المستشار ولعبة باراك!

ها هو شهر الثورة والثوار، وها هي الأقلام إياها بدأتْ فاصل العزف البايخ تلعن الثورة وسنينها، وتُجرِّد الثورة من كل شيء إلا من صلاح نصر وممارساته السيئة، ثم تَتعرَّض لحرب اليمن وتعتبرها نكبة لمصر وكارثة لاقتصادها، وتصف حرب ٦٧ باعتبارها كانت مؤامرة لطرد عبد الحكيم عامر من الجيش، أشياء كثيرة مضحكة وغريبة هي كل ما بقي من ثورة ٢٣ يوليو في رأي السيد «المستشار» أو هكذا أطلق السيد إياه على نفسه، مستشار فين؟ فالمهم أنه مستشار والسلام.

ومنذ سنوات مضت تساءَل عمنا وسيدنا وتاج رأسنا، الكاتب المفكر أحمد بهاء الدين: هل «المستشار» وظيفة أم لقب؟ وكان من رأي عمنا بهاء أنها وظيفة إذا تركها صاحبها فقد صفته كمستشار، ومع ذلك لا حياة لمن تنادي، فسعادة البيه «المستشار» إياه صار كاتبًا، ومن هناك صار مؤرِّخًا، والأكادة أنه يتصور نفسه من الكُتَّاب الساخرين، وهو وضع العبد لله يوافق عليه على أساس أنه كم ذا بمصر من المضحِكات ولكنه ضحك كالبكاء على رأي سيدنا أبو الطيب المتنبي!

أما مجوهرات أسرة محمد علي فقد سرقها الثوار، ودليله الوحيد على كلامه الاتهامات التي كالها «المستشار» للثورة والثوار هو كلام سمعه من حسن «بك» إبراهيم عضو مجلس الثورة، وخد بالك من حكاية «بك» دي، لأنني لم أسمع في أي وقت أن قائد الجناح حسن إبراهيم حمل لقب بك في أي يوم. ولكن سعادة «المستشار» لا يحترم إلا أصحاب الألقاب.

بَكوات أو باشوات، وكل ما يكتبه هو في الحقيقة دفاع عن أصحاب الأراضي وذوي الأملاك، وهذا هو بالضبط سر غيظه الشديد من الثورة ومن الثوار. أما أيام الثورة التي حفلت بالأمجاد والانتصارات فكلها في رأي «المستشار» أيام تطفح بكل سوء وبكل ما هو سيئ ورديء في هذه الدنيا وسوف يسجلها التاريخ بإذن الله على حقيقتها، ساعتها تعرف الأجيال المقبلة أن مصر عاشت أسوأ العصور ولا الهمج أو الهكسوس!

وهذا يعني أنه في رأي المستشار ببساطة أن القضاء على النظام الملكي كان عملًا رديئًا، وطَرْد الإنجليز من مصر كان عملًا سيئًا، وقانون الإصلاح الزراعي كان عملًا يخجل منه الثوار، وبناء السد العالي وصمة في جبين الثورة، وإلغاء الألقاب كان عملًا غير شريف بالمرة، وتأميم قناة السويس كان عملًا اجراميًّا يستحق مرتكبه عقوبة الإعدام.

وسعادة «المستشار» حُر في رأيه وحُر في اختيار الخندق الذي يتحصن فيه. ولكن المضحك والمؤسف حقًّا أنه في الصفحة نفسها تعرَّض لسيرة أحد الوزراء الحاليين، فوصفه بأنه الأسد الهصور وأنه أقوى زملائه شخصية وأكثرهم ذكاء. وبعد أن استعرض تاريخه في كل المناصب الرفيعة التي تولاها، توقف عند منصبه الأخير في مجلس الوزراء، وكيف استطاع تحويل مقر المجلس من مبنى متهالك ومخازن للزبالة إلى قصر يُشرِّف أي دولة في العالم، ولأن الناس تخاف ولا تختشيش — هذا هو رأي «المستشار» في الناس — فقد كان على موعد مع سيادة الوزير في التاسعة صباحًا، ثم اكتشفت — «المستشار» وهو الذي اكتشف — أن الوزير سبقه إلى مكتبه. وعندما الْتَفَّ حوله الموظفون كان يؤدِّي لهم امتحانًا عسيرًا، يسأل كل واحد منهم عمَّا يفعل، ثم يعطي التعليمات الصارمة وهو لم يجلس على مكتبه بعد. وفي مكتبه يتحدث ويكتب وعلى أذنيه أكثر من سماعة تليفون. ثم يختم سعادة «المستشار» بك سطوره قائلًا: أرجوكم انتظروا منه المزيد وادعُوا له بالتوفيق.

هذه هي السطور التي كتبها السيد «المستشار» عن صديقه السيد الوزير الحالي. والعبد لله لا اعتراض له على الصفات التي خلعها السيد «المستشار» على صديقه الوزير. فربما هو أهل لكل هذه الصفات وربما لما هو أكثر من ذلك. ولكن العبد لله كان يتمنى أن يوفر السيد «المستشار» هذه السطور للوقت المناسب، عندما يأتي الوقت فيصبح الوزير خارج الوزارة. لأنه عيب جدًّا أن نكيل المديح لوزير يجلس الآن على كرسي الوزارة بينما نهيل التراب على ثورة مات زعيمها منذ ثلاثين عامًا، خصوصًا أننا لم نقرأ حرفًا واحدًا للسيد «المستشار» في زمن الثورة السيئة وأيامها السوداء. فهل كان يُؤْثِر السلامة ويأكل العيش بالبطيخ؟ وهل سيحتفظ برأيه في الوزير الحالي عندما يصبح وزيرًا سابقًا؟

وتبقى بعد ذلك نقطة واحدة، فالعبد لله لعظيم جهلي وفرط غبائي كنتُ أتصوَّر أن الفضل في تطوير مقر رئاسة مجلس الوزراء يعود للدكتور كمال الجنزوري رئيس المجلس، ولكن شكرًا للسيد «المستشار» الذي كشف عن السر الذي غاب عنا جميعًا، وهو أن الفضل كله يعود إلى السيد الوزير … الأسد الهصور أقوى زملائه شخصية وأكثرهم ذكاء! ثم مَن قال إن مقر مجلس الوزراء كان مبنًى متهالكًا مخازن للزبالة؟ مخازن للزبالة يا سعادة «المستشار» وهل كان ذلك طول الوقت؟ أم أنه كان كذلك في زمن جمال عبد الناصر فقط؟ طيب وماذا عن المبنى في عهد محمود فوزي، وعزيز صدقي، وعبد العزيز حجازي، وفؤاد محيي الدين، وعلي لطفي، وكمال حسن علي، وعاطف صدقي؟

وبعدُ يا سيادة «المستشار» عبارة واحدة وردَت في سطورك أوافقك عليها بشدة … الناس تخاف ولا تختشيش … وسطور سيادتك على صفحات الأخبار هي أعظم دليل على ذلك!

•••

منظر وزارة باراك لا يطمئن ولا يسر عدوًّا ولا حبيبًا، وهي في حقيقة الأمر جبهة من جميع الأعداء. تضم أنصار السلام وأنصار الحرب، الحمائم والصقور، والفرائس والصيادين. ويخيل للعبد لله أن هذا التشكيل لم يأتِ من باب … ليس في الإمكان أبدع مما كان. ولكنه تشكيل مقصود ومتعمَّد، كما أنه مرسوم بعناية ولغرض. فإذا اكتشف باراك أن الجو غير ملائم والحل الذي تقترحه الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة غير ملائم لإسرائيل وليس في صالحها، عندئذٍ سيقع الانشقاق في الوزارة، ويضطر باراك إلى التفرغ عدة أسابيع وربما عدة أشهر لكي يعيد تشكيل الوزارة. إنها ليست وزارة ولكنها لعبة حلوة؛ لأن باراك يحب أن يبدو في صورة الرجل الطيب داعية السلام الباحث عن طريق ليعيش في سلام مع جيرانه العرب، والإدارة الأمريكية سعيدة أيضًا بهذا التشكيل؛ لأن إدارة كلينتون لم يَبقَ لها في السُّلْطة إلا عدة أشهر. وهي حريصة على الاحتفاظ بوُدِّ العرب وصداقتهم، وحريصة أكثر على احتفاظ إسرائيل بالقُدس وبالجولان وجنوب لبنان وبالضفة الغربية. وهذه اللعبة التي رتَّبها باراك ستعطي الإدارة الأمريكية عذرًا يمنحها البراءة أمام العرب. ولكن … أين العرب؟ العرب الذين كانوا خير أمة بين الناس فصاروا الآن «آخر» أمة بين الناس!

ويا رب … ارفع مقتك وغضبك عنَّا عشان خاطر حبيبك النبي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤