الانتخابات وميتة الأبطال

انتخابات الصحفيين هذه المرة، لم تكن سباقًا بين اتجاهات سياسية أو أيديولوجية، ولكن كانت عملية اختيار بين زملاء بعضهم أقدر على الحركة وباستطاعتهم تقديم خدمة أفضل.

وقد أثبتت النتائج أن الزملاء الذين فازوا في الانتخابات، هم أشبه بمنتخب صحفي، وعلى شكل باقة ورد من كل الألوان، ولكن الجديد فيها أن المجلس الجديد سيكون قادرًا على تقديم خدمة أفضل من المجلس السابق، لسبب بسيط جدًّا هو أن المجلس القديم انقسم إلى قسمين، قسم يضم مكرم محمد أحمد النقيب السابق ويؤيده قلة من الأعضاء، وقسم آخَر يريد أن يفرض رأيه حتى ولو تقطعت كل الحبال وغرقت كل السفن، ومع ذلك كان أداء مكرم محمد أحمد على درجة عالية من الوعي النقابي، وحارَب حتى آخر لحظة ضد المتآمرين الذين اخترعوا المدعو المطعني وأصدَروا جريدة «صاحبة الجلالة» لتكون لسان حال نقابة الصحفيين المستقلين، وهو اسم على غير مُسمًّى؛ لأن النقابة لم تكُن مستقلة، ولكنها كانت قفازًا يرتديه البعض لتحقيق بعض الأغراض.

وإن كانت هذه الانتخابات قد أفرزَت أكثر من اتجاه سياسي واضح، إلا أن جميع من فازوا بثقة زملائهم أو أغلبهم على الأقل، هم من أبناء المهنة ومن الحريصين عليها؛ ولذلك ستكون مهمة النقيب الجديد إبراهيم نافع سهلة، وطريقه سيكون واضحًا، وستشهد هذه الدورة عملًا نقابيًّا نشيطًا، ولكن أبرز ظاهرة في الانتخابات الأخيرة هي فشل بعض الذين كانوا يَحتلُّون مناصب رئيسية في التشكيل القديم، ولكنَّ أداءهم النقابي والمهني لم يكن يَشفَع لهم لكي يعيدهم زملاؤهم إلى المواقع نفسها، وهو درس مفيد ليس لأعضاء المجلس القديم ولكن لأعضاء المجلس الجديد، فثقة الزملاء ليست «أبونيه» يضمن مرور العضو في كل انتخابات قادمة، وعلى من يحقق النجاح مرة أن يضاعِف من جهده لكي يضمن استمرار الثقة وإلى ما لا نهاية.

في المقابل استطاع بعض الزملاء من أعضاء المجلس القديم العودة على أكتاف زملائهم، وعلى هؤلاء الزملاء الذين أصابهم التوفيق مرة أخرى أن يحرصوا على ثقة زملائهم، والعبد الله واثق من قدرتهم على ذلك، لو اشتغلوا داخل المجلس كفريق وليس من خلال تكتلات ومَحاور، وأود أن أُقرِّر هنا وأنا مرتاح الضمير أنني متفائل بالمجلس الجديد وأرجو خيرًا في عهده، خصوصًا وقد لمستُ ذلك بنفسي، عندما وجه نادي الصحفيين النهري الدعوة لعدد من رموز المهنة وهم في الوقت نفسه من رموز العمل السياسي داخل المهنة، وقد لبَّى الجميع دعوة النادي، كما حضر النقيب السابق الأستاذ مكرم محمد أحمد، والنقيب الحالي الأستاذ إبراهيم نافع، وظهر واضحًا التفاف الجميع حول مبدأ مهم جدًّا، هو أن الاختيار سيكون على أساس من الذي يخدم أكثر وليس من الذي يهتف أكثر، وكشف مكرم محمد أحمد عن سر مهم جدًّا، أنه عندما قرر السفر خارج البلاد أثناء إجراء عملية الانتخاب ذهب إلى الشهر العقاري وكتب توكيلًا لأحد الأصدقاء يفوضه فيه انتخاب الأستاذ إبراهيم نافع كنقيب للصحفيين، وفي ذلك الاجتماع الذي كان نموذجًا على العمل النقابي النموذجي ظهر واضحًا أن المرحلة القادمة ليست مرحلة شعارات، وأن العمل النقابي يجب أن يحمي نفسه من النظرة الضَّيِّقة التي تحبس صاحبها في سجن الحنجوري أو في قفص الدروشة، النظرة التي تَعتَبِر كل مخالِف في الرأي كافرًا أو عميلًا، ظاهرة أخرى جديرة بالتسجيل، هي فوز أسامة الغزالي حرب بأقل مجهود يمكن لمرشح أن يبذله في أي انتخابات، في المقابل بذل إبراهيم حجازي مجهودًا كاد يذهب به إلى قرافة الإمام الشافعي، ولكن مجهوده لم يكن من أجل إدراك النجاح، ولكن من أجل تحقيق المركز الأول على جميع المرشَّحِين، وقد تحقق له ما أراد.

مبروك لنقابة الصحفيين مجلسها الجديد، ومبروك لإبراهيم نافع ثقة زملائه التي فاقت جميع التوقُّعات، وحظ أطيب في المرات القادمة لمن خانهم الحظ هذه المرة، وكنتُ أتمنى أن أراهم في المجلس الجديد، وعلى رأس هؤلاء الزميل الشاب سيد زكي، والزميل محمد نجم، اللذان أثبتا من خلال تجربتي معهما في نادي الصحفيين أنهما جديران بتمثيل جموع الصحفيين، وهارد لك على رأي الخواجات للزملاء المحترمين الذين نالوا احترام زملائهم بأدائهم المهني الطيب، والذين لم يوفقوا في هذه الانتخابات الأخيرة، وعلى رأسهم مجدي مهنا، وحاتم زكريا، ومرحبًا بالشاب الواعد ياسر رزق نجل صديقي الطيب الصابر المرحوم فتحي رزق الذي نام سنوات في الخنادق في مواجهة العدو الصهيوني في زمن حرب الاستنزاف، وشكرًا لأخي وصديقي وزميلي مكرم محمد أحمد الذي لم يتأخَّر لحظة في تقديم خدمة ضرورية لأي زميل، ودعاء من القلب أن يوفق نقيبنا إبراهيم نافع في مهمته الصعبة، وإن كانت ليست صعبة عليه، فهو معتاد على حمل المصاعب والهموم.

•••

مسكين عمنا الزعيم أوجلان، تمزَّق غشاء قلبه وهو يخطب خطبته الأخيرة أمام المحكمة التركية ظنًّا منه أن العدالة تتحقق بالكلمات الحارة المنتقاة، ولا أعرف كيف غاب على الزعيم أوجلان أنه رجل ميت منذ لحظة القبض عليه في العاصمة الأفريقية إياها، بل هو رجل ميت منذ أن تزعم الثورة الكردية ضد الأتراك، ومن عيوب الأتراك القاتلة أنهم لا يعرفون من الألوان إلا الأبيض والأسود، أما النوع الرمادي والنوع البمبي فليس لهم بها علاقة على الإطلاق، ومحاكمة أوجلان ما هي إلا نوع من المراسم الضرورية قبل تعليقه على حبل المشنقة، وما كان لرجل مثل أوجلان أن ينتظر أو يتوقَّع الإفلات من مصيره المحتوم، فمن يتصدَّى للقيادة خصوصًا في معركة من هذا النوع، عليه أن يتوقَّع أسوأ النتائج؛ ولذلك فدهشة العبد لله بموقف أوجلان ليس لها حدود، وربما كان موقفي هذا بسبب أنني لا زلت حتى الآن وبرغم تقدُّم السن رومانسيًّا ومتأثرًا بأشعار القدماء، وأُردِّد بين الحين والآخر بيت المتنبي … الخيل والليل والبيداء تعرفني والضرب والطعن والقرطاس والقلم … ومع أنني قرأتُ أيضًا أن المتنبي أطلق ساقيه للريح عندما هاجمه القتلة، لولا أن خادمه صاح فيه … ألست أنت القائل … الخيل والليل والبيداء، فصرخ عمنا المتنبي في وجهه، قتلتني لعنك الله، وعاد لمواجهة أعدائه فقتلوه … وبالرغم من أن حادِث قتل المتنبي تم في هدوء وفي الظلام، ولم يشهد قَتْلَه أحد إلا الذين قتلوه … وبالطبع لم يتفوه أحد من هؤلاء القتلة بكلمة واحدة، إلا أنني أميل إلى تصديق القصة.

فالبطل … أي بطل إنسان من لحم ودم … والموت هو أسوأ حادث يتعرض له الإنسان. فإذا صرخ البطل أو خاف فعذره أنه إنسان، ولو كان البطل من حديد أو من زجاج لما استحق أن يكون بطلًا على الإطلاق … عمنا البطل أوجلان … لقد عشتَ بطلًا، وبَقِي أن تموت ميتة الأبطال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤