يقظة المومياء

أجد حرجًا كبيرًا في رواية هذه القصة؛ لأن بعض حوادثها يخرق قوانين العقل والطبيعة جميعًا؛ ولو كان مردُّها إلى الخيال ما تحرَّجت، ولكنها وقعت في عالم الحقيقة، وكان ضحيَّتَها رجلٌ من رجال مصر الأفذاذ المعروفين في الأوساط السياسية والأرستقراطية، وراويتها الذي أنقل عنه أستاذٌ كبير بالجامعة، لا يجوز أن يرتقيَ الشك إلى عقله وخُلقه، ولم يُعرَف عنه قط ميلٌ إلى الأوهام والخرافات، ولكني — والحق يُقال — لا أدري كيف أصدِّقها فضلًا عن أن أحمل الآخرين على تصديقها؛ وليس ذلك لندرة المعجزات في عصرنا، فممَّا لا جدال فيه أن عصرنا عصر المعجزات والخوارق، ولكن العقلاء في أيامنا هذه لا يقبلون أمرًا بغير تعليل، كما أنه لا يستعصي شيء على إيمانهم مع التعليل المعقول. وإني حيالَ قصة عجيبة لها من دواعي التصديق روايةُ حكيم وشواهد ملموسة، ولكن التعليل العلمي ما يزال يتأبَّى عليها، فهلَّا أُعذَر على شعوري بالحرج في تقديمها؟

ومهما يكن من أمر فإليك ما رواه جناب البروفسير دريان «أستاذ الآثار المصرية القديمة» بجامعة فؤاد الأول، قال: في ذلك اليوم الأسيف الذي خفَق فيه قلب مصر خفقةَ الحزن والألم، ذهبت إلى زيارة المغفور له محمود باشا الأرنئُوطي في قصره العظيم بصعيد مصر، وأذكُر أنني وجدت عنده جماعة من الأصدقاء الذين كانوا يترددون عليه كلما أسعدتهم الظروف، منهم المسيو سارو ناظر مدرسة الفنون الجميلة العليا، والدكتور بيير طبيب الأمراض العقلية، واحتوانا جميعًا «صالونه» الأنيق البديع الحافل بآيات الفن الجميل من لوحات وتماثيل كأنها احتشدت في تلك البقعة لتؤدي تحية العبقرية الحديثة إلى ذكرى عبقرية الفراعين الخالدة تحت أطلال الوادي، يتوهَّج نورها خلل ظلمات السنين مثل سنا النجوم المتألقة في السماء، الساري في تضاعيف الليل البهيم.

وكان المغفور له من أغنى أغنياء المصريين وأوسعهم ثقافة وأسماهم خُلقًا، وقد قال عنه مرةً صديقنا الأستاذ لامبير: إنه ثلاث شخصيات تقمَّصت رجلًا، فهو ترکيُّ الجنس، مصريُّ الوطن، فرنسيُّ القلب والعقل، فأدَّى تعريفه أتم أداء. والحق أنه كان أكبر صديق لفرنسا في الشرق، وكان يعدُّها وطنه الثاني، وكانت أسعد أيامه تلك التي قضاها تحت سمائها، واتخذ أصدقاءه جميعًا من أبنائها سواء منهم من يعيش على ضفاف النيل أو في جنَّات السين. وكنت إخال نفسي وأنا في «صالونه» أني انتقلت فجأةً إلى باريس؛ فالأثاث فرنسي، والجالسون فرنسيون، ولغة الكلام فرنسية، والطعام فرنسي. وإن كثيرًا من الفرنسيين المُثقَّفين لا يعرفونه إلا كهاوٍ فذٍّ من هُواة الفنون الجميلة، أو کشاعرٍ يقرض الشعر الوجداني الجميل بالفرنسية، أما أنا فقد عرفته — إلى هذا — مُحبًّا لفرنسا مُتعصبًا لثقافتها وداعية لسياستها.

أخذت مجلسي في ذلك اليوم إلى جانب الباشا، وكان المسيو سارو يقول وهو يتأمل بعينَيه الواسعتين الجاحظتين تمثالًا نصفیًّا برونزيًّا لأنشتين: إن قصرك يا صاحب السعادة يحتاج إلى تغييرٍ طفيف لكي يصير متحفًا کاملًا.

وقال الدكتور مؤمِّنًا على كلامه وهو يتخلل لحيته بأنامله: صدقت؛ فهو معرضٌ دائم لجميع العبقريات والمدارس على السواء مع ميلٍ ظاهر للفنَّانين الفرنسيين.

فقال الباشا: الفضل في ذلك يرجع إلى ذوقي المعتدل الذي يُساوي بين النزعات المختلفة ويعدل بين أهواء المدارس، ويهوى تذوُّق الجمال سواء أكان بديعه براکستلیس أو رفائيل أو سييزان، مع استثناء البدع الحديثة المُتطرِّفة.

فقلت ناظرًا بطرفٍ خفي إلى المسيو سارو وكان يحلو لي دائمًا أن أُداعبه: لو استطاعت وزارة المعارف أن تنقل هذا الصالون إلى مدرسة الفنون الجميلة العليا لاستغنت عن إرسال بعثات إلى فرنسا وإيطاليا.

فضحك المسيو سارو وقال مُوجهًا الخطاب إليَّ: بل لعلها تستغني عن ناظر المدرسة الفرنسي أيضًا.

ولكن الباشا قال جادًّا: اطمئنَّ یا عزیزي سارو؛ فإنه إذا قُدِّر على هذا المتحف أن يترك الصعيد فسيَتَّخذ طريقه رأسًا إلى باريس.

فنظرنا إليه نظرة استفهام ودهشة وكأننا لا نُصدق آذاننا.

فالواقع أن مجموعة الباشا الفنية كانت تُقدر بمئات الألوف من الجنيهات، وقد تسرَّبت جميعها إلى جيوب الفرنسيين، فكان غريبًا أن يفكر في إهدائها إلى فرنسا، وكان يحقُّ لنا أن نفرح ونبتهج، ولكني لم أتمالك أن أسأله مُتعجبًا: أحقًّا ما تقول يا إكسلنس؟

قال الباشا بهدوء: نعم يا صدیقي دوريان .. ولمَ لا؟

فقال المسيو سارو: يا له من حظٍّ سعيد حقيق باغتباطنا نحن الفرنسيين، ولكني أقول لسعادتك مُخلِصًا إني أخشى أن يُسبِّب لك متاعب كثيرة.

وأمَّنت على رأي المسيو سارو.

وردَّد الرجل عينَيه الزرقاوين بيننا وقد لاحت فيهما نظرةٌ ساخرة، وسألنا مُتجاهلًا: ولِمَه؟

فقلت بلا تردُّد: ستجد الصحافة في ذلك موضوعًا أي موضوع!

وقال الدكتور بيير: وما من شك في أن الصحافة الوطنية عدوٌّ لك قديم .. وهل نسيت يا صاحب المعالي حملاتها المُغرِضة عليك واتهاماتها إياك بأنك تُبعثِر أموال الفلَّاح في فرنسا بلا حساب؟!

فصاح الباشا بإنكار: أموال الفلَّاح!

فبادَر الدكتور يقول مُعتذرًا: معذرةً یا باشا .. هذا قولهم!

فهزَّ سعادته منكبَيه استهانة، وزمَّ شفتَيه احتقارًا، وقال وهو يُثبت نظَّارته الذهبية على عينَيه: أنا لا آبه لهذه الأصوات المُنكَرة الوضيعة، وما دام ضميري الفني لا يرتاح لبقاء مثل هذه الآيات وسط هذا الشعب الحيواني، فلن تُقبَر هنا أبدًا.

وكنت أعرف رأيَ صديقي الباشا عن المصريين واحتقاره لهم. ومما يُحكى في هذا الصدد أنه تقدَّم له منذ عام طبيبٌ مصري نابغة حاصل على رتبة البكوية طالبًا يد ابنته، فطرده شرَّ طردٍ لأنه فلَّاح بن فلَّاح. على أني — مع موافقتي على كثير من التُّهم التي يكيلها الباشا لبني وطنه — لم أكن أتبعه رأيه إلى النهاية، ولما قلت له: سعادتك شديد النقد.

فقهقه الباشا ضاحكًا وقال: أنت يا عزيزي دريان رجل وُهبت حياتك الثمينة للماضي البعيد، وربما لاحت لك في غياهبه لمع عبقرية خلَّفها القدماء لا تفتأ توقظ عطفك وحنينك على أحفادهم، ولكن شتَّان بين الفراعين والفلاحين، لا يجوز أن تنسى يا صديقي أن المصريين شعب فول.

فضحكت وقلت له: عفوًا يا صاحب السعادة، ألا تعلم أن السير ماكنزي أستاذ آداب اللغة الإنجليزية بكلية الآداب صرَّح أخيرًا بأنه أصبح يُفضِّل الفول عن البودنج؟

فضحك الباشا، وضحك الحاضرون جميعًا وقال سعادته: أنت تفهم ما أعني، ولكنك تُحبُّ المزاح، المصريون حيواناتٌ أليفة طبعُها الذل، وخلقها التذلل، وقد عاشوا عبيدًا على فُتات موائد الحاكمين منذ آلاف السنين، ومثل هؤلاء لا يحقُّ لهم أن يأسفوا على إهداء هذا المتحف إلى باريس.

فقال المسيو سارو: نحن لا نتكلم عما يحق أو لا يحق، ولكن عن الواقع، والواقع أنهم سيأسفون (ثم قال بلهجةٍ ذات مغزًى) وستأسف معهم صحافتهم.

ولكن لم يبدُ على الباشا أدنى اكتراث، وكان بطبعه يتعالى على ضجيج الجماهير وصرخات الصحف المفتعَلة، وربما كان لأصله الترکي دخلٌ كبير في تشبُّثه بآرائه وعناده واحتقاره للمصريين. ولم يُرِد أن نسترسل في ذاك الحديث فأغلق بلباقته النادرة بابه، وانشغلنا ساعةً باحتساء القهوة الفرنسية اللذيذة التي لم أذُق مثلها في مصر، ثم نظر الباشا إليَّ باهتمام وقال: ألم تعلم يا مسيو دريان أني بدأت أُنافسك في اكتشاف الكنوز؟

فنظرت إليه مُستفهمًا وسألته: ماذا تعني يا إكسلنس؟

فضحك الباشا، وقال وهو يُشير إلى حديقة القصر من نافذة الصالون: على بُعدِ أذرُع منا تجري عملية حفر جليلة الشأن في حديقة قصري.

فبدا علينا الاهتمام جميعًا، وتوقَّعت سماع خبر مُثير، وكان لكلمة حفر تأثيرٌ خاص في نفسي؛ لأني قضيت شطرًا كبيرًا من عمري — قبل أن أشتغل في الجامعة — أحفر وأنقِّب في أرض مصر الغنية الساحرة.

وقال الباشا وهو ما يزال يبتسم: أرجو ألا تسخَروا مني يا سادة؛ فقد فعلت ما كان يفعله الملوك الأقدمون مع السحرة والمُشعوِذين، ولا أدري کيف رضخت وأذعنت، ولكن لا داعي للأسف؛ فقليل من الخرافة يُريح العقل الكلِف بالحقائق والعلوم. ومجمل الحكاية أنه جاء قصري منذ يومَين رجلٌ معروف في هذا البلد يُدعى الشيخ جاد الله، يحترمه العامة ويُقدسونه، وكم ذا بمصر من المقدِّسين، وألحَّ في طلبي وأذِنت له وأنا أعجب لشأنه، وحيَّاني الرجل على طريقته، وبشَّرني بأنه استدل بعلمه الروحاني وبكتبه القديمة عن وجود كَنز ثمين في باطن حديقتي، وطلب إليَّ بتوسل أن آذن له في الكشف عنه تحت إشرافي، ومنَّاني بالذهب واللآلئ في مقابل أن أعده بالحلوان. وضِقت به وهممت بطرده، ولكنه ضرع إليَّ وتوسَّل حتى استعبر وقال لي: لا تهزأ بعلم الله، ولا تستهِن بعباده المقرَّبين. فضحكت طويلًا، ثم خطرَ لي خاطرٌ سریع فقلت لنفسي: لماذا لا أُجاري الرجل في وهمه وأُسايره على اعتقاده؟! لن أخسر شيئًا وسأفوز حتمًا بنوع من التسلية. وقد فعلت يا أصدقائي، وأذِنت للرجل وأنا أتظاهر بالجد، وها هو ذا يَحفِر في حديقتي، ويُعاونه في عمله الشاق اثنان من خدمي المؤمنين، فما رأيكم؟

قال الباشا ذلك وضحك عاليًا، فضحك الجميع، أما أنا فكَرَّت بي الذاكرة إلى الماضي إلى حادثةٍ مُشابِهة، فقلت: طبيعي أنكم لا تؤمنون بعلم الشيخ جاد الله، ولا أنا أستطيع أن أومن به وا أسفاه، ولكني لا أستطيع كذلك أن أنسى أني اكتشفت قبر الكاهن «قمنا» بفضل خرافة كهذه!

فبدَت الدهشة على وجوه الحاضرين، وسألني الباشا: أحقًّا ما تقول يا سيدي الأستاذ؟

فقلت: نعم يا باشا، لقد دلَّني يومًا شیخٌ مثل الشيخ جاد الله على بقعة من الأرض في وادي الملوك، وقال لي: إنه استدل بكتبه وعلمه على وجود كنز فيها، فضربنا فيها بمَعاولنا، ولم نلبث أيامًا حتى اكتشفنا مقبرة «قمنا» .. وهذا بلا شك من عبقريات المصادفات.

فضحك الدكتور بيير وقال مُتهكمًا: ولماذا تُعلِّل ذلك بالمصادفات فتجحد العلم القديم؟ .. ألا يجوز أن الفراعنة يورثون أحفادهم أسرارهم الخفية كما يورثونهم سحنتهم وكثيرًا من تقاليدهم؟

ومضينا نتفکَّه بأمثال هذا الحديث، وطرقنا غيره أحاديث كثيرة، ومضى الوقت لذيذًا مُمتعًا، وعند الأصيل استأذن الضيوف في الانصراف، وأما أنا فأعلنت عن رغبتي في مشاهدة عملية الحفر التي يُجريها الشيخ جاد الله، وغادرنا جميعًا الصالون إلى الحديقة، وسِرنا إلى الباب الخارجي لتوديع الأصدقاء. ولم نكَد نقطع خطوات حتى وصلت إلى مسامعنا ضجةٌ عظيمة، واعترضت طريقَنا جماعةٌ من الخدم رأيناهم يُمسِكون بتلابيب صعيدي ويُوسِعونه ضربًا ولَكمًا، ثم ساقوه بشدة إلى سعادة الباشا، وقال له أحدهم: يا صاحب السعادة ضبطنا هذا اللص وهو يسرق طعام بیمیش.

وكنت أعرف بیمیش حق المعرفة؛ فهو كلب الباشا العزيز، وآثر مخلوقات الله بقلبه بعد زوجه وأولاده، وهو يعيش في قصر الباشا مُنعَّمًا مُكرَّمًا، يقوم على خدمته خدم وحشم، ويكشف عليه طبيبُ بيطري مرةً كل شهر، ويُقدَّم له كلَّ يوم لحمٌ وعظام ولبن وثرید. ولم تكن هذه أول مرة يسطو فيها الصعايدة على غذاء بيميش .. وكان السارق صعيديًّا قُحًّا، يتميز بالسحنة المصرية العتيقة، ويبدو على هيئته البؤس والفقر. وقد حدَجه الباشا بنظرةٍ قاسية وقال له بعنف: كيف سوَّلَت لك نفسك انتهاك حُرمة بيتي؟

فقال الرجل بتوسُّل وهو يلهث من أثر الجهد الذي بذله في مقاومة الخدم: کنت جائعًا یا صاحب السعادة، ورأيت اللحم المسلوق مُبعثَرًا على الحشائش فخانتني قوَّتي، ولم أكُن ذُقت اللحم منذ عيد الأضحى!

فالتفتَ الباشا إليَّ وقال هازئًا: أرأيت الفرق بين بائسنا وبائسكم؟ .. إن بائسكم دفعه الجوع إلى سرقة رغيف، أما بائسنا فالرغيف ليس عسيرًا عليه، ولكنه لا يرضى إلا باللحم المسلوق!

ثم التفتَ مرةً أخرى إلى السارق، ورفع عصاه، وضربه على كتفه بشدة، وشدَّه وصاح بالخدم: خذوه إلى الخفير.

وضحك الدكتور بيير وهو يُسلِّم وقال للباشا: ماذا تفعل غدًا إذا شمَّ الصعايدة رائحة الذهب المُكدَّس في كنز الشيخ جاد الله؟

فقال الباشا فورًا: سأُحيطه بسياج من الخفراء كخط ماجينو.

وعُدنا — أنا والباشا — وتَبِعته صامتًا إلى حيث يشتغل الشيخ جاد الله الذي يوشك أن يصير أثريًّا عظيمًا. وكان الرجل مُنهمِكًا في عمله هو ومُعاوناه؛ يضربون الأرض بفئوسهم ويرفعون الأتربة في المقاطف ويُلقونها جانبًا، وكان الشيخ جاد الله تلمع عيناه ببريقٍ حادٍّ يدل على العزم والأمل، وتنبعث في ساعدَيه النحيلتين قوةٌ غير طبيعية. كان يدنو حقًّا من هدفه الذي هداه إلى سبيله عمله الإلهي، فتمثَّل لي في شخصه العجيب الإنسان بنشاطه، وإيمانه وأوهامه، والحق أننا نخلق لأنفسنا آلهة وأوهامًا ولكنا نؤمن بها إيمانًا عجيبًا، فيَخلق لنا إيماننا عوالم غاية في البداعة والجمال، ألم يخلق أجداد الشيخ جاد الله — الذي يُذكِّرني وجهه بتمثال الكاتب المعروف — الحضارة الأولى للإنسان؟ .. ألم يُبدعوا الجمال على سطح الأرض وفي بطنها على السواء؟ .. أوَلمْ يستوحوا في عملهم وتفكيرهم أوزوريس وآمون؟ وما أوزوريس وآمون؟ لا شيء في الغالب .. أما حضارتهم فكانت شيئًا أيَّ شيء .. بل هي حضارتنا الراهنة.

وقفنا نُشاهِد الشيخ المؤمن، أما الباشا فيبتسم ابتسامةً ساخرة، وأما أنا فأستغرق في أحلامي، وكلانا لا يدري بما يخبِّئه له القدر تحت آکام ذلك التراب. وكان العمل يبدو عقيمًا، فتملمَل الباشا واقترح عليَّ أن نجلس في الفراندا فاتَّبعته صامتًا، ولكنا لم نكد نصعد السلالم الأولى حتى لحِق بنا الشيخ جاد الله عَدْوًا وصاح بفمه المُثرَم: مولاي .. مولاي .. تعالَ انظر.

فالتفتنا إليه بحركةٍ أتوماتيكية، وكان قلبي يخفق خفقانًا غريبًا على أثر نداء الشيخ، وذكَّرني بشبيه له قديم كان يفصل في حياتي بين الفشل والنجاح واليأس والأمل، وهبطنا السلَّم دون إبطاء لأن الرجل كان قد عاد أدراجه، وتبعناه وكلانا يُغالب رغبة في العَدْو.

ووجدنا الرجال الثلاثة يُزحزحون صخرةً كبيرة، مساحتها متر مُربَّع على وجه التقريب، فدنَونا منهم فرأينا الصخرة تَكشِف عن فوَّهة في مثل اتساعها، فنظرت إلى الباشا، ونظر إليَّ بعينَين تنطقان بالدهشة والذهول، ثم نظرنا إلى داخل الفوَّهة فرأينا سُلمًا صغيرًا ينتهي إلى دهليز يتَّجه إلى الداخل مُوازيًا لسطح الأرض. وكانت الشمس تؤذن بالمغيب، فقلت للباشا: «إلينا بمِصباح.» فأرسل الباشا أحد الخادمين لإحضار مِصباح، وعاد الرجل بالمِصباح فأمَرَته أن يتقدَّمنا، ولكنه تردَّد وانكمش فهمَمتُ بأخذه منه، ولكن كان الشيخ جاد الله أسرع مني إليه، فأمسك به بيده ومضى يتلو من القرآن وتعاويذ غريبة، ثم نزل بقدمَين ثابتتين فتبِعته وتبِعني الخادمان المُضطرِبان.

ووجدنا أنفُسنا في دهليزٍ مُستطيل لا يتجاوز طوله عشرة أمتار، ويعلو سقفه عن هامتنا بعدة أشبار، وكانت أرضه مُتربة، أما جدرانه فمن الجرانيت. وتقدَّمنا جميعًا في خطواتٍ بطيئة حتى اعترض سبيلَنا بابٌ حجري يأخذ على المُقتحِمين طريقهم، ولم يكن مَنظره غريبًا عليَّ ولا الرموز المحفورة في وسطه، فجرى بصري عليها، ثم التفتُّ إلى الباشا وقلت بصوتٍ مُتهدِّج: لقد اكتشفت یا صاحب السعادة مقبرةً أثرية .. فها هنا يرقد القائد حور من عِظام الأسرة الثامنة عشرة.

ولكن الشيخ جاد قال بعنف وغضب: بل وراء هذا الباب كَنز .. هكذا يقول الكتاب الذي لا يكذب.

فهزَزتُ كتفي قائلًا: سمِّه كيف شئت، المهم أن نفتحه.

فعاد الشيخ يقول: فتح الكنز عملٌ يسير؛ فهذا الباب لا يُطيع ويرضخ إلا بقراءةٍ طويلة أبدؤها الآن وأستغرق حتى مطلع الفجر .. هل أنتم مُطهرون؟

وتأثَّر بأقواله الخادمان ونظرا إلى مولاهما بارتباك؛ لأنهما اعتقدا أنهما على وَشْك المُثول في حضرة القوة الخفية. ولم يكن في الوقت متَّسَع للتطهر والقراءة، فقلت للشيخ بحزم: إننا لم نبلغ هذا الباب بقراءة، فينبغي أن نقتحمه بمثل ما اقتحمنا الذي قبله.

وهمَّ الشيخ أن يعترض ولكن لم يُجدِه اعتراضه، وانتهره الباشا فصمت وهو يرمقني شزرًا. واستأنفوا العمل من جديد، وتيقَّظت غريزتي فعملت معهم حتی أزحت العقبة الكئود، ووجدنا أمامنا مَنفذًا إلى مثوى حور الأبدي.

وكنت خبيرًا بتلك الأعمال، فأمَرتُهم أن يتريَّثوا في أماكنهم وقتًا قصيرًا ريثما يتجدد الهواء، وكانت ساعة انتظار شديدة الوقع علينا جميعًا. وكان الباشا صامتًا ذاهلًا كمن هو في حُلمٍ عجيب، وكان الخادمان ينظران بعينَين ساهمتين إلى الرجل الذي يؤمنان به، وكان الشيخ يُحملني تبِعة ما قد يحدث لاستهانتي برأيه. أما أنا فكنت أحلم بما عسى أن يقع عليه بصري، وساءلت نفسي: تُری هل من المستطاع أن أفوز بتحفةٍ أثرية أُزيِّن بها عقد متحفنا الخالد في باريس؟

ثم دخلت، ودخل خلفي الأرنئَوطي باشا ثم الشيخ جاد الله، وآثَر الخادمان أن يلبثا في الدهليز الخارجي؛ فلما اختفى عنهما نور المصباح وأظلم المكان اندفعا إلى الداخل وانكمشا في ركن، وكانت حجرة تابوت کما يدل مظهرها، وقد شاهدت أمثالها مرَّاتٍ عديدة، وكان التابوت موضوعًا في مكانه وعلى غطائه صورةٌ ذهبية لصاحبه، وإلى جانبه تقوم ثلاثة تماثيل بالحجم الطبيعي؛ أحدها لرجل — من المُرجَّح أنه حور نفسه — والآخر امرأة يُستدلُّ من وضعها إلى جانبه أنها زوجه، وأمامها تمثالٌ صغير لغلام، وفي الناحية المقابلة وُضعت صناديق مُغلَقة وآنية مُلوَّنة ومقاعد ومناضد وعِدد حربية، وكانت الجدران مَلأی بالرسوم والنقوش والرموز.

ألقيت نظرةً سريعة مُفعَمة بالروعة على ذلك العالم المبعوث، ولكن الباشا لم يدَعني لتأمُّلاتي، فقال لي ولم أكُن أعلم أنها آخر أقواله في هذه الدنيا: الأوفق يا أستاذ دريان أن نُبلغ الأمر إلى الحكومة في الحال.

فأحسست بخيبة أمل وقلت: انتظِر قليلًا يا باشا ريثما أُلقي نظرةً عَجلى.

ودنوت من الصناديق والأثاث والباشا إلى يميني، ومضيت أفحصها بعينٍ خبيرة مُشوَّقة، ونفسي تُحدِّثني بفتحها ومشاهدة ما بداخلها، وكنت أُومن بأنها تحوي طعامًا وثيابًا وحُليًّا، ولكن أنَّى لمِثلي أن يملك إرادته حِيال تلك المخلَّفات الجليلة التي تستحوذ على منبض التأثر من قلبي ووجداني .. ثم لا تنسَ التابوت والتماثيل والمومياء .. يا لها من مفاتن!

وقطع عليَّ تأمُّلاتي أن سمعت صوت الشيخ جاد القبيح وهو يهتف: «هش.» فالتفتُّ إليه مُنزعِجًا مُغضَبًا؛ لأن أية همسة آنئذٍ تُثير أعصابي، ولكن الشيخ قال ببلاهة: «عصفور.»

فانتهرته قائلًا: أي عصفور هذا يا شيخ؟ .. أهذا وقت هزل؟

فقال الرجل: رأيت عصفورًا يرفُّ بجناحَيه فوق التابوت.

فالتفتنا إلى التابوت ولكنَّا لم نرَ شيئًا، وكان من العبث أن نسأل الخادمين، فقلت للشيخ: دعنا من أوهامك يا شيخ جاد الله.

ثم ضحكت وقلت للباشا بالفرنسية: عسى أن يكون العصفور روح الميت «کا» جاء لزيارته معنا.

ثم عُدت إلى مطالعة الصناديق والجدران التي تُحادِث قلبي بلغةٍ صامتة لا يعيها سواي، ولكني لم أستطِع التأمل بتاتًا؛ لأنَّا سمعنا الخادمين يصيحان بذعر: يا سعادة الباشا!

فالتفتنا إليهما بسرعة وقد امتلأت غيظًا وحنقًا، ولكني شاهدتهما في حالةٍ غريبة من الرعب؛ التصقَ كلٌّ منهما بصاحبه، واتسعت عيناهما وجحظتا وأرسلتا نظرةً صلبة جامدة ميتة إلى ناحية التابوت، وتصلَّب الشيخ جاد الله في وقفته ويدُه قابضة على المصباح وعيناه لا تتحوَّلان عن نفس الهدف، فنظرت إلى التابوت وقد نسيت غضبي، فرأيت غطاءه مرفوعًا، والمومياء مُمدَّدة أمامنا في لفائفها!

ما هذا؟ .. كيف فُتِح التابوت؟ .. هل أثَّرت فيَّ إقامتي الطويلة في الشرق فغدَت عیني تتأثر إلى هذا الحد المُضحِك بأوهامه وسِحره؟

ولكن أيُّ سحر هناك؟! .. إني أری المومياء أمامي، ولست الوحيد الذي يراها؛ فها هو ذا الباشا قد تحوَّل إلى تمثال، وها هم الرجال الثلاثة يكادون يموتون من فرط الهلع والذعر .. فأيُّ وهمٍ هذا؟!

والحق أنني أُحسُّ بالخجل كلما اضطرتني الظروف إلى سرد ما حدث بعد ذلك؛ لأني أحدِّث في العادة أُناسًا عقلاء مُثقَّفين درسوا تیلور وليفي برول ودرکیم، ولكن ما حيلتي؟ .. إن ديكارت نفسه لو كان في مكاني تلك الساعة ما أتته الشجاعة على الهزء بحواسه.

ماذا رأيت؟

رأيت المومياء تتحرَّك وتقعد في التابوت في حركةٍ خفيفة لا يقدر عليها المخمور أو المُثقَل بالنوم فضلًا عن المبعوث من عالم الأموات، ثم قفزت قفزةً غاية في الرشاقة انتصبت قبالتنا أمام التابوت.

وكنت مُولِّيًا ظهري الخادمين والشيخ جاد الله فلم أرَ ما حل بهم، ولكن ارتعاش النور الذي يُضيء الحجرة دلَّ على كهربة اليد التي تُمسِك به، وكنت في حالةٍ يتعذَّر وصفها. وأعترف أن مفاصلي تفكَّكت من الرعب الذي لا يوصف، وذُعرت ذعرًا لم أُحسَّ بمثله في حياتي على الإطلاق، ولا تكاد تُذكَر إلى جانبه أهوال الأيام الشديدة التي قضيتها في الجبهة الشرقية ومعركة المارن.

يا لَلعَجب! .. ألم يكن حيال مومياء .. أو حيال جثة رُدَّت إليها الحياة بطريقةٍ خفية .. أو أمام قائد مصري كان يرتجف هولًا وخشوعًا إذا اجتاز عتبة القصر الفرعوني؟ ولكن هل كان من الممكن أن يُخالج نفسي في تلك الساعة فكرٌ من هذه الأفكار؟ .. بل هبْ أنه خالَجها، فهل كان يستطيع أن يُهدِّئ من رعبها شيئًا؟ .. فزعت فزعًا قاتلًا .. على أن عینيَّ استطاعتا أن ترَيا كما استطاعت ذاكرتي أن تحفظ ما رأت عيناي.

ولم أجد أمامي مومياء بل رجلًا حيًّا كامل الرجولة والحياة، وكانت هيئته تُذكِّر بتلك الصور التي تُرى بكثرة على جدران المعابد، فكان يرتدي ثوبًا أبيض ووزرةً قصيرة، ويُغطِّي رأسه الكبير بقلنسوةٍ أنيقة، ويُحلِّي صدره العريض بنياشين كثيرة زاهية، وكان مَهيبًا رهيبًا مُتعاليًا، ولكني بالرغم من جلاله خُيِّل إليَّ أني رأيته من قبل، وذكرت بالفعل الصعيدي الذي ساقه الخدم إلى الباشا واتهموه بسرقة غذاء الكلب بيميش، كان شبهًا غريبًا، ولكنه اقتصر على الطول واللون والقسمات دون الروح والحياة، ولولا ما كان يُبدي الماثل أمامي من النُّبل والتعالي لربما خالجتني شكوك.

وكان يحدج الباشا بنظرةٍ قاسية لا يُحوِّلها عنه كأنه لا يرى سواه.

ماذا أقول يا سادة؟ .. لقد سمعته يتكلم .. إي والله، لقد تكلَّم حور بعد أن صمت ثلاثة آلاف من السنين، وتكلَّم بتلك اللغة القديمة التي طواها الموت منذ آلاف السنين، وسوف أنسى كل شيء في دنياي قبل أن أنسى كلمةً واحدة مما نطق به لسانه.

قال لصدیقي الباشا السيئ الحظ بصوت لم أسمع مثله جلالًا؛ لأني لم أتشرَّف بعدُ بمخاطبة الملوك.

– ألا تعرفني أیها العبد؟ .. لماذا لا تجثو ساجدًا بين يديَّ؟

ولم أسمع للباشا صوتًا، ولا استطاع بصري أن يتحوَّل إليه، ولكني سمعت العظيم ذا الصوت العظيم يقول مرةً أخرى: لم أشعر بقهر أسْر الموت إلا حين شاهدَت روحي هذه العجائب التي تحدُث في الدنيا وأنا مُقيَّد بأصفاد الأبدية لا أستطيع حَراكًا، ولم أقدر أن أذهب إليك لأن حياتي انتهت كما قضى أوزوريس .. ولكنك سعيت إليَّ بقدمَيك .. وإني لأعجب کیف سوَّلت لك نفسك هذا الفعل الأحمق .. أبَلَغ بك البطر الجنون؟ .. ألا تحمد الآلهة أن حالت بيني وبينك بالموت؟ ماذا جئت تفعل أيها العبد؟ ألم يُقنعك أن تنهب أبنائي فأتيت تنهب قبري؟ .. تكلَّم أيها العبد.

ولكن أنَّى للمسكين أن يتكلم .. إنه لا يفقه شيئًا .. ولا يُبدي حراكًا .. لقد دبَّت الحياة في المومياء .. وفارقت قلب الباشا الحي.

أما المومياء فعادت تقول: ما لك لا تتكلم؟ .. ألست حور؟ .. ألست عبدي شنق؟ .. ألا تذكُر أني جئت بك من الشمال في إحدى الغزوات الظافرة؟ .. أتتجاهلني أيها العبد؟ .. إن جلدك الأبيض الذي يرمز إلى العبودية يفضحك مهما تنكَّرت .. ما هذه الملابس المُضحِكة التي ترتديها؟ .. وما هذه الأُبهة الكاذبة التي تختفي وراءها؟

وظنَّ حور أن الباشا لا يريد أن يتكلم، فانتفخت أوداجه، وتقطَّب جبينه، وصاح غاضبًا: ما الذي دهاك؟ ما الذي دهى الأرض فجعل أعزَّتها أذلة وأذِلتها أعزَّة، وخفض السادة عبيدًا ورفع العبيد سادة؟ كيف تملك أيها العبد هذا القصر ويعمل أبنائي فيه خدمًا؟ أين التقاليد المتوارَثة، والقوانين المقدَّسة؟ ما هذا العبث؟

واشتدَّ الغضب بحور فاستحالت عيناه جمرتَين يتطاير منهما الشرر، وصاح بصوت كالرعد: کیف تتجاسر على ابني أيها العبد؟ لقد سِمته الذل بقساوة دلَّت على العبودية التي تنضح بها نفسك، ضربته بعصاك لأنه جائع، ودفعت إخوته إلى ضربه، أيجوع في مصر أبناؤها؟ الويل لك أيها العبد!

ولم يكَد يُتمُّ كلامه حتی تقدَّم نحو الباشا مُزمجرًا كأسدٍ هصور يهمُّ بفريسته.

ولكن الباشا التَّعِس لم ينتظره؛ لأنه كان قد فقد قوة الاحتمال، فسقط على الأرض لا حراك به، وكأن تهديد حور قد أشاع في الحجرة رُعبًا جديدًا أتى على البقية الباقية من التماسك في النفوس، فما لبث الشيخ جاد الله أن سقط على وجهه وسقط معه المصباح، فانطفأ نوره وساد الظلام، وانكمشت بغتةً كأني أتَّقي ضربةً قاتلة لا أدري من أين تقع على رأسي، وحملقت في الظلام وأنا أنتفض فرَقًا وذعرًا، ثم خارت قُواي، وشاء حظي الحسن أن أفقد شعوري وأغيب عن العالمين.

•••

سادتي .. إنه لتأتي عليَّ أوقات يُصيبني فيها ذهول وتُخامرني شكوك، فأُسائل نفسي مُرتابًا: هل كان حقًّا ما رأيت أم كان وهمًا؟ .. وربما مِلت أحيانًا إلى تکذیب نفسي، ولكن كلما أميل إلى الشك تصدمني حقائق لا قِبل لي بها .. فما قولكم مثلًا في شهادة الشيخ جاد الله وهو حيٌّ يُرزَق ويستطيع أن يُعيد لكم ما حكيت .. وما قولكم في جنون الخادمين التعيسين .. ومقبرة حور .. والقصر المهجور؟ .. بل ما قولكم في حادثة موت المغفور له محمود باشا الأرنئَوطي التي ما يزال يذكرها جميع قُرَّاء الصحف ويُعجَبون لها أشد العَجب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤