شوف بتعمل إيه؟!

الحمد لله لأنني بعد هذا العمر الطويل، عشت وشفت الحكومة تخطئ في حق مواطن ظريف، ثم تقوم بإصلاح الخطأ في صمت وفي هدوء ودون تدخُّل من أحد، وهي علامة على أن حكومة الجنزوري تمضي في الطريق الصحيح، وأصل الحكاية أن أكبر رأس في البلد كان يقوم بافتتاح بعض المشروعات الجديدة كما هي عادته، عندما وقع بصره على خطأ فاحش لا يمكن وقوعه إلا عن طريق الكوسة وتبادُل المنافع والمصالح والإكراميات، وسأل الرجل الكبير السيد المحافظ عن هذا الخطأ الذي لا يمكن أن تتجاهله عين المواطن العادي، فما بالك بالمواطن الخبير، ورد السيد المحافظ على الفور … إنها مسئولية رئيس الحي وسنتخذ ضده الإجراءات القانونية.

ولم يكن الرجل الكبير قد عاد إلى مكتبه بعد حتى كان المحافظ قد اتخذ قراره بوقف رئيس الحي وإحالته إلى النيابة، والنيابة ليست وكيلة المحافظ ولكنها وكيلة الشعب، ولأنها وكيلة الشعب فهي تبحث عن الحقيقة، واكتشفَت النيابة أن رئيس الحي مظلوم؛ لأنه تولَّى مسئولية الحي بعد عشر سنوات من وقوع الخطأ، وأن ذنبه الوحيد أنه على خلاف مع السيد المحافظ، وأن المحافظ انتهز الفرصة لكي يتخلَّص من غريمه مرة واحدة وإلى الأبد.

وأفرجت النيابة عن رئيس الحي من سراي النيابة وقضى رئيس الحي المخلوع ۱۸ شهرًا على القهوة يلعب الطاولة ويُدخِّن الشيشة، ولكن فجأة وبدون مُقدِّمات صدر قرار الحكومة في حركة المحليات الأخيرة بتعيين رئيس الحي المخلوع رئيسًا لمدينة كبرى، دليل على أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ودليل أيضًا على أن الحكومة يمكنها تصحيح أخطائها.

ولكن يبقى سؤال في غاية الأهمية: ما هو جزاء المحافظ الذي كذب على أكبر رأس في الدولة؟ وما هي العقوبة التي يَستحقُّها المحافظ — أي محافظ — عندما يكتب مذكِّرة رسمية مرفوعة لرئيس الدولة يصف فيها مواطنًا صالحًا مشهودًا له بالصلاح والاستقامة من الجميع بأنه بلطجي معروف؟ وما هو غرَض المحافظ من اتهام مُواطن بالبلطجة؟ هل كان يريد ضوءًا أخضر لاعتقال المواطن؟ وماذا يكسب المحافظ من اعتقال مواطن شريف خدَم النظام والشعب بهمة ونشاط وأمانة ليس لها نظير؟ ما هو عقاب مثل هذا المسئول الذي مارَس الكذب بطريقة لا تليق برجل في موقعه؟! وأخطر شيء على الدولة — أي دولة — أن يكون في موقع المسئولية بعض القيادات التي تمارس الكذب من أجل مصالح شخصية، ولكن ما حدث مع رئيس الحي الذي أصبح رئيسًا للمدينة يجعل الأمل يراودنا في عصر جديد، عصر تعود فيه الحقوق لأصحابها دون وساطة، وستُحسَب هذه الواقعة بالتأكيد لحكومة الدكتور كمال الجنزوري، وستُضاف أيضًا إلى حساب الرجل الشريف هتلر طنطاوي رئيس الرقابة الإدارية، وستدخل في رصيد المحافظ الطاهر اليد واللسان الدكتور فاروق التلاوي.

أذكر مرة منذ أكثر من ٢٥ عامًا أنني فوجئتُ باسمي في قائمة تضم عدة أسماء لرجال تتشرف بهم مصر، رجال أمثال: محمد عودة، ولويس عوض، وإحسان عبد القدوس، وكانت المناسبة هي تجريد أهل القائمة من عضوية الاتحاد الاشتراكي، في الوقت الذي كانت فيه العضوية شرطًا ضروريًّا للعمل في الصحافة، أما الجريمة التي نُسِبتْ إلينا فهي انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، مع أنني كنتُ مسجونًا في سجن المحاريق بالواحات الخارجة في زمن الوحدة، ولم تطأ قدماي أرض سوريا أثناء الوحدة، صحيح أنني قضيتُ وقتًا طويلًا في دمشق قبل الوحدة، وكنتُ على علاقة صداقة وطيدة برجال أمثال: أكرم الحوراني، وصلاح البيطار، وعفيف البزري، وكاظم زيتونة، وعبد الغني قنوت، وآخرين أمثالهم من الذين أفْنَوا العمر في سبيل الوحدة العربية، لم أَكُن أحد أركان مكتب المشير عامر، ولم أكن أحد مفوَّضي الحكومة في دمشق، ومع ذلك وجدتُ نفسي مفصولًا من الاتحاد الاشتراكي، وسيعقبها بالطبع فصلي من الصحافة بسبب انهيار الوحدة اللي ما يغلبها غلاب! وحفيت قدماي لمدة عام كامل، وأنا أنتقل من مكتب إلى آخر، ومن لقاء مسئول إلى مسئول آخر، وفي النهاية تم إلغاء القرار السابق، ولكن دون رد اعتباري بتعييني في منصب كبير بالاتحاد الاشتراكي، أو تَسلُّمي أمانة عامة عوضًا عمَّا جرى لحضرتنا خلال فترة الوقف تمهيدًا للفصل النهائي، ولم يُنقذني من محنتي في تلك الأيام إلا الدكتور أنور المفتي، أعظم طبيب أنجبته أمة محمد في تاريخها الطويل.

•••

على رأي الكابتن محمد لطيف، تكاد الرأسمالية المصرية تُضيِّع فرصة عمرها، وهي الفرصة التي هيَّأها لها نظام حسني مبارك، أزاح الرجل من طريقها كل العراقيل، وحصَّنها بكل الضمانات، ووفر لها كل الإمكانات، هدفه الوحيد أن يرى مشروعات عملاقة على أرض مصر، مشروعات تستوعب عمالة كثيرة، وتفتح بيوتًا تضم عائلات من شباب مصر، ولكن الرأسمالية المصرية لا تتعلم من أخطائها ولا ترغب في ذلك … ظهرت طائفة من الهبَّاشين، هبَرت من البنوك، ونصبَت على المصريين، ولكن أمر هؤلاء هَيِّن، فأجهزة الأمن لهم بالمرصاد والقضاء كفيل بهم، وهناك طائفة أخرى من فصيلة دراكولا، هوايتهم الوحيدة مص دماء الناس، على رأس هؤلاء رأسمالي مصري شهير اسمه ساويرس، وفي البداية تَصوَّرتُ أنه مستثمر أجنبي ثم اكتشفتُ أخيرًا أنه مصري من صُلب مصري … وإذا كانت المصادَفة لم تجمعني بالأخ ساويرس في أي وقت، فقد اعترض طريقي بشدة عندما أصبح ملك التليفون المحمول، الفواتير تنهمر على دماغ العبد لله كما المطر في لندن، آخِر فاتورة دفعتها بمبلغ ٤٥٠ جنيهًا مصريًّا كل جنيه ينطح جنيه، الفاتورة الثانية وصلت العبد لله بعد أسبوعين، الشركة تطلب مائة جنيه فقط لأنني لم أستعمل التليفون خلال هذا الشهر لسفري إلى الخارج. ومع ذلك مرحبًا بالفاتورة الجديدة، ولكن ماذا في الفاتورة الجديدة؟ مائة جنيه حساب الشهر، و٣٥٠ جنيهًا من حساب الشهر الماضي، أي شهر ماضٍ يا عم ساويرس؟ عجايب، لماذا الرأسماليون المصريون وحدهم من فصيلة «حتتك بتتك» لا بُدَّ من مسح جيوب الزباين حتى آخِر مليم أحمر، والأكادة أن العم ساويرس ينطبق عليه قول المتنبئ:

جوعان يأكل من زادي ويطعمني
لكي يقال عظيم، القدر مقصود

العم ساويرس بشرني في خطابه بأنه تكرَّم وتفضل وتنازل بمنح العبد لله عدة دقائق مجانًا ولوجه الله تعالى، وسيجري الخصم على الفاتورة بإذن واحد أحد، صاحب المخل راجل طيب وكريم؛ ولذلك فلا بد من الإعلان عن هذا الكرم على الفاتورة نفسها وبخط واضح حتى يعلم الجميع أن الدنيا بخير ولا يزال فيها ناس طيبون! طيب ما رأيك يا عم ساويرس؟ العبد لله يرفض هديتك التي ليس لها مثيل في تاريخ البشر، وأقول لسعادتك من باب العلم فقط: إنني أثناء زيارتي الأخيرة لبريطانيا اتصلت بشركة تليفونات أهلية واشتركت في المكالمات الخارجية بمبلغ ٥٠ جنيهًا فقط، هل تعلم يا عم ساويرس كم أعطتني مجانًا؟ أعطتني ٦٠ دقيقة لبلد واحد على ثلاثة أيام بدون أجر على الإطلاق، ومنحتني هذا الامتياز، وهي تمنحه لكل الناس بدون مِنَّة ولا إعلان.

وأقول لك يا عم ساويرس … فاتورة تليفونك، وفاتورة الكهرباء، وفاتورة الدروس الخصوصية هي السبب في كساد الأسواق، لا يتبقَّى من فلوس الناس فائض للصرف منه في الأسواق بعد تسديد الفواتير.

وأقول لك في النهاية، إنها فرصة العمر هيأها لكم نظام حسني مبارك، إذا لم تغتنموها بالسلوك الطيب والعادل والرحيم بشعب مصر، فالعاقبة ليست في صالحكم ولا في صالح مصر؛ لأن التجارة ليست شطارة فقط، ولكنها شطارة ورعاية لمصلحة التاجر ومصالح كل المصريين.

اللهم هل بَلَّغتُ. اللهم فاشهد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤