شعاره … غُرِّي غيري!

بعض الناس تموت فور استخراج شهادة الوفاة، وبعضهم تتواصل حياته بعد الموت، وقد يصبح غيابه أكثر حضورًا وأعمق أثرًا من هذا الصِّنف من البشر وعلى رأسهم الزعيم جمال عبد الناصر أحد أعظم حكام مصر في تاريخها الطويل، حقق إنجازات بعضها يعتبر ضربًا من ضروب الخيال، وارتكبَتْ أجهزته هفوات بالرغم من خطورتها لم تستطع تلطيخ الثوب الأبيض بالبُقع السوداء، أنصاره ارتفع بهم العشق إلى مرتبة الدراويش، وأعداؤه تحوَّل بعضهم إلى طلاب ثأر، وجهوا إليه كل التُّهم، ورَمَوه بكل نقيصة، لم ينجح الموت في إخماد النار المتأجِّجة في صدورهم، لدرجة أن بعضهم اتهمه بأنه باع بعض بواكي الدولارات وحصل على عمولته من حصيلة البيع، مع أنه أكثر خلق الله زهدًا في الدنيا، وكان شعاره الذي رفعه في مواجهتها … غُرِّي غيري … غُرِّي غيري!

الله يرحمه ويحسن إليه جمال بن عبد الناصر حسين، البطل الذي اصطاده أعداؤه في النهاية وقَتلوه همًّا وغمًّا، الأسلوب نفسه الذي اتبعوه مع محمد علي باشا، ومع علي بك الكبير، ويقول أعداء عبد الناصر، ولماذا لم يأخذ عبد الناصر حذره؟ ولم يَحتَطْ لذلك اليوم الذي كان يخشاه ويتوقعه؟ ورَدِّي عليهم … وهل أخذ الاتحاد السوفييتي حذره؟ إحدى القوى الأعظم في العالم، مع أنه كان يمتلك أسباب القوة: جيش قوي وشِبه متماسك، وحزب حديدي، وبالرغم من ذلك نجحَت المؤامرة، وتفكَّك الاتحاد السوفييتي، وحل زعماء المافيا مَحل قادة الحزب، وأصبح الفساد هو النظرية، وتُجَّار السوق السوداء هم أعضاء اللجنة المركزية؛ ذلك لأن كيد القوى الشريرة أخطر من كيد النساء، ولأن في طبيعة البشر شيئًا يجعلهم يرفضون القيود مهما كانت أهدافها لخدمة المجموع، ويجعلهم يضيقون بالعدل المُطلَق حتى لو كان الذي يطبقه هو الخليفة عمر بن الخطاب، ولله دَرُّ «الدكتور طه حسين» تَعرَّض لهذه المسألة بشكل عبقري في كتاب «الفتنة الكبرى» قال الدكتور طه في كتابه: «عندما مات عمر بن الخطاب فرح المسلمون أيَّما فرح وابتهجوا أيَّما ابتهاج.» والسبب طبعًا أن سيدنا عمر لم يكن يرحم مذنبًا أو يعفو عن مخطئ، وفي زمن عمر بن الخطاب تردَّدتْ نكتة تقول إن سيدنا عمر لمح زجاجة خمر مع رجل في الطريق، فتعقَّبَه وألقى القبض عليه، فأخفى الرجل يده المُمسكة بالزجاجة خلف ظهره، فسأله عمر: ماذا في يدك؟ … أجاب الرجل زجاجة خل، فقال عمر بَل زجاجة خمر، فتوسل الرجل إلى عمر أن يتركه؛ لأن محتويات الزجاجة التي معه من الخل ولا علاقة لها بالخمر، ولكن سيدنا عمر أصر على رؤية الزجاجة، فتوسَّل الرجل إلى الله جل جلاله أن ينقذه من العقاب الذي ينتظره على يد عمر، وكانت المفاجأة أن سيدنا عمر عندما انتزع الزجاجة من يد الرجل اكتشف أن الزجاجة بها خل، ولا أثر فيها للخمر … النكتة تقول إن الله — سبحانه وتعالى — كان أرحم بالرجل المخطئ من سيدنا عمر، هذا كان في مجتمع سيدنا عمر بن الخطاب، فما بالك بمجتمع عبد الناصر؟ الذي كان فيه أمثال علي شفيق، وحمزة البسيوني، واللواء إسماعيل همت؟! والآن وقد مضى ثلاثون عامًا على وفاة جمال عبد الناصر، ما الذي بقي منه على أرض مصر؟ بقيت مصر العمال والفلاحين وكانوا كمًّا مُهمَلًا في العهد الملكي، وبَقِيَت مصر بدون الاحتلال الإنجليزي الذي بقي جاثمًا على أرضها سبعين عامًا طويلًا، وبقيت قناة السويس شركة مساهمة مصرية، والتي أصبحتْ أهم مرفق ملاحي على ظهر الأرض، قناة السويس التي يديرها الفريق أحمد فاضل مع نخبة من شباب المصريين، وبقي السد العالي الذي حمى مصر من المجاعة ومن الغرق، وبقيت مصر زعيمة العالم العربي، ودُرَّة العالم الإسلامي، وبَقِيت الجمهورية المصرية التي نعيش فيها ونحيا على أرضها، لقد كانت صفقة عبد الناصر صفقة رابحة لمصر، وكان عبد الناصر هو الخاسر الوحيد فيها، ولو عاش عبد الناصر مجرَّد موظف في دواوين الحكومة لاستمتع بحياته أكثر، وربما عاش أطول وأهنأ، ولو كان عبد الناصر من طلاب الدنيا لكان بمواهبه وحضوره وقوة شخصيته من كبار رجال الأعمال، ولكان الآن يقضي أيامه في منتجَع سويسري هاربًا بأموال عشرة بنوك من بنوك مصر، ولكن كل إنسان يعمل لما هو مُيسَّر له، فقد عمل عبد الناصر لما هو مخلوق له، وكان ميسَّرًا للمجد، وللنضال، ولخدمة بلده وشعبه، وعاش حياته يُقاتِل على كل الجبهات، وعاش ومأكوله الجبن البيضاء، ودواؤه الماء الساخن المخلوط بالملح يغمس فيه قدميه ليشعر بالراحة بعد تعب وعناء، رحم الله الزعيم جمال عبد الناصر وجزاه خيرًا بما قدَّمه لبلده وشعبه الأصيل الذي عاش لمصر ومات من أجْلِها.

•••

كَشْف ميداليات دورة سيدني الأسترالية يعكس مدى التغيير الذي تسبب في شقلبة الدنيا وأعاد توزيع الأدوار والأماكن، الولايات المتحدة في المقدمة، وبعدها روسيا، ثم تأتي الصين بفارق كبير في المركز الثالث ثم تأتي أستراليا صاحبة الأرض في المركز الرابع، وحصلت على نصف ميداليات الولايات المتحدة، ثم ألمانيا ولها نفس ما لدى أستراليا من ميداليات، ثم إيطاليا بعد فرنسا، ثم كوبا، ثم هولندا، ثم بريطانيا التي كانت عظمى ولها ٧ ميداليات لا غير. ونقرأ في ذَيل الكشف أسماء دول نامية مثل كولومبيا، وإيران، وموزمبيق، وجنوب أفريقيا، وجاميكا، ولم نقرأ في الكشف اسم دولة عربية واحدة بالرغم من حصول الكويت على ميدالية برونزية، والأمر الذي لا أجد له تفسيرًا كيف يتمكَّن رجل من إثيوبيا من هزيمة متسابقِين معه من السويد وسويسرا وأمريكا وكندا، في مسابَقات المسافات الطويلة في العَدْو؟ فاز العداء الأثيوبي هيلاسي على متسابِقِين من هولندا، وسويسرا، والسويد، والولايات المتحدة. كيف يحدث هذا؟ بينما إفطار الرجل السويدي يكفي لإطعام الأثيوبي في عام، وولد كوبي اسمه جارثيا فاز على جميع أبطال العالَم في مسابقة مائة متر عَدْو مع الحواجز، فاز الكوبي الغلبان على بطل العالم الأمريكي وبطل أوروبا البريطاني والبطل الهولندي، مع أن الفَرْق معروف بين كوبا والولايات المتحدة، طيب وإذا كان هذا ممكنًا فلماذا نحن الخيبة ماسكانا؟ واشتراكنا في هذه المهرجانات مثل عدمه، وإذا كانت كينيا، وموزمبيق قد استطاعتا أن تَنقُشَا اسمهما على كَشْف الميداليات، فهل نحن في درجة أقل من موزمبيق، وترينداد، وتوباجو؟ إن هناك دولًا كثيرة، الأكل فيها بمضاربة على رأي بيرم التونسي حصلتْ على ميداليات، وبعض هذه الدول تعاني من المجاعة والبطالة ووقف الحال، فلماذا نحن فقط الذين ينطبق علينا المثل إياه … «الناس خيبتها السبت والحد واحنا خيبتنا مش على حد!»

والسؤال الآن … مَن المسئول عن هذه الخيبة؟ الاتحادات الرياضية، اللجنة الأوليمبية، وزارة الشباب، نادي الأسد المرعب، هذا السؤال لا بُدَّ له من جواب، ولا بُدَّ أن تكون هناك مساءلة وتحقيق … أيًّا كان المسئول؛ لأن فضيحة مصر على المستوى الدولي لا يمكن السكوت عليها، ولا يمكن السماح بمرور هذه التجربة بدون عقاب … إلا إذا كان هناك من يرى أن الحصول على الميداليات ليس المهم، ولكن المهم هو رضا الوالدين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤