عفوًا … حضرة المحافظ!

كانت تُهَم الخيانة والعمالة تُصدَّر في الماضي من بعض صياع السياسة ودراويش اليسار، وكانوا يتسرَّعون بإلقاء هذه التُّهم ضد مَن يخالفهم الرأي أو يسخر من دعاواهم، ولكن هذه التُّهم فقدَت معناها بسبب سوء استعمالها، ولكن لأن كل شيء أصابه التغيير في هذا الزمان، فقد انقلب الحال، فأصبح الذين يُوجِّهون مثل هذه الاتهامات مسئولين كبارًا، المفروض أن كلامهم يوزن بميزان الذَّهب وليس بميزان الدَّبْش والزلط، وأصل الحكاية أن جريدة «الأخبار» الغراء نشرت في عددها الصادر يوم الأحد الماضي بتاريخ ٢٠٠٠/٦/٢٥م وعلى الصفحة الثانية تحقيقًا صحفيًّا استغرق الصفحة كلها عن مشروع فوسفات أبو طرطور … وتضمَّن التحقيق الصحفي آراء عدد من أعضاء مجلس الشورى وبعض العلماء وبعض رجال الأعمال، وكل منهم أدلى برأيه في المشروع، وقد تقدَّمهم جميعًا السيد المهندس الدكتور مصطفى الرفاعي وزير الصناعة … وقد حرص العبد لله على قراءة آراء العلماء ومنهم الدكتور رجائي زغلول الأستاذ بهيئة الطاقة الذرية، وجاء على لسانه أن المشروع ناجح جدًّا ويمكن بعد تشغيله استرداد ما أنفقَته الدولة خلال عشر سنوات فقط إذا تم الاكتفاء باستخراج المواد الصناعية النادرة من الفوسفات، ويكفي أن تعلم — هكذا قال الدكتور — أن ٣٠٠ ألف طن من ركاز الفوسفات يمكن أن نفصل منها ١٢ طنًّا من اليورانيوم تصلح كوقود نووي لمفاعل قوته ٥٠ ميجا ينتج الكهرباء لمدة عام، أما الدكتور أحمد أمين مدير معهد التبين للدراسات المعدنية فقد كشَف عن حقيقة نيَّات روسيا التي أنشأت المشروع والتي كانت تهدف إلى الحصول على ٨٥ في المائة من الإنتاج مقابل تقديم المُعدَّات بسبب وجود المواد النادرة في الفوسفات المصري، ويكفي وجود اليورانيوم أو مادة «اللانثنايت» التي يُباع الكيلو الواحد منها بألف وخمسمائة دولار، لفت نظر العبد لله ما جاء على لسان السيد محمد رجب زعيم الأغلبية بمجلس الشورى قال: لن أحكم على المشروع بشكله النهائي إلا بعد الانتهاء من دراسة دولية محايِدة تؤكد أن المشروع يسير على الطريق الصحيح، ولكني أنوه — السيد محمد رجب هو الذي ينوه — أن إسرائيل تضغط في الساحة الدولية لكي يفشل المشروع بسبب ما عُرِف عن وجود اليورانيوم في فوسفات أبو طرطور.

وكل هذه الآراء لها حُجِّيَّتها ولها احترامها، ولا حَجْر على رأي، ولا اعتراض على اجتهاد، ولكن ساءني جدًّا ما جاء على لسان مسئول هو السيد اللواء سلمي سليم محافظ الوادي الجديد، فماذا قال سيادة المحافظ؟ انتقد بشدة كل الذين طالبوا بوقف نزيف الخسائر التي تكبَّدَتها الدولة في أبو طرطور، وهذا حقه بكل تأكيد لا أناقشه فيه ولا اعتراض عليه، ولكنه فجأة انتابه حماس شديد وأعلن أن أي «وطني» يَهاب أن يطالب بفك صامولة واحدة في المشروع رغم ما تَعرَّض له من خسائر، وأضاف … مصر لديها العلماء، ورجال الأعمال الوطنيون القادرون على تنظيم المشروع واستعداله، ولا بُدَّ من مواصلة المشروع، وإيجاد بديل لاستكمال التمويل اللازم للتوجه الجديد، وسنواجه المشكلات بعلم وجدية «وبوطنية» لأن هناك «جهات أجنبية» لا تريد للمشروع أن يكبر أو يُسْتَكمل، وأسأل السيد المحافظ سلمي سليم … ما هي هذه الجهات الأجنبية التي لا تريد للمشروع أن يكبر أو يستكمل؟ والإجابة عن هذا السؤال تهم العبد لله كثيرًا؛ لأن العبد الله كان أحد الذين تَصدَّوا لهذا المشروع الفاشل الذي كلَّف خزانة مصر غاليًا. وقمتُ بحملة عاصفة ضد المشروع، وضد الذين أنْفَقوا أو بدَّدوا المليارات على المشروع، وعلى خط سكة حديد لا يحقق سوى ۲۰۰ جنيه إيرادًا شهريًّا، ولما كان العبد لله هو رأس الحربة ضد مشروع أبو طرطور، فالعبد لله حسب نظرية سيادتك من عملاء الجهات الأجنبية إياها، وأعترف لك يا سعادة المحافظ أنني على علاقة بالموساد، وبالمخابرات البريطانية، وﺑ “C.I.A” الأمريكية، فأؤكد لك يا سيدي المحافظ الوطني، أنني لم أسمع من أي جهة أجنبية أنهم يَتربصون بمشروع أبو طرطور، وإذا كان هناك تربُّص من هذه الجهات، فهو بالتأكيد محاوَلة من جانبها لكي نمضي قُدمًا في المشروع إياه، ننفق عليه من خزانة الدولة حتى يَتحوَّل المشروع إلى جرح يظل يَنزِف إلى ما لا نهاية، وأقول لك يا سيدي المحافظ، العبد لله يعلم أنك رجل وطني، ومشهود لك بالانضباط ورجاحة العقل، ولكنَّنِي أؤكد لك يا سيادة المحافظ أنَّني وكل الذين عارضوا مشروع أبو طرطور لا يَقِلُّون وطنيةً عن سيادتك، وهذه الوطنية هي التي دعتنا إلى مُعارَضة هذا المشروع الغبي الذي كان السبب في إهدار ٦ مليارات جنيه ونصف المليار، حار ونار في جِتَت الذين بدَّدوها وهبَروا جانبًا منها علمه عند ربي.

ويبقى بعد ذلك أن سيادتك محافظ في محافظة نائية ومشكلاتها كثيرة، وأسأل الله أن يوفقك في تنمية المحافظة وحَل مشكلاتها، ولكن ليس عن طريق محاولة إحياء مشروع أبو طرطور، ثم إنك يا سيدي لستَ مفتي الديار الوطنية، وليس من مسئولياتك توزيع تُهَم الخيانة والعمالة على الآخَرين، وهي تُهَم فقَدَت معناها لسوء الاستعمال.

•••

الحكم الذي صدر ضد نواب القروض بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، هو وسام على صدر نظام حسني مبارك، وهو شاهِد على أنه لا يوجد أحد في مصر فوق القانون، والدليل على ذلك أن أحد النواب المحكومين كان وزيرًا، كما أنه كان من الضباط الأحرار، وأرجو أن يكون هذا الحكم درسًا مفيدًا للسادة المحترمين من أعضاء مجلسي الشعب والشوري؛ لأن هذا الحكم يعني أنه لا عاصم اليوم من أمر ربي إلا لمن سلك طريقَي الاستقامة والطهارة، وأن الحصانة لا تمنع وقوع البلاوي، وعشمي أن يكون هذا الحُكم هو الشعار الذي يرفعه الجميع فوق الرءوس، وأن نهتف جميعًا من تحته: من هنا نبدأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤