روائع الطبيعة في أوروبا الشمالية

(١) إسكنديناوه بلاد الغابات والطبيعة الساحرة

سرنا في سهول الجنوب وسط منابت الشوفان والكتان الذي يكاد ينسجه الجميع بأيديهم، وسرعان ما بدت الربى والمرتفعات تكاد تسدها غابات رفيعة الورق قاتمة اللون، والبيوت الخشبية تنتثر هنا وهناك وهي تُطلَى باللون الأحمر، ولا نكاد نمر على نهير أو نقيعة لا تسدها الأخشاب السابحة، ولم تغب مناشر الخشب عن العين، ففي بلاد السويد نحو ١٢٠٠ مصنع كبير تدور بالمساقط المائية، ولقد رخصت الكهرباء حتى إن القرى هناك كانت أسبق بلاد الدنيا إضاءةً بها واستخدامًا للتليفون، فلكل خمسة أشخاص هناك جهاز، ولا يعدو أجر التليفون جنيهين ونصفًا في العام، ومشاهد الطريق ساحرة رائعة، وليات سكة الحديد ووعورة مسالكها من المدهشات.

figure
استكهلم مدينة الجزائر.

دخلت العاصمة استكهلم، ومعناها مدينة الجزائر فهي بندقية الشمال حقًّا، فأينما ولَّيْتَ انتهى بك الطريق إلى لسان في البحر، ولا تكاد الطرق أو المساكن تستبين خلال الغابات التي تحوطها، وقنواتها أذكرتني بالجراند كانال، ودار البلدية بها كأنها قصر الدوج في البندقية. وأزحم الجزائر «ستادن» وتُسمَّى بالبلدة بين القناطر، طرقها مختلفة ملتوية وتكاد بيوتها الخشبية تتعانق، والقصر الملكي لا بأس به وبأثاثه، ولعهد الأشراف وسلطانهم بقيةٌ في قصرٍ استبقوه لفلولهم «ريدر هاوس»، لكنهم فقدوا اليوم عديدهم ونزل أعضاء البرلمان منهم إلى ١٥. ومن المباني الجديرة بالزيارة «ركس بانكن» أسبق بنوك الدنيا في إصدار البنكنوت، وأهم متاحفهم «سكانسن» يعرضون فيه نماذج حية من شعوبهم وبخاصة أقوام اللاب، والفن ببيوتهم وطرق معيشتهم ومختلف طوائف الحيوان عندهم، وقد صادَفَ أن كانوا يُقِيمون معرضًا صناعيًّا عالميًّا، وأجمل ما عرضوا به صناعات الأخشاب وبخاصة البيوت المختلفة الهندسة والطلاء، تُعرَض للبيع وتُفَك وتُرسَل للمشتري حيث كان، ومتوسط ثمن البيت الواحد مائتا جنيه.

قمتُ إلى «أزلو» عاصمة النرويج، فزادت في الطريق كثافةُ الغابات ومقاطعُ الخشب والمنحدرات المائية، وليس بالمدينة إلا شارع واحد جدير بالذكر هو «كارل جوهان» يشق البلدة من المحطة إلى السراي الملكية، وعليه تقوم المتاجر ودور الحكومة والبرلمان والجامعة، والمدينة فقيرة في كل شيء إلا بمناظر الطبيعة حولها، وفي متاحفها المتواضعة تعرض أقدم سُفُن الدنيا، ويعرض زورق المستكشف «نانسن» من القماش، وهو الذي أنقذه في القطب الشمالي، كذلك خيمة المستكشف «أماندسن» التي آوته في القطب الجنوبي. والجو هناك عاصف مطير عابس، فبقدر ما سَخَتِ الطبيعة في مناظرها شَحَّتْ عليهم في أجوائها حتى انعكس ذاك على وجوههم فبدت مقطبة دائمًا.

figure
أقدم سفن الدنيا صُنِعتْ منذ ١١٠ سنة.

قمت إلى «برجن» وسكة الحديد تُعَدُّ أجمل طرق الدنيا جميعًا بسحر مناظرها من وديان وشلالات وقناطر وغدران ومطاوي تأخذ بمجامع القلوب، وكنَّا كلما علونا خفَّتْ كثافةُ الغابات وقَصُرَ الشجرُ حتى ينقلب عشبًا بنوره الجميل، وحتى هنا أخذ ينضمر إلى الطحلب، ثم عمَّ الجليد كل الأرجاء عند محطة «فنس» وهي أعلى أماكن الخط «١٤٠٠ متر»، ثم أخذنا نهبط عاجلًا فعادت الحياة إلى حالتها الأولى. وقد جزنا كثيرًا من الأنفاق أطولها ٥٫٥كم، أعقبه خانق صرنا على حافته والمق من جانبنا يزيد على ٥٠٠ متر في هوة سحيقة كان الطريق يتلوى أسفلها في إحدى وعشرين طية إلى بطن الوادي، هنا كثرت قطعان الرنة يتقدم كل جماعة دليل منها يشتَمُّ الطريق ويهدي القطيع إليه.

figure
مساكن برجن من خشب وأحياؤها قذرة.
figure
اللابلنديون في شمال إسكندناوة.

وبعد ٥ و١٢ ساعة أشرفنا على فيورد «برجن» التي كانت العاصمة يومًا ما، لكنها انحدرت اليوم إلى مجموعة فقيرة قذرة من طرق ملتوية تقوم عليها بيوت خشبية، وأهلها فقراء يكثر التسول بينهم، وأفخر ما أذكر لها سوق السمك الذي يُعقَد يوميًّا في الصباح، والسمك قوتهم الأساسي يقدمونه إليك مسلوقًا، وإلى جواره كأس من الزبد تمزجه به وتأكله، وإنك لتجد في الربى المحيطة بها روعة في مناظرها وأنت تشرف منها على تلك الخلجان الهائلة الملتوية في مناظر ساحرة، وتُدهَشُ إذ تعلم أن الناس ضخام الأجسام طوال القامات رغم فقر بيئتهم بالغذاء، ولعل في هواء الجبال والبحر وفي غذاء السمك المتوافر لديهم ونشاط الحركة في صيد البحر وتسلُّق الجبال عافية لهم وصحة، وأهل النرويج أبسط عيشًا وأقل تكلُّفًا وأرقُّ حالًا من أهل السويد، وأهل إسكنديناوة من الجنس النوردي الصافي، يمتازون بالشعر الأصفر والعيون الزرق والقوام الشامخ. وفي أطراف البلاد الشمالية جنس من المغول قصار القامات، مستديرو الرءوس، منتفخو العيون، لا عمل لهم إلا صيد البحر وإعداد الغذاء ورعي قطعان الرنة، فبيئتهم فقيرة إلا في جزء من شمال السويد تكاد تكون كتلة جباله من الحديد الجيد الخالص، وقد استعانوا بالكهرباء ورخصها على العمل والنقل هناك صباح مساء.

(٢) إلى أيسلندة

قمنا من برجن ولبثنا في البحر خمسة أيام كاملة، بدا خلالها جبروت المحيط الأطلنطي في ريحه العاصف، ورعده القاصف، وموجه الشامخ، فلم أكَدْ أبرح فراشي من شدة مرض البحر اللهم إلا عندما رسونا قليلًا على جزيرة فارو، ثم على جزيرة «فستمانوي»، وأخيرًا دخلنا «فيورد ركيافك» عاصمة البلاد في طرفها الجنوبي الغربي، وكان الجو مشمسًا دفيئًا على عكس ما توقَّعْنا، وذلك بفضل تيار الخليج وطول نهار الصيف هناك، واسم المدينة معناه «الجون ذو الأبخرة» لكثرة النافورات الحارة التي تراها وأنت مُقبِل عليها.

figure
أكاد أختنق وسط بخار الفوارات في أيسلندة.

والبلدة صغيرة تجوبها في أقل من ساعة، وليس بها ما يسترعي النظر إلا دار البرلمان بمجلسيه، ويتسعان لعدد ١٤ عضوًا من الشيوخ و٢٨ من النواب، وهم يفاخرون بأنهم أسعد الأمم في الديمقراطية والمساواة؛ لأنهم عقدوا أول برلمان لهم سنة ٩٣٠، ولم يتوقف في الألف سنة مرة واحدة، وكانوا إذ ذاك يحتفلون بالعيد الألفي، وقد حضره كثير من ملوك العالم وعظمائه، وعجبتُ لمَّا رأيتهم من العمالقة وقد كنت إخالهم من الأقزام، حتى إن أطفالهم مرةً التفُّوا حولي وهم يصيحون ورائي مندِّدين بقصري عن آبائهم، وهم يقولون: «إسكيمو إسكيمو.» وهم قريبون من أهل إسكنديناوة، والنساء يلبسن شيلانًا ثقيلة وقلانس ترسل من تحتها خصائل كالشعر المستعار، ويتَّزِرْنَ بملاءات ملوَّنة وصِدار من القطيفة المزركشة.

قمت إلى ضواحيها أقصد بركان هكلا، وركبت إليه صغار الأمهار «السيسي» مطيتهم الوحيدة، حتى إن ساعي البريد ينتقل في قطار من هذه الخيول وهي تحمل الصناديق ويطوف بها البلاد ويعلن عن نفسه بمزماره. سرنا في طرق وعرة من الصخر البركاني يكثر فيه الطحلب الذي ترعاه السائمة وأنواع من الثمر كالحمص الملون يأكلونه كالفاكهة، وكانت الطريق تغص بالنافورات الحارة في أعداد لا تُحصَى وأحجام مختلفة، ومن أكبرها «جريلا» الذي يثور مرةً كل ساعتين، ومن تلك الفوارات ما أحيط بشباك من الحديد يغسل النساء حولها ملابسهم وتُطهَى بعض أطعمتهم، وقد تمد منها أنابيب إلى البيوت والفنادق للتدفئة، وعددها ٧٠٠ فوارة، وفي طريقنا إلى البركان مررنا بشلالات رائعة أكبرها «جلفس» ومسقطه ١٥ مترًا.

figure
يُسوَّى العجين خبزًا على حرارة الأرض في أيسلندة.
ثم قمنا إلى رحلة أخرى صوب «ثنجفلر»، وهو مكان البرلمان القديم نحتوا مقاعد الأعضاء في صخرة هناك اسمها «صخرة القانون» log berg، وهناك أُقِيم المهرجان الألفي، وكنَّا نبصر بالنساء على الشواطئ يجففن السمك في قطع كبيرة وفي امتداد إلى الأفق، وعند الربى يصيد القوم الطيور من الأوكار ويجمعون البيض لأكله.

وأيسلندة تصدِّر من السمك بمليون جنيه سنويًّا، وكم راقني طول النهار هناك، ففي الحادية عشرة مساء كنت أجلس في ضوء الشمس وسط متنزه كبير أكتب مذكراتي، ولم أَرَ حولي سوى رجل البوليس لأن القوم قد آووا إلى مضاجعهم، وفي الفندق تُزوَّد النوافذ بالأبواب الثقيلة والستائر السوداء لمنع الضوء عند النوم. أما عن جمال الأضواء السماوية هناك فحدث … روعة تبهر الأبصار، ويرى الكثير أن أيسلندة مصحة صيفية نادرة لصفاء هوائها وطول ضوء الشمس الذي يقضي على الجراثيم، هذا إلى ندرة سكانها ونباتها، وإلى انتظام هبوب الرياح العكسية عليها ومرور تيار الخليج بها.

figure
يصيدون الطيور لنزع ريشها وبيعه في أيسلندة.

أَضِف إلى ذلك المركبات المعدنية التي تخرج من الفوارات والأوزون الذي يصعده البحر إلى جوارها.

(٣) بريطانيا العظمى

لندن

ركبنا باخرة صغيرة من ثغر دييب في فرنسا، وفي ثلاث ساعات رسونا على نيوهيفن، وفي ساعتين بالقطار دخلنا لندن، وأول ما عنيت بزيارته البرلمان مصدر الديمقراطية ومنبت أعرق الدساتير، فمررنا بدهاليز على جدرانها صور زيتية كبيرة لبعض رجالاتهم، ومواقعهم الحربية، وسقوفها في زخارف جذَّابة من الذهب والفضة، وهذه أدَّتْ بنا إلى مجلس اللوردات الفاخر بمقاعده الوثيرة بالجلد الأحمر البرَّاق، ولعله أفخر مكان في البلاد كلها. أما مجلس النوَّاب فبسيط تكسو مقاعده الجلود الخضراء. ثم عرجنا على «دير وستمنستر» إلى المدفن الملكي الرائع في هندسته القوطية ذات الأسنان والأبراج الباسقة الأنيقة والزجاج الملوَّن القديم، ويُكرَّم بالدفن هناك الملوكُ والعظماءُ من رجال الأدب والعلم والدين.

figure
البرلمان يشرف على التاميز.

وكنيسة لندن «سنت بول» تُعَدُّ الرابعة في العالم، تقام في شكل صليب تتوسطه القبة الشاهقة، وكلها في الهندسة القوطية أيضًا. وفي ناحية على نهر التاميز «برج لندن القديم» أُقِيم منذ وليم الفاتح سنة ١٠٧٨، حوله خندق وبه قبة يعرض فيها بعض أدوات التعذيب والقتل القديمة التي تُشعِر بظلم ملوكهم الأقدمين، وفي حجرة منه مجموعة من التيجان والصولجانات من الذهب، وهناك أكبر ماسة في الدنيا بشكلها العجيب، وبجانب البرج القنطرة المعلقة من الحديد الضخم، وهي أول ما أُقِيم على التاميز من القناطر. وأهل هذا الحي من الرعاع على جفاء في الطبع وخشونة في المعاملة، وكأنهم سكان الحسينية عندنا. ومن الأحياء التي راقتني حي ليفربول، وهو من الأحياء الوطنية الفقيرة، ضيِّق الطرق، قذر مهمل، يفترش الباعة بسلعهم الأرض، ويأكل المارة من الفقراء منها بشكل شَرِه منفر، كذلك حي اسمه «كفنت جاردن» وفيه سوق الفاكهة والخضر، وكله من الرعاع كثيري الجلبة والضوضاء، وما كنت إخال لندن في مستواها الراقي وثرائها المعروف تضم أحياءً وضيعةً مهملة كهذه. ولعل أروع ما في لندن وأنفعه للزائر متاحفها ومعارضها التي لا تُحصَى، وكلها تفتح أبوابها للشعب بالمجان، أذكر منها المتحف البريطاني الذي يضم آثارًا من كافة بلاد الدنيا، والقسم المصري القديم وحده من ستِّ حجرات كبيرة في الهندسة المصرية القديمة، وبه من القطع المصرية ما لا نجد نظيره في المتحف المصري، أذكر من بينها حجر رشيد، وهكذا أقسام لكافة بلاد الدنيا، وفي معرض الفن الأصلي صور زيتية لكبار فناني العالم. وكنتُ أدهش للأمهات وهن يصحبن أطفالهن ويشرحن لهن ما هو معلَّق على الجدران من صور، وفي جانبٍ متحف التاريخ الطبيعي، وفيه مجموعة لا تُبارَى في النبات والحيوان والجيولوجيا، وهو وحده يتطلب شهورًا لتفقُّده.

وهل أنسى هيكل عِظَام حيوان الدينوصور، وجذع الشجرة الذي يبلغ قطره ستة أمتار! وحديقة الحيوان هائلة فسيحة، تبنى بيوت كل طائفة من الحيوان فيها في هندسة البلاد التي تشتهر به، وعدد الحيوانات فيها يفوق أية حديقة في الدنيا، على أني أرى حديقتنا بمصر أجمل منها بكثير وأحسن تنسيقًا، ولعلها أجمل حدائق الدنيا قاطبة.

كذلك حديقة النبات «كيو» ومساحتها ٢٨٨ فدانًا، وبها ٢٤ ألف فصيلة من النبات، ونحو مليونين من العينات المختلفة، حتى نبات صميم خط الاستواء ينمو في بيوت زجاجية قد يضم البيت في علوه النخيل الباسق، وسكان لندن قوم صحيحو الأجسام بفضل غرامهم بالرياضة، نظيفو الهندام، يسيرون في نشاط الشباب لا ترى منهم متسكعًا، وعجبت ألا توجد المقاهي قطُّ اللهم إلا مشارب للشاي تُفتَح في ساعات معينة كل يوم، وقد استعاضوا عن ذلك بالنوادي. والنساء هناك رشيقات يمشين في وقار ولا يتكَلَّفْنَ الأزياء ولا طلاء الوجوه، على أن اختلاطهن بالشبان وخصوصًا في هيد بارك أمر ذائع حتى تحت عيون الشرطة. ولعل أهم صفات الإنجليز الرزانة وقلة الجلبة؛ أذكر أن إنجليزيًّا كان يركب أمامي في القطار ونحن مقبلون على باريس، والمقاعد الباقية كلها مشغولة إلا واحد يجاور الإنجليزي كانت تُوضَع عليه حقيبة صغيرة، فجاء فرنسي وأشار إلى الإنجليزي أن يرفع الحقيبة ليجلس، فنظر إليه بازدراء وعاوَدَ القراءة، فثار الفرنسي وهدَّدَه برميها من النافذة إن لم يرفعها، فأعاد الإنجليزي الكرة ولم ينطق بكلمة، فتناولها الفرنسي وألقى بها من النافذة، فلم يحرك الإنجليزي ساكنًا، وبعد قليل إذا بفرنسي آخَر جاء وأخذ يسأل عن حقيبته، فقام الآخَر مذعورًا وأخذ يعاتب الإنجليزي، فظلَّ هذا على ازدرائه وصمته. والمظهر العام للندن مقبض غير جذاب، فالمباني مزدحمة متجاورة وبالآجر الأحمر القاتم والجوكدر محمل بهباء المصانع، حتى إنك لو مسحت أنفك بمنديلك بدا أسود، وحتى البيوت تُغسَل بالماء بين الفينة والفينة، والجو أغبر غائم يهدِّد بالمطر والعواصف بدون إنذار، على أن هذا لا يعيق الانتقال، فوسائل النقل سهلة متعددة: قطار تحت الأرض، والترام، والأتوبيس الذي قرأت من أرقامه ٥٠٠، وقد تتعدد قطرات تحت الأرض في ثلاثة أدوار فوق بعضها، وفي ساعات العمل صباحًا وعصرًا لا تكاد تشق طريقك وسط الجماهير ولا عجب؛ فعدد سكانها بين ٦ و٨ ملايين، والبوليس مهيب الجانب، شامخ القوام، يراقب كل ذلك في دقة أضحت مضرب الأمثال.

أكسفورد

لا يكاد الإنسان يجول بفكره في ربوع العلم والمعاهد حتى يدوي اسم أكسفورد في طليعتها، زرت مبانيها التاريخية ومسالكها الهادئة وجوها الذي يشع علمًا وبحثًا، وكلما سألت عن بناء قوطي ضخم أخَّاذ قيل لي تلك كلية، فعدد كلياتها إحدى وعشرون وأربع للآنسات، ولكل منها أجنحة وفروع جلها في الهندسة القوطية، وغالبها بدأت مؤسَّسات دينية يشرف عليها القساوسة، ولكل واحدة منها استقلالها وحريتها، على أن الجميع يربطهم اتحاد هو الذي يحمل اسم جامعة أكسفورد، وتدهش إذ تعلم أن متوسط ما يدفعه الطالب في العام ٢٥٠ جنيهًا إلا مَن أحرز مجانية التفوق، ولا تكاد تقع العين إلا على طالب أو طالبة أو أستاذ، وقلَّتِ الملاهي وكثرت الكنائس، وآوى الجميع إلى مضاجعهم مبكرين.

قمت إلى ضاحية ريفية اسمها «كاولي»، وزرت بها مصانع سيارات موريس الهائلة التي تُخرِج للأسواق مائة ألف سيارة كل عام، وعجبت لما علمت أن عدد قطع السيارة الواحدة نحو ١٩ ألفًا، ثم عرجت على قرية بامبري الذي كان ينزل بها شاكسبير، والفندق يحتفظ بغرفته إلى اليوم، وقد زرتها وأكلت فطير بامبري الشهير، وكنت أغبط أهل الريف الإنجليزي على نظافة مساكنهم وبساطة البناء والأثاث، وكنت أرى الأطفال يسيرون ومعهم جرار الجعة يشترونها من الحانات ليشربوها مع الطعام، وأهم وجبات الأكل في الريف الغداء عكس أهل المدن نَهِمي الأكل؛ فالإفطار مروع لكثرته؛ زبد ولحم خنزير وشواء السمك والبيض والبوردج والشاي واللبن، وفي الساعة الخامسة الشاي الكامل مع الزبد والساندوتش والكعك والفطير، وفي المساء الباكر العشاء من لحوم باردة وخضر، وقد يتناولون وجبة أخرى متأخرة. وأرض الريف تزرع على المطر، ويمتلك غالب المساحات أثرياءُ يسخِّرون العمال لكن بأجور عالية لا تقل عن ريال يوميًّا، ومستوى المعيشة مرتفع حتى في الريف، فكل شيء مرتفع الثمن اللهم إلا اللبن؛ فالدولة تحرص على أن يباع الرطل بقرش واحد. وكان يروقني منظر الأطفال يوم الأحد يسرحون في الحقول ليجمعوا الزهور للمنازل، والدراجات ذات شأن كبير في حياة الفلاح ويسمونها «بايك». ويوم الأحد مقدَّس لديهم لا يقومون فيه بعمل ولا يفتحون متجرًا، وجلهم يتأخرون في النوم صباح هذا اليوم، وغالبهم يعد رحلات خارجية سحابة النهار خصوصًا إذا كان الجو مشمسًا، وقلما يكون كذلك.

والعجب أني لم ألمس من عامة الناس ما يدل على ذكاء وسعة اطلاع، يجهلون كل شيء عن العالم الخارجي، ويقرءون في الجرائد أخبار الألعاب الرياضية فقط.

(٤) إلى إسكتلندة

قمنا بالسيارات الفاخرة شمالًا إلى إسكتلندة، فكانت المناظر سهولًا مملة تنبت الغلال والخضر، وقد جزنا مقاطعة يوركشير بأغنامها وكلأها، ثم نيو كاسل بدخانها وحفائرها وضوضائها لكثرة مناجم الحديد والفحم بها، ثم أخذت الربى تزيد وتتعقد، وبعد خمس عشرة ساعة دخلت …

(٥) أدنبرة

وسرعان ما بدا الفرق بين الناس هنا وبين الإنجليز في اللهجة ومستوى المعيشة وحالة الأهلين، وحتى في المباني؛ فقد حاكت مباني القرون الوسطى التي تقرب من الهندسة القوطية، فاللهجة مدغمة صعبة الفهم، على أنهم ظرفاء رغم رقة الحال التي بدت على أكثرهم، والأحياء القذرة متعددة، وأهلها في بؤس شديد، خصوصًا وأن مستوى الأسعار مرتفع حتى للضروريات، وكثرت محال بيع السلع القديمة المستعملة، ولا يكاد يأكل سوادهم إلا الخبز والسمك والبطاطس، لذلك فهمت سر سمعة الاسكتش في شحهم وبخلهم حتى شاعت أقاصيص عنهم في ذلك، أذكر منها أن أحدهم سأل عن أرخص الطرق إلى فرنسا، فردَّ الآخَر أن تسبح إلى هناك، ففعل الرجل، ولما وصل الشاطئ رآهم يجمعون تبرعات خيرية فآثَرَ العودة سابحًا. وقصة أخرى أن كلبًا رقد وسط الطريق وأوقف سير العربات، ولما جاء البوليس وأزاحه عن مكانه اكتشف تحته قطعةً بثلاثة بنسات. وقصة ثالثة أن اثنين دخلا يصليان في الكنيسة، فظهر خادم يطوف بالناس لجمع إعانة مالية، فأسرع أحدهما بتصنُّع الإغماء، وعجل الثاني بحمله على كتفه وخرج.

ومما كان يضايقني غرامهم بالكلاب، فهي تلازمهم نساء ورجالًا في كل مكان، وأدنبرة أخفُّ روحًا من لندن، وأفخر شوارعها «برنس»، وأروع ما به تمثال تذكاري للكاتب سكوت خير مَن أنجبته المدينة، ويشرف على الشارع من نهايته القلعة بضخامة أبنيتها القديمة الغريبة، ولا بأس بحديقة الحيوان التي يُحاط الحيوان فيها ببيئته الطبيعية. وأعجبني شاطئ الاستحمام «بورتوبللو» وقد زُوِّدَ بمسابح صناعية خشية الجزر تثير الآلات الموج فيبدو هائجًا.

ومتاحف البلدة عديدة تفتح أبوابها للجميع بدون أجر، ويقف الأدلاء يشرحون للزائرين كل شيء.

قمنا بالسيارات لزيارة منطقة البحيرات المشهورة بمناظرها الساحرة عند جبال تروساكس، والبحيرات نحيلة منثورة بين عقد الجبال ويسمونها 8ochs لوخ، وكان يومنا مشمسًا نادرًا؛ لذلك هرع الجميع إلى الضواحي ينتهزون فرصة التمتع بالشمس، وقلما تصفو كذلك يومًا. ثم كانت عودتنا في مجانبة نهر فورث بمراسيه الهائلة، خصوصًا عند ثغر ليث، وعناية القوم بالطرق ورصفها وصيانتها فائقة الحد.

وصلنا الدار وطلبنا إلى صاحبته أن تقدِّم كشف الحساب لأن الأسبوع قد انتهى، فصاحت قائلة: هذا لا يكون يوم الأحد، وإلا كان نذير الشؤم، ويا ويل رجل يصل بحقائبه إلى بيت من هاتيك يوم الأحد، فإنه سوف لا يجد مَن يئويه. ثم عدنا فزرنا ثغر ليث وبعض مصانع السفن الشهيرة به، فكان المهندسون عاكفين على تصميماتهم، ثم يسلمونها للعنابر لتقيم لها نماذج من خشب بالحجم الطبيعي، وأخرى لمختلف أجزائها، ثم تُنقَل هذه النماذج إلى ورشة الحديد لتجهز على نمطها من الصلب، وإذا ما أقيم هيكل السفينة نُقِل إلى حافة الماء وأخذ القوم يبنون عليه ما نقص، وهي تُحمَل على قطع ضخمة من خشب تمد تحتها قضبان زلقة ترسو عليها، وعند تمام بنائها تنزلق تدريجًا إلى اليم.

عندئذٍ يبدأ الطلاء وتركيب الآلات، ثم تُكسَى السفينة بالخشب وتُقسَّم إلى حجرات، ولعل أعجب ما يسترعي النظر ملابس الاسكتش من لفافة مثناة من قماش مربع التخطيط، يسوده اللون الأحمر، وبالساق جورب طويل ولهم رباط حول الرقبة رجالًا ونساء، ويجيدون رقصة جميلة على أنغام مزمار النفخ، وهم يحملون السيوف ويتحركون حركات عنيفة ويصيحون صيحات وحشية منكرة. قمت إلى جلاسجو على نهر كلايد فبدت غبراء لكثرة دخان مصانعها، وهي سيدة بلاد الدنيا في بناء السفن مثل كوين ماري، وتكاد روافع المصانع تشبه عمالقة الغابات، وقد كان ماء النهر وكأنه من الزيت الخالص لكثرة ما تلقي فيه المصانع من أوساخها وشحومها، والقناطر فوق النهر متجاورة متعددة والناس هناك تعوزهم النظافة. ويدهشني في القوم غرامهم بالرحلات، ويساعدهم على ذلك شركات النقل التي تخفض الأسعار في مناسبات كثيرة إلى الربع، وتزيد في عدد قطاراتها وعرباتها وتبتكر لهم رحلات بين آنٍ وآخَر. عدت من رحلة إلى البحيرات وطلبت العشاء في الفندق، فقيل لي بأنه يوم الأحد ولا سبيل إلى ذلك، فنزلت أبحث عن مطعم فلم أجد، وأخيرًا أبصرت بمطعم للسمك صغير، ففرحت ودخلت أطلب شيئًا آكله، فقال الرجل: آسف؛ إذ لا يباح البيع إلا للفقراء فقط. فقلت: بل أنا فقير غريب نال منه الجوع. فضحك الرجل وناولني سمكة مشوية، وطلب إليَّ أن آكلها خلسة في الطريق لا في المطعم نفسه، فكان ذلك درسًا قاسيًا علَّمَني كيف استعِدَّ لأيام الآحاد في مثل تلك البلاد الشحيحة. والناس هناك رقيقو الحال تعوزهم النظافة، والفقراء والمتسولون عديدون، وقد تدخل السيدة مطعم الحساء والسمك وتُخرِج الخبز من حقيبتها طلبًا للاقتصاد.

(٦) كمبردج

في ساعة ونصف وصلت كمبردج ند أكسفورد، وفيها زهاء ثماني عشرة كلية غالبها يطل على نهر كام الصغير، وتكاد تلحق كل واحدة بكنيسة، ويقيم الكثير منها دراسات صيفية يجتمع فيها الناس من بقاع الأرض نهارًا وليلًا ليتبادلوا الآراء ويتعارفوا، وتلك سُنَّة حَسَنة، والكليات تعُدُّ للزائرين رحلات إلى الريف المجاور، ومن أعجبها رحلة إلى منطقة المستنقعات القديمة واسمها «فنلند» كانت تغص بعشب الماء الذي طمر وأضحى فحمًا غير ناضج «بيت»، وأخذت الدولة تصلحه وتزرعه، وزرنا إلى شرقها منطقة صحراوية رملية مجدبة اسمها «بركلند»، لا ينمو بها إلا العشب القصير الشائك، وتعجب إذ تعلم أن مطرها غزير ويفسرونها بأن تربتها الجيرية أذاب منها المطر كربونات الكلس، فبقي الرمل في هذا الشكل. ومما يذكر بالفخار لجامعة كمبردج معاونتها للبحث العلمي في نواحيه المتعددة، وحتى في الاستكشاف أسَّسوا معهدًا أسموه «المعهد القطبي» يقدِّم كل مساعدة لأي عدد من الرحَّالة من أية دولة.

figure
وسط الباب الحديدي بالدانوب.

(٧) إلى إيرلندة

قمت إلى ميناء ليفربول الصاخبة، وركبت الباخرة إلى بلفاست عاصمة إيرلندة الشمالية زهاء عشر ساعات، فبدت صغيرةً جميلةً خفيفةَ الروح نظيفةً، والناس ظهروا يخالفون الإنجليز في كل شيء؛ فهم على حدَّة في الطبع وبُعْد عن الهدوء الإنجليزي، أَمْيَل إلى البساطة وسهولة المأخذ، على أن مظهر العوز والفاقة أخذ يزداد بقدر محسوس. ومن ضواحيها الجميلة بمناظرها الرائعة منطقة الشلالات إلى شمالها، وفي قرية موكامور زرنا أحد مصانع التيل الكبيرة، والطريق إليها كثير المسايل والشلالات الجذابة. وقد قام بنا القطار إلى دبلن في ثلاث ساعات، وعند حدود إيرلندة الحرة فُحِصت الجوازات وفُتِّش متاعنا وبدءوا يستعملون لغتهم الإيرلندية ويكتبون بها لافتات متاجرهم وكأنها العبرية في الشكل، والنقود وطوابع البريد كلها بهذه اللغة التي لا يفهم الواحدُ منها شيئًا، وعلى الوجه الآخَر من النقود رسم لأغرب حيوانهم كالحصان والكلب والخنزير. أما البلدة فمتواضعة تفتقر إلى النظافة، ويكثر بها أبناء السبيل من الحفاة في كل طريق، كذلك المتسولون لا يحصون عدًّا، هذا إلى المرضى والمشوهين، وأنت لا تفتأ ترى أكداس المهملات في الطرق، والبصق المنفر هنا وهناك، ومستواهم الثقافي منحط وحالتهم الصحية ضعيفة وغالبهم يدمن الخمر والتدخين، والنساء يحملن الشيلان الثقيلة السوداء ويعلقن أطفالهن إلى جانب الذراع الأيسر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤