سعادة الوزير وأنبوبة البوتاجاز!

أي مواطن يصلح وزيرًا، وكل مواطن يستطيع أن يملأ مكانه في منصب الوزير. وهو خطأ شائع ولا أساس له من الصحة؛ لأنَّ منصب الوزير منصب قيادي في الدرجة الأولى من الأهمية، وليس عيبًا أو عارًا أن يكون العبد لله لا يصلح لمنصب الوزير، ولكن العيب الحقيقي أن أتقلَّد هذا المنصب وأنا لا أصلح له، ومُسوِّغات تعيين الوزير أن يكون من أصحاب القدرة الإدارية الفائقة، وأن يكون من أتباع سياسة معاوية … لو كان بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعَت … إذا جَذَبوها أرخيْتُها … وإذا أرْخَوها جذبتُها، وإذا كان الوزراء وهم في السُّلْطة يبدون جميعًا سواء فهذا الأمر يكون صحيحًا في الصورة فقط، أما في واقع الحال فالأمور تختلف. ولدينا الآن مثل حي وملموس وعلى عينك يا تاجر.

في أيام الدكتور أحمد جويلي وزير التموين السابق لم نسمع عن أزمة في البوتاجاز في أي وقت … لا في الصيف ولا في الشتاء كانت الأنابيب مُتوفِّرة، والسعر ثابت، والناس مرتاحة، وكل شيء على ما يرام، وفي عهد الوزير الحالي اشتعلَت أزمة البوتاجاز إلى الحد الذي أصبحَت فيه أزمة جماهيرية، وإذا كانت طوابير الجمعيات الاستهلاكية قد اختفَت فقد حلت محلها طوابير البوتاجاز، وهجمَت جحافل البلطجية على منافذ التوزيع تُشرِف على التوزيع وتُحدِّد التسعيرة المناسبة، وبينما المستهلكون يَشتكون من غلاء السعر الذي بلغ في بعض المناطق خمسة عشر جنيهًا للأنبوبة الواحدة، نجد البلطجية يحققون أرباحًا يحسدهم عليها رجال الأعمال. هذا الوضع السيِّئ الذي انتهت إليه أنبوبة البوتاجاز ما هي الأسباب التي أدَّت إليه؟

في رأي العبد لله أنه ليس هناك أي سبب إلا سوء الإدارة، وفي عهد الدكتور الجويلي لم نسمع عن زيادة الثمن في أي سلعة من السلع الضرورية، وفي عهد الوزير الحالي أصيب سوق السكر بالجنون، وقيل في تبرير ذلك إن واحدًا مستثمرًا اسمه علي الصفدي هو المسئول، وإذا كان هذا الأمر صحيحًا يكون التاجر علي الصفدي أقوى من الوزير ومن وزارته ومن أجهزته، وفي بلد مثل مصر تهون اللخبطة في أي مكان إلا في وزارة التموين، فلا بد من ضبط الموازين في السلع الأساسية التي تعتمد عليها أغلبية الجماهير، فلا يمكن الإهمال أو غض الطرف عن حالة الفول المدمس، والعدس، والسكر، والشاي، والخبز، والأرز، فإذا حدثت اللخبطة في هذا المجال فيا داهية دُقي أعوذ بالله! ولكن السيد وزير التموين يبدو وسط الأزمات وبالرغم من — الأزمات — شديد الانشكاح لا شيء يشغل باله، ولا شيء يُعكِّر مزاجه ولا شيء ينغص عليه حياته، ولماذا يقلق ما دام الجو بديع والدنيا ربيع؟ لعله لا يدرك أن بيتًا بلا أنبوبة بوتاجاز في هذا الشتاء القارس معناه مشكلة ترتفع إلى حد الكارثة.

مرة منذ بضع سنوات حدثت مشكلة في توزيع الأنابيب، وعلَّقتُ على المشكلة في بضعة سطور بمجلة «المصور» وفي الساعة العاشرة صباحًا من اليوم التالي سمعت طرقًا على الباب، ولما فتحتُ اكتشفتُ وجود الوزير عبد الهادي قنديل وزير البترول على الباب ومعه المهندس عبد الحميد أبو بكر رئيس مجلس إدارة شركة بتروجاز، وقضى الوزير مع العبد لله حوالي ساعة ومعه كل الوثائق التي تُثبِت براءته وبراءة وزارته وبراءة أجهزته، ولكن المشكلة كانت وليدة سوء تصرف من بعض أصحاب مراكز التوزيع وأنه جاء إلى منزلي بعد جولة مُبكِّرة فاجأ فيها عددًا من هذه المراكز وأمر بإغلاق مركزين ولم تستمر المشكلة أكثر من أيام قليلة، ثم هدأتْ سوق البوتاجاز وعادت إلى مسيرتها القديمة.

والعبد لله يعتقد أن وزارة البترول يقع عليها جزء من مسئولية الفوضى التي تعربد في سوق البوتاجاز، ولكن وزارة التموين هي المسئولة الأولى، في أيام الدكتور الجويلي مثلًا ابتدعوا نظامًا للتوزيع كان بمثابة ضربة معلم، فاختاروا عددًا من الشباب الحاصلين على شهادات متوسطة وشهادات عليا وأعطوا كُلًّا منهم الحق في توزيع سيارة بوتاجاز بعد دفع التأمين المطلوب، وقد حقَّقتْ هذه السياسة اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، سهولة التوزيع ووصول الأنابيب إلى المستهلِك وضمان دخل معقول للألوف من الشباب وإبعاد البلطجية عن سوق البوتاجاز، ولا أعرف ما الذي حدث لهذا النظام بعد التغيير الوزاري الأخير، هل لا يزال معمولًا به حتى الآن؟ أم أن الوزير الجديد ألغاه باعتباره من مُخلَّفات الجويلي، كما فعل مع موظَّفي مكتبه وعمال البوفيه الذين كانوا يعدون القهوة والشاي للوزير السابق؟! وإذا كان بعض السادة من أصدقاء الوزير الذين يلتمسون العذر له على أساس أنه وزير مستجد كما وصفه زميله الدكتور يوسف بطرس غالي وزير الاقتصاد فهو عذر أقبح من ذنب؛ لأن وزير التموين لا بُدَّ أن يكون وزيرًا متمرِّسًا وخبيرًا ولا يسمح لأي خيط من الخيوط التي يمسك بها بين يديه من الإفلات من بين أصابعه؛ لأن وزارة التموين ليست وزارة هامشية ولكنها وزارة على قَدْر كبير من الأهمية؛ لأنها وزارة تتعامل مباشرة مع الجماهير.

أذكر أنه في العام ١٩٧٠م سألني أحد تجار الحبوب بالجيزة وهو المرحوم الحاج سيد مخيمر أنْ ألْفِت نظر وزير التموين وكان المرحوم حمدي عاشور بأن الوزارة على وشك الوقوع في أزمة فول مدمس قد يكون لها أبعاد خطيرة، ورفعتُ سماعة التليفون وسألت حمدي عاشور سؤالًا عابرًا … عامل إيه في الفول؟! وأجابني حمدي عاشور بأن كل شيء على ما يُرام والتقارير كلها تُؤكِّد أن مخازن الوزارة تضم كميات من الفول تكفي مصر لمدة عام كامل، قلتُ له: طيب على خيرة الله ثم سألني حمدي عاشور بتسأل ليه؟ … أجبتُه بأنه لا شيء هناك سوى أن أحد تجار الجيزة الكبار المعروفين قال لي إن وزارة التموين قد تعاني من أزمة الفول مدمس في القريب، وأجابني حمدي عاشور ضاحكًا ده لازم كان مبسوط شوية … بعد ثلاثة أيام على وجه التحديد من هذا الحديث اتصل بي الوزير حمدي عاشور وصاح قائلًا … الراجل اللي قالك على أزمة الفول ده فين؟ … قلت له … موجود … قال حمدي عاشور … تسمح تجيبه وتيجي … قلتُ له … سأبحث عنه وإذا كان موجودًا سأصطحبه إلى مكتبك … بعد ساعتين من هذا الاتصال التليفوني كنتُ مع المرحوم سيد مخيمر في مكتب الوزير، وكان المكتب يضيق بعشرات من كبار الموظفين، وكلاء وزارة، ومديري عموم، ومعهم مدير مديرية تموين الجيزة، ومدير مديرة تموين القليوبية، وقال الوزير لسيد مخيمر … أنا يا عم سيد عاوز أشكرك على الكلام اللي أنت قلته لمحمود … فنحن بالفعل على أبواب أزمة حادَّة في الفول المدمس ونريدك أن تشترك معنا الآن في الحوار وتدلَّنا على أحسن الطرق لعلاجها، وكيفية الخروج منها بسلام … ولما كان سيد مخيمر من أكبر تجار الحبوب في مصر فقد وعد الوزير بأن يمد الوزارة بخمسين طنًا يوميًّا بالتسعيرة، وأشار على الوزير بتنفيذ عدة مقترَحات تسهل الخروج من الأزمة، وبالفعل طبق الوزير ما أقترحه سيد مخيمر عليه، ونفَّذ سيد مخيمر وعده وقدَّم خمسين طنًا من الفول بالتسعيرة للوزير كل صباح، وانتهت الأزمة بسلام … وفي أول مجلس وزراء برئاسة أنور السادات قال الوزير حمدي عاشور لرئيس الجمهورية … يا سيادة الرئيس الأمن الغذائي أهم من الأمن السياسي، ووافقه السادات على ذلك ووجه الشكر لوزارة التموين؛ لأنها عالجت مشكلة الفول بسياسة ناجحة … وبعض الذين يدافعون عن وزير التموين الحالي يقولون: إنه كان مديرًا لبنك وقد شهد بنجاحه في إدارة البنك الجميع، والعبد لله يعلم أن الوزير الحالي كان مديرًا لبنك، أما مسألة نجاحه من عدمه في إدارة البنك فهي مسألة فيها قولان كضربات الجزاء، ثم إن إدارة البنك تختلف عن إدارة وزارة، فالبنك كشوف حسابات وأجهزة كمبيوتر وعمليات سحب وإيداع، وهي أمور تحتاج إلى محاسب وإلى مدير يراجع ويراقب ويحاسب، ثم إن المثل الشعبي يقول «إن الميه تكدب الغطاس» … وها هي مياه وزارة التموين غطس فيها وزير التموين الجديد ولم يظهر له أثر حتى الآن.

والعبد لله يهيب بالدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء أن يخرج قليلًا من دوامة العمل ويلقى نظرة على مشكلة البوتاجاز لعله يقوم بزيارة لبعض مَخازن البوتاجاز في العاصمة والجيزة ليرى بنفسه كم يعاني الناس أمام مراكز التوزيع! وكم يلاقون من صنوف العنت والإرهاق وابتزاز البلطجية للحصول على أنبوبة وبثمن تضاعَف حتى الآن أكثر من خمس مرات! وعلى العموم فشل وزير في وزارته ليس نهاية الكون، ولكن استمرار وزير فاشل في وزارته هو أمر له عواقب وخيمة، وفشل الوزير في وزارة أمر محتمَل في وزارات كثيرة ولكن في وزارة التموين بالذات … اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤