دام حلفاءُ البندقية وفلورنسة والبابا، الإسبانُ، قد جعلوا جميعَ أسطولهم عند مدخل هذا الخليج الواقع في جَنوب كُورْفُو الشرقيِّ والذي كان لا يمكنه أن يَلْبَث فيه زمنًا طويلًا.

وكان القائدُ التركيُّ علي باشا، الذي دُفِعَ عن هيجانٍ لا شعوريٍّ، عن هيجانٍ طبيعيٍّ لدى حَظِيٍّ، يَبْغي المجدَ فقَرَّر أن يَخُوض غِمَارَ المعركة على الرغم من نصائح خبراءَ نُبَهاء. وكان للتُّرْك في ذلك الزمن شهرةُ مَنْ يَتَعَذَّر قهرُهم، وكانت قد حاولت دولٌ كثيرة كَسْرَ أسطولهم في ستَّ عشرةَ معركةً فلم تُوَفَّق، ومن دواعي الحَيْرَة في هذه الشهرة التي أوجدها خيرُ الدين كونُ الترك قومًا غيرَ مَلَّاحين بطبيعتهم.

وكان الأسطولُ التركيُّ المُتَفَوِّقُ يتصرفُ في بدءِ معركة ليبانتة في جبهةِ ثلاثةِ أميالٍ بحرية، وكان الأسطولُ الإسبانيُّ لا يَشْغَل غيرَ نصف هذه المسافة فكان يمكنه أن يندفع نحو القلب التركيِّ، وكانت المعارك البحرية في ذلك الزمن لا تزال تقع على وجهٍ فُرُوسِيٍّ فيقابِل العدوُّ ضربةَ المِدْفَع بضربة مِدْفع.

واسْمَعْ ما جاء في تقرير دُون جُوَان:

لقد دارت رحى المعركة ساعةً كاملة على ظهر المَرْكَب الملَكيِّ، وقد أُصيب صارِي السفينة التركية المُهِمُّ مرتين، ولكنَّ جُمُوعًا من المسلمين كانت تَنْقَضُّ على محاربينا في كلِّ مرة وتَدْحَرُهم إلى مُقَدَّم المركب النصرانيِّ الرئيسِ، وكان كونت بلِيغُو يقاتل بجانب دُون جُوَان في الممرِّ الواقع بين صفين من الجَذَّافين، فلما مَرَّت على المعركة ساعةٌ ونصفُ ساعة وَهَبَ اللهُ النصرَ للمَرْكبِ المَلَكِيِّ، وغُلِب الباشا مع أكثر من خمسمائة تركيٍّ وقُبِضَ على راياته وبُنُوده، ونُصِبَ الصليب في مكانها على الصاري الرئيس، وأمر دُون جوان بدقِّ جَرَس النصر فرَدَّدت ذلك جميعُ مراكب الأسطول الإسبانيِّ، ومال ميزانُ الظَّفَرِ إِلى جهة الأسطول النصرانيَّ من هذه الساعة، وجُرِحَ دون جُوَان في ساقه جَرْحًا غير خَطِر.

وفُكَّت قيودُ العبيد من الجانبيْن في الساعات الستِّ الحاسمة، ولا بُدَّ من أن تُعَدَّ تلك الساعاتُ ساعاتِ وَجْدٍ مباغتٍ رهيبةً لدى هؤلاء الآدميين حينما استبدلوا أسلحةً وحريةً بقيودهم ومَجَاذِيفهم! ويُزْعَمُ أن ربع مليونٍ من العبيد قاتلوا كالمجانين ضِمْنَ مَسافةٍ قصيرة، ويَخْسَرُ التُّرك خمسةً وعشرين ألفَ رجلٍ، ويَخْسَر النصارى ثمانية آلاف رجلٍ، وينال البابا ثمانمائة عبدٍ، وينال الإسبانُ سبعةَ عشرَ ألفَ عبد، ويَتَلَقَّى الملكُ فليب خَبَرَ النَّصْر ثابتَ الجَنَان، ويَحْضُر القُدَّاسَ المُعْتَادَ، ولم يأذن في تَسْبِحَة الشكر إلا بعد حين.

أَجَلْ، كان لهذا النصر أثرٌ أدبيٌّ عظيم، غير أن تحاسدَ الدول النصرانية وحَسَدَ الملك فليب أخاه كانا من الشِّدَّة ما حالا معه دون استغلاله، وقد أنشأ التُّرك ٢٥٠ مركبًا جديدًا في بضع سنين، وقد كان شعُورُهم بِغِنَاهم وقدرتهم البرِّية وثِقَتُهم بنفسهم من القُوَّةِ بنسبة ما كان يُسَاورُ الإسبانَ من حِسِّ عدم الثقة. وكانت الحريةُ تُعْوِز كلا الأمتين لا ريب، ولكن التُّرْك كانوا أكثرَ فَتَاءً مع ذلك كُلِّه، ويَتَذَرَّع التُّرْك بضروب الوعيد فيُوَفَّقُون لنَيْلِ سَلْم ملائمة كأن تلك المعركة البحرية لم تَحْدُث، وتُضْطَرُّ البندقية التي مَثَّلَت مراكبُها دورًا مهمًّا في نَيْل النصر بليبانتة أن تَتَنَزَّل للتُّرْك، بعد ثلاث سنين، عن جزيرة قبرس التي كانت مُمْتَلَكَتَها العظيمة الأخيرةَ عدا أقريطش.

وقد تكون قُبْرُسُ التي هي أكبرُ جزائر شرقِ البحر المتوسط، والتي هي مُوحِشَةٌ جبليةٌ في الداخل مع لطافةِ ساحلٍ وغِنًى في الخُلْجان الصغيرة، أكثرَ روائيةً من جميع الجُزُر بعد قُورْسقة، ولها من تاريخها دليل على ذلك.

وكانت هذه الجزيرةُ، الواقعةُ على مسافةٍ متساوية من آسية الصُّغْرَى شمالًا ومن سورية شرقًا وفي الخليج الكبير بين إسكندرونة والشام، قد صارت ملجأً لجميع المضطهَدين وقاعدةَ أعمالٍ للقراصينِ والمَلَّاحين، وكان ما تنتجه من خشب البناء والخمر الجيدة، والنحاسِ على الخصوص، يُقَدَّرُ كثيرًا، والآن ألا يزال هذا النحاسُ، الذي كان أبناء القرون القديمة يطلبونه، يَحْمل اسمَ «السِّيبرْيُومِ» العلميَّ؟ وكان النحاسُ وَقْفًا على أَفْروديتَ التي عاشت في جزيرة قبرس، وكان الفنيقيون والأغارقةُ والبطالمةُ والعربُ قد احتلوا جزيرة قبرس تبَاعًا لكنوزها تلك، وكان القديس بولس والقديس مرقص قد تَلَبَّثَا بها في أثناء سياحاتهما، وقد اقتتل فيها اليهودُ والنصارى مُحْدِثين ملاحمَ هائلةً، وقد ملك أباطرةُ بزنطة جزيرةَ قبرسَ أطولَ زمنٍ، مَلَكوها سبعةَ قرون مع بضعِ فواصل.

ويمكن تشبيهُ مصيرِ قُبْرسَ بمصير امرأةٍ لا تُحْصِنُ حُسْنَها، بل تَعْرِضُه لمغامراتٍ مُجَدَّدَةٍ دومًا مُسْتَكْرَهَةٍ غالبًا، ولا يُوَكِّد التاريخُ سعادةَ سكانِ قُبْرُس مطلقًا، ويجعلها موقعُها وغِنَاها مُشْتَهَاةً بلا انقطاعٍ فينالُها كلُّ مَنْ يستطيعُ احتلالَها. ولَمَّا ذهب قلبُ الأسدِ ريكارْدُس إلى الحرب الصليبية سنة ١١٩١ أرسل فرسانه إلى هذه الجزيرة ليفتحوها عَنْوَةً بدلًا من مقاتلة السلطان الكافر، فانتزعها من إمبراطور القسطنطينية النصرانيِّ وباعها من الفرسان الهيكليين فلم يَلْبَث هؤلاء أن باعوها من فارسٍ فرنسيٍّ طالبٍ مملكةً صغيرة، وهكذا وَجَدَ غِي دو لُوزِينْيان، الذي كان يُلَقَّبُ ﺑ «ملِك القُدس» قطعةَ أرضٍ يُضيفها إلى تاجه، وهكذا أَلَّف أُسْرَةً ملكت قُبْرس ثلاثة قرون، وقد أحبط ملوك قبرسَ هؤلاء بجهازٍ إداريٍّ لدُوَيْلَةٍ إقطاعية مشتملةٍ على مراتبَ وطقوسٍ وسيوفٍ وثيابٍ فاخرةٍ ومنظرِ مَسْرَحٍ، ومع ذلك فإن هذا العرش وهذا البَلاط لم يَمْلِكا غيرَ سكانٍ مُعْوِزين، وقد تَرَك أحدُ هؤلاء الملوك عند مَوْته ابنةً شرعيةً ونغيلًا، وكان هذا النغيلُ أعظمَ ذكاءً وعزمًا من بنت الفِراش تلك كما هي العادة، فجلس على العرش بلا مُسَوِّغٍ شرعيٍّ، فاستطاعت البنت وزوجها أن يُثِيرا البابا وجِنوَة ضِدَّ الغاصب، وكادت تشتعل حربٌ أُسْرِية. وكانت ورقةُ اللَّعِب الوحيدةُ التي يَقْبِض عليها لُوزِينْيَانُ النغيلُ هي الصداقةُ التي بينه وبين شريفٍ بندقيٍّ قويٍّ كان قد قضى معه شبابًا عاصفًا، وكان هذا الشريف المُسَمَّى أَنْدريَا كُورْنَارُو ذا نفوذٍ عظيمٍ فعَرَف أن يُوضِحَ لرئيس البندقية ومجلسها عِظَمَ قيمة قبرس للبندقية إذا ما أَيَّدَت النغيلَ ضِدَّ جِنوَة والبابا.

وما أَشْبَهَ جميعَ هذا بإحدى الروايات الهزلية! لقد رأى الأصدقاءُ أن زواجًا فَخْمًا يُؤدِّي إلى شرْعية الوارث الزائف، فاختِيرت ابنةُ أخٍ بالغةٌ من العمر أربعةَ عشرَ عامًا خَطِيبةً للُوزِينْيان، وتُقرَّرُ جزئياتُ النكاح بعد حَوْكٍ لدسائسَ طويلةٍ، ويُعْقَدُ اجتماعٌ كبيرٌ في مجلس السِّنات بالبندقية، ويُعْلِن رئيسُ البندقية رسميًّا أن كترينة كُورْناروُ الباهرةَ الجمال «بنتُ الجُمهورية» كما يَقَعُ في المَسْرح على الدوام. والحقُّ أن كِبَار التجار هؤلاء كانوا إذا ما تَنَشَّقُوا رائحةَ شيءٍ كمناجم النحاس صار لخيالهم وروحهم أجنحة.

إِذَنْ، تَرْكَبُ كَتْرينة سفينةً وتَجُوب البحرَ الأدرياتيَّ والبحر اليونانيَّ حتى قبرس، وتَتَمَثَّلُ لها أَفْرُودِيتُ في أثناء هذه الرحلة على ما يُحتمل، وتَصِلُ إلى الميناء فتجد زوجَها المجهولَ منتظرًا إياها، وتُتَوَّجُ من فَوْرها «مَلِكةً لقبرس والقدس وأرمينية» أمام بضعة آلافٍ من الجنود والقراصين والرعاة والمُهَرِّبين، ويموت زوجُها بالحُمَّى بعد سنة وتضع ذَكَرًا بعد موته، وهنالك تَحُوكُ دولُ البحر المتوسط الكُبْرَى مؤامرةً جديدة ضدَّ البندقية في هذه المرة، ويُسْفِر ذلك عن فِتَنٍ ومعاركَ في البَرِّ والبحر وتُعْتَقَلُ كَتْرِينة.

وتُهَان البندقية في شرفها بهذا العمل، وتُوجَدُ الذَّرِيعةُ للتدخل، وينزِل البندقيون إلى جزيرة قبرس ويَقْبِضون على زمام السلطة باسم «بنت الجُمهورية»، ويموت الولد، ولكن كترينة كانت قد ذاقت لَذَّة الحكم في الحين فأخذت تفكر في الزواج بملك نابل، وتتناوب الدسائس الدائمة الناشئة عن رغبةٍ في السلطان والحبِّ والحسد والزهو والطمع هذا البَلاطَ الصغير المُشْمِسَ في البحر المتوسط، وتُوعِزُ حكومةٌ فَعَّالَةٌ في البندقية إلى كَتْرينة بالتنزل عن السلطة في نهاية الأمر، وتعود إلى بلدها طافحةً جمالًا ابنةً للخامسة والثلاثين من سِنِيها عاطلةً من الزوج والولد فتقيم بقصرٍ أنعمت الجُمهوريةُ به عليها، وتعيش فيه عشرين عامًا مقيمةً فيه بَلَاطَ حُبٍّ وأدَب قاضية حياةً ممزوجةً بالملاذِّ والإقلاع والخيال، وكان هذا هو الدور الذي صنع تيسيان له صورتَه.

وتصير هذه الجزيرة تركية بعد خمسين سنة، وتَسْبِق قصةٌ روائيةٌ هذا الاحتلالَ:

كان يوجد بين اليهود الذين فَرُّوا من محاكم التفتيش الإسبانية، كما يوجد اليومَ، دكاترةٌ كِبَارٌ وعلماءُ وموسيقيون وممثلون قاموا بشئون مِهَنهم بين بطائن أمراء الترك والسلطان.

وكان تاجرُ الخمرِ البرتغاليُّ، جُوزِه مِيكِز، قد أُكْرِه على اعتناق الكَثْلَكَة، فاستطاع أن يَهْرُب إلى استانبول حيث عاد إلى اليهودية، وقد سَمَّاه الترك ناسي، فارتقى إلى منصِبٍ أعلى من كلِّ ما ناله أبناء جنسه، وهو بما كَسَبَه من الملايين بسرعةٍ وَجَّهَ إليه أنظار ولِيِّ العهد وأثبت له أن محمدًا لم يُحَرِّم الخمر من بعض الوجوه، فإذا ما وافق سليمٌ على رَفْع الحَظْرِ عن شرب الخمر عند جلوسه على العرش استطاع هو واليهوديُّ أن ينالا مالًا كثيرًا، وليس في الأمر غيرُ نَزْع قبرسَ من هؤلاء البندقيين الممقوتين حتى يُنَالَ أحسنُ خَمْرٍ في البحر المتوسط مع قاعدة بحرية جديدة، ويَشْعُرُ السلطان بِلذةٍ في سماع هذا اليهوديِّ الروحانيِّ كما شَعَرَ الإمبراطور بخِطَّةِ مِفِسْتُوفِل في فاوسْت، ويَدْفع اليهوديُّ مَبْلَغًا كبيرًا فيستأجر سليمٌ له جزيرة نَكْسُوس وجُزُرًا أخرى من السِّكلادِس (الأرخبيل) لا حَقَّ للسلطان بها، ويُطرَدُ أميرُها فيُحاول أن يحمل البابا على التدخل من غير جَدْوى، وينتحل مِيكز ناسي لقبَ «دوكِ الأرخبيل» في ذلك الحين.

ويُقْرَأُ على قطعة نقود: «قائد الشاطئ بنعمة الله يوسف ناسي، ١٥٧٧»، فيشابه بها الملِكَ الشمسَ، ومع ذلك فقد كان من الذكاء ما لا يُمَثِّلُ معه في نَكْسُوسَ دَوْرَ «إنقاذ أريانه من قِبَل ديُونِيزوس»، مُفَضِّلًا إرسالَ حاكمٍ إليها وبقاءَه في استانبولَ حيث تزوج يهوديةً جميلةً تلائمه أكثرَ من بَطَلَةٍ يونانية مزعومة.

وكانت أفواه الأكابر في البَلاط قريبةً من آذانهم كما أن آذانَهم كانت قريبةً من أفواههم، فاستطاع اليهوديُّ المَكَّارُ أن يُغْرِيَ الحكومةَ التركية بنحاسِ قُبْرُسَ ولُغَوِيِّي اليونانية بأقاصيص أريانة الحسناء والسلطانَ برَاحِ هذه الجزيرة الجيد، وتُضْطَرُّ البندقية المنهوكة بعد نَصْرِها في ليبانْتة إلى التسليم بضَيَاع الجزيرة.

وهكذا أعان التُّرْكَ يهوديٌّ برتغالِيٌّ على نَيْل قبرسَ، وقد ظَلَّت هذه الجزيرة تركيةً ثلاثمائة سنة؛ أي إلى أن تَمَلَّكَها الإنكليزُ وَفْقَ معاهدة سنة ١٨٧٨.

٦

ويمضي قرنٌ على سقوط قبرس فتسقط أَقْرِيطش بين أيدي التُّرْك أيضًا، وقد كانت هذه الجزيرةُ آخرَ ممتلكة بندقية كبيرة كما كانت آخر قاعدةٍ مهمة للنصارى في شرق البحر المتوسط، وما فتئ الأغارقة يسكنون أقريطش منذ القديم فغدا فتحُها روايةَ منازعاتٍ بين الأغارقة والترك، منازعاتٍ وقعت في ثلاثمائة سنة وَفْقَ مُنْحَنٍ غريبٍ فانتهت بتحرير الأغارقة.

والأقريطشيون في جَنوب جزيرتهم الطويلة المستوية جبليون متوحشون ورعاةٌ مقاتِلون كبعض القبائل التي حكت عنها التوراة، وهم مِلَاحٌ عاطفيون مندفعون كجبالهم الكثيرة المسايل، وهم يدينون بضربٍ من المذهب الأُرْثُودُوكْسِيِّ يَنِمُّ بالحقيقة على الخرافة أكثر مما على الديانة، وهم من مثال البحر المتوسط الذي يأبى الخضوع لأيٍّ كان والذي أبدع في ألوف السنين حضارةَ هذا البحر، وهم يشابهون القورسقيين والألبانَ الذين يسكُنون البحرَ المتوسطَ مثلَهم، وهم يشاطرون هؤلاء شعورًا بالشرف عميقًا كما يشاطرونهم رغبةً في الانتقام وحبًّا للحرية جامحًا، وليس الأقريطشيُّ لِصًّا كما يُوَكِّدُه بعضُهم، وليس الجَزَرِيُّ لِصًّا بطبيعته.

وفي الغالب كان أهل أقريطش من القراصين وإن شئت فقل كانوا يُؤْوون قراصينَ عندما يختفي هؤلاء في خُلْجَان أَقريطش، ومع ذلك فإنهم كانوا أكثرَ سعادةً على الجبال مما على السُّفُن كما يلوح، وذلك بلحاهم وشعورهم الطويلة وقُمْصَانهم الواسعة وخناجرهم اليونانية القصيرة المشدودة دومًا على زنانيرهم مشابهين الصائدين في رواية خيالية، وتراهم ذوي أحذية غليظة لا يخلعونها على ما يبدو حتى إن سُيُورًا تَرْبط هذه الأحذية بنُطُقِهم.

وكيف يمكن أناسًا كهؤلاء حاملين مثلَ هذه الروح والأسلحةِ أن يخضعوا لأيِّ فاتحٍ كان؟! هم قد مَقَتُوا الفَرَنجَ ثم البندقيين ثم التُّرْك، واليوم يزدرون إخوانَهم أغارقةَ بلاد اليونان، ومن العبث أن حاولت البندقية، التي كانت سيدةَ أَقريطش، معاملتَهم باللين ثم بالشِّدَّة، ومما حدث أن سَفَاكيًّا، أن رجلًا من أشدِّ القبائل توحشًا وأكثرها حُرْمةً، طَلَبَ الزواجَ بابنةِ بندقيٍّ فقُبِلَ ذلك بعد معارضةٍ شديدة، وقد قَبَضَ أولو الأمر البندقيون في الجزيرة على جميع مَنْ حَضَرُوا وليمةَ العُرْس من رجال ونساء وشَنَقُوا نحو خمسمائة شخصٍ مع العريس كان مُعْظَمُهم سُكارَى، وما كان مرورُ قرونٍ على مثل هذه الخيانَة إلَّا بالغَ القِصَر في أَقريطش حتى تُنْسى معه.

وقد اقترفت البندقية ما هو أسوأ من ذلك، فقد قالت بالعفو عن كلِّ أقريطشيٍّ محكوم عليه عن عصيانٍ إذا ما أتى برأس أبيه أو أخيه أو ابن أخيه إلى مركز الجزيرة الخندق، وقَتْلُ الرجلِ لابنه وحدَه هو الذي لم يُطْلب، فما كان يمكن إخضاع شعبٍ بمثل هذه التدابير حتى مع الزمن، وقد بَدَتْ جميع القبائل المختالة أكثرَ عُتُوًّا تجاه مثل هذا الضغط فانزوت انزواءً تامًّا ولم تختلط حتى بالتُّرْك بعد زمن، وما كان لأَقريطشيٍّ وُلِدَ في سهول الساحل الشماليِّ أن يُدَنِّسَ دَمَ عَذَارَى الجَبَل، وهذا يُفَسِّر سبب كونِ سُكانِ الساحل الجَنوبيِّ ذوي مثالٍ خاصٍّ، ذوي شعور شُقْر وعيونٍ زُرْقٍ ونضرةِ لَوْنٍ، ولا أحدَ يَعْرِف مصدر هذه الأوصاف.

إِذَنْ، كان يَسْهُل على التُّرْك نَزْعُ أَقريطش من البندقيين ما لم يَظْهَر أهلوها معارضين لكلِّ جنسٍ من الأجانب، وقد قضى التركُ أربعًا وعشرين سنة في فتح أقريطش، فلما وُفِّقُوا لاحتلالها في سنة ١٦٦٩ كان هذا خاتمةَ حربٍ دامت مدةً أطول من حرب تروادة مَرَّتين وبدت أقسى منها مرتين، وقد كان هذا الصراع حافلًا بالأبطال والمغامرات وما كان يُعْوِزُه غيرُ أُومِيرُس.

وقد استطاع الأغارقة في العهد التركيِّ أن يَصُونوا وَحدتَهم تقريبًا وأن يَتَوَسَّعوا أيضًا بعد طرد الفَرَنج والأجانب الآخرين الذين أتَوْا بلادَ اليونان منذ الحروب الصليبية، وعلى ما كان من اضطهاد الشعب اليونانيِّ ظلَّ هذا الشعبُ مُوَحَّدًا، ويُعامَل النصارى بالتسامح، ويُقَدَّرُ عددُهم بربع مليون في القرن السابعَ عشرَ، ويستغلُّهم الباشواتُ مع ذلك، فتُزَادُ الجزية بمقدار الثُّلث ويُؤْخَذ أبناءُ النصارى الأقوياءُ لتأليفِ كتائبِ الإِنْكِشَارية.

ويَعُمُّ الرَّخاءُ إكليروسَ اليونان، فَسِرْ من بَطْرَكِ اسْتَانبُول الذي كان يُلَقَّبُ ﺑ «باشا أذيال الفَرَسِ الثلاثة» ويُعَدُّ من عظماء السلطنة، إلى الشَّمَامسة فإلى الرهبان، تَجِدْ جميع أصحابِ الحُلَل الدينية قد عاشوا عَيْشًا رَغَدًا، والشعبُ هو الذي كان يدفع مالًا إلى هذه الحكومة الإلهية التي كانت مُوَاصِلَةً لحكومةِ بِزَنطة الإلهية. وكان السلطان يَنْصِب بطركًا كلما مَرَّت سنون قليلةٌ، وكانت الخِدَم والواردات تنتقل إِذَنْ من يدٍ إلى يدٍ، وذلك كما يقع اليومَ في انتخابات الرئاسة في بعض البلدان، ووضعٌ مثلُ هذا حافظ عليه السلاطين بواسطة آل الكَهَنُوت ونصاراهم الطُّلَقَاء نَزَعَ من الكنيسة كلَّ مَيْلٍ إلى التَّحَرُّر، وما كان للخلفاء الكَفَرَة من الرعية مَنْ هم أوفى من بطرك اسْتَانْبول القِدِّيس.

وكان أذكى الروم يهيمنون على المعاملات، وكانت استانبول تشتمل على أكثرَ من مائة ألف روميٍّ منذ سنة ١٦٠٠، وكان هؤلاء أجدادًا للأروام الذين سيطروا على تركية اقتصاديًّا في القرن التاسعَ عشرَ فأُبِيدُوا في أثناء الحرب العالمية الأولى إبادةً وحشية، فما ينبغي لعِرْقٍ أجنبيٍّ أن يُبْدِيَ نبوغًا كبيرًا أو ذكاءً كثيرًا، إغريقيًّا كان هذا الشعب أو أرمنيًّا أو يهوديًّا، وإذا ما آوى أصحابُ الفندق هؤلاء الغُرَباءَ انتفعوا بهم حينًا من الزمن، وأعلنوا أنهم منهم وغَمَرُوهم بالمجد والثقة واستفادوا منهم في زيادة ثروتهم وسلطانهم، ومع ذلك فإن أولئك الأصحاب يَعُدُّون هؤلاء الذين اتَّبَعَت الدولة نصائحهم زمنًا طويلًا مسئولين عن أول نازلة تَحُلُّ بها، وهنالك تُظْهَرُ صفاتُ هؤلاء الأجانب وفروقُهم ويُنْتَقَمُ للمصيبة التي مُنِيَتْ بها الدولة من الذين صُرِّح بمساواتَهم وقتًا غيرَ قصير.

وقاسى الأروام في تركية صُرُوفَ الدهر، وصُبَّ عليهم جَامُ غضب الظالمين، وأَدَّى دينهم ولغتُهم ومعارضتُهم الكفرةَ إلى اتحاد الأغارقة في مجموع الإمبراطورية التركية، ومع ذلك فقد اختلف وضعُهم باختلاف الأزمان واختلاف مقامهم الشخصيِّ، ويُمْكِنُ من هذه الناحية أن يُقاسوا باليهود الذين يصبح أناسٌ فضلاءُ أو مُفَضَّلُون منهم أغنياءَ أو أقوياءَ على حين تكون الجموع مُضْطَهَدَةً أو ممقوتة.

وقد أثار الصِّرَاع في سبيل امتلاك جزيرة أَقريطش عاطفة العالَم نحو البندقية المهاجَمَة، شأنَ جميع المدافعين ببطولة وعناد، وقد أُضيفت إلى هذه العاطفة الطبيعية مصالحُ سياسيةٌ مهمة. وهكذا أصبح من الممكن للمرة الأولى؛ أي بعد مرور مائتي عام على قيام تركيةَ كدولةٍ عظيمة، أن يُنَظَّمَ «الحِلْفُ النصرانيُّ المقدَّس» ضِدَّ هذه الأُمة، ووقع هذا في زمن الملك الشمس سنة ١٦٨٤، فعَيَّن البابا والإمبراطور والبندقية وملك بولونية بطلَ أَقريطش مُورُوزِيني أميرالًا كبيرًا للبحر المتوسط، وباع أمراء ألمانية رعاياهم من جيوش الحلفاء بمالٍ كثير وَفْقَ عادتهم كما يصنع رؤساء القراصين بعبيدهم.

ولو نُظِرَ إلى تاريخ هذه الحرب التي لم تكن ذاتَ نتائجَ عمليةٍ، لَوُجِدَ أنه لا يستحقُّ الذكر ككثيرٍ من المعارك التي نَشِبَتْ في البحر المتوسط في ذلك الحين، وإنما خُرِّب في أثناء هذه الحرب كنزٌ للإنسانية لا يُعَوَّض.

وكان هذا في أثناء السنة الثالثة من الحرب، وكان النصارى الذين رَسَخت أقدامُهم في المُورَة يحاصِرون أثينة أيضًا، وقد تَحَصَّن التركُ فوق الأكْرُوبول بعد أول خسارةٍ مُنُوا بها، وقد خَرَّبوا معبد نِيكِه وخَبَئوا البارودَ تحت المُصَلَّى الداخليِّ من هذا المعبد الصغير الواقع تحت البارتنونِ قليلًا، ويرسل أهل أثينة رئيسَ أساقفتهم إلى معسكر مُورُوزيني ويَعِدُونَه بالعَوْن إذا ما أراد حمايتهم. وكان من الممكن أن يَتِمَّ كلُّ شيء بلا هجوم ما دامت أثينة غيرَ مُحَصَّنة، حتى إن حَلًّا وديًّا عُرِضَ عَرْضًا غريزيًّا من قِبَل الفريق الأقوى.

ومن سوء الحَظِّ أن كانت توجد مُفْرَزَةٌ ألمانية خارج أثينة، وما كان ليسهل على قائد مِدْفعية البُنْدِقِيَّة كُونْت كِنغسمارْك أن يُقْلِع عن لَذَّة إطلاق النار، وكانت فُرْصَةُ الهَدْم والترقيِّ بالغةَ الرَّوْعة، ولم يكن الجِرْمان منذ ألف سنة، منذ هَدْم الأُلِنْبيَا، قد خَرَّبوا شيئًا في بلاد اليونان. ويأمر كُونْت كِنغسمارْك بإِطلاق النار إذَنْ، وتقذف المدافعُ قنابرَها في يومين من غير أن تستطيع القضاء على المقاومة، ويَقُصُّ فارٌّ نبأَ نقل البارود إلى البارتنون؛ لأن الترك يَرَوْن أن أحدًا من الغربيين لا يُقْدِم على إصابة هذا المعبد المشهورِ بضرر، وهكذا يكون الكونت الألمانيُّ قد حُذِّر واخْتُبِر، وأُخْبِرَ على كلِّ حال، ويسهل عليه أن يَرْمِي بالحُمَم سائرًا مع شهوة الهدم ويأمر مِدْفَعِيَّاته بالضرب.

وكان قائدُ مِدْفعية لُوِنْبِرْغ هو الذي صَوَّبَ مِدْفعه نحو البارْتنُون وأطلق قذائفه حَوَالَيِ الساعة السابعة مساءً من ٢٦ من سبتمبر سنة ١٦٨٧، وحَدَث الانفجارُ الذي كان يُنْتَظَر ويَهْلِك ثلاثمائة جنديٍّ من الحامِية ويُنْسَوْن اليوم.

غير أن المعبد الذي شاده برِكْلِس والذي ظَلَّ سليمًا مدةً تزيد على ألفي سنة خُرِّب، وسَقَط جانباه الشرقيُّ والشماليُّ، وحَفِظت معجزةٌ مُقَدَّمَ الغرب الرئيسَ كما هو قائمٌ اليوم.

ومع ذلك فإنه انْتُقِم للآلهة القديمة على الرغم من كلِّ شيء، ومن المحتمل أن كان بوزِئيدون٦ هو الذي دَحْرَج قِطَعَ رُخامٍ على الهَدَّامين الألمان، فلما حاول البندقيون أن يُخْرِجوا تمثال هذا الإله والحُصُنَ المشدودةَ بعجلةِ أَتينِة في المُقَدَّم الغربيِّ انهار كلُّ شيءٍ جُذاذًا، وكلُّ ما استطاعوا أخذَه هو ثلاثةُ آسادٍ قديمة تُوجَدُ الآن أمام دار الصِّناعة بالبندقية، وكلُّ ما استطاع الألمان قضاءَه من شهوةٍ بتخريب الأكْرُوبول هو تحويلُهم إلى معبدٍ لُوثِريٍّ مسجدَ الأَكْرُوبولِ التركيَّ الذي كان كنيسةً للعذراء قبلًا.

وكان انتقامُ آلهة الإغريق عنيفًا، وكان هذا كما لو عَقَدُوا مجلسًا للبحث في فَرْض العقوبة، فقد ظهر الطاعونُ وأهلك الألوفَ من الغُزَاة. وقد انتهى دور انتصارات مُورُوزِيني فَسَرَّح جيشَه عن قنوط، فأعاد الألمانَ القليلين، الذين نَجَوْا من هذه الجائحة والذين ظَلُّوا أَخْلِياءَ في أثينة إلى بلدهم، وتنتشر الفوضى في بلاد اليونان بعد ذهابهم، ويغتنم حِزْبٌ في الآستانة فرصةَ هذه الفتنة التي نَمَتْ بسرعةٍ فيعلن الثورة ويخلع السلطان. ويحدث جميع هذا نتيجةً لسقوط أثينة ولِمَا اسْتُعْمِل من عُنْفٍ ولقذيفةِ المِدْفع التي أَدَّت إلى هَدْم الأكروبول، ويَظْهَرُ أن قائدَ مِدْفعية لُوِنْبِرْغ ظَلَّ مُغْفَلًا في التاريخ، ويَمُوت كُونتُ كِنِغْسمارْك الألمانيُّ الذي أَمَرَ بتخريب البارتنون بعد الطاعون بزمن قليل.

٧

استقرَّ شعبان شماليَّان غريبان بالبحر المتوسط استقرارًا رَغِيدًا حَوالَي سنة ١٦٠٠، ولو لم يسيطر هذان الشعبان على المِلاحة لكانا من القوة ما يقدران به أن يَرْقُبا التجارة نحو الشمال مع ذلك. وكان الإنكليز والهولنديون أولَ مَنْ صار قويًّا في البحر المتوسط من الأجانب بعد النورمان بثمانية قرون، وكانت المناهج قد بُدِّلت، فعُدْتَ لا تراهم يُقيمُون ممالكَ بعدئذٍ، بل أصبحت تُبْصِرُهم يشترون بضائعَ أو ينقلون سِلَعًا، وذلك إلى احتياجهم إلى قواعدَ يَبْدُون بها أقوياءَ تِجاه القراصين، وتجاه أمم البحر المتوسط التاجرة قبل كلِّ شيء، ويَغْدُو هذا المبدأُ بِدْعًا في ذلك العصر، ويُدْرَك أمرُ هذا المبدأ في ذلك الدَّوْر كما يُدْرَك في أيامنا مع عدم وجود بواخرَ وطائراتٍ آنئذٍ.

وتتوارى هُولندةُ عن البحر المتوسط بعد ذلك، وتصبح إنكلترة ثابتةَ الأساس في هذا البحر، ولكن مع عدم نَيْلِ إنكلترة غيرَ قواعدَ فيه منذ ثلاثة قرون.

ولم يظهر شعبا مَلَّاحي الشمال ذانك برابرةً في البحر المتوسط كالجِرْمان والوَنْدال والقُوط والهَيَاطلة،٧ ولا حَمَلَةَ حضارةٍ جديدة كالعرب، وهما لم يأتيا بخرابٍ كأولئك ولا بنُورٍ كهؤلاء، وهما لم يَنْقَضَّا على السواحل فيُخَرِّباها كالفاتحين، وهما لم يُدَمِّرا رومة ولم يَنْهَبَا كنوزَهما، وهما، على العكس، لم يَجْلُبا معهما العِلْمَ والفضل كما صنع العرب في إسبانية، وإنما أصلحا فَنَّ المِلاحة، وأنت إذا عَدوْت هذا وجدتهما قد اقتصرا على البيع والشراء مُفَضِّلَيْن استنفادَ ثَرَوَاتِهما أو توظيفَها في بلادهما، وهما قد ظَلَّا غريبين عن البحر المتوسط في السَّرَّاء والضَّرَّاء.

ولا عَجَبَ من مجيئهما إلى البحر المتوسط، وإنما العَجَبُ من مجيئهما إليه متأخريْن، ولم يكن الإنكليزُ تجارًا ولا رأسماليين أيام الحروب الصليبية. وكانت الروح التجارية وروحُ الإقدام اللازمةُ للمِلاحة وإرادةُ العمل على العموم أمورًا قد قَلَّت لدى أمم البحر المتوسط عندما صار الإنكليز تجارًا أو رأسماليين. وقد انتقل السلطان من أيدي الأمم المُسِنَّة إلى أيدي الأمم الفَتِيَّة مرة أخرى، وبما أنه كان لا يوجد من الشعوب ما هو شابٌّ في البحر المتوسط جاء إليه أناس من الأجانب وقبضوا فيه على زمام السلطة. وكلُّ ما في الأمر هو أن جميع هذا قد وقع بضوضاء أقلَّ مما في الماضي؛ أي بلا غَزَوَاتٍ ولا منازَعاتٍ نَيْلًا لأرَضِين ولا معاركَ استيلاءَ على بقاعٍ تقريبًا، ويُرَدُّ كلُّ شيء إلى احتلال بضعِ جزائر.

وقد حَبِطَ سعيان إلى السيادة العالَمية حَوالَي سنة ١٦٠٠: حَبِطَ ما سعى إليه الإسبان والترك. أَجَلْ، اتَّصَل بقاء هاتين الإمبراطوريتين، غير أنهما لم تكونا من القوة ما تستطيع أيةُ واحدةٍ منهما أن تسيطر معه على البحر والتجارة، وقد انتهى عهد فليب بعد القضاء على أسطوله في بحر المانش سنة ١٥٨٨، وقد كان خلفاءُ السلطانِ الأعظم البُدَّنُ اللَّيِّنون المواظبون على دوائر حريمهم يُمَثِّلُون صُوَرَ التُّرْك الهَزْلِيَّة أمام العالَم ولم يستطيعوا البقاء طويلَ زمنٍ إلَّا بفضل تحاسد أعدائهم النصارى، ولو كان التُّرْك مَلَّاحين حقيقيين ما أمكن الإنكليزَ أن يفتحوا البحر المتوسط، حتى إن الترك لم يصيروا تجارًا، وقد ظلَّت ذكرى أصلهم الفُرُوسيِّ البدويِّ حَيَّةً فيهم قرونًا كثيرة، ولم يتعلم التركُ المِلَاحةَ من خصومهم الروم والإنكليز فلم يصبحوا من كِبَار المستعمرين كهؤلاء قَطُّ.

وسُرْعةُ تَبَسُّط إنكلترة أقلُّ من سرعة تَبَسُّط رومة فيما مضى، فقد عاش الإنكليز نحو ألف سنة بلا مستعمراتٍ ولا مغامراتٍ تقريبًا، وقد عانى الإنكليز غَزْوَ شعوب أجنبية، غزوَ الرومان والدَّانِيمارْكيين. وكانت إنكلترة في القرون الوسطى لا تَبْغِي شيئًا أكثر من إقامة مملكة صغيرة بين جهتي بحر المانش، ومَنَح الملوك امتيازاتٍ لأجانب، فَظَلَّت شِرْكةُ ألمانية الشمالية أقوى من التجار الإنكليز بلندن مُدَّة قرنين، وكان الأسطول الإنكليزيُّ صغيرًا، وكانت الجُزُرُ البريطانية الواقعة بين بحريْن، وكانت مصابُّ أنهارِها ذاتُ الوضع الملائم لا تثير خيال الإنكليز.

وقد اتخذ آل تِيُودُور موقفًا حازمًا تجاه الاكتشافات الجديدة، ولم يكن رجال هذه الاكتشافات هم الذين انتفعوا بها كما في كلِّ حين، وما تَمَّ على يَد الإسبان والبرتغاليين من اكتشافات أَرَضينَ جديدةٍ حَرَّك ساكن الإنكليز، حَرَّك ساكن هذا الشعب الجَزَرِيِّ الشماليِّ، وكان مؤسسُ الكنيسة القومية وممثلُ دَوْرِ النهضة في إنكلترة هَنْرِي الثامنُ، أولَ مَنْ تَكَلَّم عن «إمبراطوريته»، فأنشأ أولَ أسطولٍ كبيرٍ في زمنه؛ أي الأسطولَ الذي وَسَّعَت نطاقَه ابنتُه إليزَابِت.

أجَلْ، لم تكن هذه هي المرةَ الأولى التي أتى فيها الإنكليز إلى البحر المتوسط، غير أن الإنكليز كانوا أولَ تجارٍ أَيَّدَتهم دولةٌ صاحبةُ سيادةٍ، ولما قبض الجِنوِيُّون في سنة ١٤١٢ على سِلَعٍ أرسلها حاكةٌ لُنْدُنِيُّون نحو الجَنوب ظَلَّت كلُّ مقابلةٍ بالمثل غيرَ مُجْدِية، ولم يجازف رِيشارْدُ الثالثُ بتعيين أحدِ أبناء فلورنسة قنصلًا لإنكلترة إلَّا في أواخر القرن الخامسَ عشرَ فقط، ومع ذلك لم تَزَل السلع الإنكليزية تسير إلى جِنوَة تحت راية أجنبية وفي سُفُن أجنبية حتى في سنة ١٤٩٧، ويلوح أن السفن التي ذكرها شكسبير كانت مُلْكَ أصحابِ مراكبَ من راكُوزَة، ويمضي نصفُ قرنٍ فتبدأ سفنٌ إنكليزية بالظهور أمام صِقِلِّيَة وأمام قبرس وساقِز ولكن تحت راياتٍ أجنبيةٍ أيضًا.

وإذا عَدَوْت البرتغالَ وَجَدْت أنه كان للبلدان الأخرى مَزِيَّةُ وقوعها على البحر المتوسط، وكيف صارت إنكلترة، التي هي آخرُ مَنْ جاء، أعظمَ دولة تجارية في هذا البحر؟ وكيف استطاع الإنكليز أن يُجَرِّدوا الترْكَ والإسبانَ فينالوا أملاكًا على البحار المحيطة فضلًا عن تَفَوُّقهم التجاريِّ؟ ومن الأجوبة الاتفاقية أن يُؤْتَى بقولٍ عن الروح التجارية أو الموازنة التجارية أو ضرورةِ إدخال أكثرِ ما تحتاج إليه الحياةُ من السِّلع أو ضرورة الدفاع، وكان الإنكليزُ محتاجين إلى مستعمراتٍ تَخَلُّصًا من فوائد الهولنديين والبرتغاليين ونيلًا للذهب الذي هو أَعَمُّ في أمريكة من النحاس في إنكلترة.

ومع ذلك تكفي هذه الأسباب لإيضاح رغبةٍ فقط، ولنجاح الإنكليز الحقيقيِّ سببان سياسيان، لا اقتصاديان، وكان السبب الأول هو وَحْدَةَ المملكة، فإنكلترة لم تُقِم إمبراطوريةً استعماريةً إلَّا حين صارت اسكتلندةُ في حالٍ لا تستطيع معها أن تحالِف أعداءها إلَّا حين صار يمكن أن يُحَدَّث عن بريطانية العظمى في نهاية الأمر، وكان السبب الثاني في نجاح إنكلترة هو ضمانَ الحرية لجميع أبنائها، وما كان يسود إسبانية من ضغط وما يسود إنكلترة من حُرِّيَّة قَرَّر مصير كلٍّ من المشروعين الاستعماريين الكبيرين. نَعَمْ، أضاعت كلتا الدولتين أملاكَها الأمريكيةَ في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، غير أن إنكلترة وحدَها هي التي استطاعت أن تحافظ على ممتلكاتها الأخرى وتُوَسِّعها، وإذا كان الإنكليزيُّ قد فَتح العالم كما فتحه الرومانيُّ فيما مضى فلأن كلًّا منهما كان يشعُر بأنه حُرٌّ مُؤَيَّدٌ من قِبَل سلطانِ الدولةِ القويِّ. وكان يسود مملكة فليب نظامٌ استبداديٌّ فكانت تنتقل من إفلاسٍ إلى آخَر على الرغم من تَدَفُّق الذَّهب إليها على حين كانت ميزانية الملكة إليزابت تَتَحَسَّن بلا انقطاع.

ولَمَّا مَنَحَ هنري الثامنُ تجارَة الضاربين في البحر امتيازاتِ «التجار المغامرين»، كانت الإمبراطورية البريطانية قائمةً على الأُسس الثلاثة الآتية، وهي المَلِك والتاجر والمغامر، وكان الأول ضامنًا للسلطة ولحماية المَلَّاحين، وكان الثاني مُظْهِرًا لإرادة الكسب والاتجار والبحث عن الثَّراء، وكان الثالث مُبْدِيًا من الإقدام ما يتركُ معه أَمْنَ جزيرته قائمًا بالمغامرات في البلدان الأجنبية. وكان البرتغاليون ذوي جُرْأَةٍ أيضًا، وكان الإسبان تجارًا ماهرين، ولم يكن ملوكُهم أقلَّ قدرةً، ومع ذلك لم يكن أيُّ مَلَّاحٍ إسبانيٍّ أو بُرْتغاليٍّ ليَعْرِف، إذا ما عادت سفُنُه مشحونةً بأحمالٍ غَنِيَّة؛ أيُّ عَدُوٍّ شخصيٍّ من أعدائه يُجَرِّده من نتيجة جُهْدِه بأن يَشِيَ به إلى محكمة التفتيش أو إلى البَلَاط فلا يَجِدُ مَنْ يَطْمَئِنُّ إليه من القضاة الإمبراطوريين. وفي هذه البلاد كان يوجَدُ بجانب الدولة الشرعية، وفوقَها غالبًا، حزبٌ بالغُ القدرة كما في البلدان الجَمَاعية الحاضرة، وفي إنكلترة ظلَّ الدستور المعروف بالمَغْنَا كَرْتَا ضامنًا للعدل والحرية على الرغم من كلِّ تأليهٍ يُعَانَى.

ومن الواضح أن تكون حُرِّيَّةُ ابن الوطن حافزةً وأن تجعل هذه الحريةُ روحَ الإقدام ممكنةً، ويؤدي الضغط إلى جعل الرجال بُلْهًا كسَالَى ما دام يحُول دون كلِّ تعديلٍ ممكنٍ فيهم، وفي هذا سِرُّ انحطاط الشعب الإسبانيِّ باستمرار مع أنه ليس أقلَّ من الشعب الإنكليزيِّ استعدادًا، وهو لم يأخذ بأسباب النهوض إلَّا في أيامنا، ومن الأرقام الكاشفة ما يدلُّ على هذا الانحطاط، ومن ذلك أن إحصاءً تَمَّ سنة ١٧٨٧ دَلَّ على أن مليونين فقط من ملايين السكان العشرة كانا يعمَلان كسبًا لعيشهما، فبهذه الأرقام يكون التقهقر نصيبَ الأمة في منافستها الأممَ الأخرى، والنظامُ الاستبداديُّ الإسبانيُّ كان من أسباب هذا الانحطاط.

وأدرك الملوك في إنكلترة ما يحتاج إليه التجار فأكرموهم وجعلوا من بعضهم أشرافًا، وإذا كان المستعمرون الأمريكيون الأولون قد ظلُّوا من رعايا الملوك زمنًا طويلًا فإن هؤلاء الملوك كانوا من الفطنة ما يعدِلون معه عن مجلسهم الحكوميِّ مستبدلين به مُدِيرِي شِرْكةٍ تجارية، وأدى هذا التبديل الأول إلى الرحلات الأولى التي قام بها التاج في القرن الخامسَ عشرَ بعد مغامرة كابُو في كَنَدَة، وبعد توزيع أَرَاضِي التاج الأولى في فِرْجِينْيَة حَوالَي سنة ١٦٠٠. وكان حكم الإسبان في هذين الدَّوْرَيْن يقوم، بالعكس، على السيف والنار، وليس على المرء إلا أن يقابل بين صُوَرٍ لبيزَارُو وكُورْتِز وصُوَرٍ لهُوكِنْز وراليف حتى يُبْصِر من فوره ما بين النظامين الحكوميين من فَرْق، ولما طلبَ سِيسيلُ من الإسبان حَقَّ التجارة مع الهند في سنة ١٦٠٤ لم يَجْرؤ الإسبان على الرفض، وهنالك خَسِرُوا معركةً حاسمةً كالتي قُضِيَ بها على أسطولهم في المانْش منذ ستَّ عشرةَ سنة.

والتاجُ هو الذي أنشأ المستعمراتِ الإسبانية مع أن الشعب هو الذي أقام المستعمرات الإنكليزية، ومصدرُ التوسع الاستعماريِّ في إسبانية هو الملكُ والكنيسة والبَلاط، ومصدرُه في إنكلترة هو التاجر، ودليلُ ذلك كونُ كرُومْوِيلَ، كونُ هذا الثوريِّ الذي ضَرَب عُنُق مَلِيكهِ، قد عَرَف كيف ينال أكثر ما يُمْكِن من المستعمرات وراءَ البحار. وكان البابا وتُوسْكانة قد أباحا منذ عشرات السنين كلَّ اتِّجارٍ بالسلع الإنكليزية التي سَرَقَها القراصين، وهما إذْ يوافقان على هذه السَّرِقَة يكونان قد مَنَحَا المشترين حقًّا شرعيًّا، ويرسل كرُومْوِيل أسطولًا إلى البحر المتوسط، ويَنَالُ تعويضاتٍ بهذه الوسيلة، ويبعثُ مراكبَه إلى ميناءِ تونس فيَظْفَرُ بمثل ذلك من باشا تونس الذي هو من أهمِّ القراصين.

وما كان من سياسة كرُومْويل الصارمة في الداخل أَدَّى إلى احتكار الدولة تجارةَ إنكلترة الخارجية، وحَظَرَ كرُومْويلُ إدخالَ سِلَعٍ أجنبية، وهو لم يأذن في التجارة الساحلية وفي الصيد البحريِّ والجَلب إلَّا تحت الراية البريطانية. وكان كرُومْوِيل، الذي حَمَلَ على التسليم بمقاصده في معاهدة وِسْتمِنْستِر، رَمْزَ السلطان البريطانيَّ في دور ارتقائه، وكان كرومويل الذي عَرَف نَيْلَ هذا السلطان مُكْتَرِيًا من صغار الأشراف، لا مَلِكًا، وهذا هو السبب الوحيد في إصلاح ما بينه وبين الإنكليز، وفي إقامتهم آبدةً له أيضًا، مع حَنَانِهم العظيم على الملك المنكود الحظِّ، ويَعُدُّ كلُّ بورِيتَانيٍّ جمايكا عِوَضًا من رأسِ الملك شارْل.

ولم يصبح الهُولَنْدِيُّون مستعمرين إلَّا بعد أن صاروا أحرارًا أيضًا؛ أي بعد سنة ١٦٠٩، وهم لم يَلْبَثوا أن نالوا من التُّرْك حَقَّ الانتقال تحت راياتهم الخاصة. ومَن ينظر إلى حَوْلِيَّات ذلك العصر يمكنه أن يَتَمَثَّلَ الفتوحَ التي تَمَّت في الجَنوب والشرق لِشَعْبَيِ الشمال التاجرين، ومَن يبحث في التواريخ الخاصَّةِ بالأعمال السياسية الرئيسة التي حَدَثَت بين سنة ١٥٠٠ و١٦٠٠ لا يَجِدْ غيرَ أرقامٍ نَمَطِيَّة كما يأتي:

١٥١٢ طَرْد الفرنسيين من إيطالية.
١٥١٥ انتصار الفرنسيين، الاستيلاء على ميلان.
١٥٢٥ هزيمة الفرنسيين في بافِي، ضَيَاعُ ميلان.
١٥٢٧–١٥٢٩ الحربُ الثالثة بين الملكين، صُلْح.
١٥٣٦–١٥٣٨ الحرب الثالثة بين الملكين: فرنسوا الأول وشارلكن.
١٥٤٢–١٥٤٤ الحرب الرابعة بين الملكين.
١٥٨٦ هجوم الأسطول الإنكليزي على قادس.

وإذا ما قابلنا بين هذه التواريخِ والحَوْليات الاستعمارية شَعَرْنا بِنَبْضِ ذلك الزمن:

١٥٠٤ أولُ إدخالٍ لأَفَاوِيه الهند بَحْرًا نَحْوَ الشمال.
١٥١٧ أولُ إدخالٍ للقهوة إلى أوروبة، أولُ بيع للعبيد السُّود في أمريكة.
١٥١٩–١٥٢٢ فتح المكسيك، طوافُ ماجِلَّان حَوْل العالم.
١٥٢٣ طَرْدُ الأوروبيين من الصين.
١٥٢٨ إدخال نبات الكاكَاو من المكسيك.
١٥٥٣ تأسيس الشِّرْكات الإنكليزية الروسية والإنكليزية الأفريقية.
١٥٦٨ إنشاء بُرْصة لُنْدُن.
١٥٦٩ رَسْمُ خريطة الكُرَة الأرضية من قِبَل مِرْكاتُور.
١٥٨٠ إدخال البندقيين القهوةَ إلى إيطالية.
١٥٨١ تأسيس الشِّرْكة الإنكليزية الشرقية.
١٥٨٣ راليف في فِرْجِينْيَة.
١٥٨٤ عامُ البَطَاطَة.
١٥٩٥ الهُولنديون في الهند الشرقية.
١٦٠٠ شِرْكة الهند الشرقية الهولندية.
١٦٠٣ الفرنسيون في كنَدَة.
١٦٠٨ دولةٌ يسوعية في برَاغْوَاي.
١٦١٠ اتخاذ الشِّرْكة المُغْفَلَة، إدخال الشاي إلى هُولندة.

ظَلَّ البحرُ المتوسط، ظَلَّ مَسْرَحُ التجارة العالمية الثانويُّ هذا، بعيدًا من ذلك التَّوَسُّع التجاريِّ تقريبًا، ومع ذلك فإن ما شُعِرَ به من بهجةٍ نتيجةً لاتساع نطاق الطُّرُق حَفَزَ الأممَ المستعمِرَةَ الجديدة إلى التَّسَلُّط على الطُّرُق التجارية القديمة حَوْلَ الأُمِّ، حَوْلَ البحر المتوسط. وما كان من ائتمار غَرانْدَات إسبانية المشئوم سنة ١٦١٨، الذي أسفر عن تَمَرُّد ضُبَّاطٍ بُنْدُقيين ضِدَّ إسبانية، قد انتهى بتدخُّل شعبٍ تجاريٍّ أجنبيٍّ للمرة الأولى منذ اصطراع الأباطرة، وذلك أن حُلَفاء البندقية الهولنديين اشتركوا في الصِّراع، فلما أغرق بطلُهم البحريُّ دو رُويْتِرُ سِتَّ عشرةَ سفينةً قُرْصَانِيَّةً على الشاطئ المراكشيِّ في سنة ١٦٥٥، نال الهُولنديون حُظْوَةً شعبية حقيقيةً في البحر المتوسط، وقد عَيَّنُوا قناصلَ في كلِّ مكانٍ حمايةً لتجارتهم، ويأذن السلطانُ للإنكليز في سنة ١٥٩٧ أن يقوموا بالمِلَاحة تحت رايتهم الخاصة. ويقيم الإنكليز في هذا الزمن دليلًا على صفتين من أعظم صفاتهم، وهما: الصبرُ وضبطُ النفس، ويحاول الإنكليزُ في بدءِ الأمر إنماءَ الطريق البرية السائرة من حَلَبَ نحو الهند توطيدًا لطريقهم البحرية، ويَحْبَط سعيُهم هذا ويَتْرُكونه عن رَشَد، على حين يُؤَسِّسُون شِرْكَةَ الهند الشرقية، ولَسُرْعان ما يؤدِّي مَنْطِقُ الأمور إلى اصطراع إنكلترة وهولندة من أجل الصَّدَارَة في التجارة العالمية، وذلك كما وقع بين البندقية وجنوة فيما مضى.

وكانت تُتَّخَذُ وسيلتان في القرنِ السابعَ عشرَ والقرنِ الثامنَ عشر لاتِّقاءِ القراصين، وهما: الأسطولُ الحارسُ وإعطاءُ جزية، وكان جمعُ الوسيلتين أسلمَ واسطةٍ، وما انْفَكَّت السُّفُن التجارية في البحر المتوسط تُحْرَسُ من قِبَل مراكبَ حربية، ولم ينقطع عمل هذه الأساطيل إلَّا بزوال سلطان القراصين، ولم تَعُدْ إلى عملها إلَّا في أيامنا، إلَّا حين جَعَلَ نوعٌ جديدٌ من القرصنة أمرَ البحارِ مَحَلَّ ارتياب، وتُعَدُّ مراكب القراصين منذ مائتي عامٍ طلائعَ مُبَشِّرَةً بمثال الغَوَّاصات بما كانت تقوم به من وَقْف السُّفُن في عُرْض البحر وتفتيشها. وكانت مراكب القراصين تَبْرُز بغتةً غامضةَ الأمر كالغَوَّاصاتِ بعد اختفاءٍ في خُلْجَان مجهولة، وكانت تظهر أمامَ برُوجَ وكُورنْوَالَ وآسُورَ فتَسْلُبَ السفنَ التجارية. وعَقَدَ القراصينُ معاهداتٍ شَفَهِيَّةً كانوا يَدَعُون بها بعض السُّفُن المُفَضَّلَة تَمُرُّ إثْبَاتًا لِكَوْن مالكيها يُعْطُونَ رؤساءَ القراصين جزيةً، وكانت تُطْلَق قذيفةُ مِدْفَعٍ في الهواءِ إنذارًا بضرورة وقوف السُّفُن، وذلك كما يصنع رُبَّان الغَوَّاصة مُنْذِرًا باللاسلكيِّ، ثم يَصْعَد بعضُ القراصين في المركب ويَفْحَصُون الوثائقَ والأَوْسَاق.

وبما أن القراصينَ كانوا أُمِّيين فإنهم كانوا يُخْدَعون بأوراقٍ مُزوَّرة في الغالب، ثم صاروا يَتَّقُون مثلَ هذا الخِداع بأن يأخذوا من المركب قبل انصرافه نصفَ صكِّ أمانِهِ بأن يُقَسَّمَ إلى قسمين ليُرَى هل تتطابق القِطَعُ فيما بعد، وإذا حَدَث أن خُدِعوا أو تَرَكُوا مركبًا عَدوًّا يمُرُّ ضُرِبَ عُنق رئيسهم عندما تُعْرفَ الحكاية. ومع ذلك لم يكن ضبطُ الحُمُولة، بل الطاعونُ الذي قد يأتي به القراصينُ، هو أعظم ما تُمْنَى به السُّفُن التجارية من هَوْل؛ ولذا رُئِي فيما بعد أن على كلِّ سفينةٍ يُفَتِّشُها القراصين أن تَظَلَّ في المرفأ خمسةَ عشرَ يومًا قبل أن يُنْزَلَ منها. وكانت جميع الدول الكبرى هي التي تدفع خَرْجَ حماية المراكب، وكان هذا الخرجُ يُؤَلَّف أحيانًا من موادَّ حربيةٍ يُسَلِّمُها الهولنديون والدانيماركيون إلى زعماء القراصين الأفريقيين، وهدايا مثلُ هذه، كما تُدْعَى، كانت تُقَدَّم حتى سنة ١٨١٧، وما كانت الدول الصغرى لتقدِّم مثلَ هذه الهدايا. ومما جاء في تقرير القنصل الأمريكيِّ شالِر: «سُكِّنَ لصوصُ الجزائر هؤلاء وشُجِّعوا من قِبَل دولتَي العالَم البحريتين الأُولَيَيْن، وهم قد غَدَوْا آلةَ اعتداءٍ على تجارة الدول الصغيرة بنقضهم القانونَ الدوليَّ من غير حياء.» وكان على جميع القناصل، حَوالَي سنة ١٨٢٥، أن يُحَيُّوا القصرَ المَلكي بالجزائر عند مرورهم أمامه، وكان لا يُسْمَح لهم بحمل سيوفهم في المقابلات، ولم يكن لأحدهم أن يجاوز ساحة القصر راكبًا حصانًا، بل يجب عليهم أن يترجَّلُوا على حين يستطيع خدمُهم من الأهلين أن يَظَلُّوا رُكبانًا.

وكان الإنكليز في القرن السابعَ عشرَ والقرن الثامنَ عشرَ يُخْفُون تعاطيَهم تجارةَ الرقيق بمزاولتهم ضربًا من التجارة المثلثة الزوايا، وذلك أن شِرْكاتِهم كانت تُوسِقُ السُّفُنَ البريطانيةَ فولاذًا وقطنًا وشرابًا إنكليزيًّا (وِيسْكي) فتنقله إلى أفريقية، وكان يُشْرَى بقيمة هذه السِّلَع عبيدٌ من زنوج الساحل الغربيَّ بثمنٍ بَخْسٍ ويُرْسَلُون إلى أمريكة، فتُبْتَاع مُنْتَجَاتٌ أمريكية بما يُقْبَض ثمنًا لهؤلاء العبيد وتُدْخَلُ إلى إنكلترة. ولم يُلْغَ الرِّقُّ في المستعمرات البريطانية إلا سنة ١٨٣٤، ولَمَّا صُوِّت في إنكلترة، في سنة ١٨٠٧، للقانون الذي يُحَرِّم هذه التجارة، عارضه اللورد أَلْدُن في البرلمان بقوله: «شُرِعَت تجارة الرقيق من قِبَل برلمانٍ كان يَضُمُّ بين أعضائه أعظمَ الفقهاء وعلماءِ اللاهوت وأقطابِ السياسة.»

وبينما كان الترك يُطْرَدون من هنغارية والبلقان ويقاتلُهم أباطرة النمسة وقياصرة روسية منصورين في الغالب، كان موقفُ البحر المتوسط سلبيًّا دومًا. وكانت الإمبراطورية التركية قد صارت كتلةً ثقيلةً جامدةً فتحاول الأمم المقهورة أن تُزيحها شيئًا فشيئًا، وكان لا بُدَّ من مرور قرنين حتى تُحَطَّمَ قِطَعًا في سنة ١٩١٨، وقد بدأ تَفَوُّقُ الأمم النصرانية الاقتصاديُّ في البحر المتوسط حَوالَي سنة ١٦٠٠، وقد بدأ تفوقُها السياسيُّ بعد قرنٍ من ذلك.

وينشأ هذا البطء عن عدم وجود مبدأٍ عامٍّ، وعادت الكنيسة لا تُمَثِّلُ مِثْلَ هذا المبدأ، وتوارت إمبراطوريةُ أباطرة الألمان الرومانيةُ، ولم يكن «التوازن الأوروبيُّ» الذي ابْتُدِع في ذلك العصر مَرْعِيًا في غير القارَّة، ولم يُتَمَسَّكْ بسياسة الملك الشمس لعدم اعتمادها على البحر. وظَلت فرنسة دولةً برية حتى في أوج نُشُوئها، فلم يُكْتَبْ لها الفوز على الدولتين البحريتين، إنكلترة وهولندة، إلا نادرًا على الرغم من جميع محالفاتها مع السلاطين ومن جميع المكايد التي حاكتها.

وقد أحرزت فرنسة في ذلك العصر قَصَبَ السَّبْقَ على إسبانية في القسم الغربيِّ من البحر المتوسط كما أحرزته إنكلترة على هولندة، وقد وسَّع وزيرُ لويسَ الرابعَ عشرَ، كُولْبِرُ، نِطَاقَ الأسطول الفرنسيِّ والموانئ الفرنسية وُصُولًا إلى تَفَوُّق فرنسة حينًا من الزمن، وماذا يُهِمُّنَا من أمر هذه الوقائع مع ذلك؟ هي خاصةٌ بالمنازعات العظيمة في سبيل السيادة على مَسْرَح أوروبة بأَسْرِها، ونحن لا نُعْنَى هنا بغير البحر المتوسط!

وكان البحر المتوسط قد صار مأوى لصوصٍ فلم يكترث أحدٌ لفتحه وتطهيره تمامًا لعدم استحقاق هذا الأمرِ جُهْدًا. ولَمَّا حاولت فرنسة، التي كان مازَارَان قابضًا على زمامها، أن تستولي على نابل وصِقِلِّيَة، تَدَخَّلَت إنكلترة في الأمر وحالت دون حدوث ذلك، وذلك كما كانت هُولَنْدَة قد صنعت عندما أُرِيد أن يُضَحَّى بالبندقية، ولَمَّا حاصر التركُ جزيرة أَقريطش حالفت فرنسةُ البندقيةَ لمقاتلتهم.

ولم يُعَيِّن حادثٌ من هذه الحوادث مجرى التاريخ الذي كان يُقَرَّرُ في ميادين القتال بألمانية وفرنسة، والمصالحُ وحدَها، لا المبادئ الكبيرة، ولا عظماءُ الرجال، هي التي كانت تتقابل في البحر المتوسط. وبينما كان على فرنسة، التي نَهَكَها طموح المَلِك الشمسِ في أربعين عامًا، أن تَعْدِل عن خِططها في السيادة العالَمية، كما صنعت إسبانية منذ قَرْنٍ، بَسَطَ هذا الملكُ الشائبُ يَدَه نحوَ إسبانية في آخر الأمر لطمعه فيها بعد غِياب آل هابسبرغ عنها، وتتدخل إنكلترة وتشتعل نار حرب أوروبية عظيمة (١٧٠١–١٧١٣) في البرِّ والبحر، ويقضي هذا الصِّراعُ على سلطان فرنسة البحريِّ في القرن القادم، ويحاول كلٌّ من المختصمين أن يستوليَ على قواعدَ، وتُحَاصَر جُزُرُ البَلِيار ومالطة كما حُوصِرَ جبل طارق على الخصوص.

٨

إذا ما اقْتُرِبَ من صخرة جبل طارق من ناحية البَرِّ بعد المرور على طول الرصيف الكبير، رُئِيَ رأسُ جاموسٍ أو أسدٍ ضخمٌ مُدَوَّرٌ نحو الشِّمال، وفي اليمين يَنْحَدِر سَفْحُ جبلٍ مقدارًا فمقدارًا كظَهْر حيوان، وتُبْصِر للمجموع منظرًا مُشَوَّشًا، وإذا ما نُظِرَ إلى الصخرة من ناحية البحر بَدَت وعِرَةً عظيمةً، وإذا ما وُجِدَ الإنسان تحت موقف الإشارة ظهر له بُرْجٌ جَبَّارٌ قديم كقصر الآلهة القاتم في رواية غنائية لفاغْنِر، وينتصب الانحدارُ أمام البحر انتصابًا تامًّا، وتكون الصخرة ممتنعة من هذه الجهة، فلا يستطيع أن يَتَسَلَّقَها غيرُ رجل جَبَلِيٍّ ماهر، أَوَيُمكن الاستيلاءُ عليها بالمِدْفعيَّة؟ تختلف آراء الخبراء حَوْلَ هذا الموضوع، ومهما يكن من أمرٍ فإنه يتعذر أَخْذُها عَنْوَةً.

والصخرةُ من حجر كلسيٍّ رَماديٍّ بِلَّوْرِيٍّ مُؤَلَّفٍ من طبقات مستوية في الغالب، وقد نحَتَ الماءُ والريحُ هنالك تجاويف كثيرةً في ألوف السنين، ويقع أحد هذه التجاويف على ارتفاع ١١٠ أقدام فوق مستوى البحر ويبلغُ من العُمْقِ أربعمائة قَدَم، ويستند إلى أعمدةٍ كَرُواق كنيسة، وتَجِدُ لبعض هذه المغارات مُتَدَلِّياتٍ. وهنالك كهفٌ يُعْرَف بغار فيكتورية، ويُبْدى لنا صُوَرًا كلسية رائعةً طبيعية يُرَى تَفَوُّقُها على صُوَرِ «غارِمامُوتَ» الأمريكيِّ. نَعَمْ، ليست الصخرةُ بالغةَ العُلُوِّ في مجموعها ما بَلَغتْ أعلى نقطة فيها ١٤٠٠ قَدَمٍ فقط، غير أنها تظهر كثيرةَ الارتفاع لانفرادها وضِيقها، والواقعُ أن عرضها يترجَّح بين رُبْع ميلٍ وثلاثة أرباع المِيل. وإذا ما سار المرء بين حُصُونها المصنوعةِ بأَسْرِها من أَنْفَاقٍ رُئِيتَ السماءُ ونُورُ النهارِ من نَوَاحٍ كثيرة في آنٍ واحدٍ، وما كانت الصخرة التي ليس لها من الطول ثلاثةُ أميالٍ مطلقًا لتَقِفَ نَظَرَ إنسانٍ لو لم تُشْرِف إشرافًا أقربَ إلى الخيال على مَدْخَل البحر المتوسط.

ويلوح أن مَدْخَل جهنَّمَ ضَيِّقٌ، وأضيقُ منه مدخلُ هذا البحر الفردوسيِّ لا ريب، وما وُجِدَ من عِظامٍ وقرونِ حيواناتٍ أفريقية في فرنسة والبلقان يَدُلُّ، كما ذُكِرَ في أوائل هذا الكتاب، على وجود برزخٍ كان يَصِل بين القارَّتين في أزمنة ما قبل التاريخ. وما فتئ بعض العلماء يجادلون حول ألوف السنين التي مَرَّت منذ انهيار الجسر بين اليابستين، ولا أهميةَ لهذه المسألة، ويظهر أنها من المُعْضِلات، ومهما يكن من أمرٍ فإن كلًّا من الساحلين قريبٌ من الآخر، ولا تزيد المَسافة عند أضيق نقطةٍ على أحدَ عشرَ مِيلًا. ويمكن العينَ المُجَرَّدَةَ أن تَرَى من النقطة الجنوبية، المسماةِ «رأسَ أوروبة»، شاطئَ أفريقية المُنَوَّعَ منظرًا، ويُخَيَّلُ إلى الناظر أن المدينة الصغيرة الواقعةَ داخلَ الصخرة وَكْرُ مُهَرِّبين مع أنها عادت لا تكون هكذا مُطْلَقًا، وتقعُ على البحر المتوسط كذلك قريةُ صَيَّادي سمكٍ لا يمكن أن يُوصَلَ إليها إلَّا بطريق ملتوية من ناحية البَرِّ أو بنَفَق من خِلال الصخرة. وهنالك، على الذُّروة تقريبًا، يقوم بُرْجان، وللمجموع منظرُ دَبْرٍ٨ مُتَجَمِّع حَوْل غُولٍ هائل، حَوْل الصخرة.

ومَنْ ينظر إليها في الصيف يَقُلْ إن النار خَرَّبت ذُروتَها، وتبدو حديقة الحاكم التي يُعْنَى بسقيها واحةً خضراءَ كالتي تُبْدِعها الأريستوقراطية البريطانيةُ في كلِّ مكانٍ من العالَم، حتى في وسط الصحارى وسواءِ الصُّخُور، مُذَكِّرَةً بحدائقها الإنكليزية. ويُعْرَضُ في كلِّ وَجْبَةٍ في قاعة الطعام من منزل الحاكم الرسميِّ ذي المنظر القديم مفتاحان عظيمان قديمان على مُخْمَلٍ أحمر، وكان هذان المِفْتاحان لباب القلعة قد ضبطهما أسلافُ الحاكمِ الإنكليزُ، وهما لم يَنْفَكَّا يُعْرَضانِ في مائدته منذ قرنين على هذا الوجه، ولا يُقَامُ بهذا العَرْضِ في ذكرى الفتح السنوية فقط بل يُقَامُ به في كلِّ يومٍ أيضًا. ويوجَدُ على الصخرة في الخارج، يوجد بجانب حَمَامٍ وحَجَلٍ، قِرَدةٌ قليلة بَرِّيَّة تُعَدُّ آخرَ ما في أوروبة، ويَرْوِي ضباطُ الحامية في سنة ١٩٠٠ أنه كان يوجد من القِرَدَةِ خمسُ إناثٍ متفقة فيما بينها اتفاقًا عجيبًا على قتل آخر ذكر وافتراسه، ويُبْحَثُ عن ذكر فتًى في أفريقية الشمالية ويُرْسَلُ إلى الصَّخْرَة بعد تلك الخاتمة الفاجعة الهزلية التي تستحقُّ أن تُكْتَبَ روايةٌ عنها، وتَظْهَرُ قِرَدَةٌ جديدةٌ بعد ذلك وإن لم تكن كثيرة العَدَد. وهكذا يُنْقَل إلى هذا الطرف الأوروبيِّ الأقصى، الذي كان يمكن الأُسُودَ والفُيُولَ الأفريقية أن تمُرَّ من المضيق إليه بسهولةٍ، قِرْدٌ واحدٌ في قَفَصٍ فيُطْلَق على الصخرة إبقاءً لذلك النوع الأفريقيِّ.

وتنتصب صخرة أخرى أمام تلك، تنتصب قلعة سَبْتَة، وفي الأساطير أن هِرْكُولَ نَصَبَ عمودين في هذا المكان الذي هو أبعدُ محلٍّ معروفٍ في ذلك الزمن. وتجيء كلمة «أَبِيلَا» التي هي أقدم اسم لهذا المكان، والتي يُرَجَّح أن الفنيقيين أطلقوها عليه، بمعنى «موقف»! ولا ريب في أن مُبْدِعي الأسطورة لم يَرَوا الصخرةَ إلَّا من جهتها الشرقية، وهذا ما يوضح تفسيرهم، ولا ريب في أنهم شَعَروا بانجذابهم إلى هذه الثُّغْرَة الضيقة النافذة إلى عالَم مجهولٍ مُؤَدٍّ إلى بحارٍ جديدة بعيدة تقع الأَطْلَنْطِيدُ فيها من ناحية الجَنوب وتقع ثُولَة فيها من ناحية الشمال.

وكان أولُ مجاهدٍ عَرَف أهميةَ ذلك المكانِ، ذلك المِفْتَاحِ، عربيًّا، كان طارقًا، فأنشأ فيه أولَ حُصُونٍ، وسُمِّيت تلك الصخرةُ «جبلَ طارق»، فتَحَوَّل اسمها العربيُّ إلى كلمة Gibraltar عن إِدْغامٍ. وقد قاد هذا الرجلُ جيشًا مؤلفًا من اثني عشرَ ألفَ عربيٍّ وبربريٍّ من مَرَّاكِش إلى الأندلس وقهر القُوطَ في شَرِيش، وقد أخذ يُنْشِئ قلعةً فوق الصخرة في آنٍ واحد فلم يَتِمَّ بناؤها إلَّا في إحدى وثلاثين سنة، ولا يَزَالُ يُرَى بُرْجٌ جَبَّارٌ فكان يُدْعَى «قلعة المغاربة».

وتمضي ستمائة سنة، ويَطْرُد الإسبانُ المغاربةَ، فيبدأ ملِكٌ إسبانيٌّ بالأَوَّلِ من حِصَارَاتِ جبل طارق الخمسةَ عشرَ التي زَلْزَلت الصخرة بين سنة ١٣٠٠ وسنة ١٨٠٠، ومع ذلك فإن جميع الهَجَمَات التي وُجِّهَت إلى الصخرة كانت غيرَ مُنْتِجَةٍ نتيجةً لبرنامج التحصينات الذي طُبِّق في القرن السادسَ عشرَ، ووَدَّ الملوكُ الأَوَّلُون أن يَعْمُرُوا القَصَبَة الحارَّةَ الجديبة الممتدة على سفح الصخرة فدَعَوُا اللصوصَ والقَتَلَةَ إلى الإقامة بها واعدين بإعفائِهم من الضرائب، ويقوم المغاربة والإسبان بالحِصَار مناوبةً، ويتقاتل قراصينُ ومسلمون من ناحيةٍ وملوكٌ ودُوكَاتٌ إسبانٌ من ناحيةٍ أخرى لحيازة الصخرة فلم يُوَفَّقُوا.

ولم يُوَفَّق الإنكليزُ لتملُّك جبلِ طارقٍ كقاعدةٍ إلَّا في أثناء الحرب الفرنسية الإنكليزية الكبرى التي قاتل فيها مَلْبُرُو الملكَ الشمسَ، ففي سنة ١٧٠٤ أدرك أميرُ بحرٍ بريطانيٌّ أهميةَ جبل طارق وقيمتَه فدخلَ المضيق أمام الصخرة التي ظَلَّت منيعة قرونًا، وبدأ الحصارَ الثانيَ الذي لم يَدُم غيرَ ثلاثة أيامٍ فاستولى على القلعة. والواقعُ أن هذا الأَميرالَ كان مستخدمًا لدى حليف إنكلترة الأرشيدوكِ الهابِسْبُرْغِيِّ، فكان يجب عليه أن يرفع عَلَم آل هابِسْبُرْغ، ولكنه أدرك خَطَرَ الساعة، فنصب الراية البريطانية واستولى على القلعة باسم الملِكة حَنَّة، ولم تلبث حكومته أن وافقت على هذه الضَّرْبة.

ويعود فخر الاستيلاءِ على جبل طارق إلى السِّير جُورْج رُوك البالغ من العمر خمسًا وخمسين سنةً في ذلك الحين، والذي كان ذا عَمَلٍ كريمٍ ولكن بلا مآثر، وما هَجَمَ به من سرعةٍ على الصخرة وما وُفِّقَ له من فتحها وما اتخذه من قرارٍ في القبض عليها باسم مَلِيكَته من غير أن يُوَجَّه إلى ذلك ومن غير أن تكون لديه قاعدةٌ قريبةٌ أمورٌ دَلَّت على وجود شعورٍ بتقدير الوقت المناسب عنده مُذَكِّرٍ بكرُومْويلَ، وكرُومْوِيلُ هذا كان قد دعا جبلَ طارقٍ وقادسَ ﺑ «أهمِّ أهداف السياسة البريطانية».

ويُقَدِّر الفرنسيون والإسبان أهميةَ ما خَسِروه، ويبدءون بالحصار الثالث في تلك السنة، فيُدْحَرُ أحسنُ كتائب المتطوعين في تلك الأثناء، وكان للإسبان بذلك ما يُورثهم غمًّا لِمَا أبصروه من استطاعة الأجنبيِّ الرابض فوق الصخرة أن يحاصر جميعَ إسبانية إذا أراد. وهكذا مَرَّ العَقْدان الآتيان بين المفاوضات والحروب والهَجَمَات المفاجئة، ثم يقع أهمُّ حصارات جبل طارق وأطولُها حوالَي سنة ١٧٨٠، فيدوم ذلك نحوَ أربع سنين؛ أي حينما كانت مشاكلُ أمريكة تَشْغَلُ بالَ إنكلترة وتُضْعِفُها، ويحاول الإسبان تجويعَ الحامية والقيامَ بهَجَمَاتٍ بحريةٍ عنيفة، ويستخدم الإسبانُ أَفَّاقِين وعيونًا من كلِّ نوع، ومع ذلك فقد كان المَدَدُ يأتي من إنكلترة في الزمن الملائم. ومع ذلك فقد كانت تَعْقُب المعاركَ البحريةَ الشديدة فتَرَاتُ وقوفٍ كما وقع سنة ١٩٤٠ في أثناءِ إلقاءِ الألمانِ قنابلَهم على إنكلترة، وكانت الحامية تقوم بهَجَمَاتٍ وكانت تُنَالُ انتصاراتٌ على المراكب الإسبانية، وكانت تَظْهَرُ مدافعُ جديدةٌ متزايدةٌ قوةً، وكان الفوزُ الوحيدُ الذي تَمَّ للإسبان هو استيلاؤهم على القاعدة الإنكليزية، على جزيرة مَنُورقة، التي ظَلَّت إسبانيةً حتى الزمن الحاضر.

وكان يوجد بين المعارك تبادلٌ فُرُوسيٌّ للرسائل، وذلك كالذي كان بين قائد القلعة إِلْيُوت وقائدِ المحاصِرين دُوك كرِيُّون، وقد كتب هذا الأخير إلى عَدُوِّه قولَه: «اسْمَحُوا لي، يا صاحبَ السعادة، بأن أُقدِّم أشياءَ ضئيلةً إلى مائدتكم، فهي محتاجةٌ، لا ريبَ، لِمَا أَعْرفُ من اشتمالها على الخُضَر فقط، ومما يَسُرُّني أن أعلم ماذا تُفَضِّلُون، وهنالك أُضِيفُ إليه حِجْلَانًا من أَجْل حاشيتِكم السادةِ مع قليلِ ثَلْج.»

واسْمَع الجوابَ: «أُقدِّم إليكم ألفَ شُكْرٍ، يا صاحب السعادة، لهدية الفواكهِ والدَّجاجِ الجميلة، وإنني أعترف لكم بأنها أوجبت نقضَ ما عَزَمتُ عليه منذ بدءِ الحرب من عدم أكل شيءٍ غيرِ ما يأكل منه رفقائي، وقد بيعَ كلُّ شيء علنًا هنا، ويمكن كلَّ واحدٍ أن يشتريَ على أن تكون عنده وسائلُ الشراء؛ ولذا أَرَى من الواجب أن أرجو منكم، يا صاحب السعادة، أَلَّا تَغْمُرُوني بإحسان لا أستطيع أن أتمتع به، ولدينا من الخُضَر ما يكفي، والزراعةُ من عادة الإنكليزيِّ، والإنكليزيُّ يقضي ساعاتِ فراغه في الزراعة ولو كان هنا.»

وكان يُرَاهَنُ في إنكلترة وفرنسة حَوْل ثبات جبل طارق أو عدم ثباته، ويَسْأَمُ المحاصِرون في نهاية الأمر، وتُعْقَدُ هُدْنةٌ، ويزور رئيسُ المحاصِرين عدوَّه، ويَرَى بعينيه ما حاول إدراكه ببصره الطويل على غير جَدْوَى. ويمكن تشبيه هذا القائد برجلٍ تَمَلَّقَ امرأة أربعَ سنين من غير أن يستطيع نَيْلَها، فلما اشتدَّ وَلعُه لتَمَنُّعِها لَمْ يَرَ غيرَ الخضوع بالغًا غَرَضَه على وجهٍ آخر. وما انفكت قلعةُ جبل طارق تتمتع، منذ سنة ١٧٨٣، بسَلْمٍ دائمة تقريبًا.

أجَلْ، وُفِّقَت إنكلترة لطرد فرنسة من البحر بعد حربٍ طويلة في أوائل القرن الثامنَ عشرَ، غير أن ثلاثَ منافِساتٍ حَدِيثاتٍ بَدَتْ في ذلك الحين، وقد غَدَت النمسة من دول البحر المتوسط؛ وذلك لأن آل هابِسْبُرْغ كانوا يَمْلِكون سواحلَ إيطاليَّةً واسعة، وقد صارت سافْوَا دولةً بحريةً أيضًا بنَيْلِها سَرْدِينْيَة، وقد عُدَّت صِقِلِّية من دول البحر المتوسط أيضًا حينًا من الزمن، وكان بطرسُ الأكبر يَدْفَع روسية نحو المضايق، وكان أداةَ خَطَرٍ مع عدم ظَفَره بكبيرِ شيءٍ، وفرنسة هي التي عُوقِبَتْ بطُمُوح الدول الأخرى نتيجةً لتأخُّرها بحرًا، ويُشْطَرُ الأسطول الفرنسيُّ إلى شَطْرين من قِبَلِ إنكلترة التي تستطيع بجبلِ طارقٍ أن تقطع وقت الحرب كلَّ طريقٍ بين برِسْت وطولون. واليومَ لا تزال حيازة الصخرة تَنِمُّ على وضعٍ كالذي تكون عليه أمريكة لو كانت بَنَاما قبضةَ أيدٍ بريطانية، وذلك لِمَا يُفْصَلُ به كلٌّ من الأسطوليْن الأمريكيين عن الآخر، ولما حُوصِرَت طولون أغرق الفرنسيون أسطولَهم الخاصَّ.

ويُوفَّقُ الفرنسيون بعد زمنٍ لإفسادِ حصارٍ ثانٍ ضُرِبَ حول طولون فدام عاميْن، ويَنْزِلُ الإنكليز إلى جزائر إيِرْسَ غيرَ مرةٍ حيث يَتَزَوَّدُون ثم يداومون على الحِصار، وقد حرقوا السفنَ الإسبانيةَ الراسيةَ في مرفأ سان ترُوبز وإن كانت إنكلترة مسالِمةً لإسبانية، ولم يَنَلْ أيٌّ من الخصوم نَصْرًا في الواقعة التي حدثت في أعالي جزائر إيِرْس.

وبينما كان هذا التغيير الأساسيُّ يقع في أحد أبواب البحر المتوسط الثلاثة، كان يُقَرَّرُ أمرُ تغييرٍ آخرَ؛ أي الرجوع إلى مشروعٍ قديم؛ أي إن الملِكَ الشمسَ يعود إلى الخِطَّة القديمة حول إنشاء قناةٍ في السويس، ويلوح هذا الإنشاء أمرًا متعذرًا من الناحية الفنية. وتَبْدُو لوزير الملك الألمعيِّ كُولْبِر فكرةُ مطالبة السلطان بفتح أبواب البحر الأحمر للفرنسيين وبالإذن لهم في إقامة مخازنَ وتنظيمِ وسائل النقل بين السويس والإسكندرية.

وكان العبقريُّ الألمانيُّ الأكبر لِيْبِنتْز يحاول تحويلَ لويسَ الرابعَ عشرَ إلى تلك الوِجهة صَرْفًا له عن مغازيه المُخَرِّبة نحو الرِّين، ولما ساءَت الصِّلات بين التركِ ولويسَ الرابعَ عشر نَصَحَ لِيبنتزُ هذا الأخيرَ بالاستيلاء على مصر، ويجيب كُولْبِر عن كتاب الفيلسوف الشهير بدعوته إلى باريس، ومع ذلك لم يظفر لِيبنتز بمقابلة الملك مع إدراك الملِك أهميةَ هذا المشروع. وهكذا تُرِكَتْ فكرةُ سَوْق فرنسة إلى مصرَ مدةَ ١٣٠ سنة؛ أي إلى الزمن الذي حَقَّقَها فيه نابليون وإن كان نابليون يجهل مشروعَ لِيبنتز. ومما يَجْدُر ذكرُه حول الصِّراع الأكبر بين فرنسة وإنكلترة، كونُ إِنكلترة استولت على بابٍ من بابَي البحر المتوسط مع أن فرنسة أهملت فتح بابٍ آخرَ له أو الاستيلاءَ عليه، ولولا هذان الأمران؛ أي احتلالُ جبل طارق وعدمُ فتح قناة السويس، لاتَّخَذ تاريخ البحر المتوسط مجرًى آخر.

٩

كانت النمسة وروسية، كانت هاتان الأُمتان الأجنبيتان الراغبتان في التقدم إلى البحر المتوسط، تَتَوعدان التُّرْك وتُدَارِيَانهم مناوبةً فتُعَزِّزان تُرْكية بدسائسهما، ولم يُصْبح النمسويون أمةً بحريةً أكثر من التُّرْك، وقد صار الروسُ بحريين أكثرَ منهما.

ومن الممكن أن كان آلُ هابسبرغ يسمحون لأنفسهم بفَقْدِ بعض ممتلكاتهم المبعثرة ما نالوها وراثةً أو صهارةً أكثرَ من نيلهم إياها فتحًا، وما كان الميلُ القوميُّ أو التاريخُ أو اللسان ليربِط بعض رعاياهم ببعضٍ، ولم يكن وَلاء هؤلاء الرعايا نحو البيت المالك إلَّا أمرًا مشكوكًا فيه، ولم تكن فُسَيْفِساءُ الدولةِ هذه لتَنِمُّ على مركزية، وكلُّ ما تدلُّ عليه يَمُتُّ إلى الدفاع ضِدَّ الترك بصلة.

وما حدث من اشتراك النمسة في حياة البحر المتوسط لم يكن ضروريًّا لحياتها القومية، وبهذا يُفَسَّرُ سبب خسرانها ممتلكاتِها في البحر المتوسط بسهولة كالتي نالتها بها، وقد توارت شِرْكَةُ الهند الشرقية، التي أَلَّفَها بعض رجال الأعمال بتِرْيِسْتة على منهاج الأمم البحرية الكبرى، عند انقضاء اثنتي عشرةَ سنةً نتيجةً لعدم اكتراث حكومة فِيِنَّة لها، وقد انتقل ميناء فِيُومَ من أيدي النمسويين إلى أيدي الهنغاريين لمثل هذا السبب، وكلُّ ما بقي من آثار جهود النمسة الاستعمارية هو دولارُ ماري تِرِيز، هو هذا النقدُ الفِصيُّ الذي لا يزال متداوَلًا في البحر الأحمر وفي الحَبَشَة، ويُخْتَمُ عهد آل هابسبرغ، الذي دام أجيالًا، في سنة ١٩١٨، ولا تزال جُمهوريةُ النمسة الاشتراكيةُ تَضْرِب نقودها الفِضية الحاملةَ صورةَ الإمبراطورة، ولا يزال زنوجُ شرق السودان يتعاملون بنقودٍ مشتملة على تصويرة امرأةٍ زالت صورتُها من منازل فينة منذ زمن طويل.

وكانت مزاحِمةُ ماري تِريزَ، كترينةُ، تَتَعَهَّدُ مشاريعَ بالغةَ الطمع حَوْلَ البحر المتوسط، وكانت تَحْلُم بإمبراطوريةٍ بزنطيةٍ كما يدلُّ عليه بعضَ الدلالة تسميتُها حَفَدَتَها بقسطنطين وإسكندر، وكان أولَ ما نَوتْه تَقسيمُ تركية مع النمسة فأثارت اليونان على الترك بحرب إنقاذٍ طَرِبَ لها فولتير نفسُه، وتُحالِف كترينةُ إنكلترةَ بعد زمن قليل، ويشاهد العالَم دَهِشًا منظرَ بحريَّةٍ حربيةٍ روسية يقودُها ضباطٌ من البريطان فتنطلق من البحر البلطيِّ إلى آسية الصغرى حيث تقضي على الأسطول التركيِّ سنة ١٧٧٠. ونجهل اللغةَ التي كان البريطان يخاطبون بها مَلَّاحي الروس والعَلَمَ الذي رفعوه للتحية حين مجاوزتهم صخرة جبل طارق، وكلُّ ما نعلمه هو ما كان بين هؤلاء الحلفاء الطُّرَفاء من تبادل ازدراء.

وكانت كترينة تُحِبُّ الشعوذة بخطط شاملة، فلما طالبت بقورسقةَ لروسيةَ عقدت صلحًا تاركةً بجفاءٍ مَنْ شَجَّعَتهم على العصيان من اليونان، فأدى هذا الخِذْلان إلى تأخير تحرير اليونان نصفَ قرن. ومع ذلك فإن كترينة استطاعت أن تُحَقِّق إحدى غاياتها المهمة، استطاعت أن تجعل روسية على البحر المتوسط، وذلك باستيلائها على شمال البحر الأسود، وما أدى إليه هذا الاستيلاء من بناء سبِاسْتبولَ وأُودِيسَّا في أواخر القرن الثامنَ عشرَ. ويُذْعَرُ الإنكليز عندما نالت مراكبُ الروسِ الحربيةُ حَقَّ المرور من الدردنيل، ويحتاجون إلى جهاد ثلاثين سنةً لإبعاد هذا التهديد.

ومع ذلك فإن نجاحَ الروس عَمَّ العالَم بأسره، وقد انتعشت تجارة الآستانة بعد رُقاد عِدَّة قرون، وقد أضحى البحر المتوسط لا يقف عند حَدِّ الدردنيل، وغدا البُسْفُور مرفأً بحريًّا أهمَّ مما في كلِّ زمنٍ، وصار وقوعُ جميع هذه الحوادث تحت راية الهلال لا يزعج أحدًا ما بَلَغَ سفراءُ الدول العظمى من النفوذ في استانبول منذ زمنٍ مبلغًا يُحِسُّون به أنهم في مستعمرةٍ من بعض الوجوه. والحقُّ أن الإنكليزَ والروسَ والنمسويين وجميعَ الأجانب كانوا سادةً في تركية، في هذا البلد الذي كان يسيطر على البحر المتوسط رسميًّا، والحقُّ أن بلاد البحر المتوسط التي كانت تملِك هذا البحر قد تقهقرت من الصفِّ الأول. أَجَلْ، ما انفكت فرنسة تتمتع في البحر المتوسط بنفوذ عظيم، غير أنها لم تتقدم إلى فتح مصر وَفْقَ مشروعها الذي تَمَثَّلَه لويسُ الرابعَ عشرَ، وعادت إسبانية لا تكون دولةً كبيرة منذ زمنٍ طويل، ولم تُصْبِح إيطالية دولةً كبيرةً بَعْدُ.

بَيْدَ أن إيطالية كانت راضية، أو كان يلوح أنها راضية، على ما كان من سابق قُوَّتها، ولكن مع دوام هَزِّها بالفِتَن، ومن المحتمل أن روح المَرَح لم تزدهر طليقةً في مكانٍ كما في إيطالية، وكان جميع الأشراف في إيطالية يتمتعون بكلِّ ما في القرن الثامنَ عشرَ من فُتُون. وكان البابا أميرًا حُرًّا، أميرًا مسالِمًا غيرَ متعصب، ويدلُّ الأمران اللذان صَدَرَا متعاقبيْن عن الفاتيكان على تَغَيُّرِ الزمان، والأمران هما حَلُّ مُنَظَّمةِ اليسوعيين ودعوةُ البروتستان إلى عيد الكنيسة الخمسينيِّ، ويكتسب الكَرْنَفالُ الرومانيُّ المشهورُ شكلًا دوليًّا بهذه الدعوة.

وكانت المدن الثلاث؛ أي المدينة القديمة ومدينة القرون الوسطى ومدينة النهضة، قد أُنشئت متراصفة في رومة، وقد زَيَّنَت رومةُ في القرن الثامنَ عشرَ مبانيَها وطبائعَها وأفكارَها بزخارفَ وَفْقَ موسيقى العصر الإيطالية، وقديمًا كان الناس يَقْصِدُون رومة عاصمةً للإيمان، والآن صاروا يزورون رومة عاصمةً للسُّلْوان، ولم تكن رومة ناضرةً معمورةً في زمنٍ كما في دَوْرِ ازدهار المَرَح، وكانت رومة تغتني حينما تَفْقِد سلطانَها، وكان لا يفوقُها رَوْنقًا غيرُ مدينة واحدةٍ، غيرُ البندقيةِ، لا باريسَ.

واسمعْ ما قاله غُوتِة عن البندقية سنة ١٧٨٦:

ينطوي جميع ما يُحيط بي على أثرٍ عظيم رائع لنشاط بشريٍّ منسجم، على عمل رفيعٍ ساطع تكريمًا لشعبٍ، لا لملِكٍ، وعلى ما يبدو من طَمِّ ضحاضحها الكثيرة الجزائر مقدارًا فمقدارًا، ومن تَمَوُّج الأبخرة الفاسدة فوق المناقع ومن وَهْن تجارتها وانحطاط سلطانها لم يَفْقِد الوضعُ الجامعُ وطابعُ الجُمهورية جواذبَهما قطُّ؛ ولذلك في النفس أثرُ أُسْرَةٍ مُسِنَّةٍ لا تزال جادَّةً مع انقضاء دَوْر ازدهارها وثَرَائها.

ولم يَزَلِ المالُ حتى ذلك الحينِ مُكَرَّمًا في عاصمةِ المَرَح البندقية، مع نيله عن نُهْزَةٍ لا عن جُهْدٍ في الغالب، وكان المال يُنْفَقُ تمتعًا بالحياة من غير توظيف، وما هو المكانُ الذي كان المالُ يُبْذَلُ فيه بأبهجَ مما في البندقية؟ وإلى هذه المدينة كان الموسيقيون والممثلون والقاصُّون والساحرون والمُشَعْوِذُون والمُرَوِّضون والإكليريكيون يأتون فيَتَلَهَّوْن، وكان يذهبُ ويجيء جُمهورٌ متحركٌ في جميع الفصول طائفًا بلا انقطاعٍ في القَنَوَاتِ والميادين مُثَرْثِرًا مُغْتابًا ضاحكًا في نصف النهار وجميعِ الليل، ومن أمثال ذلك الزمن: «قليلُ قُدَّاسٍ في الصباح، وقليلُ لَعِبٍ بعد الظهر، وامرأةٌ في المساء»، ولا مكان كالبندقية كان يَتَسَلَّى ويُضْحَك فيه وتُتناوَل القهوةُ والمرطِّباتُ فيه ويجادَلُ حَوْلَ فلسفة الحياة فيه.

ولم تكن تلك ولائمَ رسميةً أُقيمت لضيوفِ البندقية من أمراء الأجانب وملوكهم، ولم تكن تلك «نُزَهًا» في حدائقَ نَظَّمَها بستانيُّون خياليون وزُيِّنَتْ بفَوَّاراتٍ وتماثيل، بل كانت انسجامًا بين شوارعَ صغيرةٍ وأرصفةٍ ومقاهيَ ومداخلَ خَلْفيَّةٍ لمَسْرَحٍ غُلْدُوني وغُرَفٍ قاتمةٍ لخيَّاطاتٍ ووسيطات. وكانت النساءُ العارفاتُ بأمور الغرام يسيطرن على البندقية، وما كان أحدٌ ليستطيع أن يَمِيزَ الخليلاتِ من سيدات المجتمع بغير لَقَانِيَة الخليلات على ما يُحتمل، وكان مُعْظَم هؤلاء شُقرًا، على أسلوب تيسيان، مع عيونٍ دُكْن، ونساءٌ من هذا الطِّرازِ صِرْنَ ممثلاتٍ للبندقية؛ أي رموزًا لمدينةٍ زاهرةٍ كامدةٍ معًا، وما كان من السوداء السائدةِ لهذه المدينة؛ أي لقَنَوَاتها المُظَلَّلَة وقصورها المختالة ودعائمها البالية المتفتتة بفعل الماء، وما كان من السوداء التي تُشَمُّ مع رائحة النبات المائيِّ، أمران يَسِمَان ابتسامةَ ابنة البندقية ويُنْعِمَان عليها بفُتُونٍ لا تجده في الباريسية الرزينة الحَذِرة.

وإذا ما وَصَل فيلسوفٌ أو رجلٌ سياسيٌّ أو سائح في أثناء الكَرْنَفال لم يُبْصِرْ مَنْ ظَلَّ حيًّا من الطبقة الأريستوقراطية القديمة، فكانت جميع الطبقات تَلْبَس على طرازٍ واحدٍ، وكان جميع الناس يَدَّثرون بمعاطفَ وشالاتٍ من نوع واحد ويَعْتَمِرون بقلانسَ مثلثةِ القُرَن من جنس واحد، وكان الجميعُ يَزَّيَّنُ بألوانٍ مُنَوَّعَةٍ في دار التمثيل والمراقص، وكانت جميع المدينة تُحْيي مَسَاخِرَ أشهرًا مع تَفَرُّغ الجميع لأعمالهم، وكان طرازُ العيش هذا هو من الشذوذ والفُتُون ما يجتذب إليه الناسَ من جميع جهات العالَم، ولَمَّا مات رئيس البندقية في فبراير سنة ١٧٨٩ كُتِمَ نبأُ موته أطولَ زمنٍ ممكن لكيلا يُكَدَّرَ الكَرْنَفال.

وتُنْجِب البندقيةُ، في ذلك الزمان، بأشهر أبنائها بعد تيسيان، تُنْجِبُ برجلٍ كان يَعْلَم كلَّ شيء، وكان لا يَعْلَم شيئًا، تُنْجِبُ برجلٍ كان يَفْتِن الدنيا بمُخَادعتها مع سُخْرِيته، وما فيه من دَمِ أبيه الإسبانيِّ كان يجعله قادرًا على تمثيل دَوْرِ دُون جُوَانَ الذي تَحَوَّل إليه في نهاية الأمر، ويُسْجَن في الثلاثين من سِنِيه فيفرُّ بعد سنةٍ منقِذًا نفسه بالسُّقوف الرَّصاصية، ويَنْبُل بسلطانه الخاصِّ ويَسِيحُ في جميع أوروبة، ويَرْجِعُ إلى البندقية ابنًا للخمسين، ويُنْفَى مُجَدَّدًا ابنًا للستين، وأخيرًا يكون الرجلَ الذي يُخَلِّدُ أعضاءَ السِّنَات والأدباءَ والوسيطاتِ، ونساءَ البندقية المُتَرَجِّحاتِ بين الراهبات وزوجاتِ الدوكات على الخصوص، ويَسُرُّه أن يُحْيِيَ جميعَ ذلك الكَرْنَفال في مُذَكِّرَاته التي كتبها في السبعين من عمره دفعًا لِسأَمه في قَصْرِه المُنْعَزل.

وينتسب كازَانُوفا إلى فصيلة المستهزئين في البحر المتوسط، إلى فصيلة أريستوفان وأُوفِيد وأَرِتِن، ويقيم هذا الرجلُ دليلًا على الحيوية التي يبعثها البحر المتوسط في أحسن بنيه، والذين قاموا بمغامرات غرامية كثيرةٍ وحدَهم هم الذين يمكنهم أن يُقَدِّروا صِدْق مذكرات كازانوفا التي وُصِفَت بالمبالغة والحَذْلَقَة كما وُصِفَتْ مُذَكِّرات مارْكُوبولُو، ومَنْ يحاول من الشُّبَّان أن يتعلم أعمالَ الغرام منها لا يَجد فيها أكثر مما يَجِد في ديوان أُوفِيد، ومَن يَوَدُّ من الشِّيبِ أن يَتَعَزَّى عن مجاوزته سِنَّ المعاشق بمطالعة هذه المُذَكِّرات يَخْرُج مُخادعًا عامًّا. وهذا الكتاب، الذي كتبه عظيمٌ من العارفين بالمغامرات الغرامية في جميع الأزمنة، خاصٌّ بالراشدين من الرجال والفاضلات من النساء، وهذا الكتابُ أكثرُ صدقًا مما يَظُنُّه أبناء الطبقة الوسطى، وهذا الكتاب مملوءٌ فلسفةً بأكثرَ مما يعتقده العلماء، ويمكن تشبيهه بمَرْكَبٍ شِرَاعيٍّ يجاوز خليجًا ذاتَ صباحٍ مُشْرِقٍ رَيِّحٍ٩ على حين يُحَرِّك وجهَ الماءِ الأزرق نسيمٌ عليل، ولا مَعْدِلَ لِمَنْ يرغب في إدراك أمر البحر المتوسط عن معرفة كازَانُوفا كما تُعْرَف كليُوباتْرة ومعبدُ بسْتُوم وفِينُوس دُوميلو والقرنُ الذهبيُّ الاسْتانبوليُّ. والواقعُ أن كازانوفا مَثَّلَ النشاطَ الحيويَّ البهيج الذي يَشِعُّ من جميع وجوه البحر المتوسط وأعمدته وتماثيله وخلجانه.

ومن المحتمل أن تكون الصَّبَابةُ إلى الوطن هي التي أَدَّت إلى رَوْعَة كتاب كازانوفا؛ وذلك لأنه كُتِب في الشمال البارد الذي حُفِظَ فيه عن مصادفةٍ ساخرة مستمرة، ولَا يَعْرِف العالَمُ غيرَ جزءٍ منه، ويرقُدُ جزؤه الآخرُ بلِيبزِيغَ في صُنْدُوقِ ناشرٍ خَجِلٍ موروثًا عن أجداده.

١٠

قُورْسِقَةُ أجملُ جزائر البحر المتوسط على ما يُحتمل، ولقُورْسِقَة على الخريطة أكثرُ المناظر انسجامًا، وهي تظهر على الخريطة ورقةً كثيرة التفاريض مع عِرْقٍ حادٍّ نحو الشمال ومع انبطاحٍ تجاه الشمال والجَنوب، ويَنِمُّ شكلُها على اعتدالٍ لا يَعْدِله غيرُ اعتدالِ أقريطشَ المستلقيةِ من الشرق إلى الغرب، ولقورسقةَ انسجامٌ ملائمٌ أيضًا، وعلى ما لقورسقةَ من اتساعٍ أعظمَ من مُعْظَم الجُزُرِ الأخرى تَجِدُها من الصِغَر ما يستطيع به الإنسانُ الواقفُ على ذُروة الجبال العالية القائمةِ في وسطها أن يُبْصِرَ البحرَ المحيطَ بها، كما يُبْصَر من مركز البِلُوُبونِيز المرتفع.

ويجد الزائرُ هذه الجزيرةَ تابعةً لهواها اتباعَ المرأة الفَتَّانة، وهذه الجزيرةُ حُلْوَةٌ مُشْمِسَةٌ في شواطئها مُوحِشَةٌ جامحةٌ في داخلها، وتجتمع جميع أشجار البحر المتوسط هنا ضمن مَسافةٍ صغيرة، فيلوح أن غابةَ الجبالِ الدائمةَ الخُضْرَةِ موجودةٌ هناك منذ أقدم الأزمان، وهي رطيبة ظليلة كالأَيْكَة الاستوائية، وعلى العكس تزدهر السواحل برياضٍ غُنٍّ كرياض صِقِلِّيَّة، وفي هذا سِرُّ ما تراه من اختلاف كبير في الأجواء مُؤَدٍّ إلى تكوين أناسٍ ذوي حُمَيَّا، وخاصِيَّةُ قُورْسِقَة، أو الظاهرةُ التي لا تبصرها بارزةً في مكانٍ بالبحر المتوسط كما في قُورْسِقَة على الأقل، هي أرِيجُها، هي عِطْرُها القويُّ الذي يُشَمُّ من السفينة التي تدنو من الشاطئ، وهذا هو شَذَا الغابة الصغيرة المستورة بالعَوْسَج والشجر الصغير والمعروفةِ بالماكِي؛ أي المشتملةِ على خليطٍ من المُرِّ الصافي والغار والسَّعْتر والعَبَيْثُران والرَّتَم وأعشابٍ أخرى تَسْتُرُ أرضَ مِنْطَقَةٍ متوسطةِ الارتفاع، وتُزْهِر في جميع السنة تقريبًا، ويُمْكِنُ القُورْسِقِيَّ الذي يُؤْتَى به في منامه على زورقٍ إِلى بلده، كأُوليسَ، أن يَعْرِف جزيرتَه من طِيبِها.

ويعيش الكَرَّامون والصَّيَّادون على الشاطئ، ويُقِيمُ بالمُدُن الصغيرة المَوْسُومَةِ بطابع القرون الوسطى أصحابُ السُّفُن والتجارُ، وهنالك يُتَّصَلُ بالعالم الخارجيِّ، وعلى العكس لا يزال يعيش في داخل الجزيرة رجالٌ صامتون ونساءٌ صَوَارِم يَسِيرُون عن أخلاقٍ ووطنية، وتُسَاورُهم رغبة مُلِحَّةٌ في حماية أُسَرِهم وجزيرتهم فلا يَجْذِبهم إلى البحر ميلٌ إلى السلطان أو المال، وما فتِئُوا يشتعلون حبًّا للثأر كما في الماضي، وتُعَدُّ الأُسْرَة مقدسةً عندهم كما في إسبانية الوسطى، ويَنْجُم عن هذا إخلاصُ القورسقيين البالغُ تجاه وطنهم الصغير، وقليلًا ما يبالون ضرورة تناولِهم معظمَ غذائهم من البلد الأمِّ مع أن جزيرتَهم لا تُنتج غيرَ الخمر والزيتون والفواكه والخُضَر وخشبِ الإصدار.

ويأتي هؤلاء الناسُ الجامحون، الذين يلوح انتسابُهم إلى جيلٍ آخرَ، بعُمَّالٍ موسميين من البلد الأُمِّ لزراعة الأرض وقَطْع الغاب، وهم يسيرون في هذه الأثناء على سُنَّة أجدادهم فيذهبون لصيد الطرائد والطيور والنَّقْطَ والجِرِّيث١٠ في سُيُول الجبال، ويحافظ الكَرَّام الفقيرُ على خُيَلَاءِ ملكٍ، ويُضَيِّفُ الغريبَ، ولكنه إذا عَلِمَ أن أُسْرَةً معاديةً قد اقْتَبرَتِ الغريبَ أَغْلَقَ بابه دونه من فَوْره. وإذا ما نظرتَ إلى هذه العادات الاستقلالية فأبصرت شِدَّةَ مَقْتِ العمل وتنازعِ الأُسَر، وَجَدْتَ شأن السياسة في الجزيرة كما في اسكتلندة حيث أنتجت الجبال رِجالًا ذوي مِزاجٍ مماثل مع الفارق القائل إِن هؤلاء شماليون كُيِّفُوا بالضَّباب والبَرْد.

وقد أَدَّتْ هذه العُنْجُهيَّةُ المُضَادَّةُ للأجنبيِّ، والتي يُكْتَبُ لها البقاءُ في جزيرة أكثر مما في بلدٍ من القارَّة، إلى مقاومة القورسقيين كلَّ دولةٍ أجنبية تريد الاستقرارَ بالجزيرة، وما كان القورسقيون ليُطِيقُوا قرطاجة ورومة حينما تقاتل هذان البلدان في سبيل تَمَلُّكِها، ولما صارت جزيرتهم ولايةً رومانية عَرَضُوا على المُبْعَدِين السياسيين، كالشابِّ سِنِيكا مثلًا، ملجأً رَغَدًا تَرْضى رومة عنه.

وقد حاولت جميع الأمم التي استولت على البحر المتوسط في الألف الأول من السنين بعد الميلاد، أن تستولي على قورسقة لموقعها المِثَالِيِّ الصالح لإنزال الضَّرَبات والقيام بالقَرْصَنَات بين نيسَ وجِنِوَة ولِيفورْن ورومة. وقد نال الوَنْدال شرفَ تخريبهم غاباتِ الجزيرة الابتدائية لإنشاء أسطول، وقد نزل القُوط واللُّنْبارُ إلى الجزيرة وانهمكوا في النهب، وتصبح بزنطة سيدةَ الجزيرة فتُمْقَتُ لجبايتها ضرائبَ ثقيلةً، ثم تنتقل قورسقة في ثلاثة قرونٍ من أيدي العرب إلى أيدي الفَرَنْج، ومن كُونْتاتِ توسْكانَة إلى العرب.

ثم يُسْفِر عَزْمُها على الاستقلال عن نيلها في القرن الحادي عشرَ نصرًا على الأمم البحرية المجاورة، ويُقَام مثلُ جُمهوريةٍ في شمال الجزيرة مع نظامِ انتخاباتٍ وعددٍ غيرِ قليلٍ من الموظفين ورايةٍ وميزانية … ولم تَدُم هذه الجُمهورية زمنًا طويلًا، ويُكَدِّر ما بين دول القارَّة من نِزاعٍ صَفْوَ حياة هذه الجزيرة الصغيرة العاطلة من الدفاع، وتُصْبِح بيزة ثم جِنوَة صاحبتي قورسقة، ثم يُعَيَّن كونتٌ قُورْسِقيٌّ بفضلٍ من فرنسة، ويُعَيَّن في الوقت نفسه أميرٌ إقطاعيٌّ آخرُ من قِبَل مَلِك أرغونة، وتقع معاركُ بحريةٌ على السواحل وتُبْنَى حُصُونٌ هنالك، ويَملِكُ بَنْكُ سان جُورْج شمالَ الجزيرة مواجهًا لجنوة، ويَصِلُ دوكاتُ آلِ سفورْزا من ميلان، ويَقْهَرُ مرتزقةُ البَنْكِ كتائبَ سفورْزا بعد معاركَ طويلةٍ ويُعْلِنُ كونتاتٌ جُدُدٌ من ذوي الألْقاب الضخمة أنهم سادة الجزيرة.

ولم يَسْطِع القورسقِيون أن يقاتلوا هؤلاء الفاتحين بغير العِصابات والاغتيالات وبما لا حَدَّ له من التقتيل، وكانت قسوةُ بنك جِنوَة ومرتزقته أسوأَ ما يعانيه أهل قورسقة، وقد أوجبوا في داخل الجزيرة، عن انتقامٍ، حالًا من الفوضى لم تنقطع كما أن المنازعاتِ الخارجيةَ لم تَنْتَهِ. وقد قاتل الفرنسيون والتركُ المتحالفون ما في الجزيرة من ألمانٍ وإسبانٍ مدة ثلاث سنين، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول أيُّ الفريقين كان القورسقيون يُؤَيِّدُون. ويرى قِسِّيسٌ إيطاليٌّ دَرَس الأحوالَ التي كانت تَسُودُ الجزيرةَ في عهد حكومة جديدة قائمة بجِنوة، أن أعمال الثأر أسفرت عن قتل أكثرَ من ألف نَفْس في كل سنة من دَوْرٍ دام عشرين عامًا.

وقد حاول مغامرٌ ألمانيٌّ اسمه البارون ثيودورفون نُوهُوف أن يستغلَّ إحدى الفِتَن الكثيرة التي اشتعلت في قورسقة ضدَّ جِنوَة، ويسير على غرار «جَوَّابي الآفاق» من الألمان المعاصرين فينقل رجالًا وأسلحةً إلى الجزيرة بالتدريج «تحريرًا» للقورسقيين الذين وَعَدَهم بمساعدة أوروبة، ويطالب بسيادة الجزيرة ثمنًا لذلك، ويَقْبَل الفَلَّاحون والصَّيَّادون والمقاتلون المحتاجون إلى البنادق والقذائف اقتراحَه ويُتَوَّج البارون ملكًا لقُورْسِقة باسم ثِيُودُورَ الأول كما يقع في المسارح، ويَلْبَس حين تتويجه مِعْطَفًا أحمرَ وسراويلَ تركيةً وعَمْرَةً إسبانية ذاتَ ريش، وتمضي بضعة أشهر فيَرى من الحَذَر أن يغادر الجزيرة، ويعود إليها بمساعدة الإنكليز ليتوارى نهائيًّا مع القضاء على كلِّ نفوذٍ ألمانيٍّ في الجزيرة.

ويبرز في أثناء المنازعات الدائمة، التي ملأت الدَّوْرَ القادِم مدةَ ثلاثين سنةً، رجالٌ ممتازون من أبناء الأُسَرِ القديمة، ولا سيما بسْكالِي دِي باوْلِي المشهورون، وما كان يَغْلِي في النفوس من غِلٍّ ضِدَّ جِنوَة أعظمُ مما ضِدَّ فرنسة. ومع ذلك كان أعظمَ نبأٍ لدى هؤلاء الجَزَرِيِّين ما عَلِمُوه في سنة ١٧٦٨ من بَيْعِ تجارِ جِنوَة جزيرتَهم من الفرنسيين، وقد دامت مقاومةُ قورسقةَ بقيادةِ باوْلي سنةً واحدة، وكان الرجلُ الذي يَلْقَى منه أشدَّ تأييدٍ في المجلس محاميًا ونائبًا يُدْعَى كارْلُو بونابارت، وقد قُضِيَ على المقاومة في صيف سنة ١٧٦٩، ودخل الفرنسيون جزيرةَ قُورْسِقة. وقد وَضعت زوجُ بونابارتَ ابنَها الثاني في تلك الأسابيع، وقَيَّدَ أبوه اسمَه في السجلِّ الفرنسيِّ حاقدًا في قلبه، ولا يزال السجلُّ معروضًا في منزله حتى اليوم، ويُسَمَّى الوليدُ نابليونَ عند عِمَادِه؛ أي يُطْلَقُ عليه هذا الاسمُ الذي كان منتشرًا في الجزيرة بعضَ الانتشار.

١١

من أعظم غرائب التاريخ أن يَجْهلَ أشهرُ ابنٍ للبحر المتوسط فَنَّ المِلاحةِ جهلًا تامًّا، ومع أنه نشأ على الشاطئ ابنًا صميميًّا لقورسقة وَلَّى وَجْهَه قِبَل اليابسة حيث كان يقوم منزلُ أبيه القائمُ على مكانٍ صغيرٍ بعيدٍ من الميناءِ ثلاثَ دقائقَ، ويواجه هذا البيتُ الجبلَ، ويُوَلِّي البحرَ ظَهْرَه. ولو رَجَعْتَ بصرك إلى تاريخ قورسقة الحافلِ بالمعارك، لوجدتَ أبطالًا من جميع الأنواع، ولوجدتَ روائعَ دفاعٍ في غابات الجبال الكثيفة، ولكن من غير أن تَرَى مَلَّاحًا كبيرًا واحدًا.

أَجَلْ، كان يوجد في القرون القديمة؛ أي في عهد الأغارقة والفنيقيين، أمراءُ بحرٍ أيضًا، غير أن قيصرَ، الذي وُلِدَ بُعَيْدَ انتصار وطنه على قرطاجة فصار هذا الوطن سيدًا مسيطرًا على البحر المتوسط، لم يَصِرْ أميرًا بحريًّا كبيرًا قَطُّ. وكان أمرُ أغسطس أقلَّ من هذا، وقُلْ مثل هذا عن الإسكندر الذي لم يَغْدُ بطلَ البحر مع قُرْبه من البحر المتوسط، وقُلْ مثلَ هذا عن جميع أباطرة بزنطة وعن جميع قُوَّادهم المشهورين، ولم يكن التركُ ولا الإسبان ماهرين في المِلَاحة، ولم يكن محمدٌ الثاني وسليمانُ وفرديناندُ وحفيدُه شارلكن عارفين بالمِلَاحة مع ما نالوه من انتصارات كثيرة، ويُعَدُّ أَغْرِيبا ودُونْ جُوَانُ النمسويُّ وأَنْدرِه دوريا من الشَّواذِّ.

وأقلُّ من ذلك وصفُ الغرباء الذين سيطروا على البحر المتوسط بالأبطال البحريين، وكيف كان يمكن العربَ في صحرائهم والوَنْدالَ والقُوطَ في غاباتِهم الابتدائية أن يَتَعَلَّمُوا المِلاحة؟ وقد وَصَل النورمان وحدَهم من بحرٍ آخر، وقد نالوا من النجاح ما ناله بعدهم شَعْبَا البحر: الإنكليز والهولنديون، غير أن هؤلاء الأبطالَ لم يُولَدُوا على شواطئ البحر المتوسط. وقد أنجب هذا البحر بقُوَّادٍ عِظَامٍ وأنتج مثالَ الزَّعامة وأوجب ظهورَ علماءِ هيئةٍ ومَلَّاحين فُضَلاءَ رَادُوا ساحلَهم الخاصَّ وسواحلَ البلدان الأجنبية، غير أنه تَرَكَ المعاركَ البحرية الحقيقية للقراصين، وقد فاز هؤلاء في معاركَ صغيرةٍ ما عادت المعاركُ الكبيرة التي تشترك فيها أساطيلُ بأجمعها غيرَ موجودة.

إِذَنْ، واصَلَ نابليونُ الجاهلُ أمورَ المِلاحة تقاليدَ أبطال البحر المتوسط وتقاليدَ وطنِه الصغيرِ قورسقةَ، ومن الرَّزَايا أن ساورته خِططٌ شاملة لا تُحقَّقَ إلَّا على البحر، ولا سيما البحرُ المتوسط، ومن الواقع أن كان يشعرُ بحبٍّ لهذا البحر الذي كان مِثْلَ مُرْضِعٍ له فلا يقابله هذا البحر بِمثْل حُبِّه، وكان البحر المتوسط يَتَعَهَّد رُؤَى فُتُوحه على حين كان في مكافحته إنكلترة لا يَرَى أمامَه غيرَ قناةٍ ضَيِّقَة تَحُولُ دون تحقيق خِططه. وكان أسلافُه الرومان قد نقلوا فَنَّهم الحربيَّ البَرِّيَّ إلى البحر فاخترعوا ما بين الظَّهْرَين؛ أي ما يمكنهم أن يَبْلُغُوا به مركبَ العدوِّ فيحاربوه كما لو كانوا على أرضٍ متحركة، وذلك بأسلحةٍ جَرَّبوها على اليابسة. وكان النصرُ يُكْتَب لنابليون في البَرِّ دومًا تقريبًا، ولم يُنْصَرْ نابليون في البحر قَطُّ، ولم يَتَوَانَ نابليون في توجيه خِطَطِه الجامعةِ نحو البحر المتوسط في أروع أدوارِ عَمَلِه؛ أي حينما كان جنرالًا وقنصلًا، وهنالك كان يَحْلُم بإحياء الإمبراطورية الرومانية بعد أن أَخْضَع إيطالية وإسبانية ومصر، وهذا هو دَوْرُه القيصريُّ، وقد أراد أن ينال الهند في أثناء احتلاله الإسكندرية لأنها إنكليزيةٌ فقط، ولكن مع معرفته أنه لا يستطيع الوصول إليها إلا بالبحر المتوسط، وفي هذا سِرُّ ما أراده من السيطرة على هذا البحر، وقد قضى ما يمكن تسميته بالدَّوْر الكارُولِنْجِينيِّ بين سنة ١٨٠٣ وسنة ١٨١٠، حين عاد يكون رجلَ القارَّة مُنَظِّمًا أمرَ تتويجه وَفْقَ طراز القرون الوسطى، فَصَرَّح لنَجِيٍّ في ساعة نصفِ جنونٍ من نهارٍ ﺑ «إنني شارْلُمان!»

وكانت جميع نماذج الماضي تُبْعَثُ في نفس نابليون، وكان باوْلي أولَ مَن اكتشف صفاتِ نابليونَ العظيمةَ مع أن نابليون كان في الخامسةَ عشرةَ من سِنِيه، فقال له: «وأنت من رجال بلوتارك!» ومن الطبيعيِّ أن يلائم نابليونُ الواقعيُّ أحوالَ حياته اليومية، ومع ذلك كانت تُحَلِّقُ أحلامٌ بالمجد الشامل وبالتاريخ فوق حوادث حياته العادية وفيما وراءَها، ولو لم يَحْلُم نابليون بأسلافه العظماء ولو لم يقرأ نابليونُ كتاب بلوتارك ما أمكن تفسيرُ عَمَله. ولَمَّا جَلَبَ الجنرالُ بونابارتُ جيوشًا ومبادئَ ثوريةً إلى إيطالية استقبله الشعب كمنقذٍ له من النِّير النمسويِّ، وقد رَحَّبَت جميعُ أوروبة، وإسبانية أيضًا، بالمبادئ الجديدة العظيمة مسرورةً. وقد ظَلَّت روسية التي كان يسودها نظامٌ استبداديٌّ وإنكلترة التي كان يسودها نظامٌ حُرٌّ وحدَهما خارجَ هذه الحركة، ظَلَّ القيصرُ خارجَها لأن اعتناق مثل هذه المبادئ يؤدي إلى ضَياع عرشه، وظَلَّت إنكلترة خارجَها؛ لأنها كانت أكثرَ اكتراثًا لإمبراطوريتها مما لحرية أوروبة. ومع ذلك فإن عَدَاوَة إنكلترة لفرنسة الجديدة بدأت قبل بونابارت، وقد دخل أسطولٌ بريطانيٌّ ميناءَ طُولُون سنة ١٧٩٣ تلبيةً لطلب السكان الذين دَعَوُا الإنكليز لمساعدتهم ضدَّ اليعاقبة كما صنع بعضُ الروس ضِدَّ البَلَاشِفة حَوالَي سنة ١٩٢٠، ويُوَفَّقُ بونابارت لطرد الإنكليز، ولم يُعَتِّم الإنكليز أن أضاعوا قورسقة التي كانوا قد احتلُّوها.

وسقطت إيطالية بين أيدي الفرنسيين بسهولة بعد أن قهر نابليون النمسويين فيها، والواقعُ أن إيطالية كانت في القرن الثامنَ عشرَ منهوكةً أكثر من فرنسة المَلَكيةِ السابقة، ويَدَع البابا دُوَلَه الدينيةَ قبضةَ الفرنسيين بلا مقاومةٍ تقريبًا، ولا يحول دون قيام جُمهوريةٍ في رومة بعد انقطاع ثمانيةَ عشرَ قرنًا خلَا بضعَ فواصلَ. ويعتزل الأريستوقراطيون الذين حَكَمُوا في البندقية مدةَ ثمانية قرونٍ من غير رَفْع عقيرةٍ، ويُبْدِي الشعب من الأسف على تواريهم ما هو أقلُّ كثيرًا من أسفه على الحُصُن البرونزية الأربعة التي صنعها ليِزِيب فسَرَقَتْها بِزَنْطَةُ من الإغريق ثم جاء بونابارت فأخذها من البندقية.

ومع ذلك جلب نابليون إلى الطلاينة مقابَلَةً ما قامت به الثورة الفرنسية من المُثُل العليا الجديدة، ولم يلاحظ الناسُ في البُداءة أنه لم يكن في الأمر غيرُ تغييرِ سَيِّد. وتصبح جِنوةَ ولنباردية وجميعُ الولايات جُمهورياتٍ بلا مقاومةٍ تقريبًا مع أسماءٍ وشعائرَ رومانية، ويُلْزَم ملوك بيِمُونَ ونابل وهابِسْبُرْغيو توسكانة بالتنزل عن العروش، والبُورْبُون وحدَهم هم الذين استطاعوا حفظَ مناصبهم في صِقِلِّية بفضل تأييد إنكلترة، وتَغْدُو إيطالية كُتْلَةَ جُمهورياتٍ بسرعة البرق. والواقعُ أن جميع ذلك لم يكن لدى الفاتح الشابِّ غيرَ جُسُورٍ على البحر المتوسط ما كَتَبَ يقول لحكومة الديركتوار في ذلك الحين إن كورفو وزانتة وسِفَالُونية أثمنُ من جميع إيطالية ومن مالطة الموصوفةِ ﺑ «مستودع أوروبة».

وكانت خِطط نابليون في البحر المتوسط مُوَجَّهَةً ضد إنكلترة القابضة على الهند كأثمن ممتلكةٍ لها بعد ضَيَاع أمريكة، ويلوح أن نابليون أدرك منذ البُداءة تَعَذُّرَ الاستيلاء على بريطانية العظمى فَحَوَّل خِططه شَطْرَ الهند، وكان مثلُ هذه الخِطة يَظْهَرُ أشدَّ وَهْمًا في سنة ١٨٠٠ مما في أيامنا التي تُقَلِّلُ قناةُ السويس والطائراتُ جميعَ المسافات فيها، وتجلو البحرية البريطانية عن البحر المتوسط لتُحاصِر الإسبان في قادس، ويعتقد نابليونُ حلولَ الوقت الملائم فيُبْحِر إلى مصر.

ويقول نابليون لأحد خُلَصَائه إنه عازم على قضاء ستة أشهر أو ستِّ سنين في مصر تَبَعًا لاحتياج فرنسة أو الشرق إليه، ولم يكن نابليون ليَعْرِف، بعد أن غادر أسطولُه المؤلفُ من أربعمائة سفينة شراعية خليجَ طولونَ وابتعد عن الشاطئ، محاولةَ ثلاثةٍ من رَبَابنة البريطان اكتشافَ العدوِّ الذي يُظَنُّ اتجاهُه نحو صِقِلِّية بمَنَاظِيرهم. ومن المحتمل أن تكون الزوبعة التي حَمَلَته على تأجيل سفره يومًا واحدًا قد أنقذته من نِلْسنْ الذي قال مغاضبًا: «في هذا الشيطان عِرْقٌ من الشيطان!» ويقضي بونابارت أسابيعَ مَسِيره الأربعةَ في سَريره غالبًا لعدم احتماله البحر دالًّا بذلك على درجة بُعْدِه من العنصر البحريِّ.

ولم يقطع البحرَ المتوسطَ من قَبْلُ أسطولٌ مثلُ هذا قَطُّ، فقد كان يشتمل على جامعةٍ عائمةٍ حقيقية فضلًا عن ألفي مِدْفع، وقد كان القائد يُرَاعِي ويذاكر ١٧٥ عالِمًا مُزَوَّدين بمئات الكُتب والأجهزة مُلَقَّبِين ﺑ «الحمير» من قِبَل المَلَّاحين، وقد كان القائد يُفَضِّلُ بلوتاركَ أو معاركَ الإسكندر عندما يَحْمِل على القراءة، وكان القرآنُ والتوراة يَبدُوَان بين «الكتب السياسية.» ومما كان يَحْدُثُ أحيانًا أن يَعْقِدَ للأَكادِيميةِ اجتماعاتٍ في السفينة فيَحْمِلَ اثنين من الخصوم على المناظرة حول موضوعٍ مُنْتَخَب، ومع ذلك كان يُرَى أن هذا الجهازَ العلميَّ خادمٌ لمجده على غِرَار الإسكندر.

وقد عالجنا موضوعَ حملةِ نابليون المصريةِ في كتاب آخر، وقد كانت هذه الحملةُ في مجموعها أَثرَ هَوَسِ شابٍّ ألمعيٍّ مُوَفَّقٍ في مشاريعه، جَهَّزته حكومةُ الديركتوار بما هو ضروريٌّ من الوسائل تَخَلُّصًا منه.

وكان نِلْسن الإنكليزيُّ أقوى منه بحرًا، وكان بونابارت يعتمد على ضباطه البحريين في توجيه المعركة عندما هاجم نِلْسنُ الأسطولَ الفرنسيَّ في خليج أبي قير بالقرب من مصبِّ النيل. وكان القائد الفتي بونابارت قد قاد ستين معركةً في البرِّ من خيمته تارةً وفي الجبهة تارةً أخرى، ومما كان يقع أحيانًا أن يحارب شخصيًّا حاملًا البندقية بيده، وهو، على العكس، لم يُرَ قَطُّ فوق سفينةٍ في أثناء معركة، وهو إذا ما فَكَّرَ في سلسلة المعارك الكثيرة التي عَيَّنَتْ مصير الشعوب على شواطئ البحر المتوسط حار من قِلَّة ما وقع منها في البحر. ولم يكن لمُعْظَم المعارك البحرية غيرُ أَهميةٍ نسبية، ومن المحتمل أن كانت نتائجُها أقلَّ أثرًا من أعمال الهَوْل التي يأتيها هؤلاء القراصين ومن تخريباتهم. ومَن ينظرْ إلى تاريخ البحر المتوسط في ثلاثة آلاف سنة يَجِدْ فيه أربعَ معاركَ حاسمةً بالحقيقة، يَجِد فيه أن الأغارقة قهروا الفرس في سَلَامِين سنة ٤٨٠ قبل الميلاد، وأن سُفُن أُكتافيوس غَلَبَت سفن أنطونيوس وكليوباترة في أكسيوم سنة ٤١ قبل الميلاد، وأن الحليفتين إسبانية والبندقية غَلَبتا الترك في ليبانتة سنة ١٥٧١، وأن نِلْسن غَلَب الجنرال بونابارت في خليج أبي قير سنة ١٧٩٨، وقد وقعت هذه المعارك الأربع بين أول أغسطس وأول أكتوبر، وقد وقعت المعارك الثلاث الأولى منها على الشاطئ اليونانيِّ قريبًا بعضُها من بعض، وليس لدينا غيرُ وصفٍ مبهم أو مشكوكٍ فيه عن الغالبين الثلاثة الأولين: تِمِسْتُوكْلَ وأَغْرِيبَّا ودُون جُوَانَ النمسويِّ، وينتسب ثلاثة من أبطال البحر المتوسط هؤلاء إلى الطبقة الوسطى، وإذا عَدَوْت تِمِسْتُوكْل وَجَدْتَهم قد حاربوا مستخدَمين لدى سادةٍ أو ملوك لا يَعرِفون من المِلاحة شيئًا، ولم يُصْرَع أيُّ واحد منهم في تلك المعارك، وزاول الأربعةُ السياسةَ، زَاوَلَها اليونانيُّ والرومانيُّ رئيسَيْ دولةٍ وزاولَها الآخران ابْنَي وطنٍ.

وكان لهؤلاء الأربعة، ولليونانيِّ على ما يُحتمل، علاقاتٌ بنساءٍ في الغالب حتى إنهم كانوا يُوَجَّهُون من قِبَلِهنَّ أحيانًا، وكان الأربعة منغمسين في المكايد مَدَى حياتهم، وكان الأربعة من ذوي النَّزَق، وكانوا يُحِبُّون الجاه والفَخْر في الوقت نفسه، ويبدو أنه كان يوجد فيهم عِرْقٌ شِعْرِيٌّ، وقد نالوا انتصاراتِهم في شبابهم، ونِلْسنُ وحدَه هو الذي كان في الأربعين من عمره حين نَصْرِه العظيمِ، ولكن مع تَمَتُّعِهِ بشهرة واسعة قبل ذلك، ونِلْسنُ وحدَه هو الذي قُتِل في إحدى المعارك بعد زمن، وطَرَد الأَثَنِيُّون تمِستُوكل بعد نصره ببضع سنين، فمات في منفاه عند العدوِّ الفارسيِّ.

وإذا قابلنا بين ما لنصرهم من مَدًى رأينا الصدارة للإغريقيِّ، فالرومانيُّ لم يَهْزِم سوى رومانيٍّ آخرَ كان يمكنه أن يقوم بشئون الحكم مثله على ما يُحتمل، ولم يُتِمَّ الإسبانيُّ شيئًا من الناحية السياسية، وأما الإنكليزيُّ فقد تَرَك عَدُوَّ بلده الأزرقَ يُفْلِت ولم يُقْضَ على أسطوله الحربيِّ إلا بعد سبع سنين، وتِمِسْتُوكْل أعظمُ الأربعة، ولو من أَجْلِ إنشائه أسطولًا قاده بنفسه بعد منازعاتٍ سياسية طويلة، وهذا إلى أنه الوحيدُ الذي نال النصر في البَرِّ.

ومن الواضح أنه لم يكن أميرَ بَحْرٍ عظيمًا فقط، بل كان عبقريًّا كبيرًا أيضًا.

١٢

إذا ما أنعمنا النظر، بعد بلوغنا هذه المرحلة، في المراكب المعروفة بالغَالِير، كما تبدو لنا في نقوش القرن السابعَ عشرَ والقرن الثامنَ عشر، ظَهَرَ لنا أنها سُفُنٌ زُيِّنَت من أَجْلِ عيدٍ أكثر من أن تكونَ سفنًا حربية، وقد كانت عُقْفًا في طرفيها على العموم، قصيرةَ السارية في وسطها، فَتُذَكِّرُنا بثياب السيدات الواسعة في عصر المَرَح، وقد كانت الأشرعةُ مُحَدَّبةً تحديبًا مخالفًا للصواب، وقد كانت تُنْصَب خيمة فاخرةٌ مُذْهَبةٌ في مُؤَخَّر المركب، وقد كان يوجد، حتى قبل سنة ١٧٠٠، سُفُنٌ مِدْفَعِيَّةٌ ذواتُ حُمُولةِ ١٦٠٠ طُنٍّ فتثير عَجَبنا.

وكانت السُّفُن الشراعيةُ الصغيرة تَلُوح مرفرفةً راقصةً كسِرْب الفراش، وكانت ذواتَ أربعةِ أَشرعةٍ صغيرة مُنَضَّدَة في مقدمها، وكان يُنْصَب فوق هذه الشُّرُع شراعان مُرَبَّعان مختلِفا الأبعاد، وكان يُنْصَب في الوَسَط شراعٌ كبير مثلث الزوايا كما يُنْصَب في المُؤَخَّرة شراعٌ أعظمُ منه، فإذا ما لَعِبَت الرِّيح في هذا البناء الخياليِّ لاحَ نَفْخُ روحٍ في جسمٍ مُرْتَجٍّ ودَفْعٌ له إلى مصيرٍ مجهول.

ولما نال نِلْسن نَصْرَه العظيمَ بأبي قير في أغسطس سنة ١٧٩٨، كان الجنرالُ الفرنسيُّ منقطعًا عن مَسْقط رأسه؛ أي خاسرًا، وقد عَلِم بونابارت في ذلك الحين أن الإنكليز استردُّوا مالطة التي كان قد نزعها منهم، وأنهم احتلُّوا جزيرةَ مَنورْقة وسَرْدِينية وصِقِلِّية، وأنهم أخذوا ينالون من احترام الأمم الأخرى ما يفوق نفوذَه. وبينا كان بونابارت يحتفل في القاهرة بعيده الثلاثينيِّ أبصر أنه مُهَدَّدٌ بحِلْفٍ عظيمٍ بين الدول الكبرى جامعٍ للترك والروس أيضًا، وهنالك يَلْعَب بالجميع من أَجْل الجميع، ويكتب إلى أخيه في ساعة قنوطٍ، بأسلوب فِرْتِرَ العاطفيِّ المَرَضيِّ الذي لا يُرْضيه، فيقول: «لقد استنفدتُ كلَّ شيء.»

ويذهب إلى سورية في هذه الأحوال الصعبة، وتَقِفُه قُوَّاتُ الإنكليز في عكا، ولم يستردَّ نفوذَه إلا باقتحامه جيشًا إنكليزيًّا تركيًّا فوقَ أرضِ مصرَ وسَحْقِه، ولَمَّا تَرَك جيشَه سِرًّا بعد قليلٍ كان يُبْصِرُ هلاكَ هذا الجيش، ويا لها من عَوْدَةٍ قاتمة! ويا للمركبيْن الصغيريْن (لا المراكب الأربعمائة التي حَضَرَ بها) المُطْفَأَيْن ليَمُرَّا من بين الأسطول الإنكليزيِّ في أسابيعَ سبعةٍ حتى وصوله إلى فريجوس! لو وُجِدَ أناسٌ في مثل وضعه رجعوا فارِّين إلى بلدهم لرُفِعَ أمرُهم إلى محكمةٍ ولأُعدموا رميًا بالرصاص، ومع ذلك كان بونابارت بَخِيتًا، فقد كان النصرُ حليفَ أعداء فرنسة في ذلك الحين فاستردُّوا نصف إيطالية؛ ولذا كان بلده محتاجًا إلى القائد الوحيد الذي نال انتصاراتٍ في البرِّ حتى ذلك الحين؛ ولذا يُتَقَبَّلُ بونابارتُ بقبولٍ حَسَنٍ ويُرْضَى به طاغيةً، ويقوم بونابارت بانقلابه في نوفمبر سنة ١٧٩٩ كما لو كان يريد إغلاقَ دَوْر الثورة الفرنسية رَمْزِيًّا مع عَصْرِ التفريط، وهو قد صنع ذلك في أضعف أدوار حياته، وذلك عن شعورٍ بأنه أَسْمَى من منافسيه فقط، ويستردُّ بعد بضعة أشهر جميعَ سابقِ خُسْرِه بانتصاره في مارِنْغُو وطَرْدِه من إيطالية أولئك الإنكليزَ الذين لم يَسْطِعْ أن يَغْلِبهم بحرًا.

ولَمَّا تَمَلَّكَ بونابارت، بمعاهدة أميان في سنة ١٨٠٢، أملاكًا وبلادًا يَضْمَن بها انتصاراتِه أَغْضَى مُضْطَرًّا عن عودة مصرَ إلى تركية عادًّا من حَظِّه عدمَ غُدُوِّها إنكليزية، وقد أُصيب آنئذٍ بهزيمةٍ أدبيةٍ في البحر المتوسط كانت وحيدةً بين أعماله، وذلك أنه أرادَ سَلَامةَ التجارة الفرنسية فعقد معاهداتٍ مع قراصينِ تونسَ والجزائرِ كما صَنَع غيرُه قَبْله معطيًا إياهم جزْية حقيقية، وكان هؤلاء القراصينُ هم السلطةَ الوحيدةَ التي بَرْطَلها نابليون نَيْلًا لرعايتها، وكانت هذه هي هزيمتَه الوحيدةَ حتى مُوسْقُو؛ أي في أربعَ عشرةَ سنة، وتُثْبِتُ هذه الهزيمةُ مرةً أخرى كونَه لم يُخْلَقْ ليحارب بحرًا.

حتى إن الأسطول الجديد الذي أنشأَه على عجلٍ لم يكن من الطِّرَاز الأول، وقد كان لواؤه معقودًا لأمراءِ بحرٍ كانوا قد قاموا بِخِدَمهم أيام الملك؛ وذلك لأن بونابرت لم يكن أهلًا لقيادة الحركات البحرية بنفسه وتقرير أمرها. وقد اشتعلت الحرب الكبرى الثانية نتيجةً لصراعٍ جديدٍ في البحر المتوسط، وذلك لأن الإنكليز كانوا يريدون الاحتفاظ بمالطة من غير أن يعيدوها إلى فرسان مار يوحنَّا، وقد قال نابليون لسفير إنكلترة: «أُفَضِّلُ أن أراكم في مُونْمارْتر على أن أراكم في مالطة، فهذه الجزيرة هي حجر زاوية البحر المتوسط.» ومن ثَمَّ ترى أن المراكز المِفْتاحية كانت راسخةً في روحه رُسُوخَها في روح كُرُومْوِيل قبل زمن، ويظلُّ عاجزًا تجاه إنكلترة مع ذلك، وما صَدَرَ عنه من تصاريحَ في أثناء رحلته التفتيشية ببُولُونِي، حيث رَأَى المراكبَ المُعَدَّةَ للغزوِ، يدلنا على رجلٍ هابطٍ غيرِ مؤمنٍ بفوزه الخاصِّ. وما تَمَّ لِنِلْسن من نَصْرٍ في الطرف الأَغَرِّ قضى إلى الأبد على خِطط نابليونَ حَوْلَ نزوله إلى إنكلترة كما قُضِيَ على خِططه حول البحر المتوسط، وعلى العكس من نابليون قام نِلْسن بأمور القيادة بنفسه في الطرف الأغَرِّ كما في أَبِي قير، وقد صُرِع نِلْسنُ في أثناء المعركة، وقد امْتُقِع الإمبراطورُ بباريسَ عندما عَلِم نبأَ غَلَبِه.

فأَمَا وقد دَرَسَ المؤرخون هذه المعركة في أكثرَ من قَرْنٍ لا نرى ذلك النصر في ذلك اليوم من أكتوبر مدينًا للحَظِّ، بل مدينٌ للتقاليد وللقدرة البالغة والقيادة اللامعة، وتدوم المعركة خمسَ ساعاتٍ فيُقْضَى على البحرية الحربية الفرنسية، ويَقْبِض الإنكليز على سبعَ عشرةَ سفينةً من ثلاث وثلاثين سفينةً، وتُثْبِت هذه المعركة مرةً أخرى عدمَ سلطانِ نابليونَ على البحر. والواقعُ أن أميرَ بحرٍ كان يجب تبديله في آخرِ دقيقةٍ لم ينتظر ساعةَ زوالِ حُظْوَته فغادر مرفأ قادس من تلقاء نفسه؛ أي أتى عملًا كان لا يُقْدِم عليه قائدٌ في البرِّ. ولم تصدر الكلمةُ المشهورة التي بقيت لنا حَوْل هذه المعركة عن نِلْسن كما نَعْرِفُها، وذلك أن نِلْسن كان معتقدًا ما ينطوي عليه اسمه من فُتُون فكتب يقول: «يَثِقُ نِلْسنُ بأن كلَّ واحدٍ سيصنع ما هو واجبٌ عليه»، ويسأله أحدُ ضباطه عن كون الأفضل أن يقول «إنكلترة» بدلًا من «نلسن». وكان يَصْعُب نقلُ كلمة «يَثِق» بالإشارات البَصَرِية الشَّرْطية فَعُدِّل الأمرُ اليوميُّ المشهور هكذا: «تأمُلُ إنكلترة من كلِّ واحدٍ أن يصنع ما هو واجب عليه.» وبما أن نِلْسُن خَرَّ في هذه المعركة رُئِيَ من الطبيعيِّ أن يُجْعَل منه بَطَلٌ قوميٌّ، وقد بلغ أهلُ لندن من رَفْعِه عاليًا عن احترامٍ ما صار من المتعذِّر معه أن يُعْرَف وجهُه فوق العمود بميدان الطرف الأغَرِّ.

وتمضي ستة أسابيعَ على هزيمة نابليون في البحر فيجيب عنها في أُسْتِرْلِتْز، فهنالك كان في عنصره الخاصِّ، ويُوَفَّق نابليون في البر توفيقًا كان يتعذَّر عليه نيلُ مثله في البحر بعد ضَيَاع أسطوله، ويستولي على الساحل الأدرياتيِّ ويَنْزِعُه كلَّه من النمسة تقريبًا، ويجعل من أعضاءِ أُسْرَته ملوكًا في إيطالية. ومع ذلك فإن هذا الرجلَ الذي هو أقوى رجال عصره لم يَسْطِع أن يمنع الأسطولَ الروسيَّ من مجاوزة الدردنيل ومن الظهور أمام جزائر اليونان، كما أنه لم يَسْطِع أن يحول دون ظهور الأسطول البريطانيِّ أمام الآستانة في سنة ١٨٠٧ مُكْرِهًا السلطان على الإذعان تقريبًا، ولم يُنْقَذ السلطانُ إلا بتَرَدُّد أمير بَحْرٍ لم يكن عنده لاسِلْكِيٌّ بَعْدُ فيَتَلَقَّى به أوامرَ من لندن.

١٣

وفي ذلك الزمن؛ أي في سنة ١٨٠٦، يحتلُّ الإنكليز في البحر المتوسط، عن أسبابِ كتلك، جزيرةً صغيرة كانت مرغوبًا فيها منذ القرون القديمة لجمالها أكثر مما لموقعها الحربيِّ. وإذا ما نُظِرَ من نابل إلى كابري، التي تبدو وَعِرَةً غير مِقْراةٍ، أسفرتْ عن مفاجأةٍ شِعْرية من جهة الجَنوب حيث يكون للأزهار من الروعة ما يُرَى عادةً في أعالي جبال الألب أيام الصيف، وينمو عَوْسَجٌ أزرقُ ذو أغصان دقيقة في المكان الذي تقي الصُّخُورُ المُتَمَزِّقةُ فيه مُتَمَوِّجَ الأودية من الرياح البحرية، وتنشر أزهارُه التي لها حجمُ اللَّيْلَك حرارةَ نُورِها الضارب إلى زُرْقة، فيلوح أن لونَ البحرِ المتوسطِ عَلَا وجهَها، وتنتظم المعَرِّشاتُ واليَتُوعَاتُ، كَشَلَّالاتٍ، على طول المُنْحَدَر بين الحجارة الخُضْر النَّيِّرةِ، ويَبْلُغ العَبَيْثُران والبَرْبَريس١١ من الاتساع ما هو غير معروف في مكان آخر، ويَبْلُغ الآسُ من الارتفاع ما يَعْدِل قامةَ الإنسان وتنبعث من أزهاره البِيض رائحةٌ طَيِّبَةٌ لاذعةٌ في آنٍ واحد كما لو كانت تَوَدُّ تبليغَ رسالةٍ إلى جميع العرائس، ويَسْتُرُ السُّفُوحَ المُشْمِسةَ أنواعٌ عظيمة من حَيِّ العالم ذي الأزهار الصُّفْرِ والخُبَّازِيَّة المُنْجِمَة المُشَذَّبة على شكل اليد، وتَتَفَتَّح الشُّهُب والرَّتَمُ والأرِيقَي تحت ضياء الشمس بغزارة النبات الاستوائي وبأشدَّ من العَرْعَر الذي يُلْبِدُ بالصخْر لكيلا يكسِرَه ريح البحر، وتزدهر في المكان بين المكان شقائقُ نُعْمَانٍ أُرجوانيةٌ ناعمةٌ مُظَلَّلَةٌ بأغصان الشَّمَار البَرِّيِّ المبرومة أو بالزنبقِ المَسْرَجيِّ الورديِّ الرائع المشتدِّ.

وتُعَيَّنُ كهوف الجزيرة بألوانها، فيُقال: الكهف الأزرق والكهف الأخضر والكهف الأحمر والكهف الأبيض، ويَدُ الخبير وحدَها هي القادرة على إمرار القارب من الممرِّ الضيِّق حين تَقَلُّصِ الأمواج، والمُتَمَرِّنون وحدَهم هم الذين يَعْرِفون أن يدوروا حول الصخر والمهالك والجنادل في هذه الأغوار المملوءة ماءً.

والأجدرُ أن تُسَمَّى «مغاورَ قوس قزح»؛ لأنها مرآةُ جميع ألوان الطيف المَوْشوريِّ الذي لا يُنَال في غير المُخْتَبَر عادةً، وتَسْطَعُ الأزهارُ على الصخر في الأعلى بنور الألوان الأَلْبية التي تَنْحَرِف تحت هذه الصخر في الأدنى، ويَلْمع نورٌ سحريٌّ في أعماق المياه بهذا المكان كأنه بعيدٌ من الشمس، ويُصْهَر جميع ذلك في ضياء الحجر المعروف بعين الهِرِّ فيُهدِّئُ عَيْنَ مَن يَجْرُؤُ على دخول هذه الهُوِيِّ الخفيَّة خارقًا حُرْمتَها.

نَعَمْ، غادر الأسطولُ الإنكليزيُّ كابري بعد عامَيِ احتلالٍ، غير أن شعراءَ الإنكليز وعُشَّاقَهم يَقْصِدونها دَوْمًا لِمَا يُسْعِدُهم من وجود قاعدةٍ فيها لخَيَالِهم، لا للمدافع، وقد صار نابليونُ سيدَ جميع أوروبة تقريبًا حينًا من الزمن، خلا البحرَ المتوسط، وما انفكَّ حصارُه إنكلترةَ يُخْرَق من ناحية الجُزُرِ وجبلِ طارق، وما كان يساورُه من فكرة قهر إنكلترة في الهند، ما عَجَزَ عن قهرها في عُقْرِ دارها، واثَبَهُ بأشدَّ مما في الماضي، فما أَشْبَه خِططَه بخِطط الفاتحين سنة ١٩٤٠! وما كان يُعَدُّ من جهازٍ حربيٍّ خارقٍ للعادة يرافق جيشَ نابليون من دَلْماسية حتى الفراتِ وَصَفَه بالوهميِّ في منفاه بعد حين. وكان لا بُدَّ من تحويل ذلك إلى حقيقة في ذلك العهد على الخصوص، والثورةُ الإسبانية وزيادةُ تَوَتُّر العلاقاتِ بالقيصر وحدَهما هما اللتان تلاشت بهما خِططه، وتوالت انتصاراتهُ، وأُكْرِهت النمسة على التنزل عن آخر ما تَمْلِك على البحر بمعاهدة صلحٍ جديدة، وأَمْكَن فرنسةَ أن تَشْعُرَ بأنها سيدةُ البحر الأدرياتيِّ، ومع ذلك فقد غُلِب أسطول نابليون مُجَدَّدًا بالقرب من لِيسَّا، وذلك من قِبَل النمسويين في هذه المرة، من قِبَل النمسويين الذين كانوا من دول البحر المتوسط منذ زمن قصير مع نجاحٍ أقلَّ من نجاح الفرنسيين. وقد عقد الإنكليز في الوقت نفسه ألبقَ معاهداتِهم مع التُّرك مُتَنَزِّلين لهم عن جميع الأمور في مقابل وعدهم بإغلاق المضايق لمدة قرن، وهكذا يكون الرُّوس قد أُخْرِجوا من البحر المتوسط بعد مجازفتين فيه.

ولما سقط ابن البحر المتوسط ووُجِدَ في جُزَيِّرَته الروائية إلبَا، عَرَضت عليه بعثاتٌ وطنية سِرِّيَّةٌ إيطاليَّةٌ تاجَ إيطالْيَةَ مُوَحَّدَةً، وذلك لِمَا كان يخامر الناسَ في إيطالية من كَوْن هذا الفرنسيِّ إيطاليَّ الأصل وكونِ هذا الإمبراطور ثوريًّا، وقد أخطئوا في كلا الأمرين؛ وذلك لأنه كان قد نَسِيَ أصلَه الإيطاليَّ منذ زمنٍ طويل كما نَسِيَ ثَوْرِيَّتَه في أوائل عمره؛ ولأنه كان ينظر إلى باريسَ مفتونًا.

ولما حاول مؤتمر فِينَّة أن يبعث الماضي بدلًا من التجديد، بدا أبطالُ الحِلْفُ المقَدَّس نصارى بالغي التقوى فأخرجوا تركية من المفاوضات بسبب دينها، كما أخرجوا الصِّرْب واليونان لرغبتهما في الحرية. وقد نالت إنكلترة جزائرَ اليونان ومالطة فسيطرت على البحر المتوسط بأَسْرِه بما لها من قواعدَ. وقد بسط آل هابسْبُرْغَ سلطانَهم على نصف إيطالية، ولكنهم كانوا من الغَفْلَة ما سَلَّمُوا معه زمامَ أسطولهم إلى البندقيين الذين صاروا من رعايا النمسة، وقد عاد الملوكُ إلى كلِّ مكان، عادوا إلى بيِمُون وإلى نابل، وقد جُهِلَت أماني الشعوب في كلِّ مكان.

وقد أُبْقِيَ على القراصين مع الملوك أيضًا، وما كان أحدٌ في أوروبة ليجرؤ على مَسِّ هؤلاء المغامرين الأفريقيين. والأمريكيون وحدَهم هم الذين رَأَوْا أن يطاردوهم بأسطولهم الفَتِيِّ ليُعْفَوْا من الجزية المُخْزِية.

١٤

كان لدخول الولاياتِ المتحدة في البحر المتوسط نتائجُ مهمة، وأمريكةُ هي التي ظهرت في البحر المتوسط بعد ثلاثمائة سنة من إبحار ابن البحر المتوسط كريستوف كولونبس إلى السواحل الأمريكية. أَجَلْ، إن جميع هؤلاء الأمريكيين كانوا من أصلٍ إنكليزيٍّ تقريبًا، غير أن أنهم أَتَوْا بأفكارٍ ومقاصدَ تختلف عما لدى أجدادهم وأبناءِ أعمامهم، حتى إن من الممكن أن يُقال إن المشاعر اللاإنكليزية كانت مِفْتاح نجاحهم. وقد قال بنيامين فرانْكلِن محتدمًا حول موضوع القراصين: «لو لم تُوجَد الجزائر لأوجدها الإنكليز»، وقد صَرَّح اللورد شِفِلْد أمام مجلس اللوردات بلندن في ذلك الزمن تقريبًا ﺑ «أنه ليس من مصالح الدول العظمى أن تَحْمِيَ الأمريكيين.»

وكان على الولايات المتحدة أن تدفع جِزْيةً إلى القراصين في سِنِي وجودها الأولى، وكان بُعْدُ المَسَافات يَجْعَلُ تنظيمَ قوافلَ بحريةٍ في ذلك الزمن أمرًا متعذرًا. وكانت تجارةُ الولاياتِ المتحدةِ المهمةُ مع الشرق قد حَمَلتها على عقد معاهداتٍ مع الجزائر ومَرَّاكِش في سنة ١٧٨٥ وسنة ١٧٨٧، فكان القراصين يَقْبِضون على سفنها مع وجود هذه المعاهدات. ومن العبث أن حاول جِفرْسُن تنظيم هجومٍ مشتركٍ بين الدول البحرية، فاضْطُرَّت الولايات المتحدة أن تشتري في كلِّ سنةٍ حمايةَ دولِ القراصين الأفريقية مؤديةً ٢١٠٠٠ دولار اعتمادًا لقنصلٍ و٢٠٠٠٠ دولار و٨٠٠٠ دولار للهدايا، مُسَلِّمَةً بارجةً تامَّة العُدَّةِ بلغ الدايُ من الإعجاب بها ما أوصى معه في الحال ببارجتين أخريين دُفِعَ ثمنُهما على ما يُحتمل، وذلك إلى نصف مليون دولارٍ أُدِّيَ فديةً عن أمريكيين اختطفهم القراصين فضلًا عن الجزية السنوية.

وظلَّ ما عُبِّر عنه من غَيْظٍ في كثير من الوثائق الأوروبية منذ سنة ١٨٠٠ قاصرًا عن العمل مدةَ عشرين عامًا، فقد كانت إنكلترة محتاجةً إلى القراصين حصارًا لنابليون، وكانت إنكلترة قد حَمَلَت البرتغال على مفاوضتهم سابقًا، وهكذا استطاع القراصين أن يبلغوا المحيطَ الأطلنطيَّ ويساعدوا على قطع الميرة عن فرنسة، وهكذا كان الأوروبيون متباغضين كما في الماضي على حين كانوا لا يُبْغِضُون القراصين، وهكذا لم تَسْطِعْ أمريكةُ نفسُها أن تصنع شيئًا في هذا الصراع بين هذه الناحية الصغيرة الأفريقية وأوروبةَ بأسْرِها. وكانت معاهدات الدول العظمى مع القراصين من العار ما لم تَجْرُؤ معه أيةُ واحدةٍ منها أن تُعْلِنَها، وهي لم يُعْرَف أمرُها إلَّا في أيامنا، وكان ينطوي ما يُدْعى «هدايا» على ساعاتٍ دقَّاقةٍ وحُلِيٍّ ومشروبات وثَمَرَات وحَلَاوَى، لا على آلاتِ طَرَبٍ وقلائدَ من خَرَزٍ، وأرسل البندقيون سُنْدُسًا١٢ ثمينًا ذات مرةٍ فرفضه الدَّاي مطالبًا بعُدَدٍ حربية بدلًا منه، وقَدَّمت فرنسة توابعَ مِدْفعيةً وأرسلت مهندسين متخصصين في صَبِّ المدافع، وتوانى الإسْوِجِيُّون في إعطاء الجزية في الوقت المُعيَّن فقبض القراصين على سبعٍ من سُفُنِهم مملوءةٍ سِلَعًا ثمينةً وطالبوا بفوائدَ عن تأخير دفع الجزية المُتَّفَق عليها.

وكانت شئون القراصين لا تسير عن فَوْضَى شرقية، فقد كان يوجد في الجزائر وزيرٌ خاصٌّ لإدارة أمور الهدايا ونِتَاج الغارات، ويشابه سجلُّ ذلك الزمن العربيُّ المشتملُ على أمورِ خمسٍ وستين سنةً سجلًّا لجباية الضرائب أو سجلًّا للرِّهَان، ويُبَيِّنُ هذا السجلُّ كيف كان جميعُ مَنْ ساعدوا في أثناء الغارة وبعدها ينالون حِصصهم من الغنيمة سائرًا من الوزير حتى المستخدم القيِّم على الموازين غيرَ غافلٍ عن الشيخ الذي دَعَا من أجل نجاح المشروع ولا عن الوكيل المُثَمِّن في سوق النِّخاسة. وكان بيع السِّلَع بالمزايدات يتأثَّر من نقل السُّفُن أَوْسَاقًا متجانسةً لِمَا يؤدي إليه هذا من هبوط ثمن الصوف الإنكليزيِّ والجوارب الحريرية والآنية الصينية هبوطًا مُرَنِّحًا في الجزائر.

وكان الأمريكيون أولَ مَن أحدث ثُغْرَةً في كيان القراصين، وكانوا يأبَوْن، بذوقهم الناشئ البسيط السليم، أن تَفْصِلَ طريقٌ بحرية ضيقة عالَمًا تَسُودُه حقوقُ الإنسان عن عالَمٍ آخرَ كان الناس يُبَاعُون في أسواقه.

وكانت فاتحةُ أعمالهم في البحر المتوسط حملةً موفقةً، وكان قائد البارجة «جورج وَشِنْغتُن»، الرُّبَّان بِنْبِردْج، مفوَّضًا إليه تسليمُ الجِزْيَة، وكان بِنْبردْجُ هذا مُرْسَلًا ليفاوض السلطانَ بالآستانة في ذلك الحين، وكان من الانتباه الكافي ما أبداه حِيَال دخول وزير البحرية الجزائرية ونسائه وأولادِه وحاشيتِه الكثيرين إلى مركبه، ويُضْطَرُّ المركب إلى الوقوف عند مدخل المضايق، ولا يؤذن للأمريكيِّ في المرور من غير أن يُفَتَّشَ مركبُه الذي وُجِّهَت إليه مدافعُ الترك، ويَخْفِضُ الأمريكيُّ الأشرعةَ ويُحَيِّي بطَلَقَاتٍ مُكَرَّرة ويردُّ التركُ التحيةَ ويَتَكَوَّنُ دخانٌ كثيف، وينكشف الدخان، ويكون الأجنبيُّ قد مَرَّ، ويستقبله السلطان ودِّيًّا، ولكن مع أمره بضرب رقبة القائد التركيِّ الذي تَرَكه يَمُرُّ، ويُوَفَّق بِنْبرِدْج لمنع هذا الإعدام.

ولم تكن تلك غيرَ مُقَدِّمة، فلما اضْطُرَّ الأمريكيون إلى دفع مليون دولارٍ فديةً عن أَسْرَاهم، وكان هذا المبلغ كثيرًا على الشعب الناشئ، قَرَّر أهل تلك القارَّة البعيدة أن يجازفوا بما لم تَجْرُؤ على محاولته أمم أوروبة فأرسلوا أميرَ البحر دِكِيتَر مع أسطولٍ حاملٍ علَمًا إنكليزيًّا، ويَقِفُه مركبُ حَمِيدُونَ الشهير، ويرفع الراية الأمريكيةَ هنالك، ويطلقُ القذائف من مسافة ١٥٠٠ قدم، ويُجْرَح الرُّبَّان الجزائريُّ ويداوم على توجيه الحركات ضاجعًا حتى قضت عليه قذيفة، ويُؤْسَرُ أربعمائة من القراصين، ويُضْطَرُّ الدَّايُ إلى تبديل جميع المراكب وإطلاقِ جميع الأُسَارَى بلا فِدْية، وتُدْهَشُ أوروبة ما دام هذا أولَ انتصار على القراصنة تَمَّ منذ ثلاثمائة سنة، وتقع حوادثُ أخرى فيُتَرَضَّى أميرُ البحر الأمريكيُّ شُو عن تهديدٍ بضربِ قنابلَ جديدةٍ.

ويصعُب القبضُ على سواحل مَرَّاكِش والجزائر الطويلة حتى في أيامنا، وكان نابليون قد أَنبأ «أن الإنكليز سيلاقون سوءًا بتقدمهم خُطْوَةً في هذا المكان.» غير أن اللورد إكْسمَاوْث حَصَلَ في ذلك الحين على خرائطَ دقيقةٍ عن حصون هذه السواحل وغامَرَ فيها بخمسة مراكبَ من الأسطول البريطانيِّ، وتقع مفاوضاتٌ في الميناء، وتُبَلَّغُ شروطٌ ويرفِضُ القائدُ إياها بعد تبادل الإشارات بالرايات، ويُضْرَبُ بالمدافع ضربًا مُريعًا، وتُقْتَلُ الألوفُ في مدةٍ قصيرة، ويُجْرَحُ الدَّاي ويُغْتال من قِبَل مُؤْتَمِرين. ومع ذلك لم يكن هذا غيرَ فَوْزٍ جزئِيٍّ، فما انفكت الدولُ الصغيرة تؤدي الجِزَاءَ١٣ حتى سنة ١٨٤٤، وتَمُرُّ ثمانية أعوام على هذا النصر فيُوَفَّقُ دايٌ جديدٌ لقهر أمير البحر البريطانيِّ نِيل، واسْمَع جوابَ القرصان حينما هَدَّدَه هذا الأخير بأسطوله القوي: «كان نُمْرود أقوى الناس فلم تَحُلْ قُوَّتُه دون موته بِقَرْصَة ذُبَابة.»
ويسقط هذا الدايُ نفسُه بمِذَبَّةٍ١٤ بعد حين.

كان على ملك فرنسة أن يَدْفَع بَدَلَ البُرِّ الذي مَوَّن به أسلافُ الدَّاي جُمهوريةَ فرنسة الناشئةَ، وحَدَث جِدَالٌ طويلٌ حول هذا الموضوع، فلما كانت سنة ١٨٢٧ وحَلَّ عيد الفِطْرِ ذهب قنصل فرنسة إلى البَلاط للتهنئة على حسب العادة، ويستقبله الدايُ مُتَّهِمًا إياه بالائتمار به، ويدافع القنصل عن نفسه، ويكون الدَّاي الشائب قاعدًا على مُتَّكَئه وَفْقَ الطريقة التركية، ويضرب القنصلَ بمِذَبَّةٍ على وجهه، ويكون لفرنسة ذريعةٌ للتدخل نتيجةً لهذا الحادث، ويَصِل أسطولٌ مهمٌّ، ويحاصر الجزائرَ مدةَ ثلاث سنين، وتبلغ الخسارة من الضخامة ما يرى الدَّايُ معه أن يَخْفِض مكافأةَ مائة الدولار عن كلِّ رأسٍ فرنسيٍّ إلى عشرة دولارات ثم إلى تنويهٍ.

وتُحْتَلُّ الجزائرُ سنة ١٨٣٠، فيكون لهذا النصر بالغُ الأثر في النفوس. وكان للقراصين من النفوذ الروائِيِّ ما فُتِنَتْ به الشبيبة والآدابُ الغربية فلا يكون لزواله غيرُ وَقْعٍ عظيم في الناس، وهنا يُذْكَرُ بعض القِصَص حول نُبْلِ قُطَّاعِ السُّبُل، فيُرْوَى، مثلًا، أن القراصين المراكشيين دارَوا البرتغالَ لِما كان من حُسن ضيافة هذا البلد تجاه قريبةٍ للسلطان بعد غَرَق سفينتها، وأن مَنْ يحارِب من أجل القراصين فيُجْرَح في المعارك يأخذ حِصةً من الغنيمة كافيةً لعَيْشِه في بقية عمره، وأن ضباطًا من الفرنسيين وجدوا في مِدْفعيةٍ غُنِمَتْ من القراصين كتابًا لكُورْناي بجانب كتابٍ فرَنسيٍّ عن المِدْفعية.

ومن المحتمل أن كان ذلك النفوذُ الروائيُّ سببَ نجاة الداي من التهلكة فضلًا عن السماح له بالذهاب إلى نابل مع مبلغ ضخم من المال ومع اثنتين وخمسين امرأة، ثم انتقل إلى باريس هادئ البال ليُفَرْنج حَرِيمَه، ويَسْقُطُ آخرُ آل البوربون الذي فُتِحَت الجزائر في عهده بعد زمنٍ قليل ويُطْرَد، ويموت كلٌّ من هذين الملكين المنتسبين إلى عِرْقين مختلفين والمتباينين طِباعًا في المنفى، ومع ذلك كان للِّصِّ البحريِّ الشديدِ شرفُ الدفاع عن نفسه حتى النهاية مدةَ ثلاث سنين على حين أصبح شارل العاشر محلَّ سخرية.

وتظهر بفتح الجزائر دولةٌ ثالثة كبيرة على البحر المتوسط، وتَغْدُو فرنسة دولةً بحرية استعمارية، وتصبح فرنسةُ الأكثرَ قوةً بعد التُّرك، وتُوَفَّقُ فرنسة لتوطيد سلطانها على أفريقية الشمالية حوالي سنة ١٨٤٥ مع تقييد إنكلترة إياها بلا انقطاع. وقد كانت هذه مدرسةً قاسيةً للضباط والمهندسين الفرنسيين الذين تَخَرَّج أحسنُهم في أفريقية بعدئذٍ، وقد أتى الفرنسيون بالمعجزات في مقاتلة هؤلاء الجبليين والأهلين المُعَادِين على شواطئَ خاليةٍ من الماء.

ومع ذلك فإن أمرًا واحد قد حال دون تَحَوُّلهم إلى أمة مستعمِرة كبيرة، وذلك أن بلدهم هو من الجمال العظيم والغِنَى الوافر ما رغِبَ قليل منهم في مغادرته، وألوف الأجانب، ولا سيما الطلاينةُ والإسبانُ، هم الذين أتوا ليَعْمُرُوا ويَزْرَعُوا المستعمراتِ الجديدةَ، وليس من العجيب في مثل هذه الأحوال أن يكون لبلاد هؤلاء المستعمِرين الأصلية مزاعمُ ومطالبُ حَوْل الأَرَضين التي أعان أبناؤها على نشوئها، وبينما كان الإنكليزيُّ ينجذِب في كلِّ وقت إلى ما وراء البحار عن ضِيق جزيرته وضَبَابها وعن شوقٍ إلى المغامرات، لم يندفع الفرنسيُّ بمثل هذه العوامل ما دام غير شاعر بنقصٍ في اتساع بلده، والحضارة الفرنسية أقدمُ من الحضارة الإنكليزية، ويكون هذا الشعب إذَنْ قد بَلَغَ أَشُدَّه بسرعةٍ بالغةٍ، ولكن مع بقائه محافظًا من غير ضَنًى، ولكن مع قِلَّة مَيْلٍ إلى ترك بلده ومُدُنه ودياره.

ويَكْفِي خِصْبُ أرض فرنسة وحدَه لإمساك مَن يقيم بها حتى عند عدم تلك العوامل، وتَجِدُ في هذا سِرَّ سياحة الإنكليزيِّ أكثرَ من جميع الأوروبيين الآخرين وسِرَّ سياحة الفرنسيِّ أقلَّ منهم، ولا يحاول الفرنسيُّ، على العموم، أن يَكْسِب في البلدان البعيدة مقتحِمًا أخطارًا باذلًا جهودًا مع حُبِّه للمال، فهو يُفَضِّل أن ينال عشرةَ آلافِ فرنك في باريسَ على نَيْل مائة ألف فرنك في تونس، وترى الفرنسيَّ، إذا ما جَمَعَ ثروته في بلدٍ أجنبيٍّ، مستعدًّا لتصفية أموره قبل أن يَشِيب مُفَضِّلًا أن يتمتع بسنِيه الأخيرة هادئًا مستريحًا على أن يَعْمَل، وليس الشعبُ الفرنسيُّ والشعبُ الإيطاليُّ من الفَتَاءِ ما ينافسان الأمم الحديثة معه في ميدان الاستعمار.

١٥

لا تَفْنَى عبقرية الشعب اليونانيِّ، ويتضافر المنظر والتاريخ على بعث الأغارقة مُجَدَّدًا بعد دور طويل من الأُفول، ولا تزال مئات الجزائر وشِبْه الجزائر كما كانت في القرون القديمة، ويُبْدي الشعب دَوْمًا من الخِفَّةِ والمرَح والحِذق التجاريِّ والخيال كما في الماضي. والواقعُ أنه لم يكن لدى الشعب شعراءُ عظماء، ولا فلاسفة عظماءُ، ولا أسطولٌ مهمٌّ، ولا جيشٌ مهمٌّ، ما دام البرابرةُ قد قهروا الأغارقة وعَصَرُوهم في الغالب، ومع ذلك لم يَهْرَمُوا، وما اتصفوا به من فِطْنةٍ تجارية ودِبْلُمِيَّة١٥ يَنِمُّ على النشاط في كلِّ زمن، ولديهم من الاستعداد الفطريِّ ما يُسِيغُون به مبادئَ عصرنا الاجتماعية ويُحَوِّلُونها إلى ثَوْرات.

ويلوح من الغريب أن تَمُرَّ قرونُ ضَغْطٍ عليهم من قِبَل بِزَنطةَ والترك وأن يظلُّوا مماثلين لأجدادهم في العصر الكلاسيِّ مع ابتعادهم عنهم بِعِدَّة توالُدات، ومع هذا كلِّه لا تزال توجد في تِسَالْية مُثُلٌ تُذَكِّر بصُوَر الآنية القديمة، ومع ذلك فإن سرعة الخاطر وروح الوضوح في سكان المدن اليونانية ظَلَّتا ثابتتين، ولم يُصْبِح مِزاجُهم أكثر غَمًّا مما كان عليه منذ ألفي سنة. ومَنْ يَطُفْ في شوارع أثينة الجديدة يَرَ أبناءَها يَتَجَمَّعُون زُمَرًا في وسط الطريق للبحث، كما في الماضي، في ارتشاء قاضٍ أو في نظريات أستاذٍ أو في حذاءِ مارٍّ، حتى إن بعضهم لا يَشْعُرون بوجود السيارات ولا يَسْمَعونها تُزَمِّرُ بشِدَّةٍ إبعادًا لهم من الطريق.

وقد اتخذت جميع شعوب البحر المتوسط المُضْطَهدةِ، أو غيرِ المُوَحَّدة، من إسبانٍ وطلاينةٍ وصربٍ أمةَ الأغارقة مثالًا في عصيانها، فالأغارقةُ أولُ مَن صَبَا إلى الحرية وإن نالت أممٌ أخرى حريتَها قبلهم.

وكان نابليونُ أولَ مَن أراد تحريرَهم، غير أنه كان من شِدَّة الانهماك في الغرب والشمال ما لم يَسْطِع معه أن يتَتَبَّع هذه الخِطة، وقد خاب أملُ الأغارقة حين رأَوْا إنكلترة وروسية تَتَخَلَّيان عنهم في سنة ١٨٠٠، وقد قضى سادتُهم التركُ بمذابحَ هائلةٍ على ما أَتَوْه من عصيان. ومع ذلك فإن ما يشتعل في هذا الشعب من حُبٍّ للحرية كان يَحْفِزُه إلى تأليف جمعيات سرية ويدفعه إلى الاعتداء، فأسَّس القساوسة مثل هذه الجمعيات في أَرْغُوس، وقام أشرارٌ في جبال الإبير ورِعاءٌ في دِلْف، ومن ورائهم علماءُ وصِحافيُّون يوجِّهُونهم، بفِتَنٍ يمكن الإنكشارية وحدَهم أن يقاوموها ما لم تؤيدها دولٌ كبيرة.

ثم كانت سنة ١٨٢٠ فظهرت في فَلَك أوروبة السياسيِّ نجومُ قُوًى أو عَدَدٌ من الدول الأوروبية قائلٌ بالوحدة اليونانية مع اختلافِ أسبابٍ، ويصبح هذا شِعَارَ العصر كما نرى عما قليل. والواقع أن الحكومة الإنكليزية كانت راغبةً في تأييد تركية لقرنٍ واحدٍ آخر وفي المحافظة على معاهدة سنة ١٨٠٩ حول المضايق، ومع ذلك فإن أنباء ما يقترفه الترك من كبائرَ أثار كلمةَ «الإغريق» لدى الشعب الإنكليزيِّ، ولا سيما مُثَقَّفُوه، ويحتذي قيصرُ روسية، الحامي لحقوق نصارى تركية، مثالَ أبيه، فيطالب باستانبول أو بالمضايق على الأقل، ولا تَمُدُّ فرنسة، التي كانت تُعْنى بشمال أفريقية، وبسوريةَ أيضًا، يَدَ العون إلَّا عن حِرْصٍ على عدم ترك جميع المجد لغيرها، وآلُ هابسبرغَ الذين يُمَثِّلُهم مِتِرْنِيخُ وحدَهم هم الذين عارضوا، وَفقَ عادتهم، كلَّ عملٍ يؤدي إلى تحرير الشعوب.

بدا هذا الوضعُ الملائم، وكان أغارقة الخارج من الثراء والشعور ما دَلُّوا به على مقدار مساعدتهم لإخوانهم في الجنس، وكان الفَنَارِيُّون في الآستانة قد أصبحوا مع الأرمن أكبرَ صيارفة السلطان ومالييه، وكان يوجد في الإسكندرية ومرسيلية، كما في جِنوَة والبندقية، وفي أُودِيسَّا ومُوسْكُو أيضًا، عددٌ كبيرٌ من أغنياء اليونان. وكان الرجلان اللذان أدارا دفَّةَ التحرير مستخدَميْن لدى الروس، فأما أحدهما، واسمُه كابودِيسْترياس وله هيئةُ مِترْنيخٍ إنكليزيٍّ، فقد كان وزيرَ خارجية القيصر، وأما الآخر، واسمُه إبسِلَانْتِي وقد أضاع ذراعَه حين محاربة نابليون، فقد كان جنرالًا روسيًّا، وكلا الرجلين كان أداةَ وَصْلٍ بين أبناء دينه الأُرثودُوكْس.

ولم تنشأ مساعدة أوروبة للأغارقة عن سببٍ دينيٍّ ما خَلَت أوروبة من إنسانٍ يَدِين بالأرثودوكسية، وإنما كان هذا العونُ نتيجةَ إنسانية العصر. ومن الأغارقة أناسٌ بباريسَ رَسَمُوا اللغة اليونانية الجديدة فكانوا هدفَ هُتافِ جميع العلماء، وأخذت جمعيةُ أصدقاءِ العرائس الشعرية تُدَرِّس في أثينة وكُورْفُو، وتألفت في أَلمانية جمعياتٌ لمعاونة اليونان، وخَشِي ملكُ بروسية أن يخاطر فأعان بستة آلاف دولارٍ مُغْفَلَ الاسم، وما أكثر تأثيرَ مبلغ خمسمائة الدولار الذي تَبَرَّع به مترجمُ أُومِيرُسَ: فُوسُ مع فَقْرِه؛ حيث قال: «هذه مساعدة زهيدة اعترافًا بالجميل لتربيةٍ اقتُبِسَتْ من الإغريق»، وهبَّ أقدرُ الكُتاب للدفاع عن تحرير اليونان مُقَدِّرين أن بلاد اليونان وطنُ التمدن فضلًا عن كونها من أقطار البحر المتوسط.

ولما ذهب اللورد بايرون إلى الشرق ليشترك في الجهاد أدركت أوروبة كلُّها مَغْزَى رَمْزه، ويقضي في مِيسُولُونْجِي آخرَ أيامه ناقصَ العُدَّة خائبًا بالمنافسات الهزيلة مصابًا بالحُمَّى، ويَظْهَر أن نصيبَه رمزٌ لعبقرية القرن التاسعَ عشرَ حين بذل نفسه دون الإغريق. وكان لهذا البلد الرِّوَائيِّ بموت اللورد بايرون أَوْجُ نفوذه، ويُعَدُّ موتُ هذا الشريف الإنكليزيِّ تكفيرًا عن جريمة لُورْدٍ آخرَ كان قد جلب إلى لندن، منذ بضع سنين، طَنْفَ١٦ البناتيني الرُّخاميَّ في البارْتِنُون.
وتُمَثِّلُ هذه الجزائرُ الإغريقية دورًا فَعَّالًا في الحوادث مرةً أخرى، وذلك لاستطاعةِ المؤتمِرين والسُّعَاةِ والعيون والشاردين من كلِّ نوعٍ أن يتوارَوْا في هذا البحر ذي المخابئ التي تُعَدَّ بالمئات والتي تَفِيضُ بالأساطير، وتَمَّحِي الأهواءُ الحزبيةُ زمنًا قصيرًا، فيتعاون أسقفُ مورة مع شِرِّيرٍ صار مِيجرًا لدى الإنكليز، وينساق رهبانُ جبل أَتُوس مع التَّيَّار القوميِّ، ويُعْلِنُ مجلسٌ وطنيٌّ استقلالَ البلد بعد الانتصارات الأولى التي تَمَّت سنة ١٨٢٢، ويَبْلُغ التركُ من الغيظ الكبير ما يشنق السلطانُ معه بطركَ الروم البريءَ على باب كنيسته الخاصة بالآستانة، ويَهُزُّ العالَمَ ما يقع من غَلَيانٍ ضِدَّ النصارى، وتُخَلِّدُ ريشةُ دُلَاكِرْوا المُحْكَمةُ فظائع ساقز.١٧
ويُقْهَرُ الأغارقة من قِبَل تُرْكِ مصرَ بُعَيْدَ ذلك، وتكاد ريحُهم تذهب لو لم يُعَيَّنْ مُحِبُّ الحرية كَنِنْغُ (سبارْتاكُوسُ١٨ دُونِنْغ ستريت) رئيسًا لوزارة إِنكلترة ويَسْمَعْ نداءَ الشعب، ويَقْبِضُ قيصرٌ شابٌّ على زمام الأمور بروسية في الوقت نفسه، وتتعاون الأساطيل مع أسطول فرنسة فتنال نصرًا حاسمًا في خليج نافارِين فينال اليونان بذلك حريةً مؤقتة، ويكون هذا النصر، أو يلوح على الأقل، بالغَ الأهمية في صلات إنكلترة بتركية، فقد كانت الحكومة الإنكليزية تُبْصِر حَرْبًا روسيةً تركيةً فتُذْعَرُ من جُرْأتها، ويتكلم ملك إنكلترة عن «حادث مشئوم».

ولما احتلت فيالقُ القيصرِ أدرنةَ حاقَ الخطرُ بالآستانة كما لاح، وهنالك تدخلت الدول العظمى، عن حَسَدٍ ووَفْقَ مبادئها، للمحافظة على تركية المُلَقَّبَة ﺑ «الرجل المريض»، ومع ذلك فإن تركية اضطُرت إلى التنزل للقيصر عن سيادتها على بعض أملاكٍ لها في البَلْقان، فصارت بلغارية ورومانية شِبْهَ مستقلتين، وقد تنازع التاجَ أفَّاقان في صربية فدام هذا النزاع بين أُسْرَتيهما في المستقبل، والأغارقةُ وحدَهم هم الذين نالوا استقلالَهم التامَّ وإن لم يَفُوزوا بحدودهم الطبيعية، وتُفْتَحُ أبوابُ المضايق للسفن التجارية، ويصبح البحر الأسود قسمًا من البحر المتوسط في نهاية الأمر.

ويكون كُونتٌ فرنسيٌّ رئيسًا للوزارة في ذلك الزمن، ويَتَمَثَّل مشروعًا يُطْلِق عليه كلمة «الطَّبَقِ الكبير» العاميَّةَ، فتنال روسية بهذا المشروع قِطَعًا في شِبه جزيرة البلقان، وتُعَوَّض بروسية وسَكْسونية في هولندة والرِّين، وتُعَوَّض فرنسة في بلجيكة ومِنْطقة السَّار، ويصير ملكُ هولندة «ملكًا لليونان»، ويأخذ هذا البلدُ الأخيرُ مدينةَ الآستانة، ويدلُّ هذا المشروع، الذي لم يُحَقَّقْ قَطُّ، على درجة عَدِّ الملك والوزراءِ الأريستوقراطيين للشعوب، منذ مائة سنة، أدواتِ مبادلةٍ صالحةً لتجهيز الأمراء بالتيجان. وكان الوزراءُ ينظرون إلى الملوك كرُقَبَاءَ يمكن نقلهم من مَسْرَح إلى آخر، ومثلُ هذا مسألةُ إقامةِ ملكٍ أجنبيٍّ صغير في أثينةَ مقامَ الرئيسِ الأول وزعيمِ الشعب كابودِسْترْياس، ومن حُسن الحظَّ أن أبصر هذا الملكُ ما هنالك من المصاعب ففَزِعَ ففَضَّل بلدًا أكثرَ خضوعًا بعد حين.

ويَعْقُبُ النصرَ من جديدٍ، كما في الأزمنة القديمة، تنازعٌ حزبيٌّ وإنكارُ جميلٍ وحربٌ أهلية بين الأغارقة، فيُقْتَل كابودِسْترياس، ويُنْصَبُ ملكًا أميرٌ بَفاريٌّ بالغٌ من العمر سبعَ عشرةَ سنةً خالٍ من كلِّ ما يُؤَهِّلُه لهذا الشرف في ذلك الحين، وزِدْ على هذا حمايةَ بضعة آلافٍ من الجنود البفاريين له تجاه شعبه الجديد حتى حَمَلَتْه فتنةٌ على نشر دستورٍ جديد. وكان اكتراث أوروبة لليونان قد زال منذ زمنٍ طويل، فغَدَتْ أَثِينة تبدو للغرب قريةً عَفْرَاء مشتملةً على بضعة معابدَ قديمةٍ.

وظَلَّت تركيةُ أعظمَ دول البحر المتوسط حتى ذلك الزمن مع عجزها الداخليِّ، وتُصَاب بضربةٍ قاطعة في ذلك الزمن من قِبَل رَعِيَّتها الخاصَّة كما في جميع الدول المستبدة. وقد عَلِم تُوَيْجِرُ تَبْغٍ ألبانيٌّ جسورٌ ماكرٌ راغبٌ في العِرْفان كيف ينال مقامًا مُهِمًّا في القاهرة، ومما صنع أن دعا إلى قلعته بضعَ مئاتٍ من المماليك البالغي القوة فأبادَهم قتلًا خلا واحدٍ منهم استطاع أن يَنْجُوَ بالوثوب من فوق سُورٍ، ويسير محمد عليُّ على غِرَار كثيرٍ من سادة البحر المتوسط فيتحول بعد جُرْمه الأَوَّلِيِّ إلى جَبَّارٍ عصريٍّ مخلصٍ للسلطان إخلاصًا مؤقتًا ولكن مع نِيَّتِه إعلانَ خلافته كصلاح الدين (!).

وقد أدرك حديثُ النعمةِ هذا أمرَ مصرَ، وقد سار على سياسة الفراعنة فتوجه إلى مجرى النيل الأعلى حتى السودان بحثًا عن الذهب والعبيد فيه، وقد قام بتلك الحَمَلاتِ ابنٌ له بالغُ القُدْرة مع نُدْرَة هذا في التاريخ متصفٌ بعبقريةِ قائد، ولهذه العبقرية دار جَدَلٌ ذات مرةٍ حول صحة بُنُوَّة إبراهيم باشا وموضوعِ تَبَنِّيه كأن أعاظمَ القواد لم يكونوا أبناءً لأناسٍ من البُرْجوَازية الصغيرة.

أَجَلْ، قاد إبراهيمُ الكتائبَ المصرية في بلاد اليونان وغُلِبَ في نهاية الأمر ولكن بعد أن نال انتصاراتٍ كبيرةً، وقد مات حين موت أبيه المُسِنِّ تقريبًا، وما كانت توفيقاتُ هذا الأخير لتُدْرَك بغير إبراهيم. وكان أمر جهاد الأب والابن ضدَّ سلطانِ الآستانة، وقد أدى إِلى فتح سورية وما وراءها، يتوقف على لُعْبَة الشِّطْرَنْج بين الدول الأوروبية، ويُمْنَى بالحبوط حُلُمُ تاجر التبغ الإمبراطوريُّ الأكبرُ نتيجةً لكَيْد بضعةِ دِبْلُميين في بلادٍ بعيدة، لا نتيجةَ قوةِ عَدُوِّه.

تنازعت فرنسة وإنكلترة سيادةَ البحر المتوسط وحاصرت كلٌّ منهما الأخرى وأيدت إحداهما أحدَ الأميريْن المسلميْن وأيدت الأخرى الأميرَ المسلم الآخر، وبلغ الأمر من الشِّدَّة في أوروبة ما حُصِّنَت معه مدينةُ باريس في المراكز التي وَجَّه المحاصَرُون منها نارَ مِدْفعيتهم سنة ١٨٧١ والتي تَجِدُ اليوم فيها حدائقَ عامةً، وتفوز إنكلترة في نهاية الأمر مُلْزِمَةً الفرنسيين والروس في سنة ١٨٤١ بإمضاء معاهدة المضايق القديمة التي تَحْظُر على السفن الحربية أن تمرَّ من الدردنيل، ومثلُ هذا ما وَقَفَتْ به إنكلترة حِيَالَ كلِّ هجومٍ فرنسيٍّ تَوَسُّعِيٍّ بحيازتها جبل طارق. وكانت المضايقُ مُقْفَلَةً، وكانت السويس برزخًا، وكان البحر الأسود بحيرةً روسية، فأمكن إنكلترةَ إذَنْ أن تقوم طليقةً بتجارتها مع الهند.

وظلَّت مصايرُ هذين المِصريَّيْن الطَّموحيْن الشخصيةُ غيرَ مؤثرة في البحر المتوسط، فقد خابا في هذا البحر، وما أُصيبَ به إبراهيمُ من غَلَبٍ في نافارين كان حادثًا مباركًا لِمَا ينطوي عليه تَخَلِّي أوروبة عن الأغارقة الذين عَبَّدَهم التركُ من عار. والحقُّ أن معركة نافارين أسفرت عن تحريرهم فأمكن فِيكْتُور هُوغُو أن يقول: «أَجَلْ، إن بلاد اليونان حُرَّة، وقد انْتُقِم لستة أعوام في يومٍ!»

١٦

سقط نابليون فسادَ العقولَ بأوروبة ارتباكٌ كما يسود زمننا الحاضر، وأخذ جميعُ العالَم يتكلم عن القومية والحرية، وكان رَجْعِيُّو العصر النابليونيِّ قد كافحوا الاستقلالَ القوميَّ زمنًا طويلًا، كافحوا هذا الاستقلالَ الذي صاروا يَقْرِنونه بذينك المبدأين فيناهضون كلَّ هذا معًا، وظهر كلُّ مبدأٍ حُرٍّ مناهضًا للمبدأ المَلَكيِّ قبلَ هذا الدور وبعده فأسفر هذا عن منازعات داخلية ضدَّ الحركات القومية لدى الدول الخمس العظمى التي كانت فرنسة وحدَها هي الواقعةَ منها على البحر المتوسط، وشَذَّ عن هذا ما كان من وضعٍ سياسيٍّ تِجاه بلاد اليونان، وذلك لِمَا كان من اتفاق الدول العظمى على تأييد قضية الحرية خلافًا لمشيئتها. وكان لدى إنكلترة التي ابتعدت عن الحِلْف المقدس، كما ابتعدت أمريكة عن جمعية الأمم بعد مائة سنة، من الأسباب الصالحة ما بَدَت به نصيرة الحرية في البحر المتوسط أكثر مما في أماكنَ أخرى ما أدت هذه الحرية إلى نيلها قواعدَ بحرية، وما مالطة وقبرس اللتان ضَمَّتْهما إليها حديثًا إلَّا بَلَدان على جانب عظيم من القيمة.

ونشأت فِتَنُ إسبانية عن دولٍ غير مجاورةٍ للبحر المتوسط، وكان البوربونيُّ المنفيُّ فرديناند السابع قد عاد إلى بلده بعد سقوط نابليون، وكان وجه هذا الرجل يَنِمُّ على جميع المعايب، وكان ابنَ الخليلة الكبرى التي خَلَّدَها غُويَا١٩ وابنَ أحد أولئك الملوك الذين غَفَل الشعب عن ضرب رقابهم، وتقوم مزيته الوحيدة على أنه سَهَّل، بما كان يسود بَلَاطَه من فُجُورٍ، جهادَ بُولِيفار وعَمَلَ أمريكة الجَنوبية في سبيل الحرية. فلما كثُرَت الفِتَن وتَدَخَّلَت الدولُ العظمى لحماية البوربونيِّ الزائف، ما دام غيرَ ابنٍ حقيقيٍّ لأبيه الرسميِّ، تطورت حوادث إسبانية كالتي تتعاقب على مَرْأًى منا، وهنالك تستولي على البلد دولةٌ مستبِدة، تستولي عليه فرنسة لمكافحة الأحرار كما زعمت فتُمْعِن في نهبه مدةَ ست سنين، وتَرْضَى البُرْجوازية الإسبانية بهذه الحال ما صدرت عن فرنسة التي عَلَّمت آباءهم مبادئَ الثورة، ثم كانت عودة مَلَكيي الإسبان وقساوستِهم وما يَنْشأُ عن هذا من انتقامٍ دامٍ من الأحرار، وتظلُّ إنكلترة ناظرةً إلى هذا نَظَرًا سلبيًّا.

وكافحت الدول العظمى رغائبَ الشعب عشراتِ السنين في إيطالية أيضًا، كافحت الحريةَ والوَحدةَ فيها، ولا تَجِدُ في مكانٍ من العالَم رجلًا كالإيطاليِّ المتوسط وطنيةً، ولم يكن هذا حالَ ملوكه وأولياءِ أمره في كلِّ زمن. وكانت الجيوش أَقلَّ من الثَّوْرات حُسْنَ قيادة، وهذا يُفَسِّرُ سببَ معاناة إيطالية لطُغَاةٍ وثَوْراتٍ أكثر من معاناة أيِّ بلدٍ لهما.

ولم تَزَل خريطة إيطالية تشتمل على سبعة ألوان بعد سنة ١٨٢٠، ومن هذه الألوان اثنان خاصَّان بملوك من الأجانب، خاصَّان بآل هابِسْبُرْغ في الشمال وآل البوربون في الجَنُوب، وملكُ سَرْدينية (آل سافوا) والبابا وحدَهما من أصلٍ إيطاليٍّ، وكيف لا يثور الشعب ضِدَّ الأجنبيِّ المسيطرِ على أربعة أخماس بلده؟ وكان يوجَدُ في صِقِلِّية ملكٌ حقير اسمُه فرديناند أيضًا، وقد دام حكْمُه ستًّا وستين سنةً؛ أي مدةً أطولَ مما اتفق لمُعْظَم الملوك.

ومع ذلك فإن النمسة جلبت شيئًا من الثَّقافة إلى شمال إيطالية حيث لم تُقَلَّدْ فظائعُ إسبانية، ومع ما كان عليه النمسويون، ولا سيما آلُ هابسبرغَ، من علمٍ بأسلوب معاملة الشعوب فإنهم كانوا خالين من الجُرْأة والصَّوْلَة الضروريتين للمستعمِرين الحقيقيين. وقد ذهب أشرافُ النمسة لِلَّهْوِ في إيطالية، وقد وَلَّى البيتُ الإمبراطوريُّ دوكاتٍ، ودوكاتٍ عِظَامًا، وجعلوا لهم قصورًا جميلةً وقاعاتٍ رائعةً، وقد جاوز أَنْبَغُ العارفين بالفنِّ جبالَ الألب وتَعَلَّموا اللغة الإيطالية الظريفة. غير أن النمسة لم تُصْلِح في نصف قرنٍ أحوالَ عيشِ الأَهْلين الخاضعين، وهي، على العكس، قد عاملت هذا الشعب الذي يفوقها ثقافةً بزَهْوٍ لطيف بدلًا من معاملته برَصانة وإدراك. وكان يُقال في ذلك الزمن إن لُنْبَارْدية غارقةٌ في نومٍ عميقٍ ناشئٍ عن حَبِّ الأفيون لدى خَبَّازي النمسة، وكان أحد الوزراء في تُوسْكانة يُرَدِّد سريعًا شعارَ ذلك الزمنِ القائلَ: «إن الدنيا تدور وحدها!»

ومع ذلك فإن فِتَن إيطالية أخافت آلَ هابسبرغ، فرَضُوا بالمَلِك النابلِيِّ فرديناند، بهذا النذل الذي حَلَفَ يمين الوَلاءِ للدستور الجديد ليَنْقُضَ عهدَه بعد قليل، ثم أرسل مترنيخُ جيشًا نمسويًّا إلى نابل ليقضيَ على الثورة آمرًا الجنودَ بوضع غصونِ زيتونٍ على بنادقهم؛ أي بوضع رمزٍ فاجعٍ هزليٍّ يناسب جميع المُحَرِّرين الكاذبين في أيامنا، ويَظَلُّ هؤلاء الجنود ستَّ سنين في المملكة الأجنبية. ويرجع إلى هذا الزمن حقدُ الطلاينة على النمسويين فيُسَمُّونهم سَجَّانين، ويَصْبُو إلى قيام جُمهوريةٍ جميعُ الشعب الذي تَمَتَّع بالحرية في عهد نابليون ذات حينٍ.

ومع ذلك فإن آل سافْوَا، الذين كانوا يَحْكُمُون في بيِمون باسم «مملكة سَرْدِيْنيَة» على مُلْكٍ واقعٍ في القسم الشماليِّ الغربيِّ من شمال إيطاليةَ؛ أي بين نيس وأَوْست وسِبيزْيَة، كانوا يَبْتَغُون الحُكْمَ في جميع إيطالية، وقد انتَهَوا إلى هذا بعد نصف قرنٍ في الحقيقة. وكان ملوكها الأربعةُ، الذين ملكوا سافْوَا في البُداءة ثم إيطالية منذ قرنٍ، لِطَافًا ضِعَافًا معًا، ويشابه شارْلُ أَلْبِرْتُ أبيقوريًّا كثيرَ التردُّد في العمل، ويَنْظُرُ ذو الرأس المشابه لرأس وكيلِ ضابطٍ، فِيكْتُور إمَانْويلُ الثاني، إلى الشوارع من فوق مئات المباني، ويبدو هُنْبِرت وحفيدُ السالف إمَانْويلُ الثالثُ محترميْن مع عدم كفاءة.

وكان بَلَاطُ سَرْدينية في هذا الزمن؛ أي حَوالَي سنة ١٨٣٠، أكثرَ البَلَاطات تقدمًا، والواقعُ أن جميع الملوك الشرعيين لا يزالون يعانون ما كان لطابع نابليون من أثرٍ هائل، والواقعُ أن الحِلْفَ المُقَدَّس كان يؤيد كلَّ مَلِكٍ عن مبدأٍ ضِدَّ ثورةٍ يقوم بها الشعب. وقد بلغ الإغراب في الأمور ما اقترح معه ذو النفس الكبيرة شاتُوبريان، الذي كان نابليون قد نفاه فأخذ يُمثِّل دورًا سياسيًّا بعد سقوط الإمبراطور، نَصْبَ كثيرٍ من آل البوربون ملوكًا لبلدان أمريكة الجَنوبية.

ولذا كان النجاح يُكتَبُ لكلِّ ثورةٍ ترضى بمَلِكٍ، ولو مع سلطةٍ محدودة، أكثر مما يُكتَبُ لثورةٍ تَهْدِف إلى نظامٍ جُمهوريٍّ. ولما حَلَّت سنة ١٨٤٨ أَخفق النظام الجُمهوريُّ في بروسية والنمسة وهُنْغَارية، واحتملَ السلطةَ مؤقتًا في فرنسة، ووُفِّقَ توفيقًا جزئيًّا في بلاد اليونان وإيطالية. وكان قيامُ نظامٍ مثلِ هذا أسهلَ وأكثرَ إبداعًا في بَلَدَي البحر المتوسط هذيْن لِمَا يَنْزِع إليه من تحقيق الوَحدة القومية واحترامِ حقوق الشعب على حين لا يرغب الناسُ في غير نَيْل دستور في البلدان المُوَحَّدَة منذ زمنٍ طويل، وقد أَدَّت هذه الأفكار الحُرَّة إلى سقوط المَلِك في باريسَ وإلى الوحدة تحت تاج مَلِكٍ في أثينة ورومة، وبما أن حَرَكة سنة ١٨٤٨ لم تلبث أن أدت إلى قيام إمبراطوريةٍ جديدة، في فرنسة أيضًا، لم تَخْرُج أيةُ جُمهوريةٍ دائمةٍ عن هذا الاضطراب الثوريِّ نهائيًّا، وإذا عَدَوْتَ فرنسة وسويسرة لم تجد في أوروبة غيرَ جُمهوريتين بجانب نحوِ أربعين ملكيةً مستقلة.

وكان مصير إيطالية أشدَّ تعقيدًا لاضطهاد كثير من الدول هذا البلدَ منذ أربعةَ عشرَ قرنًا، لا منذ أربعة قرون كحال بلاد اليونان، فاذْهَبْ من القوط سنة ٥٠٠ إلى آل هُوهِنْشتَاوْفن سنة ١٢٠٠ فإلى النمسويين وآل البوربون سنة ١٨٠٠ تَجِدْ جميع الفاتحين من الأجانب قد اختاروا هذا البلدَ في كلِّ زمنٍ لموقعه وجماله، واذهبْ من الأهلين إلى الجُنْدِ فإلى دافعي الضرائب تجد الشعب الإيطاليَّ لم يَتَغيَّر. وقد وُفِّق بعضُ الولايات للتحرر ومَلَكَتْهم أُسَرٌ قوميةٌ كما كانت عليه حال ميلان والبندقية وفلورنسة ورومة، ولم يكن هنالك، مع ذلك، سعيٌ وراء اتحادٍ قوميٍّ شبيهٍ بما اتَّفَق لدول الغرب، ثم لَمَّا رفع الأغارقةُ وشعوبُ البلقان الأخرى رايةَ العصيان ولَمَّا قام الفرنسيون بثورة يولية هَبَّت ريح العصر عند الطلاينة من فَوْرها.

وقد دامت هذه الحركة أربعين عامًا، دامت منذ سنة ١٨٣٠ حتى سنة ١٨٧٠، وهي لم تنجح في غير ثلاث مراحلَ لكلٍّ منها عشرُ سنين، وقد أتى العَوْن الجوهريُّ من الجيوش الأجنبية كما حَدَث في بلاد اليومان. والواقعُ أن الوحدة الإيطالية قد أُتِمَّت بفضل الفرنسيين سنة ١٨٥٩ وبفضل الألمان سنة ١٨٧٠؛ أي بفضل الشعبين اللذين كان قادتُهما قد اضطهدوا إيطالية، ومع ذلك فإن الفوز الأخير مَدينٌ لبسالةِ وصدقِ ثلاثةٍ من الطلاينة المُخْلِصِين ظَهَرَ اثنان منهم من صميم الشعب.

وكانت رغائب الشعب بأَسْرِه حافزةً لهؤلاء الرجال الثلاثة فقادوا الأمة إلى الحرية والوحدة، ولم يكن لدى الطلاينة من النظام العسكري ما يكفي لطرد العدوِّ مع عظمتهم كثوريين وإقدامهم كمؤتمِرين ومتمردين، ويختلف تحريرهم عن تحرير السِّويسرِيِّين الذين استطاعوا أن يَتَخلصوا من آل هابسبرغ قبل ذلك بخمسمائة سنة من غير أن يجيئَهم عَوْنٌ خارجيٌّ.

وكان مَزِّينِي وكافُور وغَرِيبَلْدِي؛ أي بقيةُ الأبطالِ الحقيقيين الذين أنجب بهم البحر المتوسط، من الشمال أصلًا؛ أي من جِنوَة وتُورَن ونيسَ مقابلةً، ومن المحتمل أَن كانوا من دَمٍ كثير الاختلاط، وَوُلِد الثلاثة بين سنة ١٨٠٥ وسنة ١٨١٠، ونَشَئوا في جَوٍّ خانقٍ من الرَّجعية، ومن ثَمَّ دُفِعُوا إلى الثورة دفعًا. وكان الثلاثة يتصفون ببعض مزايا شعبهم، فأما مَزِّيني فكان يتصف بالذكاء والاكتراثِ للآداب والخصائص العاطفية، وأما كافور فكان يتصف بالبراعة ومعرفة الرجال والدِّبْلُميَّة، وأما غَرِيبَلْدي فكان يتصف بروح المغامرة والذوق الرِّوائيِّ، وما أعظَم عبقرية شعبٍ استطاع أن يوحيَ إلى الرجال الثلاثة الشديدي الاختلاف بروحِ تضحيةٍ خالصة واحدة! وكان كلٌّ من الثلاثة يزدري المالَ ازدراءً تامًّا ويَطْلُبُ المجدَ، وكان كلٌّ من الثلاثة قد تَحرَّر من الشعور الدينيِّ وأَتَمَّ تربيته بسياحاتٍ طويلةٍ في البلدان الأجنبية، وهم كذلك مؤتَمِرُون فطرةً، وشكلُ نشاطِهم غيرِ القانونيِّ وحدَه هو الذي كان يختلف على حسب مِزاجِ كلِّ واحدٍ منهم وأصلِه، وقد مارس أَحدُهم هذا النشاط بما كَتَب ومارسه الآخر بما قال ومارسه الثالثُ بحمله السلاح عندما أراد قهر خصمه الأقوى منه.

ويكشف رأسُ مَزِّيني الجميلُ وعيناه المتأججتان وفمه الصغير وجبينُه العالي عن شاعرٍ ومثالِيٍّ، ويكون مِسْقامًا في صباه فيُظهر نُفُورًا من ممارسة مهنة الطب التقليدية في آله، وكان أكثرَ الثلاثة فُتُونًا وكَرَمًا، وكان شديدَ الإيمان بانتصار الخير فيَتَنَبَّه إيمانه برسالته في السجن للمرة الأولى. وكان مُشْبَعًا من المبادئ الكِلَاسية؛ أي من تُرَاث أُمِّه هذا كما يلوح، وكان راغبًا في الحرية قبل كلِّ شيء، نصيرًا للجُمهورية لهذا السبب، وقد اشترك، عن حَمِيَّةٍ وعن حريةٍ فكرية، في كثير من المؤامرات التي كانت تهدِف إِلى إسقاط الملوك الأجانب وإلى التَّخَلُّص من البابا.

وقد اضْطُهد مَزِّينِي كثيرًا، وحُكِم بإعدامه مرتين، ففَرَّ مِرارًا مُضْطَرًّا إلى الخارج حيث أنشأ مجلَّاتٍ جَمْعًا لأحسن القرائح، وكان يكتب دومًا ويُلْقِي خُطَبًا، وكان لا يبالي بالمال قَطُّ ولا يملِك منه شيئًا، فعاش في غرفةٍ واحدةٍ بسويسرة أعوامًا، وقد تَعَلَّمَ بباريس ولندن وتِسَّان ما بين الأمم من علاقات ثم غامر في الدَّوْلِيَّات. وكان مَزِّيني يَحْلُم بأوروبة مُوَحَّدَةً، قبل زمنٍ طويلِ من الوَحدة الإيطالية التي أَبصر حدوثَها في مشيبه، فأكثر من امتداحها في منشورات بليغة، وبلغ مَزِّيني من الآمال المثالية ما كتب معه رسالةً عن «واجبات الإنسان».

ومع ذلك فإنه لم يكن أسيرَ العقائد الثابتة، فهو، مع مشايعته النظامَ الجُمهوريَّ، لم يتردَّدْ في مطالبة ملك سَرْدِينْية والبابا بتوحيد إيطالية عندما لاح له الوقتُ مناسبًا. أَجَلْ، صار عُضوًا لحكومةِ «جُمهوريةٍ في رومة» قصيرة الأجل، ولكنه لم يَبْقَ في منصِبه هذا زمنًا طويلًا، وذلك عن عدم صبر ككلِّ مثَاليٍّ انغمر في الأمور العامة بغتةً. أَجَلْ، كان يوجد وجهُ شبهٍ بين مَزِّيني ولُوثِر من حيث ميلُهما إلى العمل الذهنيِّ النَّبَوِيِّ الخالص، ولكن مَزِّيني أعلى من الآخر بثبات عزمه.

وكان وجهُ كافورَ المربعُ الطليقُ المُلْهَمُ يَنِمُّ على الذكاء والفِرَاسة ولكن مع التهكم، فيمكن أن يُعَدَّ وجهَ رياضيٍّ. وكان كافور سليلَ أُسْرَة أريستوقراطية قديمة، ولكنه كبسماركَ قد وَرث ذكاءه، كما يلوح، من أُمٍّ بُرْجُوازية منتسبة إلى هُوغْنُوت٢٠ جنِيف. وكان كافور، كأجداده يَدِين بوَلَاءٍ طبيعيٍّ نحو ملوك بيمُون فلم يأتمر ضدَّهم قَطُّ، ومع ذلك فقد كانت أفكارُه حُرةً تمامًا، وقد رفض أن يصير ضابطًا، وقد تَعَلَّم من ثورة باريس أن من الممكن أن يكون النظام الملكيُّ حُرًّا أحيانًا. وكان رجلًا عمليًّا جوهرًا فدرس الاختراعاتِ الجديدةَ والسفنَ البخارية والخطوطَ الحديدية والمصانع، ويدير أملاكَ أبيه مُوَفَّقًا وينتظر الوقتَ الذي يقوم فيه بعملٍ سياسيٍّ، ويبلغ السابعة والثلاثين من سِنِيه فيؤسِّس جريدةً في تُورِن من غير أن يكون صِحافيًّا قبل ذلك، فتُطْلِق جريدة «الرِّيزورْجِيمَانْتُو» هذه اسمَه على جميع العصر، وقد كان لإحدى مقالاته من التأثير البالغ ما جعلت الملكَ المتردد يُشْهِرُ الحرب على النمسة في سنة ١٨٤٨.

وكانت إيطالية بأَسْرِها متأثرةً بثَوْراتِ باريسَ وفِينَّة في ذلك الحين، وكان كلُّ شيءٍ يبدو ملائمًا من أول ساعة، فقد استولى الشعب على نابل ورومة والبندقية، ويعود مَزِّيني وأصحابُه الذين أُبعدوا معه، ويحدث في البندقية منظرٌ مؤثر، وذلك أن آخر الرؤساءِ مانِينَ الذي سجنته الشُّرْطة النمسوية أطلقه الجُمهور الآن فغادر سجنَه القاتمَ القائم في قصر الرؤساء وتَوَجَّه من فوره إلى غرفة مجلس الجُمهورية الرائعة ليمارس أعمالَه. وكان إذا ما تَكلَّم السادةُ الأجانبُ عن الاعتدال يَنطِقُ بالكلمة الآتية التي يمكن الشعوبَ المضطهدةَ أن تُرَدِّدَها مُجَدَّدًا، وهي: «لا نَودُّ أن تَغْدُوَ النمسة أكثرَ إنسانية، وإنما نريد أن تذهب.» ويَقْرَب رأسُ مانِينَ الجميلُ الرزينُ من مثال رجل الأعمال الأمريكيِّ ولكن مع كثير شحوب وكَرْب.

بَيْدَ أن جميع الآمال التي نشأت عن تلك المُقَدِّمات الجميلة زالت بعد بضعة أسابيع، فما كان من سوء عُدَدِ الجنود وتردُّد البابا واحتراز بعض الدوكات من بعض أَسْفَر عن هزيمةٍ سريعة ساحقة، ويَتَنزل ملك سَرْدِينْيَة عن منصِبه، ويَسْهُل إطفاءُ نار الفتنة في كلِّ مكان، ويعود الأمراء، ويَفِرُّ المهاجرون مُجَدَّدًا، ويكون مَزِّيني ومانِينُ بَيْنَ هؤلاء. وكان هذا الأخيرُ قد قاوم كأحد أبطال بلُوتَارْك، ولَمَّا حاصر النمسويون البندقية، وكانت الهَيْضَةُ٢١ والمجاعةُ مع جائحة الحرب، كان من الجرأة ما نصح معه بتسليم المدينة مُخاطرًا بحياته، وهو لم يَنْجُ إلَّا في الساعة الأخيرة، وقد اضْطُرَّ هذا المُسِنُّ إلى كسب عيشه في باريسَ بإلقاءِ دروس.

ولم يَدِبَّ اليأس في قلب كافُورَ مع ذلك، وقد أدار في بدءِ الأمر شئونَ دوكيةِ بيِمُونَ الصغيرةِ في عهد الملك الشابِّ الجديد ثم أدار إيطاليةَ الكبرى، فأقام الدليل بأعماله على استعدادٍ دبلميٍّ يُذَكِّر بما لدى أعاظم البابوات من الطلاينة.

وما كان من براعة كافُورَ بعد حَرْب القِرِم في نَيْل عَوْنِ نابليونَ الثالثِ ضدَّ النمسة في سبيل إيطالية المُوَحَّدَة، وما كان من أسلوبه الذي نجح به في حمل هذا الإمبراطور المتردد على إنجاز وعده في أثناء نُزْهةٍ صيفية، أمورٌ تَنِمُّ على دِبْلُمِيَّتهِ العجيبة الإيطالية الخالصة. حتى إنه جَرُؤ في مقابل ذلك أن يَعِدَ الفرنسيين بنيسَ وسافْوا، بهذين البلدين اللذين يريد الطلاينة استردادَهما في الوقت الحاضر، فلما أوفى بعهده بعد النصر أثار حقد القوميين ضِدَّه. وقد ظَلَّ متصلًا سِرًّا بزُمَرٍ من المؤتمِرين في داخل البلاد، بهؤلاء الذين كانوا كلُّهم راغبين في النظام الجُمهوريِّ غيرَ واثقين بوزير الملك. وما كان هذا الرجل الخالص النُّبْل ليمتنع عن أيِّ اعتصارٍ على أن يعود بنفعٍ لإيطالية، ومن ذلك أن تَوَعَّدَ نابليونَ الدائمَ التردُّدِ بنشر وعوده في أمريكة، وأخيرًا يسير الإمبراطور سنة ١٨٥٩ ويَهْزِم النمسويين بسرعة في ماجِنْتَة وسُولْفِرِينُو، ثم يَقِفُ في منتصف زحفه الظافر، ويداري المغلوب، ويصالح الإمبراطورَ الشابَّ فرنسوا جوزيف في وقتٍ قصير غيرَ مطالبٍ بغير لُنْبارْدية من أجْل إيطالية تاركًا البندقية لآل هابسبرغ.

ويَشْعُر كافُور بأنه غُرَّ، وينسى كلَّ حَذَرٍ وكلَّ أُلْفَةٍ فيبدو عنيفًا شديدًا تجاه الملكِ حينما أعطى الملكُ بما لَهُ من سلطانٍ حليفَه نابليون نصفَ ثمن النصر، وما أمرُ دِبْلُمِيٍّ خليلٍ ككافور في غضبه إلا كبحيرةِ غابةٍ تَلُوح هادئةً دومًا فتثيرها ريحٌ شديدة بغتةً وتُحَرِّكها بقوة، ويصادِم كافورُ زعيمًا آخر بعد عامين ويموت بعد زمن قليل.

والزعيمُ الآخرُ هو بطلُ الحريةِ الرِّوائيُّ غَرِيبَلْدِي العارفُ بإيطالية أحسن من سواه والذي ساح فيها أكثر من جميع الطلاينة، وكان غَرِيبَلدِي في صباه قد أعان أباه التُّوَيْجِرَ كما صنع كريستوف كولُونْبس. وكان قد أَفْلَت من نظام الإكليروس راكبًا سفينةً منضمًّا إلى ثَوْرِيِّي مَزِّيني كبحريٍّ، ويُحْكَم بإعدامه فيَفِرُّ إلى أمريكة الجَنوبية وينغمس في ثورات البِرازِيل وأُرُوغْوَاي، ويُسْجَن ويُعَذَّب هنالك ثم يُطْلَق ويعود إلى الحرب ويشترك في فتح بورْتُو ألِيغْري حيث يُلَاقي امرأةً من بني قومه ويتزوجها.

وقد انجذب غَرِيبَلْدي إلى النزاع عن ميلٍ إليه أكثر من انجذابه إليه عن تحقيقٍ لمبدأ سياسيٍّ، ولم يكن مرتشيًا كزعماء العِصابات بل كان مختالًا وَلُوعًا بالمجد، ومما حدث في أثناءِ قيامه بخدمة أُرُوغْواي أن نَفِدَت عُدَّتُه فأحرق سفينته وفَرَّ، ومما حدث في وقتٍ آخرَ أن ظَلَّ راكبًا نهارًا بأسره مع جرحٍ أُصيب به وهو يقاتل في سبيل جُمهورية رومة. وإذا ما قيل إن مَزِّيني أحبَّ الحرية وإن كافور أحبَّ إيطالية قبل كلِّ شيء، أمكن أن يُقَال إن غَرِيبَلْدي كان يبحث عن المغامرة قبل كلِّ شيء، وكلُّ شيءٍ أصابه، ومنه حبُّ زوجه وموتُها، تَمَثَّلَ له منظرًا روائيًّا، مع أنك لا تَجِدُ في شخصِه مُمثِّلًا قبل مشيبه على الأقل.

ويجاوز هذا القائدُ القديم لفرقةٍ إيطالية سِنَّ الأربعين قليلًا فيُضْطَرُّ إلى الابتعاد بعد هزيمة بيِمُون، ويشتغل عن ضرورةٍ في مصنعِ شمْع بنيُويُورْك ثم في سفينةٍ تجارية غيرِ منتظمةِ الأسفار.

وتمضي عشرة أعوام فيظهر غَرِيبَلْدِي في ميادين القتال ذاتها جنرالًا، ويمضي وقت قصير فيتزوج كُونْتِسًا ولكنه يتركها من فَوْرِه تقريبًا، فلما كانت السَّنةُ القادمة؛ أي سنة ١٨٦٠، يُوَفَّق بعد النصر على النمسة لمخادعة العدوِّ ويركب البحر مع ألفٍ من المتطوعين، مع «الألف» المشهورين، وينزل إلى صِقِلِّية بعد بضعة أيام فيقهر كتائب الملِك البُورْبُونِيِّ، ويصبح بعد أسابيعَ قليلةٍ طاغيةَ نابل وصِقِلِّية المفتوحتين، ويُبحِر في الغد إلى جُزَيِّرَة منفردة حيث يَمْلِك مزرعةً وحيث يرغب في القيام بأعمال ريٍّ وكتابة أشعارٍ ورؤية أحلام.

ويَظَلُّ فتحُ جَنوبِ إيطالية عَمَلَ غَرِيبَلْدِي القوميَّ العظيمَ؛ لأنه كان الشَّرْطَ المُقَدَّم للاتحاد الإيطاليَّ؛ ولأن كافُورَ نفسَه لم يَجْرُؤ على إنزال هذه الضربة فوق رُقعة الزمن السياسية، ويكتب الملك كتابًا إلى غَرِيبَلْدِي يمنعه فيه من دخول نابل مع اشتماله على حاشيةٍ يُوعِزُ فيها بألَّا يُطِيع. ولم ينفكَّ هذا المغامر الجريء في المعارك القادمة يَرْبُك الدول التي كانت تحاول الانتفاع به؛ وذلك لأن الملوك لا يُحبُّون الاستفادة من الثوريين، ولو كانوا نافعين لهم، كما يَخْشَوْن الثَّوْرات، وذلك كما نشاهد الآن من العلاقات بين لوردات الإنكليز وزعماء عمال الروس، ولم يكن كلُّ واحدٍ من البطلين القوميين كافور وغَرِيبَلْدِي اللذين يُمَجَّدان اليوم معًا ليَشْعُرَ بمَيْلٍ أو ثقةٍ نحو الآخر.

ويداوم غريبلدي على الكفاح حين كانت الهُدْنَةُ أمرًا مرغوبًا فيه سياسيًّا؛ ولذا يُقْصِيه أبناءُ وطنه عن المَسْرَح و«يرافقونه» إلى جزيرته الصغيرة، ويَهْرُب منها ابنًا للستين من سِنِيه فاتحًا لنفسه طريقًا من بين الأسطول، فهو وإن كان يُحِبُّ الحياةَ الرِّعائية الشعرية لم يُرِدْ أن تُفْرَض عليه، ومع ذلك فإن القيادة أمرته بعد حين بالكفِّ عن إطلاق النار فأجابها بكلمته المشهورة «أُطِيعُ»، ويقوم بنصف دَوْرٍ. ولما انتهى القتال في إيطالية حاول القيام بمغامراتٍ جديدة فانضمَّ إلى الفرنسيين في محاربتهم الألمان، ولما عاد رَفَضَ كلَّ هدية وتكريم مُصَرِّحًا بأنه لن يَقْبَل ذلك ما دام الحزب الذي عاداه قابضًا على زمام الحُكْم، وقد باشر تنظيمَ مجرى التِّيبِر إلى رومة، وقد تَزَوَّج للمرة الثالثة فاقترن بامرأة رُزِق منها عِدَّة أولاد.

وهكذا عاش وَفْقَ طبيعته حتى الخامسةِ والسبعين من سِنِيه، وهو ما انفكَّ يحافظ على قَوَامه المكين مع عينيه اللامعتين الحالمتين المنيرتين لوجهه المُرَبَّع اللِّحْيَانيِّ.

وأكبر خصمٍ لغَرِيبَلْدِي هو البابا، لا النمسة ولا البوربون ولا كافور، ومع ذلك فإن غَرِيبَلْدِي لم يحارب أبا النصرانية، بل كان يحارب شخصًا خاصًّا ورجلًا حديديًّا مولودًا محاربًا كما كان أمرُه هو، ولم يكن البابا ذا مزاجٍ روائيٍّ، ولم يكن البابا ولوعًا كغَرِيبَلْدي على العموم، وعلينا أن نعترف إذَنْ بأن الحَبْرَ الحاكمَ كان أعلى من المغامر كرجلِ دولةٍ، وهو قد وُلِدَ طاغيةً على خلاف غَرِيبَلْدِي.

كان بيوس التاسع قد أراد في شبابه أن يتخذ العسكريةَ مهنةً له ككافور، وهو قد صار قطبًا سياسيًّا عن إبعادِ الصَّرْعِ له من الجندية، لا عن نُفُورٍ من السلاح، وهو قد كان ككافورَ سليلَ آلٍ من الكونتات، وهو يُشْفَى من الصَّرْع مع عدم استعدادٍ للخدمة العسكرية، وهو يصير قَسًّا حين مناهزته الثلاثين فقط، وهو يصبح رئيس أساقفة بعد مرور عشر سنين على ذلك، وهو يُنْتَخَب بابا ابنًا للرابعة والخمسين. وإذا رَجَعْتَ البصر إلى جميع مَن جلسوا على عرش القديس بطرس من البابوات وجدتَه أطْوَلَهم مدةً، وجدتَ عهده قد دام ثلاثًا وثلاثين سنة، وقد سلك سبيلَ الحُكام المُطْلَقين، ففارق أقدم التقاليد، وكان ذا رأسٍ نادرِ الجمال، مع فكٍّ صارم وأنفٍ بارز وعينين نَجْلاوَيْن دَجْنَاوَيْن … وكان فمه الحِسِّيُّ ونظره الشهوانيُّ يُلَطِّفَان معناه ويوجِّهان أبصارَ النساء إليه. ويَقْبِض على زمام الأمور في سنة ١٨٤٦ بين أعنف رَجْعِيَّه، فيَعْزِم أن يكون حُرًّا عن اعتقادٍ وعن طموحٍ مناصَفَةً، ويبدأ عَهْدَه بعَفْوٍ عامٍّ ويتكلم عن إصلاحاتٍ ويُعَيِّن عَلْمانيين لإدارة شئون رومة والدولةِ البابوبة، وتَقْرَع الثورة بابَ الفاتيكان البرونزيَّ فيوافق، ككثيرٍ من الملوك الخائفين، على دستورٍ قائلٍ بمجلسين على أن يُعَيِّن أعضاءَ أحدِهما، ولكن ماذا يصنع بالكتائب التي تزحف من إيطالية الشمالية إلى النمسة؟ كانت تطلب بَرَكَتَه ما دامت كاثوليكيةً إيطاليةً في آنٍ واحد، وهنالك يَخْشَى بيوس التاسع شجاعةَ نفسِه كمُعْظَم الأمراء الأحرار فلا يريد أن يُفْسِدَ صلاتهِ بآل هابِسْبُرْغَ الكاثوليكِ فلا يَمْنَح الكتائبَ بَرَكَتَه إلَّا «داخل الحدود»، وهذا الطرازُ هو أدعى الأمور إلى الضحك حول قِسِّيسٍ يطلب من الرَّبِّ حماية جيشٍ، وتَمُرُّ أربعةُ أسابيعَ فيَتَحَصَّنَ وراء الحياد.

وتُبْصِرُ رومة أنها على رأس إيطالية المُوَحَّدَة، وتَغْضَب، ويقاسِمُها الغضبَ جميعُ شِبْه الجزيرة، وتقع فتنةٌ، وتَحْمِلُ البابا على تسريح حَرَسه السويسريِّ وعلى قبول حرسٍ مدنيٍّ، ويصير البابا أسيرًا بذلك في بضعة أيام، وهنالك يَلْبَس البابا حُلَّةَ رجلٍ دينيٍّ عاديٍّ كما كان يلْبَس في فَتَائه، وهنالك يَفِرُّ البابا مع بعض الأصدقاءِ إلى ملك نابل. عجبًا! غادر البابا رومة! وهل عادت القرون الوسطى وأَفِينْيُون؟ وهل طُرِد البابا من قِبَل التُّرْك أو من قِبَل فاتحين أجانب؟ إن الكاثوليك الرومان هم الذين حَجَزُوه، إن لم يكونوا قد طردوه في هذه المرة! وعند ذلك تصبح رومة جُمهوريةً، وتُحَوَّلُ الدولة البابوية وأموال الكنيسة إلى أمور زمنية، ويَدْخُل الأوروبيُّ الحُرُّ مَزِّيني في الحكومة ليواصل حُكْمَ خليفة القديس بطرس، وتتعاقب الحوادث مثلَ جدالٍ بين رجلين ليُعْرَف أَيُّهما يَقْذِف نفسه في الماء ليُنْقِذَ غريقًا وأين تُغْمَرُ الضحية في تلك الأثناء. ويرغب نابليون الثالث أن يُتَوَّجَ مثلَ عمه فيُعِيد البابا بنفسه ويجعله شاكرًا له، ويَنْزِع هذا الامتيازَ من النمسويين الذين كان لديهم من الأسباب الخاصة ما يُعِيدون به دولةَ البابا التي يَعُدُّونها مانعةً من توحيد إيطالية، ويَحْلِف غَرِيبَلْدي قائلًا: «رومة أو الموت!» ويزحف مع كتائبه إلى رومة، وتُشاهَد عندئذٍ معاركُ بين الفرنسيين ذوي السراويل الحُمْر والطلاينة ذوي القمصان الحُمْر، ويُشاهَد حِصارُ رومة كما في زمن الوَنْدال وعَهْدِ شارلكن، وتُشاهَد مفاخر الغَرِيبَلْدِيين التي تَنِمُّ على البطولة، ومع ذلك كان هؤلاء وحدَهم، فاضْطُرُّوا إلى ترك الميدان في نهاية الأمر، وهَرَب زعيمُهم إلى أمريكة بعد مِحَنٍ لا حدَّ لها، وعاشت جُمهوريةُ رومة، ووُجِدَت في خمسة أشهر، كما في زمن رِيَانْزِي في القرن الثالثَ عشرَ، ومع ذلك فإن البابا، الذي كان مَقْصِد مَن ساعدوه، لم يَعُدْ إلا بعدَ عام، وهل يبدو راعِي النفوسِ هذا رحيمًا؟

يرجع إلى غرائزه الاستبدادية هذا الذي ظَلَّ في منفاه ثمانيةَ عشرَ شهرًا، ويرغب في الانتقام هذا الطاغيةُ الذي جُرِحت عِزَّتُه واضْطُرَّ إلى الفِرار ليلًا مُتَنَكرًا، وهذا إلى ارتباطه، مدةَ نفيه، في اليسوعيين الذين لاءمته فلسفتهم كثيرًا، ويَعُودُ فيزيد الطَّرْدَ والحبسَ والتنكيل في رومة، ويُفْرَط في ذلك فيُضْطَرُّ ضباطٌ من النمسويين إلى ردِّ جماح القُسُوسِ القُسَاة، ويُعْوِزُ الناسُ، ويغتني القساوسةُ على العكس، فيموتُ سكرتيرُ دولة البابا أَنْطُونِلِّي عن ثروةِ خمسةٍ وعشرين مليونَ دولارٍ مع أنه وُلِد فقيرًا.

ونظامٌ مثلُ هذا يُسْفِرُ عن حقد الشعب على الفاتيكان إِلى حَدٍّ لا يَعْرِفه الناس منذ تنازُعِ البِزَنطيين، وتشتدُّ الحركة القومية حَوَالي منتصف القرن، وتُدَانُ دولة البابا لأسبابٍ سياسية أيضًا، ويُجادَل في جميع أوروبة حول زَمَنِيَّةُ البابوية، ويَنْشُر عالِمٌ إِيطاليٌّ من علماء اللاهوت رسالةً مُغْفَلَةً مُتَّبِعًا فيها رأي كافور، وتَنْفَتُّ دولة البابا وتخسر ثلثي أملَاكها بعد انتصار الفرنسيين على النمسة. وكان جميع العالم يترقب تحوُّل رومة، لا فلورنسة، إلى عاصمةٍ طبيعية للمملكة الحديثة حينما أدى دخولُ البندقية في اتحاد سنة ١٨٦٦ إلى تعزيز هذه الأخيرة، ففي هذا الدور حَمَى نابليونُ الثالث دولة البابا بفيالقه وشخصَ البابا بسطوته.

ويَنْمُو في هذه السنين زَهْوُ الشائبِ بيوسَ التاسعِ وتَحَدِّيه الاستبداديُّ مقدارًا فمقدارًا فيناهض الحرية ويبدو شديدًا، ويحاول الانتقام لتصغير دولته بعصمته فوق هذا العالَم الفاسد، ويطالِب للكنيسة بسلطانٍ على التربية والتعليم، ويكافح حقوقَ الإنسان وحقوقَ الشعب وحريةَ العالم والضمير. ويُرْسَمُ لوحٌ للمجمع الدينيِّ الكبير، الذي عَقَده في كنيسة القديس بطرس وشَبَّهَهُ بمجمع ترَانْت الدينيِّ، فيُصَوَّرُ فيه جالسًا على عرش القديس بطرس منفردًا عن أكابر الأعيان الذين اشتركوا فيه.

ويُوَطِّد بيوسُ التاسعُ مبدأَ الاستبداد البابويِّ المخالفَ لجميع التقاليد ما كانت المجامعُ الدينية مستقلةً في الماضي وما كان الإجماعُ ضروريًّا فيها، ويريد البابا أن يُعْتَرَف بعصمته في ذلك الحين، ويَهُزُّ هذا الزعم أمريكةَ التي أرسلت ١١٣ نائبًا، ويخالفُ هذا الزعمَ منذ البُداءة ١٥٠ مُصَوِّتًا من ستمائة مُصَوِّتٍ في الاقتراع السِّرِّيِّ، ويَجِدُ البابا إنكارَهم أمرًا بسيطًا، ويذكر القسوسُ مثالَ غريغوارَ السابع، ويعلن بيوس التاسع عصمته الخاصة في جميع مسائل الإيمان والأخلاق في الاجتماع الكبير الذي عُقِدَ في كنيسة القديس بطرس في يولية سنة ١٨٧٠. وإنه لَيَتكلم إذ يَلْمَع البَرْقُ ويَقْصِفُ الرعدُ، ويذكر القساوسةُ في أنفسهم الفصلَ التاسعَ عشرَ من سِفْرِ موسى الثاني (الخروج)، ويُمْكِن الحربَ الفرنسيةَ البروسيةَ التي نَشِبَت قبل ذلك ببضعة أيامٍ أن تُلْهِيَ العالَم وحدَها، ويحِسُّ بيوس التاسع أنه في الذُّرْوَة من سلطانه، فقد أصبح معصومًا في الثامن والسبعين من سِنِيه وصار أقوى من جميع الملوك!

وتقع واقعةُ سِيدَان بعد ستة أسابيع فتقضي على إمبراطورية نابليون، ويلوح حَظٌّ جديد لإيطاليةَ التي نال الأجانبُ نصرين لها في أمرين، ويغادر الملك فلورنسة حالًا ويجاوز حدودَ المملكة البابوية الصغيرة، ويُعَدُّ دَوْرٌ لفتح رومة، ما جَلَت الكتائب الفرنسية عن رومة منذ أسابيع، وتزحف كتائب الملك إلى رومة بلا قتال، كما كانت قد دخلت ميلان والبندقية سنة ١٨٥٩ وسنة ١٨٦٦ لِنَيْل النصرِ لها مُقَدَّمًا من قِبَل جيوشٍ أجنبية.

ويرى البابا المعصومُ نفسَه أسيرًا من فوره بعد شهرين فقط من ارتقائه العالي، ومن الواقع أن تُرِكت له كرامتُه وحريتُه الشخصية وحَرَسُه الخاصُّ وثلاثةُ قصور، وأن عُرِضَ عليه مالٌ أيضًا، وقد رفض الحريةَ والمال؛ لأنه وهو الطاغيةُ المُهَان فَضَّلَ عليهما اعتقادَ العالَم كونَهُ أسيرًا. وتُنْسَجُ أسطورةٌ جديدة قائلة إن التجار في البلدان الكاثوليكية باعوا حُزَمَ المَوْص٢٢ التي كان البابا ينام عليها، ومن الواقع أن كان البابا يعيش في قصره ذي الرِّداه الكثيرة والحدائق العجيبة فلا يخرج منه إلَّا نادرًا عن تقدُّمٍ في السِّنِّ.

وذلك حادثٌ مهمٌّ في البحر المتوسط؛ وذلك لأن خليفة القديس بطرس يقتصر مرةً أخرى على تلك السلطة الروحية التي كانت لأسلافه الأقدمين؛ وذلك لأن من الحماقة أن كان للحَبْر الأعظم أَرَضون وكتائبُ وشُرْطَةٌ ومحاكمُ وضرائب؛ وذلك لأن على الدولة البابوبة أن تزول إذا ما وجب ظهور إيطاليةَ مُوَحَّدَةً أمام العالَم. وكان قد ملك رومة أباطرةٌ وبابواتٌ، فلما حاولوا الحُكْم معًا كانت الحرب أو النفي نصيبَ أحد الفريقين، وكانت أَشْعِرةُ السلطة قبضةَ أيدٍ واحدة ما ظهر الملوك أحبارًا عالين، شأنَ الفراعنة وبعض أباطرة الرومان وشأنَ الخلفاء، وقد وجب فصل بعض هذه الأَشعرة عن بعض فصلًا تامًّا ما وُجِدت منفصلةً، ويُعَدُّ من الغرائب تتويجُ أميرٍ من قِبَل آخر. ويبدو بيوسُ التاسع من طول العمر وشِدَّة الاستبداد وعِظَم العصمة ما لا يَشْعُر معه بنصره الحقيقيِّ من خلال غَلَبِه الظاهر، ويُدْرِك الأمرَ خَلفُه ليون الثالثَ عشرَ مع ذلك، فينال احترام العالم بأَسره من أجل السُّدَّة الرسولية. وتقوم في وسط البحر المتوسط مملكةٌ قوية مُوَحَّدة مع تجانسِ حكومةٍ ولغةٍ في نهاية الأمر، ويكون ملك إيطالية من النُّبْل ما لا يَنْزع معه قورسقة من فرنسة أيامَ انكسارها مع أن حزب كلِيمَنْسُو الشابِّ عَرَضَها عليه، ومع ذلك كان يَوَدُّ أن يستوليَ على تونس لو لم يمنعه الأسطولُ الإنكليزيُّ المتوعِّدُ من ذلك، وشمالُ أفريقية هو المجال الطبيعيُّ لتوسُّع الدولة الجديدة بحكم الضرورة.

وكان للمِلاحة بالقوة المحركة الجديدة؛ أي البخار، وَثْبَةٌ جديدة، ومما يجدر ذكره أن القائدَ النمسويَّ تِجِتْهُوفَ أولُ مَن استعمل مراكبَ مُصَفَّحَةً لقهر الطلاينة، وكان هذا في سنة ١٨٦٦. وكانت الأمم التي أنشأت سُفُنًا بخارية، أو معظمُ هذه الأمم على الأقل، من الأمم الحُرَّة، وصارت وسائل النقل أعظمَ سرعةً وأكثرَ عددًا في كلِّ مكان، وزادت المنافسة من كلِّ ناحية، وأخذ البحر المتوسط ينتعش بعد أن نُسِيَ زمنًا طويلًا، وظهر أن كلَّ ما يُبْحَث عنه للتجارة العالمية هو منفذ جديد، وأوشك الباب الذي أُغلق مُدَّةً تزيد على ألف سنة أن يُفْتَح للمُتَفَجِّرات، واقتربت الساعةُ الحاسمةُ التي يُحَرَّر فيها هذا البحر الداخليُّ.

١٧

كان سادةُ مصرَ قد قَهَرُوا بَرْزَخَ السويس خمس مرات في ألفي عامٍ ومنحوا البحر المتوسط منفذًا مصنوعًا ثالثًا فضلًا عن بابيه الطبيعيين: جبل طارق والدردنيل، وقد حُفِرَت هذه المنافذُ الخمسة بالتتابع نتيجةً لبراعة الناس وصبرهم قبل دَوْرِ الاكتشافات العظيمة بزمن طويل، وقد كان لهذه القناة من النتائج للجَنوب ما هو أعظم مما للبابين الطبيعيين في الشرق والغرب. والواقعُ أن الدردنيل كان لا يؤدي إلَّا إلى بحرٍ داخليٍّ، إلى البحر الأسود، وأن جبل طارق كان يُعَدُّ آخر الدنيا في ذلك الزمن ما جُهِلَ أمر المحيط الأطلنطيِّ. والواقعُ أن طريقَ رمسيسَ الكبيرِ كانت تَصِلُ البحر المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة النيل وبقناةٍ في دِلْتَا هذا النهر، وأن هذا النظام بلغ من دقة التصوير ما كانت السفن تقضي معه أربعةَ أيامٍ فقط بين البحرين. وتمضي سبعة قرون فيحاول أحد الفراعنة نِخَاو أن يُجَدِّد القناة فيَهْلِك العبيد اﻟ ١٢٠٠٠٠ الذين سَخَّرَهم لهذا الأمر نتيجةً لحَرِّ الصحراء؛ أي يَحْدُث من الهلاك ما لا يكترث له فرعون، ويقع العكس فيشير عليه هاتف الغيب بأن يعدِل لِمَا تُؤَدِّي إليه القناةُ من فتح طريقِ مصرَ لفاتحٍ، ومهما يكن من أمرٍ فإن الكهنة مصدرُ هذا الهاتف مهتدين بعواملَ اجتماعيةٍ وسياسية. ومما لا ريب فيه أن ملك الفُرْس دارا قد فتح مصر بعد تسعين سنةً وجَدَّد ذلك النظام، وقد عاد البطالمة إلى القنَوَات القديمة ووَسَّعوها ولكنهم لم يَلْبَثوا أن أهملوها، وقد حاولت كليوباترة إنقاذ مراكبها الفارَّة من الرومان بهذا الطريق ولكن معظمها لم يجد له هنالك مَمَرًّا.

ثم وَسَّع الرومان طريق البرِّ بين الإسكندرية والسويس، لتُوصِلَ إلى المحيط الهنديِّ، وقد أنشأ تراجانُ في نهاية الأمر؛ أي حوالي سنة ١٠٠ بعد الميلاد، قناةً مشابهةً للنظام المصريِّ القديم فلا يزال جزءٌ منها قاطعًا لمدينة القاهرة حيث يُعْرَف باسم الخليج.

ثم مضت خمسة قرون، فجَدَّد فاتحُ مصرَ العربيُّ عمرو بن العاص هذه الشبكات البحرية التي كانت قد رُدِمت منذ زمنٍ طويل، وهو لم يصنع ذلك قاصدًا إرسال البُرِّ المصريِّ إلى أوروبة، بل ليوصله إلى مسقط رأسه، إلى مرفأ مكة، ويخشى خَلَفٌ قريبٌ منه نتائجَ ذلك فيأمر بتخريب القنوات خَوْفًا من أن يدخل عُصَاة جزيرة العرب مصرَ كما كان الفُرْس قد فعلوا، ويقع ذلك سنة ٧٦٧، ومن ثَمَّ ترى أن طريقًا مائية بين البحرين قد جُرِّبت وعُرِف إمكانُها مَرَّاتٍ كثيرةً في ألفي سنة.

ومع ذلك فإنك لا تَجِد مَنْ خاطر فجَرَّب حَفْر برزخ السويس الضيِّقِ الذي تَقْطَعُه بحيراتٌ، فهذه الفكرةُ تامَّةُ الجِدَّة، وعصرُ النهضة وحدَه هو الذي عَنَّ له تحقيق ذلك لإقدامه على كلِّ شيءٍ ولوضعِه العناصرَ فوق الرَّبِّ ووضعِه الإنسانَ فوق العناصر. وقد وضع لِيُونار دفنْسي أعظم المشاريع للقنوات وأُتْقِنَ كثيرٌ من الأجهزة المائية، وقد ظهر البندقيون طلائعَ في هذا المضمار، وقد حفزهم حبُّ الكَسب إلى البحث في البحار المحيطة، ومَن يَعْلَمْ أنهم أرادوا حفرَ قناة السويس قبَيْل كريستوف كُولُونْبُس لا بعده، يَعْرِفْ مرةً أخرى أن الاختراعات العظيمة مرهونة بروح الزمن كالاكتشافات الكبيرة.

وكان البحر المتوسط صالحًا للتوسع، ومن المحتمل أن كان البندقيون يُوَفَّقُون للقيام بمشروعهم لو لم يَسْتَوْلِ الترك على مصرَ وعلى شرق البحر المتوسط في ذلك الحين، فهذا الأمر أَدى، مع الاكتشافات الكبرى، إلى انحطاط سلطان البندقية، ومع ذلك فإن المُعْضِلة بلغت من التوتر في ذلك الحين ما بَدَت معه لنائب ملك البرتغال في الهند الشرقية فكرةٌ حمقاءُ، فكرةُ تحويل مجرى النيل بالقرب من جزيرة بِلاق (الفيلة)؛ أي بالقرب من الشلال الأول، وذلك بقناةٍ تتجه إلى الشرق رأسًا مارَّةً من الصحراء إلى البحر الأحمر، وينطوي هذا العمل على إزالة دِلتا النهر.

ومع ذلك فإنه لم يُعْمَلُ شيءٌ حتى ظهور نابليون، وكان يساور نابليونَ حُبُّ المجد الكلاسِيُّ فرَجَعَ إلى خِطط الفراعنة، فأمر بقياس اتساع البرزخ الذي يُحْفَر وارتفاعِه، كما أمر بقياس كلٍّ من البحرين، وكانت هذه الحساباتُ قاطعةً من حيث نتائجُها ومن حيث ما أوجبه تقرير المهندسين من تنافسٍ بين أكثر الناس نشاطًا في أوروبة، ولم ينقطع الجَدَلُ حولَ المسألة منذ ذلك الحين. ولم يقع سادس اختبارٍ لبناء قناة السويس على نطاقٍ واسع وعلى منهاجٍ قاطع إلَّا سنة ١٨٦٠؛ أي بعد أحد عشرَ قرنًا من التخريب الثاني المقصودِ للقناة خَوْفًا من الغزو العربيِّ.

وما تَجِدُ من اختلافٍ بين الاختبارات القَصَصية الخمس الأولى التي تَفْصِل قرونٌ كثيرةٌ بعضَها عن بعض، وبين الخِطط التي لم تُنَفَّذْ، وبين الدِّراسات والمنازعات التي تَمَّت بين سنة ١٨٣٠ وسنة ١٨٦٠ فسبقت إنشاء قناة السويس، يُشَابِه الاختلافَ بين التماثيل العصرية وتماثيلِ مصرَ القديمة. أَجَلْ، أبصر رمسيسُ نزاعًا بين المبادئ والأشخاص أيضًا، غير أنه لم يَبْقَ لنا منه سوى تقاريرَ وجيزةٍ في هِيرُوغليفِ القبور والمِسَلَّات، وتلوح لنا حوادث شَفَقِ البشرية هذا كالشُّهْب٢٣ البعيدة الهائلة التي تنفصل عن الفَلَك فتتلاشى أمام شمس التاريخ.

وليس الصراع من أجل قناة السويس صِراعًا حقيرًا، بل هو صراعٌ رمزيٌّ ذو وجهين، والواقع أن صِنْفَيْن من الناس ونوعيْن من الدول تقابلا، والواقعُ أن الدولة التي اعتمد عليها رئيسُ أحد الفريقين هي التي خَسِرَت، فإنكلترة هي التي وُفِّقَتْ لاستملاك القناة وإن كان الفرنسيُّ دُلِسِّبس هو الذي أنشأها.

وكان أولُ مَنْ حَرَصُوا على صُنْع ما يُعَبَّر عنه بخط وصلٍ بين جزأي العالَم القديم مِثَالِيِّين حقيقيين، وهم قد تَذَرَّعُوا ببراهينَ عاطفيةٍ ففتحوا باب دعاية واسعة النطاق في سبيل إنشاء القناة، ثم استعانوا بمهندسين مُجَرَّبين لإعداد التصاميم، والنشاطُ الكلبيُّ هو الذي كان يُعْوِزهم، وإيمانُهم العظيم بالإنسانية هو الذي حال دون نجاحهم.

وكان المهندس الشابُّ أَنْفانْتن ابنًا لصَيْرَفيٍّ باريسيٍّ، وكان تلميذًا حَمِسًا للكونت سان سِيمُون، وكان قد سُجِنَ وأُبعد في الدور الأول من فَتَائه؛ لأنه جَرُؤَ على الكلام حَوْل إنسانيةٍ سَلْمِيَّةٍ مُوَجِّهًا الاكتشافاتِ الحديثة إلى ما فيه سعادة النوع البشري بدلًا من استخدامها في سبيل الحرب.

وقد ساعد أيضًا على تأسيس اشتراكية نصرانية، وتُبْدِيه إحدى الصور الفُتُوغرافية ذا شُعُور سُودٍ وذا لحيةٍ كأنه همجيٌّ «على طريقة روسُّو»، وتبديه صورةٌ أخرى حَلِيقًا من قريب، وتبديه ذا فَمٍ دقيقٍ كُوِّن ليتمتع بالحياة وذا عينين ملتهبتين تُعبِّران عن خِطَطِ طموحٍ، وقد كتبت تحت اسمه في هذه الصورة الثانية كلمةُ: «الرئيس الأعلى للديانة السَّانْسِيمُونية».

وكان فريق الناس الذي انتسب إليه أَنْفانْتن يَعُدُّ إنشاء إحدى القنواتِ هديةً إلى الإنسانية، وزار أَنْفانْتنُ مع أصدقائه مصرَ في سنة ١٨٣٣، وكان يمكنه أن يذهب إلى بناما أيضًا ما دار الحديث حول القناتين في ذلك الحين. وكان غوتة قد نطق بكلمةٍ قُبَيْل وفاته حَوْلَ هذا الموضوع فذكرها هَنْبُولْد لأحد المهندسين مُشَجِّعًا، وذلك أن الشاعر الثمانينيَّ قد أثنى على مشاريع حفر القناة كعاملٍ على تفاهم الشعوب وكفتحٍ إنسانيٍّ لِلْكُرَة الأرضية، وأنه كان يودُّ لو يعيش خمسين سنة أخرى ليرى إنشاءَ قناة السويس وقناة بناما، وقد تَمَّ إنشاء الأولى بعد أربعين سنة من ذلك، وتَمَّ إنشاء الثانية بعد ثمانين سنة من ذلك.

وقد اقتصر الشبان الفرنسيون، أو رُسُل القناة هؤلاء، في خرائطهم على حسابات مهندسي نابليون بونابارت سنة ١٧٩٩، ولكنهم بدءوا أعمالهم بلا مالٍ مكتفين بدراسة طائفة من التصاميم وحسابها ورسمها، وقد عاش صُنَّاعٌ وفنِّيُّون وكُتَّابٌ كعمالٍ على طرف الصحراء، وكانت العوامل المثالية حافزةً لهم، وكانوا لا ينالون هنالك أجرًا، ومَرِضَ منهم كثيرون ومات منهم خمسةَ عشرَ رجلًا بفعل الإقليم. وأصبح الفرنسيُّ العَمَلِيُّ لِينَانُ ذا صلات بصاحب مصر الشائبِ محمد علي، وكان هذا الأخير، الذي يحكم في مصر تامَّ الاستقلال، يَطْمَحُ إلى القيام بأمرٍ عظيم، وما كان يَبْغِي أكثرَ من أن يُرَى هؤلاء المهندسون يُنشئون سَدًّا كبيرًا على النيل قريبًا من الأهرام دالًّا بهذا العمل الفنيِّ على بُطْلِ الأهرام الجَبَّارة، ومن سوء الحظ أن حال الوضع السياسيُّ دون استمراره، ويعود مُحِبُّو الإنسانية خائبين.

ومع ذلك فإن حماستهم وتقاريرهم وكتاباتِهم أسفرت عن نشر فكرة القناة في جميع أوروبة، وتُحْمَل خِطتهم على معنًى سياسيٍّ حينًا من الزمن، وهذا ما أدى إليه تدخُّل أقطاب السياسة تِجاه العوامل الجميلة النبيلة التي أوحت إلى هؤلاء المُمَهِّدين. وكان عدمُ الاكتراث أولَ ما أبدته إنكلترة مُعَوِّلَةً على ما تَمَّ في زمن نابليونَ من حساباتٍ قائلةٍ إن المستوى بين البحرين يتطلب إنشاءَ أسدادٍ، وهذا ما يجعل تنفيذ الخِطة أمرًا مستحيلًا، ومن تلك الحسابات يُعْلَم أن مستوى البحر الأحمر أعلى من مستوى البحر المتوسط عشرةَ أمتار، ولتلك الحسابات يُرَى الرأي العامُّ الإنكليزيُّ في دور الخطوط الحديدية الأولى ملائمًا لفكرة إنشاءِ خطٍّ حديديٍّ يصِل ما بين الإسكندرية والسويس مارٍّ من القاهرة.

وكانت إنكلترة تقوم بعمل البريد بين القارَّات منذ زمن طويل، وكان كلُّ بريد آتٍ من الهند وآسية الشرقية في ذلك الزمن يمرُّ من السويس إلى القاهرة على أَسْنِمَة الجمال التي تقطع في الصحراءِ مائةَ كيلومتر في اثنتي عشرةَ ساعة. وكانت العربة التي تحمِل اثني عشر راكبًا تأتي بالمسافرين في يوم واحد إلى المحل الذي تَشُقُّ النيلَ منه بواخرُ ذواتُ دواليب، ثم تَجُرُّ حُصُنٌ هذه المراكبَ على طول القناة حتى الإسكندرية، حيث تنتظر باخرةٌ لحمل البريد الإنكليزيِّ إلى مرسيلية، حتى إنه لم يكن للبواخر النمسوية حَقُّ تَسَلُّم بريد الهند حينما بدأت تسير بين الإسكندرية وتريستة حوالَي سنة ١٨٥٠.

وكان عدم اكتراث الإنكليز للقناة يقوم على خطأٍ ما خُدِعَ مهندسو نابليون في حساباتهم، فمستوى البحرين كان واحدًا وكان يمكن إنشاء القناة بلا أسداد؛ أي بسهولةٍ نسبيةٍ وثمنٍ معتدل، فلما مضت خمسون سنةً واكتشف المهندسون خطأَ أسلافهم ذُعِرَت الحكومة الإنكليزية كذُعْرِ الفاتيكان حينما خَلَع الفَلَكيون الأرضَ كمركزٍ للكون. وهكذا بَدَت القناة أمرًا ممكنًا، وهكذا ارتجفت الإمبراطورية البريطانية، أفلا يحدث في المستقبل ما تُعَرَّض به طريق التجارة الإنكليزية للخطر وما يَسْهُل به مرور عدوٍّ طارئ؟ قال بسمارك: «إن قناة السويس هي عَصَبُ رَقبةِ الإمبراطورية البريطانية، فهي تَرْبِط السِّيسَاءَ٢٤ بالدِّماغ.» وقد أخذت إنكلترة، التي تُعْنَى برَفَاهِيَة الإمبراطورية أكثر من عنايتها بخير الإنسانية، تنصب المكايد ضدَّ إنشاء القناة.

وهنالك تُحَوَّل المعضِلةُ إلى السؤال الآتي، وهو: أَيُعْمَل في سبيل خير الإنسانية أم تُتَّبعُ لُعْبَة الشِّطْرَنج السياسية؟ ويُوَجِّه هَنْبُولْدُ إلى القناة نظرَ مهندسٍ نمسويٍّ اسمُه نِغْرِلِّي، ويَنِمُّ وجهُ نِغْرِلِّي على مُوَلَّدٍ ألمانيٍّ إيطاليٍّ، وكان هذا رجلًا مِفْضَالًا قد قام بأعمالٍ عظيمة على الرِّين وفي سويسرة، وقد درس نِغْرِلِّي مسألةَ القناة في موضعها فكان أولَ مَنْ وَضَع لها رسمًا حاسمًا. وقد وَجَدَ المِثَالِيُّ الفرنسيُّ أَنْفَانْتن مُعَلِّمَه فيه فأبان في كتابٍ كريم عن عَزْمِه على الامِّحَاء أمام نِغْرِلِّي، ويَحْمَسُ الصَّيْرَفِيَّان السويسريَّان الأَخَوَان دُوفُور للمشروع فيجمعان بصعوبةٍ أربعين ألفَ دولارٍ نفقة للَجنةٍ تدرس الأعمال، ويكون ابنُ مخترِع القاطرة ستِيفِنْسُن من أعضائها، وتكشِف مراسلةُ هؤلاء الرجال عن نُبْلِهم وكرمهم، وتَدُلُّ وجوهُهم على روحانيةٍ يَظُنُّ الإنسان معها أنه انتقل إلى عالَم رُوسُّو حيث يَتِمُّ النافعُ نظرًا إلى نتائجه الأدبية.

ومن المؤسف أن تَدَخَّلت السياسة من فَوْرِها في هذا الأمر فَحَطَّت من قدره. وقد اشْتمَّ محمد عليُّ ما في إنشاء القناة من فوائد فأبدى استعدادَه لدَفْع أجُورٍ عالية إلى المهندسين الأجانب على أن يعملوا تحت ظِلِّه، وكان خليفتُه الثاني شابًّا كَفِيًّا تَخَرَّج على الطريقة الأوروبية فكان مستعدًّا لمنح الأوروبيين بعض الفوائد إذَنْ. وتُعْلِن اللجنة الثلاثية ميلَها إلى مشروع نِغْرِلِّي مع اختلافِ رأيٍ بين أعضائها حَوْل النفقات، ويُتَّفَقُ أخيرًا على تقدير هذه النفقات باثني عشرَ مليونَ دولارٍ، وإن وَجَبَ أن يُنْفَق عشرةُ أمثال هذا المبلغ في الحقيقة.

ويُدْرَس المشروع في عشرين سنةً من قِبَل أناسٍ خالين من الغَرَض مع وجود كثير من أكابر الخُبَرَاءِ بينهم، ومع ذلك لم يُسَرْ إلى الأمام، فلم تكن المِثَالِيَّةُ كافيةً لحفر البرزخ، ويظلُّ البحر المتوسط مُغْلَقًا.

وكان لعزيز مصرَ الشابِّ أستاذٌ يُعَلِّمُه الفروسية الفرنسية في صِباه، فلم يَلبَث أن أصبح مرْشِدًا له، وكان هذا ابنًا للقنصل الفرنسيِّ العامِّ النافذ لمساعدته محمدًا عليًّا في سِنِي ارتقائه فكان يَشْعُر بشكران العزيز، ويصبح الابنان صديقين كما كان الأبوان، ويغدو سعيدٌ عزيزَ مصرَ، ويدعو إليه أستاذَه وصديقَه دُلِسِّبسَ من فوره.

١٨

كان آلُ دُلِسِّبس أبناءَ أُسْرَةٍ فرنسية شريفة قديمة، وكانوا قد تَلَقَّوْا تقاليد أكابر موظفي الدولة مع ثَقافة واسعة، وقد أثبت فِرْدِينَانْد دُلِسِّبس (١٨٠٥–١٨٩٤) صِدْقَ غريزته وتجربته في طِراز معاملته الشرقيين، وقد رُبِّيَ في القاهرة ثم عاد إليها قُنْصُلًا لبلده، ولا جَرَم أنه كان لا يجهل شيئًا من دراسات أبناء وطنه حول القناة، ولا جَرَم أنه كان جامعًا لصفاتٍ كثيرة متنوعة ما نَشَأَ صائدًا وفارسًا وتاجرًا وأديبًا وداعيًا وعالِمًا، والشيءُ الوحيد الذي كان يُعوِزُه هو عرفان الفنِّ، وصفاتُ المهندس وحدَها هي التي كانت تُعْوِزُه بين صفاته، ومع ذلك فإن إنشاء قناة السويس أمرٌ أُلقي على عاتقه.

وقد أقام الدليل على قوة طبعٍ أيامَ الطاعون في القاهرة كما أثبتها في أثناء عصيانٍ ببرشلونة، وقد أثار نشاطُه إعجابَ جميع العالَم لامتزاجه ببراعةٍ شرقية، ومن ثَمَّ ترى أن دُلِسِّبسَ كان مُعَدًّا للقيام برسالة سياسية ساطعة، ولا عجبَ ما وُجِدَ من الفرنسيين رجالٌ وَجَّهوا فرنسة فائزين. ويُرْسَل دُلِسِّبس إلى رومة لأمرٍ صعب، لإعادة البابا الفارِّ بيوسَ التاسع، ويؤدي تغييرٌ مفاجِئٌ في الحكومة الفرنسية إِلى نزع كلِّ نفوذٍ سياسيٍّ منه، ويُستعفى، ويقضي سنينَ كثيرةً في الأرياف، ويعزِم على عدم خدمة الدولة مطلقًا، ويلوح أنه أكبَّ على دراساتٍ مُنَوَّعَةٍ في أثناء عزلته.

ولما دعا تلميذُ دُلِسِّبسَ، سعيدٌ الذي صار إليه المُلْكُ، أستاذَه هذا إلى القاهرة، كان دُلِسِّبس في التاسعة والأربعين من سِنِيه، وكان سعيدٌ في الثانية والثلاثين من سنيه. وكان دُلِسِّبس غنيًّا معتزلًا للخدمة طموحًا أَيِّمًا طليقًا من كلِّ ناحيةٍ فعزم على تحويل خِططه القادمة سائرًا إِلى الأمام، ويسافر مع سيد مصرَ الجديد ذات مرة ويوضح له معنى القناة في العالم وفي بلده ويبدي له ضرورةَ إنشائها على وجهٍ يخالف ما انتحله أسلافه، ويكونان في معسكرٍ في صحراءِ ليبية فيَعْرِض دُلِسِّبس على سعيدٍ تصاميمَه التي اقتبسَ فيها جميعَ ما انتهى إليه نِغْرِلِّي تقريبًا، مُثْنِيًا على نِغْرِلِّي هذا مشيرًا على العزيزِ بأن يَدْعُوَه إلى تَوَلِّي الأشغال.

وعلى العكس يَتَكلم عن اللَّجنة الثُّلاثية كأمرٍ ماضٍ، يَتَكلم عنها كما يَتكلم عن قنَوَات رمْسِيس ودارا والبطالمة والعرب، وهو لا يَتَكلم كمخترع، بل يتكلم كمُلْتَزِم، وهو لا يزعم أنه واضعُ التصاميم بل يعترف بأنه اشتراها. وكان مخاطَبُه الشابُّ سعيدٌ، الطموحُ الماكرُ كدُلِسِّبس، يَثِق بهذا النصرانيِّ الأجنبيِّ أكثرَ من ثقته بمستشاريه المسلمين، وقد وافق على شَرْطَيْ أستاذه السابق؛ أي على وضع القناة تحت الرَّقابة الفرنسية وعلى أن يُعْهَدَ بالإنشاءِ إلى دُلِسِّبس نفسِه.

ويكون في جَيْبِ دُلِسِّبس، بعد نزوله إلى الإسكندرية بثلاثة أسابيعَ، إِذْنٌ ثمين في تأسيسه شخصيًّا شِرْكةً لإنشاء القناة، ويعود إلى أوروبة، ويُقْبَل في باريسَ بفتور وتَحَفُّظٍ، وتَجْهَر لُنْدن بمقاومته، ويظهر جميع الناس في هذه العاصمة خصومًا له، وتُوعِزُ الحكومة الإنكليزية إلى سفيرها في الآستانة أن يوضِّح للصدر الأعظم مقدارَ ما ينطوي عليه مثلُ هذا المشروع من خَطَرٍ في أيدي أُسْرَة الوُصُولِيِّ بالقاهرة إذا ما فَكَّرَت هذه المدينة في الانفصال عن تركية ووضعِها نفسَها تحت وصاية فرنسة، ويَرْفِضُ السلطانُ الامتيازَ، ويَصِفُ صَيَارفةُ لندنَ هذا المشروع بالخِداع، وتُحَذِّر الحكومةُ الإنكليزيةُ الجُمهورَ من الإعلانات التي تَحُثُّ على الاكتتاب بالأسهم، ويُحَدِّث بلْمِرْستُن الشهيرُ عن المشروع بأنه من «المشاريع الفُقَّاعِيَّة» الكثيرة، ولا يمنعه هذا من احتلال جزيرة برِيم في باب المَنْدب لغايات مفيدة، وغلادستن هو الإنكليزيُّ الوحيد الذي أدرك معنى المشروع، ووُجِدَ من المهندسين مَنْ صَرَّحوا بأن القناة لا تُنْشَأُ مطلقًا لِمَا يكون من استيلاء طين البحر المتوسط عليها.

ويَطْرُق دُلِسِّبس باب الصِّحافة والبُرْصَة، ويكتب رسائلَ، ويُنْشِئ مجلةً، ويجرؤُ في أثناء حرب القِرِم على قوله إن قناة السويس ستكون أَهمَّ من الدردنيل، وسيكون محتاجًا إلى خمسين مليونَ دولار ويَجِدُها، يَجِدُ معظمَها في فرنسة، ويجد نحو عشرين مليونًا لدى صديقه عزيز مصرَ سعيدٍ.

ثم يَضَعُ الدولَ أمام أمر واقع، ويُذِيعُ نبأَ إنشاء قناة السويس، ولكنه لا يُدْخِلُ إلى اللَّجنة أحدًا من المثاليين، من المُحَرِّضين الأصليين على المشروع، وذلك مع استثناء نِغْرِلِّي الذي كان من حُسن حَظِّ دُلِسِّبسَ موتُهُ بُعَيْدَ ذلك، وتُجْعَلُ مدةُ استثمار القناة من قِبَل الشِّرْكَة تسعًا وتسعين سنة ثم تُصْبِح القناة من حقوق مصر سنة ١٩٦٨، ويصير دُلِسِّبس رئيس الشركة، ويحوز خمسين مليون دولار، ويغدو من أعظم ملتزمي العالم، ولا تتجلَّى رغبته المباشرة في نيل أرباح بل في إنجاز العمل الذي اقترح تحقيقَه، أَجَلْ، كانت أهدافُه إنسانيةً فرنسية، غير أنه سار قُدُمًا عن طموح، ويَقْلب دُلِسِّبسُ أولَ حفنة ترابٍ بالمِجْرَفة بين احتفال عظيم في سنة ١٨٥٩ بدءًا للعمل، ويقوم المشروع على فصل أفريقية عن آسية، وسَيُحَقَّق جَمْعُ ما بين آسية وأوروبة في نهاية الأمر!

ويَجِدُ دُلِسِّبسُ حالين ملائمين في جهاده الذي دام عشر سنين تحقيقًا لمشروعه، فأما الأول فهو تأييدُ أُوجِينِي الكونتسِ الإسبانيةِ مولدًا والمتصلةِ بأُم دُلِسِّبس قرابةً، وتصبح أوجيني إمبراطورةَ الفرنسيين، ويُحتمل أن يكون دُلِسِّبس قد تَمَلَّقَها حين أثار مقارناتٍ بكريسْتُوف كُولونْبُس والملكة إيزابِلَّا، ويكون نابليون الثالث، السَّمَّاع لزوجه في الغالب، هو الذي يعاضدُ دُلِسِّبس معاضدةً فَعَّالةً حين حاولت إنكلترة أن تقطع العملَ مرة أخرى في أثناء أزمة حادة.

وأما الحادث السعيدُ الآخر فهو ما أبداه ديسرائيلي من اكتراثٍ تجاه القناة، فقد أدرك هذا الوزير الإنكليزيُّ إدراكًا تامًّا ما لهذا العمل الذي هو في دور التحقيق من أهمية تاريخية، فحاول أن ينال لبلده ما حاولت فرنسة أن تناله.

ويُتِمُّ دُلِسِّبسُ الستينَ من سِنِيه في أثناء العمل، ومع ذلك لا يزال مملوءًا نشاطًا مباليًا بالأمور وبابتياع الموادِّ وبإدارةِ جَحْفلٍ من العُمَّال جادًّا في إرواءِ أهواء السلطان والباشا والإمبراطورة أُوجيني، وأخيرًا يَتَغَلَّب على جميع الموانع الكثيرة بشِدَّةٍ كالتي يتغلب بها بطل الرواية على ما يعترض له من عوائق، ويمكننا أن نَتَمَثَّلَ ذلك بسَرْدِ ما يأتي: موت ألوف الفَلَّاحين في الصحراء، وحَظْر الباشا جَمْعَ آخرين، وقلة الماء الصالح للشرب،٢٥ وهبوط أسهم شِرْكَة القناة من ٥٠٠ دولار إلى ١٨٠ دولارًا، وخَطَر ما ينتظرها من إفلاس، واكتشاف صخورٍ من حجارةٍ قاسيةٍ إلى الغاية، وعدم عمل الآلات المهمة جدًّا، ومفاجئات في حسابات المَدِّ والجَزْر، ونقص الفحم، وتهديد الشُّرَكاء والعمال، والصحراء، والبحر، ومكافحة الناس والعناصر بلا انقطاع مدةَ عشر سنين، واليوم لا نَأْبه للأرقام كما لو كنا نقرؤها في قصة معركةٍ وقعت في القرون القديمة، ومع ذلك فإن المهندسين لا يزالون يُعْجَبُون بالقناة التي مَرَّ على إنشائِها سبعون سنة؛ لأنها تقطع الصحراء، لا بسبب أَبْعَادها، والصحراءُ مما كان يخيف ملتزمي الإنشاء، والصحراءُ تَفْتِن مسافرَ البحر في أيامنا مدةَ ثلاثَ عشرةَ ساعةً؛ أي مدةَ مجاوزة القناة.

وقد أُنْقِصت اليدُ العاملةُ الضرورية بمقدار الربع نتيجةً للبحيرات الخمس التي يمكن الانتفاع بها في سَيْرِ القناة على مسافة نحو مائة ميل بحري، ويلوح أن العَرْضَ قليل الاتساع ما دام مائةَ مترٍ في الأقسام الرملية وثمانيةً وخمسين مترًا في الأقسام الصخرية، وقد رأى كلُّ واحدٍ منا في مكانٍ ما من الحدائق ما طوله ثمانية وخمسون مترًا على الأقل، ومعظمُ الأنهار أكثرُ عرضًا، ويمكن عبورُ قناة السويس بقاربٍ مع ستٍّ وثلاثين جَدْفة، وتبلغ قناة السويس من العمق ما بين ثمانية أمتار وتسعة أمتار، أي ما يَعْدِل عمق حَوْضٍ عاديٍّ مرتين، وقُلْ مثل هذا عن الأرقام حَوْل التلال لهُزَالها المثير للسُّخْرية، فارتفاعُ هذه التلال يترجح بين عشرةِ أمتارٍ وستةَ عشرَ مترًا. وجميعُ هذا يُذَكِّر بإنشاء أيِّ نَفَقٍ كان، ومع ذلك فإن هذا المشروع قد تَمَّ منذ ثمانين سنةً في الصحراء المُرَكَّبة من رواسبَ غِرْينيةٍ، ومن صخورٍ في بعض المَرَّات، ويمكن تشبيهُ الرمل الذي تأتي به الريح فوق القناة والذي يَرْسُمُ صُورًا متقلبة كالجِنِّ ببَشَرة فتاةٍ ناعمةٍ تَسْتُر هيكلًا عظميًّا، ومن قول غوتة: «إن الطبيعةَ مستورةٌ بشيءٍ ناعم على الدوام.»

وسَلِم هذا العمل، الذي عُرِّض للخطر في الغالب، بنشاط رجلٍ كان ينقصه ما عند الطلائع الأولى من اندفاع مثاليٍّ، وأُثْبِتَ مرةً أخرى أن العَزْم والذكاء في مكافحة العناصر هما عاملان أعظمُ فعلًا من الخيال الذي أَسْفَر في أمر قناة السويس عن منح مُحَرِّكي المشروع أجنحةً. وأَنْجَزَ هذا العمل في ستِّ سنين رجلٌ لم يَضْرِب مدينةً بالمدافع ولم يَظلِم شعبًا، ولم يَقُدْ إلى النصر قومًا، ولم يُخَرِّب شيئًا خلا شريطًا من الصحراء الرملية الصخرية بالغًا من العرض مائة متر، وقد صُوِّر عملُه وحُقِّقَ ليبقى بعد جميع الإمبراطوريات التي فُتِحَت في الجوار بقُوِّادٍ وملوك. أَجَلْ، كانت العناصر عدوًّا له، غير أن مقاومتها تشابه مقاومةَ حيوان يَلْبِط تحت مِبْضَع الجِرَاحيِّ؛ لأنه لا يَعْرِف ماذا يُرَاد أن يُصْنَع به.

وأخيرًا تَحِلُّ الساعةُ المنتظَرة، ويَقِلُّ ضغط البحرين المتزايد، ويتدانى هديرُ أمواجهما وتُحِسُّه آذان الآدميين عما قليل، وأخيرًا يتحرَّران من طرفي أنف الأرض، ويَمْرُجان مياهَهما بمياه البحيرات الخمس التي كانا قد أحدثاها في هذه الأمكنة منذ أقدم الأزمنة، ويقع في يومٍ من شهر مارس سنة ١٨٦٩ أولُ تدفُّقٍ لأمواج البحر المتوسط نحو الجَنوب، وتمضي خمسة أشهر فتتجه أمواج البحر الأحمر نحو الشمال، ويَحِين يومُ ضربِ آخرِ مِجْرَفة، ويندُر أن يُسَرَّ رجلٌ بمثل ما سُرَّ به دُلِسِّبسَ حينما رأى مياه البحر الأحمر السُّمْرَ الخُضْرَ تُلاقي مياهَ البحر المتوسط الخُضْرَ الزرقَ وتختلط بها، واليومَ أيضًا يمكن أن يُمَيَّزَ باللون ماءُ كلٍّ من الجريانين من الآخر في أقصى طرفي القناة، ويَعْقُب ذلك احتفالٌ عظيم، فيَصِلُ أباطرةٌ وملوكٌ لعُبُور القناة، وتَعْزِف فِرَقٌ موسيقية، وتَسْطَع عَوَّاماتٌ مُلَوَّنة تحت الشمس، وتَخْفِق أعلامٌ بالريح، وتُوَجِّه المناورُ نورَها نحو السماء، ويُخْبِرُ البحرُ الأزرقُ والصحراءُ الصفراء باجتماعهما بعد فراق طويل. وتبدو الإمبراطورةُ الحسناءُ أُوجيني لابسةً تَنُّورَةً واسعة وتركَب السفينةَ مُمْسِكةً مِظَلَّة، وتُفَكِّر، على ما يُحتمل، في أن هذا العملَ العظيم لم يكن ليُحَقَّق لولاها، ويجلس دُلِسِّبس بجانبها طافحًا شبابًا مع بلوغه الستين، ويقول في نفسه، على ما يُحتمل، إنه كان على الجمال والذكاء أن يجتمعا، وإنه كان يمكنه أن يجعل هذه المرأةَ أكثر سعادةً مما جعلها به الإمبراطورُ المريضُ نابليون الثالثُ الذي هو سليلُ أسرةٍ أقلَّ قِدَمًا من أُسرة دُلِسِّبس بكثير.

وكان أولُ مركبٍ دَفَعَ رَسْمَ المرور من القناة يَحْمِل راية بريطانية، ويسقط نابليون بعد سنة ويُؤْسَر، وتُضْطَرُّ أوجيني إلى الفِرار من فرنسة، وتَحْرِم فضيحةٌ كبيرةٌ دُلِسِّبسَ راحةَ سِنِيه الأخيرةِ بعد عشرين عامًا، وكان نشاطُه الأكبر قد أوقعه بعد إتمام قناة السويس ببضع سنين فقط في العمل العظيم الثاني الذي كان جميع العالم يطلبه منه، ويُعْرِض عن تمثيل الدور السياسيِّ المهمِّ الذي عُرِضَ عليه فيداوم على العناية بالعناصر، وتكون قناةُ بناما الهدفَ الثاني الذي فَرَضه هذا الشيخ البالغُ من العمر أربعًا وسبعين سنةً على نفسه.

ومع ذلك فإِن إرادته هي التي ظلت شابَّةً لا عقلَه الذي شابَ، فقد بدا عنيدًا، فصار يُصِرُّ على قبول حُلُوله الخاصة، وما اتفق لقناته الأولى من نجاحٍ عالميٍّ أوقع الثانية في خطر؛ وذلك لأن دُلِسِّبس لم يكن ليريد الإصغاءَ إلى اعتراضات الخبراء؛ وذلك لأن دُلِسِّبس أراد أن يصنع قناة بناما بلا أسداد ما دام قد أنشأ قناة السويس من غير أسداد، فكان في هذا كالشيخ الذي يحاول معاملة زوجته الثانية التي هي أَفْتَى منه كثيرًا كما عامل زوجته الأولى فيما مضى، وقد أَدَّت مسائلُ المال، التي يَسْهُل تشويهها واستعمالُها ضدَّ الملتزم في مشاريعَ مماثلةٍ قائمةٍ على الملايين، إلى مشاغبات سياسية … ويَخْسَرُ أعظمُ ملتزمِ أعمالٍ في ذلك الحين نفوذَه وثروتَه معًا، ومن الممكن أن كان مذنبًا جزئيًّا بالاختلاسات التي اكتشفها خصومُه، ولكن أمر هذه المُهَرَّبات لم يَثْبُت، ويحتملُ ابنُهُ كلَّ تَبِعَة، ويَظْهَرُ الشيخُ غيرَ عارفٍ بالقضايا لاجتنابِ الحديثِ حولها أمامه … ولما مات دُلِسِّبس ابنًا للتسعين كان مُعْدِمًا تمامًا، ومع ذلك فإن ما أصاب عملَه من قيمة ونجاح زاد على كلِّ تقدير، وإذا ما قابلنا بين أرقام سنة ١٨٧٠ وأرقام سنة ١٩٣٥ وجدنا الوَسْقَ الإجماليَّ الذي يجاوز القناة في كلِّ سنة قد بلغ ثلاثين مليونَ طُنٍّ بعد أن كان أربعمائة ألف طنٍّ في البُداءة، وقد أصبح ما يُوَزَّعُ من أرباح هذا «المشروع الاختلاسيِّ» عن سهم اﻟ ١٢٠ دولارًا ٥٠٠ دولار بعد أن كان ٢٥ دولارًا.

ويتوصل دِيسْرائِيلي بضربةِ مُعْلِمٍ إلى تحويل هذا العمل الفرنسيِّ إلى مشروع إِنكليزيٍّ، وكان مخترع لقب الهند الإمبراطوريِّ محتاجًا إلى منازلَ كثيرةٍ بين إنكلترة والهند وصولًا إلى أغراضه في السياسة العالمية، كان محتاجًا إلى مصرَ قبل كلِّ شيء، فأغرى الخديو إسماعيل باشا، الذكيَّ مع خِفَّةٍ، بأن يَزْرَع قطنًا في دِلتا النيل وأن يستوليَ على أملاكٍ حتى عدن في النيل الأعلى، وذلك تحت إشراف إنكلترة، وذلك ليسهل على إنكلترة انتزاعُ أملاكه منه متى أرادت. وهكذا أدى دَيْنُ مصرَ الزائدُ بلا انقطاع وما يقضيه الخديو من حياةِ بَذْخٍ إِلى تدهور الخديو، فابتاعت إنكلترة منه أسهمَه في قناة السويس بسخاءٍ، ولم يطلب دِيْسرائِيلي إذنًا للقيام بهذه الصَّفْقة، وقد قام ممثله في القاهرة بالمفاوضات في عشرة أيام، ويمكن الحكومةَ البريطانيةَ أن تطالب بعدئذٍ بعشرة مقاعدَ في مجلس إدارة القناة وأن تنال بذلك صوتًا حاسمًا في تاريخ البحر المتوسط حتى أحدثِ الأزمنة.

وما اتصف به الإنكليز من شجاعة بارزة في الاعتراف بالخطأ حَفَز «التايمس»، التي ما انفكَّت في سنينَ تَشُنُّ غارةً على القناة، إلى نشر الاعتراف الآتي وهو: «إن إنكلترة ستضمن الأرباح التي يأخذها أصحاب الأسهم، وليكن في هذا عِوَضٌ عن خطأٍ اقترفناه!» وجملةٌ مثلُ هذه تَنِمُّ على أحسن تقاليد الإنكليز، وهي تُطابِقُ النمطيةَ الإنكليزيةَ البارزةَ أيضًا والتي أَلْزَمَتْ بريدَ الحكومة البريطانية بأن يَنْزِل في الإسكندرية مدةَ عشرين سنةً بعد فتح قناة السويس ليُنْقَل بسرعةٍ إلى السويسِ برًّا ثم يُحْمَلَ ثانيةً في السفينة نفسها.

وتمضي أربعةُ أعوامٍ على موت دُلِسِّبس فيُنْصَبُ تمثالُه على طرف الرصيف الطويل عند مدخل القناة ببورسعيد، فإذا ما جاء المسافرُ من أوروبة كان هذا التمثالُ أولَ ما يُبْصِرُ مسيطرًا على رمال أفريقية وآسية، وقد أصبح مثالًا لجميع من أنشئوا بعده قنواتٍ كبيرةً وأسدادًا فساعدوا الإنسانية على قهر العناصر، وعُدْتَ لا تجد أحدًا يذكر التُّهَم التي دَوَّت في العالَم.

فقد نُسِيَت الفضيحة، وبقيت القناة.

١٩

سفينةٌ تَجُوبُ الصحراء، ذلك هو المنظر العجيب الذي تَعْرِضه على مَنْ ينظر من البَرِّ إلى المراكب الكبيرة التي تمرُّ من قناة السويس مُتَمَهِّلَةً حَذِرَةً كثيرًا، ولكن الأثر الذي يُحْدِثُه ذلك فيمنْ يكون راكبًا إحدى تلك السُّفن ليلًا على الخصوص لا يُقاس بشيء في هذا العالم، فما يبدو من ضِيق القناة التي يلوح استيعاب السفينة نصفَ عرضها، وما يكون من اتزان السير البطيء، وما يُحَسُّ من كآبة الجوار، أمورٌ تثير منظرًا ميتًا يُزْلَقُ من خلاله داخلَ المَطْهَر في الليل البهيم بقيادة رُبَّانٍ ومُرْشِدٍ مُجَرَّبيْن كدانتي وفِرْجيل.

بَيْدَ أن عصر الكهربا لا يَدَعُ نفسه مَنْسِيًّا زمنًا طويلًا، فمنارُ بورسعيد يُلْقِي حولَه نورَه المخروطيَّ على ثلاث شُعَب، وتتبادل السُّفُن والشواطئُ إشاراتٍ ساطعةً، وتَظْهَر نجومٌ وتَقِفُ على ارتفاع معتدل، كما لو لاح أن إطار الجَوْزاء قد نَزَل إلى كُرَتِنا، ويَتقدم مركبٌ صغير نحونا بلا صوت، ويبدو شَبَحٌ صاعدًا في سفينتنا، وهذا هو دليل القناة، وتَصِرُّ المَرَاسي ويَلْطِم الماءَ نورٌ ساطعٌ بغتةً، وهذا هو مصباحُ قناة السويس الذي يهيمن على تلك الليلة ويَرْقُبها كعين الجبَّار.

وكلُّ شيء صامتٌ، ويلوح أن السفينة نَفْسَها تُمْسِك أنفاسَها، وهي تَزْلق رويدًا رويدًا من خلال القناة، ولا تجاوز سرعتُها خمسَ عُقَدٍ في الساعة مطلقًا، والسُّفُنُ الصغيرة الخاصة بشركة القناة وحدَها والتي تنقل أناسًا عابرين هي التي ترْسِل دُخَانَها المتدحرج من بين قِمْعِ نورٍ كحِصانٍ يَبْخَرُ مُتَنَفِّسًا في يومٍ باردٍ من أيام الشتاء، ولَسُرْعان ما يَضِيقُ شَرِيطُ الماء الذي أُنِيرَ بشدة، ويَنْفُذ ضياء الجَبَّار بين الرمل الدقيق في جهتي القناة.

ويظهر من الصحراء جبارٌ آخرُ بغتةً، ويتقدم نورُه العظيم رويدًا رويدًا، ويُعْشِي كلٌّ من النورين الآخرَ، كمصابيح السيارات التي تصير في الشوارع غيرَ مُبْصِرَة شيئًا، ومع ذلك فإن من الممكن أن يُسْمَع ما لا تُسْتَطاع رؤيته، ويُصْرَخُ، ويُنادى، باللغة العربية التي يَكْثُر فيها حرفُ العلة (أ)، وبما أن كلًّا من المركبين لا يستطيع أن يمرَّ بجانب الآخر فإن الضرورة تقضي بالانتظار في إحدى نقاط الالتقاء وَفْقَ بعض الأنظمة، ويَمُرُّ بعض المَلَّاحين على زَوْرق، وتُجَرُّ السفينة الكبرى إلى الشاطئ بقَلْسٍ٢٦ واحدٍ كما لو كانت قاربَ جَوَلان، وترتفع من جديدٍ صَرَخاتٌ ولَعَناتٌ، ويُسْمَعُ أمرٌ بالوقوف، ويُلْقَى المَرْسَى، وتَقِفُ السفينة في سواء الصحراء وفي وسط الليل، ويَمُرُّ بناءٌ عائم ذو ألف نورٍ زاحلًا ببطء، ولا يَبْعد كلٌّ من العملاقين من الآخر أكثرَ من ستة أمتار، ويُرْفع المَرْسَى مُجَدَّدًا، وتتحرك الآلات ويُجْذَب القَلْس، ويعمل المَلَّاحون ويُمْضَى من هنالك.
ويكتشفُ النهارُ الناشئُ تلك الصحراءَ التي يلوح أنها لا حَدَّ لها أكثر مما يلوح البحر، وما الذي يبدو محدودًا أكثر من خطِّ الأُفُق البارز في البحر؟ يبدو هذا الخطُّ غيرَ مُتَنَاهٍ في الوقت المُضِبِّ. ويُنْعِش الصحراءَ أكثرَ من البحر تزاحمُ الألوان المترجحةِ بين الأصفر والأزرق البالغ الزُّرْقة، وبين البرتقاليِّ والأخضر الزيتونيِّ، كما يُنْعشها تَنَوُّعُ الظِّلال، وتُحْدِث الريحُ جميعَ الأشكال في الصحراء، ويكون لكلِّ تحولٍ تأثيرُ وَحْيٍ، وتُقَادُ جِمالٌ إلى القناة وتمشي مشيًا وئيدًا كحيوانات مصرَ المقدسة، ويُصبح كلُّ مخلوقٍ رمزًا، وتَتَّجِهُ نحو دِلتا النيل سحابٌ لَيْلَكِيَّةُ اللون بعيدةٌ من هنالك، فيمكن أن تُرَى بالمِنْظار، فهذه هي النُّحام،٢٧ ويَجْثم على البحيرة المُرَّة ساكنًا على كفٍّ طيرُ الحكمة: الغَوَّاصُ الأسود، ويسيطر على خُلَيِّجٍ باشَقَان مُتَلَوِّيان ظاهرٌ أحدُهما فوق الآخر فيترصدان سمكًا في الماء، وتبدو نخلةٌ وحدَها بعيدةً قائمةً في الصحراء هنالك، وتبدو امرأةٌ مُبَرْقعةٌ فيما هو أبعد من ذلك، وتبدو الصحراء، وتبدو جماعةٌ من الجمال باركةً، وتبدو الصحراء أيضًا، ويبدو الجميع أسودَ على أساسِ الرملِ الأصفرِ كالذهب بارزًا بين لون السماء.

وإن الأمر لكذلك إذ يَظْهَرُ رأسٌ بشريٌّ في القناة، ونراه يَمَّحِي ليَدَع السفينة تَمُرُّ، وهذا هو رأس سَبَّاحٍ عربيٍّ أتى من آسية فجاب الباديةَ ماشيًا، وقد ربط جِرابه حول رأسه وعنقه فتراه الآن يسبح ثابتَ الجَنَان حيث كان من عادة أجداده أن يَمُرُّوا، فمتى لاح بعد حينٍ خلف السفينة وتَسَوَّر الساحل وضع جِرَابه على ظهره وأخذ يسير في الصحراء المصرية على الأرض الأفريقية وله ملامحُ نبيٍّ.

وإن الأمر لكذلك إذ يُسْرِع المركب في السير، وتنتصب قريةٌ مع بضع مآذن، وتُرَى على الشاطئ جماعةٌ سوداءُ مؤلفةٌ من عشرين عربيًّا مائلةٌ نحو الشمس الطالعة غارقةٌ في صَلَاتها، وها هي ذي السويس، وهنا يبدأ البحر الأحمر، وستَلْطِم السفينةُ، التي غادرت جِنوَة منذ أربعة أيام، المحيطَ الهنديَّ بعد أربعة أيام، وقد أَضحت القارَّات جُزُرًا تُبَلِّلُها البحارُ المحيطة بعد أن قامت القناتان بعَمَل الفَصْل، وقد غَيَّر الإنسانُ خريطةَ العالم بدلًا من أن يُحَوِّل حدودَه على الخريطة بالحروب.

والبحر المتوسط مُجَهَّزٌ بمرفأٍ آخر في الوقت الحاضر، وعاد هذا البحر لا يكون مركزَ الحضارة منذ الاكتشافات الكبرى، وقد ظلَّ مُهْمَلًا نحو أربعة قرون، والآن تُفْتَح طُرُقٌ تجارية كان الفنيقيون والأغارقة والعرب والبندقيون ينقلون عليها سِلَعهم، والآن تنتبه المرافئ القديمة التي كانت قوية في سالف الأيام فاستولى عليها شِبْهُ نُعَاس، والآن يُبْعَثُ نبوغُ الأغارقة التجاريُّ فتتلقى استانبول والبيرِه وإزمير تجارةَ العالم بأَسْرِه، والآن تعود الإسكندرية إلى ما كانت عليه أيام الرومان وقبل الرومان، والآن تبدو أعلام أمم أجنبية كعَلَم أمريكة واليابان، والآن يعود أبناء البحر المتوسط المُفَرَّقون في أقطار الأرض إلى أوطانهم، ويُفَضِّلُ كلُّ واحدٍ أن يقتصد في الوقت والوَقُود اللذين كان لا بُدَّ من إنفاقهما في سبيل رحلة ٥٠٠٠ ميلٍ بحريٍّ حَوْل أفريقية، وتتحول الأمُّ العجوز بمعجزةٍ إلى المركز الذي يلتقي فيه الأبناءُ وأبناءُ الأبناء، ويأتي هؤلاء بأنباءٍ وسِلَعٍ وأفكار واختراعات، ويصير البحرُ القارِّيُّ الذي كانت شواطئه تعجُّ بالأجانب بحرًا عالميًّا يغادره أولاده ليعودوا إليه، أو ليَنْقُلوا إلى البلاد البعيدة لغة أجدادهم وحضارتَهم، وكلٌّ يبحث فيه عن مرفأ أو خليجٍ أو مصنع أو شاطئ أو جزيرة أو مستعمرة.

ولا غَرْوَ، فالبحر المتوسط قد أفاق عن حياة جديدة.

١  يظهر أن المؤلف خلط بين السلطان سليم والسلطان سليمان العثمانيين، فالسلطان سليم هو الذي فتح سورية ومصر وغنم الخلافة، ولم يفتح العثمانيون فارس وإن حاولوا ذلك. (المترجم)
٢  العقود: من الأعداد أولها العشرة فالعشرون والثلاثون وآخرها التسعون.
٣  من مدن إيطالية الحصينة.
٤  من مدن دلماسية الحصينة.
٥  قلورية: هي القسم الجنوبي من بلاد إيطالية الآن المعروف باسم Calabria.
٦  بوزئيدون: إله البحر والملاحة كما جاء في أساطير اليونان، وهو يقابل نبتون في أساطير الرومان.
٧  Les Huns.
٨  الدبر: جماعة النحل والزنابير.
٩  الرَّيِّح: الطيب الريح.
١٠  النقط والجريث: من أنواع السمك.
١١  البربريس (Epine vinette): شجرة شائكة ذات ثمر حامض.
١٢  السندس: ضرب من نسيج الديباج أو الحرير.
١٣  الجزاء: جمع الجزية.
١٤  المذبة: ما يُدفع به الذباب.
١٥  Diplomatique.
١٦  الطنف: إفريز الحائط وما أشرف خارجًا عن البناء.
١٧  ساقز Chio: من جزائر بحر إيجه.
١٨  سبارتاكوس: زعيم العبيد الثائرين، وهو تراكي الجنسية، وقد قُتِل سنة ٧١ بعد أن قاوم كتائب الرومان سنتين.
١٩  غويا: مصور إسباني (١٧٤٦–١٨٢٨).
٢٠  الهوغنوت: اسم قديم لبروتستان فرنسة وسويسرة.
٢١  الهيضة: الكوليرا.
٢٢  الموص: التبن.
٢٣  الشهب: جمع الشهاب، وهو ما يُرى كأنه كوكب انقض.
٢٤  السيساء: منتظم فقار الظهر.
٢٥  كان هذا الماء يُجلب إلى الثلاثين ألف عامل على أسنمة ١٦٠٠ جمل في بدء الأمر، ثم استطاع دولسبس أن ينشئ قناة ماء خاصة بالعمال.
٢٦  القلس: حبل للسفينة ضخم.
٢٧  النحام: طائر طويل العنق والرجلين أعقف المنقار أسود الجناحين، وسائره أحمر وردي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤