المرض المتبادل

فرغ الطبيب من الكشف على الزائر الخامس في صباح ذلك اليوم، ولبث ينتظر المريض السادس، فدخلت سيدة مُقنَّعة رشيقة القامة وسفرت عن وجهٍ غاب جماله البهيُّ خلف تجعدات الألم كوردةٍ بيضاء سفا عليها عجاج الخمسين، وقد بادرته هاتفةً: الغوث أيها الطبيب!

فدنا منها وعلى وجهه ابتسامةٌ تبعث الطمأنينة وسألها: ما بك يا سيدتي؟

فارتمت على مقعد بين يدَيه وراحت تروي له قصة ذلك المرض الوبيل الذي فاجأها لدى الصباح فاضطرَّها إلى أن تقصد إليه دون أن تتريَّث لحين أوبة زوجها من الوزارة، واستمع الطبيب إليها في دهشة وحيرة وهو يُحاول عبثًا أن يُوفِّق بين ما يُروى له، وبين هيئة السيدة المتزوجة التي تنطق بالحشمة والصون.

ثم أدَّى واجبه الدقيق بعناية فثبت لديه ما كان منه في ريب، واكفهرَّ وجهه وهو يقول: سيدتي .. إنه لأمرٌ مؤثر .. لقد أُصبتِ بمرضٍ خبيث .. بمرضٍ سِري.

فانقبضت المرأة قائمة وجحظت عيناها من الهلع والذعر، وقد ضاع ألمها المُبرِّح في تيار الخوف الجديد وصاحت به: مرض؟

– نعم يا سيدتي .. إني أعني ما أقول، ولكن هدِّئي من رَوعِك واملکي زمام نفسك حتى لا تجرَّ هذه الكارثة وراءها كوارث أخرى أشد إيلامًا. أقُلتِ إنك مُتزوجة؟

فأحنت رأسها أنْ نعم وهي لا تدري، فاستطرد الطبيب قائلًا: وا أسفاه، إن الشهوات تُعمي الرجال حتى المتزوجين منهم. ومهما يكن من شيء فالواجب يُحتِّم عليك أن تُجابهي زوجك بالحقيقة، وقد كان الواجب عليه أن يصونك من عواقب مغامراته. أما وقد وقع المحظور فلا محيد من تنبيهه واصطحابه إليَّ وإلا ذهبت محاولة علاجك سُدًی.

ولكن خرجت من المرأة صرخةٌ مبحوحة، وقالت بسرعة وهي تلهث: کلا .. كلا .. لا يمكن أن يكون ذلك .. بادر إلى علاجي ودَع أمر زوجي.

– ولكن …

– بالله لا تُجادلني .. لا ينبغي أن يعلم زوجي من الأمر شيئًا .. أدِّ واجبك وسينتهي الأمر إلى خير إن شاء الله.

فاستولت الدهشة على الطبيب، وأنعم النظر في الوجه القلق الذي طغت آلام نفسه على آلام جوارحه فطالَع فيه الألم والرعب والإثم .. يا للهول! أيمكن أن يكون ما لم يقع له في حسبان أبدًا .. أيمكن أن تكون هي الجانية على نفسها، وربما على زوجها أيضًا؟!

وما من شك في أن الزوج مُهدَّد بخطرٍ عظيم، إن لم يكن أدركه بالفعل فهو على وشك أن يُدرکه، وربما وقع في متناول الأذى أطفالٌ أبرياء يَحْبون .. فما العمل؟ وكيف يتأتَّى له أن يُنقِذ هذه النفوس مما يوشك أن يحيق بها من غير أن يهتك ستر هذه المرأة الآثمة الهلعة المُتألمة؟

وأحاط به همُّ التبلبل والحيرة حتى ضاق صدره، فحدَّث نفسه: لماذا أزجُّ بنفسي في شئون الناس وآلامهم؟ .. إني طبيب، وما ينبغي لي أن أُجاوز حدود مهنتي .. وبين يديَّ امرأةٌ مُلوَّثة، فلأَشرع في معالجتها والأمر من بعد ذلك لله.

واطمأنَّت نفسه إلى هذا الرأي وهمَّ بمباشرة عمله، ولكن سرعان ما عاوَدته أفكاره وقسرته نفسه على مراجعة التفكير في أمر هذه الأسرة المهددة، فرأى أن يتخذ طريقًا وسطًا فقال: سيدتي، ينبغي أن تعلمي أن زوجك في خطرٍ عظيم .. وأن إخفاءك الأمر حينًا لن يمنع الحقيقة من الظهور.

فاختلجت عيناها كالزئبق المُترجرج وقالت: كم يقتضي العلاج من الزمن؟

– أسبوعَين على أقل تقدير ومع أكبر عناية.

– أواه .. إنه الدمار.

– فإصابة زوجك محتومة.

– من الميسور أن أدَّعيَ توعُّك المزاج هذه الفترة وأن أُباعد ما بيني وبينه حتی أبرأ.

– فإن كان قد سبق السيف العذل؟

– أواه يا سيدي .. لا يمكن أن أنتحر مُختارةً، ثم إن زوجي رجلٌ مستقيم يصعب عليَّ صكه بالحقيقة المُروِّعة .. فدع الأمور تجري على مشيئة الله؛ فلعل الله حفظه من الأذى، وعسى أن يجعل من بعد عسر يُسرًا.

وساد سکونٌ عميق مؤلم .. وكأن المرأة تذكَّرت شيئًا فجأةً فنظرت إلى الطبيب جزعةً وسألته: سیدي، هل يبقی هذا سرًّا مكتومًا؟

– طبعًا .. طبعًا .. اطمئني إليَّ كل الاطمئنان؛ فصدرُ الطبيب مقبرة للأسرار لا تُنبَش أبدًا.

فتنهَّدت من قلبٍ مقروح وقالت: إذَن فلنبدأ من الساعة .. وسأُوالي الحضور إلى هنا كل صباح إلا يوم الجمعة .. ولأنتظر ما قُدِّر لي.

ولما انتهى من عمله وهمَّت بالخروج استمهلها لحظةً وجلس إلى مكتبه وسألها: ما اسم السيدة؟

فبدا على وجهها الرعب وسألت: ولمَ هذا؟

فقال يُطمئنها: لا تخافي ولا تحزني .. إنها تقاليد متَّبَعة .. انظري إلى هذا الدفتر تجديه مُزدحمًا بأسماء المرضى وعناوينهم .. لا تخشي شيئًا واذكري أني طبيب لا أكثر ولا أقل.

فقالت وهي تتنهد: حرم محمد عباس أفندي موظف بوزارة الأشغال.

•••

وفي صباح اليوم الثاني جاءت السيدة وقد قالت للطبيب إن ما يبدو على وجه زوجها من الهدوء والصحة يُنعش الأمل المحتضر في صدرها.

فلما أن كان المساء دخل على الطبيب زائرٌ جديد في الثلاثين، مليح القسمات طويل القامة، تسم وجهَه آياتُ الذكاء والجسارة، فحيَّا الطبيب قائلًا: مساء الخير.

– مساء الخير.

فضحك ضحكةً جهد نفسه أن تكون مرحةً طبيعية، ولكنها لم تستطِع أن تخفي القلق المُساور لنفسه وقال: أُصبت يا دكتور.

– بمَه؟

– بالذي يُصاب به من يقصدونك.

– وا أسفاه!

– أتأسف حقًّا يا دكتور .. أيُرضيك أن يزدجر الناس عن الهوى وأن تخسر جمهور المُترددين عليك؟

– لا أظنك قد جئت إلى هنا لتتفلسف .. اتبعني إلى هذه الحجرة .. ولكن انتظر لحظة، أرجو أن تُملي عليَّ الاسم الكريم.

– محمد عباس .. أنا جارك يا دكتور، وإن شئت أن تعرف صناعتي فأنا مهندس بوزارة الأشغال.

يا للمُفاجأة! كادت تفلت من بين شفتَيه آهة دهشة وانزعاج، وهمَّ أن يرفع رأسه عن الدفتر بحالةٍ عصبية تنمُّ عما يضطرب في صدره، ولكنه ذكر تحرُّج الموقف واشتماله على ما يُهدِّد بالويل، فصرَّ بأسنانه وأحنى رأسه حتى كاد يلمس الصفحة المبسوطة أمامه ليُخفيَ معالم وجهه عن القاعد تجاهه.

إذَن هذا هو الزوج المنكوب، وقد أُصيبَ بما كانت تُشفق زوجه عليه وعليها منه .. تُرى كيف كان وقع البلاء على نفسَيهما .. كيف اكتشف المرض وكيف تحسَّس مصدره .. وماذا جرَّ ذلك على حياتهما الزوجية، وأين يا تُرى المرأة الآن .. وكيف قرعتها الفضيحة وكيف تتجرَّع عواقبها؟ ليته يعرف كل شيء.

أما الآن فما عليه إلا أن يؤدي واجبه. وخطا بالفعل نحو الحجرة الداخلية، ولكنه سمع المهندس يقول له بلهجة حزينة: إني أخشى يا دكتور أن تعقب هذا المرضَ مأساةٌ أليمة.

فسأله وهو ما يزال شارد اللُّب: ولمَه؟

– لأني زوج .. ورب أسرة.

فقطَّب الطبيب جبينه وبدت عليه آيات الدهشة، وفهم الرجل دهشته على غير حقيقتها فقال: هكذا ترى أنه ليس العزَّاب فقط هم الذين يأثمون.

– أتعني أن زوجك مُهدَّدة؟

– طبيعي يا دكتور .. إن موقفي غاية في الحرج .. والذي يُضاعف لي الآلام أنها سيدةٌ طيبة لا تستحقُّ أن تُجزى هذا الجزاء السيئ .. فما العمل؟

يا عجبًا .. لقد وضح وبرح الخفاء، كلا الزوجَين آثم، وكلٌّ منهما ينحي باللائمة على نفسه. وكاد يستسلم لتيَّار أفكاره لولا أن سمع الرجل يُلحُّ عليه في السؤال ويُكرر قائلًا: ما العمل يا سيدي الطبيب؟

فقال له: بالحكمة تستطيع أن تصرف الأمور المعقَّدة إلى خير العواقب؛ فحاولْ أن تصحبها إليَّ من غير أن تُثير شكوكها.

فبدت على وجه الرجل الحيرة، وقال وهو ذاهل عن نفسه: أحاول.

وحدَّث الطبيب نفسه بعد أن غاب المهندس عن ناظرَيه: إن الله يريد الخير بهذه المرأة .. وكأن الأمور تسير وفق مشيئتها، فسيأتي بها إليَّ، وأكشف عليها وأعلنه بإصابتها، فيُوقِن في نفسه أنها ضحيَّته دون سواه، ويبرآن على يديَّ ويعود الرجل بزوجه رافعًا يدَيه حمدًا لله وطلبًا لغفرانه، وهو يجهل أن زوجه فرَّطت في حقه أضعاف ما فرَّط في حقها .. فيا لرحمة الله!

ولكن أليس من الظلم أن يغشى الله بستره خبيئة هذه المرأة الآثمة؟

فيا لحكمة الله!

•••

وحان موعد مجيء المرأة ولم تحضر، فترجَّح لدى الطبيب مجيئها مع زوجها عند المساء، ولكن المهندس أتى وحده وكان باديَ التغير، مُنكفئ الوجه، مُصفرَّ اللون، مُنطفئ البصر كأنه تقدَّم في الكبر أعوامًا، فتوقَّع الطبيب مفاجأة وبلاءً وسأله: ما بك؟

فهزَّ رأسه بحزن وقال: ماذا تحدس؟

– لعلك راوَدتها على المجيء فأبت وعصت.

– كان يهون.

– آه .. إذَن قد انفضح أمرك ولم تُتقِن تمثيل دورك .. ونلت جزاءك على يدَيها.

فسها الرجل لحظة ثم قال بصوتٍ تقطعه حشرجة اليأس: يا بؤس هذه الدنيا!

فهزَّ الطبيب كتفَيه استهانةً وقال: كثيرًا ما أسمع هجاءً مريرًا يصبُّ على رأس الدنيا، ولكني أعتقد أن الإنسان هو الخالق الأول لهذه الآلام التي يتملص من تبعتها ويُلقيها على عاتق الدنيا.

– كما تشاء .. اعلم يا سيدي الطبيب أني في الفترة القصيرة التي تغيَّبتها عنك أحدثت في حياتي حدثًا هائلًا؛ فقد فصل الطلاق بيني وبين زوجي، وحرمني نور أطفالي حينًا سإخاله دهرًا مديدًا.

يا للهول .. تُرى ما الذي حدث .. وكيف حدث؟ فإن قلبه يهمس له بفحواه، ولكنه لا يدري تفاصيله ولا يستطيع أن يرجم بما قلب منطق الحوادث وجعل عاليَها سافلها.

واستولت عليه الدهشة وباتت عيناه تُلحَّان بالسؤال بأفصح مما يبين اللسان .. فقال المهندس: إليك قصتي بكل إيجاز؛ غادرتك ليلة الأمس وقد صدقت نیَّتي على دعوة زوجي إلى زيارتك كي يطمئنَّ قلبي، ولكني كنت مُضطربًا لا أدري كيف أبدأ باقتراح الأمر عليها ولا عِلم لي إن أنا اقترحته بما أبرِّره به، فاتخذت مكاني على مقربة منها باديَ الهم والفكر. وللحال لاحظت طوارئ الهم والاضطراب تزحف عليها زحفًا، فظننته صدًى لاضطرابي وهمِّي واستجابة لهما. وتلبَّثت أنتظر أن تبدأ بسؤالي عما يُساورني فلم تفعل، فضِقت بالأمر ضيقًا استفزَّني إلى طرح هذا السؤال: «ألا تَشْكين من شيء .. ألا تُحسِّين بألمٍ ما؟» فحملقَت في وجهي بعينَين هالعتين وقالت باضطراب: «كلا .. كلا .. والحمد لله.» فتمالكت نفسي وقلت كاذبًا: «ألاحظ عليك هذه الأيام بعض الاصفرار والتغيير، وقد رأيت أن أقترح عليك زيارة طبيب .. فما رأيك؟» فردَّت بحدة وبلهجة من يتحمَّس لدفع خطر مُروِّع: «كلا .. كلا .. أنت واهم ولا لزوم لذلك البتة .. إني أكره الأطباء ويُهيِّج وساوسي الاستماعُ لنصائحهم.»

فطال طِلابي وطال رفضها، فألححت عليها فأصرَّت، فرجوت وتوسَّلت فعندت وازدادت تشبثًا، وعبثًا حاولت أن أثنيَها على رأيها حتى دهشت لإصرارها وضِقت صدرًا بها، وبنفسي، فاهتاجني المرض والغضب، وصِحت بها بجنونٍ جعلني أستهتر بكل شيء: «يجب أن تُصغي إليَّ .. تعالي معي إلى الطبيب لأني مصاب وأريد أن أعرف …» ولم أُتمَّ كلامي لأنها انتفضت قائمةً مُتصلبة كالأفعى المُتوثبة للافتراس، وجحظت عيناها ولم تتمالك نفسها، فسَرَت في جسدها رعشةٌ شديدة، فأدهشني ذلك وسألت نفسي: ما لها؟ .. وهممت أن أُعاود الكلام في ملاطفةٍ مصطنَعة، ولكنها قطعت عليَّ الطريق بهزةٍ عصبيةٍ ما زالت تُكررها بعنفٍ جنوني حتى تلبَّست صورتها هيئة غريبة تُنذر بالويل، فازدادت بي الحيرة وسألتها: «ما الذي يُرعبك؟ لمَ تخشين الطبيب؟» فصاحت بصوتٍ مُلتوٍ لا تكاد تمیز نبراته: «الرحمة .. الرحمة.» ولكن عاوَدني الغضب بحالة لم تأذن للرحمة أن تأويَ إلى مستقرها في قلبي؛ فخطوت نحوها أهدر غاضبًا ساخطًا فصرخت: «محمد .. الرحمة .. الرحمة .. لقد كشف الله خبيئتي .. أنا الجانية على نفسي وعليك .. أنا أعرف أنك تعلم ذلك ولكني أستحلفك الله بألا تمسَّني .. طلِّقني ولا تمسَّني.» ثم ارتمت بين قدميَّ مُغمًى عليها.

ما معنى هذا؟ .. لقد تسابقت الظنون إلى قلبي، وانصبَّت الشكوك في عقلي، واكتظَّ بها رأسي فانصهر من الحرارة والالتهاب، وخِلت أن شعر رأسي يقف ويتصلب كشعر القنفذ.

إن المرأة لتبهظ الرجل وتُثقل كاهله وهي تؤمن بأنها لم تُجاوز بعض حقوقها، أما إذا اعترفت بأنها جانية وسألت الرحمة ووقعت مغشيًّا عليها فلن يكون ذلك إلا لأمرٍ واحد.

يا عجبًا .. فقد ذهبت جانيًا آثمًا فإذا بي مجنيٌّ عليه. رحت أُكفِّر عن ذنبي فإذا بي ضحيةٌ تعسة. ماذا يمكن أن يفعل رجل في مكاني؟

نعم لقد قارفت من الذنب ما قارفت، وسقطت في الهاوية التي ابتلعتها، فهل من المستطاع أن أُسدل ستارًا كثيفًا على تاريخ الإثم كله، وأن أتحمَّل عقاب الله الصارم في صبر، وأروِّض نفسي على العفو والصفاء؟

إنه حلٌّ روائي قد يستحسنه غيري ويعطف عليه نفرٌ قليل من الناس، أما أنا فقد انسقت مع طبيعتي وأصخت إلى صوت الغضب في قلبي، فهوَیت بالطلاق على رابطة الزوجية، فخرب بیتي وانتزعت الحضانة مني أطفالًا أعزَّة، كانوا نور حیاتي المُشرِق، فسبحان الله أحكم الحاكمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤