الدجاجة وشعار جدِّي!

هل هو حلم أم علم؟ … هل هذا الرجل الجالس في قفصه الزجاجي أمام قضاته المدعو أوجلان … هل هو نفسه الثائر المقاتل قائد شعبه البطل أوجلان؟ … الذي أشعل العشرات من أفراد شعبه النار في أنفسهم حزنًا عليه واحتجاجًا على اختطافه؟ … هل يمكن أن ينهار بطل بهذا الحجم، ويتحول بين يوم وليلة إلى دجاجة وديعة، يطلب الصفح والغفران، ويُحمِّل الآخَرِين المسئولية، ويُؤكِّد براءته من كل التُّهم التي نسبوها إليه؟

فاليونان هي التي حَرَّضَته وأمَدَّته بالصواريخ، واليونان هي التي وقفَت في طريقه وعرقلت مساعيه الطيبة للصلح مع تركيا! حتى حادث مصرع رئيس وزراء السويد الأسبق، لم يَتردَّد أوجلان في اتهام زوجته السابقة وبعض قيادات حزبه الذين انشقوا عليه … حتى سوريا اتَّهمَها أوجلان بأنها وفَّرَت له المأوى ومعسكرات التدريب، وأجبَرَته على الاستمرار في الثورة ضد تركيا، أما هو … فكان مغلوبًا على أمره مُسيَّرًا لا مُخيَّرًا، مجرَّد دجاجة لا تهش ولا تنش، ولو كان الود وده والأمر بيده، لهرب من الجميع واندفع بحماس ليحتضن حكومة تركيا ويمطرها بالقبلات! هل يمكن أن ينهار بطل بهذا الحجم إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يَتحوَّل أسد هصور إلى فرخة بلدي تحت أي ظرف ولأي سبب من الأسباب؟

إن ما نراه الآن بأعيننا في داخل المحكمة التركية هو واقع، ولكنه أغرب من الخيال … بعض الذين يعرفون حقيقة ما يجري في الكواليس التركية يُؤكِّدون أن قسوة الأجهزة التركية بلا حدود. وأن السجون التركية هي أبشع ما عرف البشر من أصناف السجون، وأن كل ما قيل ويقال عن ممارَسات الشرطة في أنحاء العالم كوم، وما تُمارِسه الشرطة التركية وحدها كوم آخر.

وعلى فرض أن هذا الكلام صحيح … فهل تكفي هذه الممارَسات لتحويل أسد هصور خلال هذا الوقت القصير إلى دجاجة؟ ثم إن البطل عبد الله أوجلان لا يبدو عليه أثر لأي عملية تعذيب، فلا وجهه منفوخ، ولا رأسه مبطوح، ولا جلده منزوع، ولا يده مشلولة، ولا ساقه مبتورة، فما الذي جرى بالتحديد؟

هل كان عبد الله أوجلان زعيمًا من ورق، ارتدى جِلد الأسد في منفاه وبعيدًا، عن يد السُّلْطة التركية؟ هناك قادة من هذا النوع، إذا خلا بأرض طَلَب الطعن وحْدَه والنِّزالَا، فإذا أطبق القفص عليه ارتَدَّ إلى طبيعته الحقيقية فتحوَّل إلى فأر، وربما إلى صرصار.

وخلال العمر الطويل الذي عِشناه رأينا أبطالًا واجهوا مواقف أصعب مائة مرة من الموقف الذي يواجهه أوجلان الآن ولكنهم لم يَضعُفوا ولم ينهاروا. عقب سقوط ثورة آية الله كاشاني في طهران، وسقوط عدد من قياداتها في قبضة السافاك … وما أدراك ما السافاك؟ … وبعد عدة أسابيع من التعذيب الذي لا يقوى على احتماله بشر … حملوهم على الأكتاف وربطوهم على أعمدة النور، ربطوهم بإحكام وبشدة حتى لا يقعوا على الأرض؛ فقد كانت أرجلهم لا تَقْوَى على حَمْلهم من وحشية ما نالهم من تعذيب، وبالرغم من ذلك لم يفتح أحدُهم فمه بكلمة استرحام، وواجهوا رصاص فرقة الإعدام في هدوء، وفي شجاعة منقطعة النظير.

طبعًا العبد لله لا يعيب على أوجلان، ولا ينتقده، ولا أعرف ماذا كنتُ أفعل بالضبط لو كنتُ مكانه؟ … ربما فقعت بالصوت الحياتي ليصل صراخي إلى كل مواطن تركي، وربما إلى كل مُواطن بلقاني، ولو ساعدني المولى الكريم فربما وصل صراخي إلى جبال بوليفيا، وإلى وديان جمهورية الدومينكان!

ولكن أوجلان ليس مجرَّد إنسان بسيط وغلبان … إنه بطل وقائد وثائر وصاحب قضية، ورجل ولا كل الرجال فما الذي حدث للبطل في الأسابيع الأخيرة؟ وهل توصَّل الطب إلى إجراء عملية لتحويل الأبطال إلى فراخ؟ هذا هو السؤال.

•••

ماذا تُخبِّئ الأيام القادمة لنا نحن البشر؟ وهل هو قَرن قادم جديد وسعيد، وعالَم آخَر يختلف عن العالم الذي عشناه وذقنا حلاوته ومراراته؟ أم هي الآخِرة وجهنم الحمراء والنهاية المحتومة لكوكب الأرض ولصنف البني آدم؟

والله يرحمه ويحسن إليه، جدي الشيخ خليل عاش عمره الذي امتد إلى ١٢٠ عامًا يرفع شعارًا لا يحيد عنه، الشعار يُعبِّر عن رأيه في الحياة والأحياء «الدنيا تؤلف ولا تؤلفان» ومعناه ببساطة أن نهاية الحياة تحدُث قبل نهاية الألف الثانية، طبعًا المرحوم جدي الشيخ خليل كان لا يدرك أن الحياة عمرها مائة مليار عام — كما يقول بعض الخبراء وبعضهم يؤكد — كما نشر أخيرًا — أن الحياة عمرها ١٨ مليار عام، وإن كان بعض العلماء قد اعترضوا عليهم وحدَّدوا عمر الحياة بحوالي ١٢ مليار عام ليس إلا، وأيًّا كان الرأي الصحيح فالألف سنة التي مرَّت على مولد السيد المسيح، والألف الأخرى التي توشك على الانتهاء … ليست هي كل عمر الدنيا. وبالرغم من إدراك العبد لله لهذه الحقيقة … إلا أنني بدأتُ النظر من جديد في شعار المرحوم جدي. والسبب هي التطورات الأخيرة التي حدثت على مستوى العالم، على رأس هذه التطورات فشل محادثات السلام في يوغوسلافيا، مما يعني استمرار تورُّط الدول الكبرى في مستنقع البلقان.

وأي خطأ في الحساب على مسرح البلقان قد يُؤدِّي إلى حرب عالمية، وإذا نشبَت مثل هذه الحرب سيكون جدي الشيخ خليل هو أعظم متنبئ في التاريخ، هناك سبب آخر لتشاؤم العبد لله، هو استمرار القصف المتبادَل في كشمير، والخوف أن يتطور القصف بالمدافع إلى قصف بالقنابل النووية، وإذا حدث هذا — لا قدر الله — فستكون القارعة، وما أدراك ما القارعة؟ لأن الأمر لن يقتصر على الهند وباكستان فإذا انتصرت الهند على باكستان فالصين لن تقف مكتوفة اليدين، وإذا انتصرت باكستان على الهند لن تقف الولايات المتحدة متفرجة، وستكون ليلة سودة على البشرية، وقد يرحل جميع البشر قبل بزوغ شمس العام ألفين وواحد، ويصبح جدي الشيخ خليل هو الوحيد الذي اكتشف أسرار الكون قبل أي أحد آخر، ولكن هل صحيح أن العبد لله يؤمن بنبوءة جده الشيخ خليل؟ الواقع أنني غير مؤمن بها، ولكني فقط متشائم وأعتقد أن العالَم بالرغم من كل شيء سيشهد عصرًا جديدًا جميلًا … أجمل من العصر الذي عشناه، عصر جديد لن يشهد رجالًا من أمثال: بينوشيه، أو نتانياهو، أو باتسيتا، أو بوكاسا. عصر تحتضنه التيارات الديمقراطية، وها هي بشائره تُشرِق على العالم الآن، عهد جديد في إندونيسيا، ونُظُم جديدة في أمريكا الجنوبية، وهدوء نسبي في الجزائر. وانتخابات حرة وفوز ساحق للسود في جنوب أفريقيا، ووصول مشكلة يوغوسلافيا إلى ردهات الأمم المتحدة، ورفع الحصار عن ليبيا، وعقبال العراق، وتحرير الجولان، والانسحاب من القدس الشرقية، ولقد تنبأ الشيخ أحمد يس بانهيار دولة إسرائيل وسقوطها في عام ٢٠٢٧م على وجه التحديد، والعبد لله يوافقه على ذلك ولو تحقَّق ما نتمناه سيكون القرن الحالي هو أعظم قرن تشهده البشرية. قُولوا إن شاء الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤