الفصل الثاني

ترجمة النص

ظل تاريخ الفلسفة العربية لأمدٍ طويل محصورًا في تاريخ فلسفة الفلاسفة. ولهذا ساد الميدان زُمرتان من المشاكل، إحداهما، الفلسفية بطبيعتها، كانت معنية، بطريقة أو بأخرى، بالتوفيق بين المعرفة الفلسفية والمعرفة المستمَدَّة من الوحي الإلهي، أي التوفيق بين الفلسفة والدين. أما الزُّمرة الأخرى من المشاكل، والأكثر ارتباطًا بالتاريخ، فقد كانت معنية على الأخص باستبقاء وتطوير المذاهب والمسائل التقليدية للفلسفة الإغريقية في سياق الفلسفة الإسلامية المستجَدَّة. والحق، أن بعض المؤرخين كانوا على وعي بالنواحي المبتكَرة لهذه الفلسفة في الأنطولوجيا أو علم النفس أو المنطق، بيد أن تاريخ الفلسفة بالنسبة لأولئك المؤرخين، كما هو بالنسبة لسواهم، كان متمركزًا حول بضعة أسماء عظمى: الكِندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجه … إلى آخرهم.

وعلى أية حال، فإن منظور المؤرخ أخذ يتَّسع تدريجيًّا لأسباب منتمية للفلسفة ولعلم الاجتماع على السواء، فقد بدأ يَضوي تحت لوائه فلسفةَ المتكلمين العقلانيين والمتصوفين «الوجوديين»، بل وحتى الفقهاء-المناطقة. وبهذا المنوال تم الترحيب، منذ ما يقرب من نصف قرن خلا، بمتكلمٍ كالنَّظَّام، أو متصوف كابن عربي، أو فقهاء مناطقة كابن تيمية أو ابن حزم القرطبي، في قلب رحاب الفلسفة، وبالتالي، في قلب تاريخها.

ومثل هذا الانضواء بدأ في تصويب الصورة الشائهة التي رُسِمَت لتلك الفلسفة، وهذا عن طريق إرجاع فعالية أولئك الفلاسفة إلى سياقهم الفكري. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن المتكلمين والمتصوفة والفقهاء-المناطقة قد حق القول إنهم نالوا أخيرًا الاعتراف الكامل بهم مرة أخرى، فإن العلماء، والرياضيين منهم على وجه الخصوص، لا زالوا باقين خارج مجال تاريخ الفلسفة، والحق أنه باستثناء بضعة إسهامات في الفلسفة الطبيعية يتبدَّى جليًّا أن الفكر الفلسفي لأولئك العلماء لم يتلقَّ الاهتمام الذي يستحقه، وبلا ريب يعود هذا القصور إلى الفصم الواقعي الذي يعزل مؤرخي العلم عن مؤرخي الفلسفة، علاوة على هذا يُعزِّز ذلك الفصم صميم طبيعة الفلسفة الخاصة بالعلماء، وبقدر ما تواترت هذه الفلسفة بفكرة رئيسية غير مترابطة وغير نسقية وبِنية بدائية غير متطورة، فإنها في واقع الأمر لم تعرض إلا قليلًا من مواطن الجذب لمؤرخ الفلسفة إذا ما قورنت بالأنساق الميتافيزيقية للفلاسفة.

ومؤرخو العلم العربي من جانبهم ركزوا على المشاكل التقنية التي عالجها العلماء وظلوا غير آبهين، إن قليلًا وإن كثيرًا، بالمسائل الفلسفية التي برزت على نحو غير متوقَّع في سياق تحليلهم، نادرًا ما حفزتهم الصعوبة الكبرى النحوية والاشتقاقية على أن يفعلوا غير هذا، وعلى أية حال، فإن هذا الحيود لم يقتصر فقط على تشويه نظرتنا للعلاقة بين العلم والفلسفة في ذلك العصر — وهي علاقة ليست موضوعنا الآن — ولكن أيضًا يحول بيننا وبين وسيلة فعَّالة لكشف عقبات وقفت كحَجَر عَثْرة أمام العلماء. والواقع أن الإسهام الفلسفي لعلماء ذلك العصر جوهري لفهم ابتكارات علمية مُعيَّنة، بالإضافة إلى أنه جوهري للإحاطة بنشأة مشكلات فلسفية جديدة. وعلى هذا يشكل إسهامهم الفلسفي جزءًا تكميليًّا لتاريخ العلم ولتاريخ الفلسفة.

ونحن نعتزم أن نضطلع بسلسلة من الدراسات في تاريخ فلسفة الرياضيات، تاريخ العلماء الذين تفكَّروا مليًّا في الكيفية التي يعملون بها، ولكن نادرًا ما واتتهم الجرأة على أن يعتبروا أنفسهم فلاسفة. في هذه الحالة سوف نحصر أنفسنا ها هنا في مثال ابتدائي مُركزين الأبصار على مسألة واحدة — إنها مسألة الخط المقارب — وفقط على مؤلِّفَيْن اثنين، هما: السِّجزي، وموسى بن ميمون.

في القضية الرابعة عشرة من الكتاب الثاني من «القطوع المخروطية»، يقترح أبلونيوس البرهنة على أن الخطوط المقاربة والقطع الزائد يقتربان من بعضهما أبدًا ودون أن يلتقيا.١

ومن الواضح أن هذه القضية تحتكم إلى المفهوم المهيب عن اللاتناهي. في مستهل البدء طُرح اللامتناهي بوصفه موضوعًا من موضوعات المعرفة، بقدر ما هو تساؤل عن الكيانات التي يتضمن وجودها عمليات لا متناهية، وهذه العمليات في واقع الأمر سمة مميزة لكل مسالك الخط المقارب. بيد أن فكرة اللامتناهي فعَّالة أيضًا بوصفها وسيلة من وسائل المعرفة، وسيلة تتطلَّبها التركيبات الرياضية اللامتناهية، من قبيل التركيب اللامتناهي، لمتتابعات المسافات بين المنحنى وخطه المقارب، أنها تزودنا ببِينة ضرورية على أن نفس التركيب يمكن تكراره.

وعلى أية حال، لا يصعب إدراك أن هذا المفهوم للَّامتناهي، كما تضمنته معالجة أبلونيوس، كان خليقًا بأن يعرض صعوبات جمَّة لعلماء الرياضة وللفلاسفة على السواء. والواقع، إذا كان الأولون — علماء الرياضة — ما استطاعوا أن يظلوا غير آبهين بصعوبة جليَّة للبرهنة، تعود بصفة مبدئية إلى استخدام مفهوم لم يوضَع له أبدًا تعريفٌ واضح، فإن الآخرين — الفلاسفة — من جانبهم، كان عليهم أن يعُوا مشكلة جديدة انبثقت على وجه الدقة من هذه النقطة، استدامت آثارها بكل ما في الكلمة من معنًى إلى ما بعد القرن الثامن عشر. وقد تمركزت تلك المشكلة حول الفجوة بين استعدادنا لتصورِ خاصةٍ ما أو قضية ما، وبين قدرتنا على تأسيسها تأسيسًا مُحكَمًا. فهل نستطيع تأسيس خاصة رياضية، نحن غير قادرين على أن نتصورها تصورًا واضحَ المعالم؟ إننا في حاجة إلى العودة قليلًا للوراء كيما نُعيِّن نقطة البداية لهذا التساؤل الفلسفي.

يشير برقلس٢ في هذه التعليقات على الكتاب الأول من «الأصول» لإقليدس إلى رأي جمينوس٣ الشهير حول منحنيات مُعينة، تتضمن القطع الزائد. فيقول: … الأخريات تنتقص باستمرار المسافة بينها وبين خطوطها المستقيمة، كشأن القطع الزائد والقطع المحاري. وعلى الرغم من أن المسافة بين هذه الخطوط تتناقص باستمرار، فإنها تظل خطوطًا مقاربة، برغم تقاربها من بعضها البعض فإنها لا تتقارب أبدًا بصورة تامة. وهذه واحدة من أكثر المبرهَنات استشكالًا في الهندسة ho Kai paradoxotaton estin en geometria.٤

ولا يعلق برقلس على عبارة جمينوس، ولا هو يقوم بإيضاح «طبيعتها الاستشكالية» ومع ذلك يبدو — وفقًا للنص — أن هذا يشير إلى صميم منزلة اللاتناهي الرياضي.

والواقع أنه بالنسبة لبرقلس «يوجد اللاتناهي فقط في الخيال، بغير أن يستوعب إياه؛ لأن الخيال حينما يُعرَف، يُعَيِّن في نفس الوقت شكلًا وحدودًا لموضوع معرفته، وفي المعرفة تصل حركته إلى الخاتمة.»٥ وتحت هذه الشروط كيف يمكن تطبيق الفهم على اللامتناهي بوصفه موضوعًا من موضوعات المعرفة القابلة للبرهنة؟ والآن هذا ممكن، تبعًا لبرقلس، إذا اعتبرنا اللاتناهي كفرض وإذا عُولِجَ كما يُعالَج التناهي في البراهين الرياضية، أو باستخدام تعبير برقلس: «ولكن الفهم (الديانويا) الذي تبدأ منه أفكارنا وبراهيننا لا يُستَعمَل اللاتناهي من أجل أغراض المعرفة به؛ لأن اللاتناهي على الإجمال غير قابل لأن تستوعبه المعرفة.»٦ وعلى أية حال، فطالما لا يمكن تفادي الرجوع إلى اللاتناهي في البرهنة على هذه القضية، أو على القضايا المماثلة من قضايا أبلونيوس. فالمحصلة هي «السمة الاستشكالية» لهذه المبرهنة، إذا ما اختار المرء تحليل برقلس.
بيد أن هذه الصعوبة التي واجهها جمينوس، ثم برقلس، قد عمرت بعدهما. وعادت فيما بعد لتطفو على السطح من جديد، فالواقع به بعد برقلس بخمسة قرون تَفَكَّر علماء الرياضة والفلاسفة في نفس القضية من جديد لكي يُعيدوا كتابة صياغتها والتعليق عليها، وهكذا بقيت، على قدر ما نعرف، ستة نصوص عربية عالجت هذه القضية؛ خمسة منها موجودة باللغة العربية ذاتها، بينما السادس موجود في ترجمة لاتينية عن العربية،٧ وثلاثة من هذه النصوص من عمل علماء الرياضيات في القرن العاشر: السِّجزي والقُمي وابن الهيثم. أما النصَّان الآخران فقد ألفهما عالم رياضة من القرن الثاني عشر هو شرف الدين الطوسي.٨،٩
ولكن على الرغم من تماثُل هذه الأعمال في العنوان وفي مادة البحث، فإنها تختلف من حيث الهدف، وبالتالي من حيث الأسلوب، فبينما بحث السِّجزي عن تأسيس علاقة الخط المقارب بالقطع الزائد على أساس صلب، فإن القُمِّي رام تعميم نتائج السجزي، بالإضافة إلى تعميم مفهوم الخط المقارب، إلى مفهوم منحنى «خطين مقاربين». وكان ابن الهيثم، من جانبه أكثر عناية باتساق برهان أبلونيوس وتبنَّى موقف عرض المشكلة برُمتها، وأخيرًا، بحث الطوسي عن تأسيس معادلة عن قطع زائد متساوي الجانبين ذي علاقة بنظام من المحاور تشكله على وجه الدقة الخطوط المقاربة لهذا القطع. وسوف ندرس في موضوع آخر نصوص ابن الهيثم والقُمِّي١٠ والطوسي، أما هنا، فسوف نركز على نص السجزي، حيث نَلقى المشكلة بمجرد أن تُناقَش إلا وتصبح أكثر وضوحًا.

•••

كان أحمد بن عبد الجليل السجزي عالمًا رياضيًّا شهيرًا من أواخر القرن العاشر، ولم يعرفه المؤرخون إلا من خلال أعماله الرياضية، وقد كان على أي حال مُهتمًّا بالمشاكل الفلسفية التي نشأت في دراسته. وعلى ذلك، فضلًا عن المقال الذي سوف يشغلنا هنا، فإن السجزي قد ألف نصًّا أصيلًا في فلسفة الرياضيات، في منهج تحديد المشكلات الهندسية وبالاطلاع على عمل برقلس، قام «بإعادة نسخ شذراتٍ من الترجمة العربية لكتاب «أصول الفيزيقا».١١ وهو كتاب أُدرِجَ في الببليوجرافيات القديمة، ونحن ندين للسجزي بقدرتنا على التثبت من وجوده.١٢ وعلاوة على ذلك كان من المألوف بالنسبة له أن يؤكد على المضمون الفلسفي لنتيجةٍ ما أو منهج في سياق كتاباته الرياضية.١٣
وعلى أية حال، لم يكن مثل هذا الاهتمام بالمسائل الفلسفية قصرًا على السجزي، بل كان مألوفًا لكبار علماء الرياضة في عصره السابقين عليه — من أمثال إبراهيم بن سِنان — وأيضًا اللاحقين له من أمثال ابن الهيثم. ولا كان هذا الاهتمام كافيًا لتفسير لماذا أراد السجزي أن يعيد شرح القضية الشهيرة لأبلونيوس بصفة خاصة. فثمة سببان آخران يقفزان إلى المقدمة في سياق شرح نصه، فعلى قدر ما كان السجزي مَعنيًّا، تعطي هذه القضية سلسلة من مشاكل قام هو بتوصيفها في مصطلحات متأثرة إلى حد ما بالفلسفة الأرسطية العربية وباقتفاء خُطى الأرسطيين العرب،١٤ يتبدَّى السجزي في واقع الأمر، وهو يُقر بأن المعرفة الرياضية، مثل كل معرفة، يمكن تعيين خصائصها عن طريق الرابطة بين «تصور/تصديق» وتنحصر هذه الرابطة في الرياضيات على رابطة «التصور/البرهان» ليغدو التصديق محضَ قياس برهاني. ومرة أخرى باتباع الأرسطيين يُسلِّم السجزي للتصور فقط بمفهوم الماهية، كما يكشف عنها الحدس العقلي أو نعبر عنها في تعريف١٥ ومن الممكن في حالة السجزي، كما هو ممكن في كل الحالات الأخرى، أن نعيد صياغة النص الشهير من «التحليلات الأولى»: التصور «يكشف عن طبيعة الماهية، والبرهان يكشف عن أن صفة ما تحمل أو لا تحمل على موضوع ما.» وفقًا لهذه المصطلحات، تثير قضية أبلونيوس مشكلة الإيجابات التي هي قابلة للبرهنة وفي نفس الوقت غير قابلة للتصور، أو على الأقل يصعب تصورها.

ومع هذا، فلكي نؤسس قضية أبلونيوس بصورة مُحكَمة، نحن نعرف وجوب استخدام مفاهيم لم تكن قد أُتِيحَت بعد للعالم الرياضي السجزي، إنها مسألة مفاهيم التحليل ووسائله. ومهما يكن الأمر، فإن التوضيح الفلسفي في هذه الحالة يمكن العالم الرياضي من أن يستكشف سلفًا طريقًا من السبل الرياضية اللاحقة. وعلى هذا النحو، إذا خلقت الصعوبات الرياضية مباحث فلسفية، فإن التفسير الفلسفي بدوره يعرض نفسه على العالم الرياضي كوسيلة من وسائل التدبر. وهاتان المهمتان المتشابكتان تُعينان خصائص منهج السجزي بصورة كافية.

في المقام الأول، تستهوي السجزي مقارنة بين التصور والبرهان من أجل تأسيس طوبولوجيا للقضايا الرياضية قد تسمح له أن يحدد النمط الدقيق لقضية أبلونيوس. وباتباع الأرسطيين العرب، يبدأ السجزي بتعيين هُوِية نمطَين أقصيَين يُبين تقابلُهما أنه لا يمكن أن يوجد تصور لكل شيء يمكن البرهنة عليه، وهذه هي الحالة مع قضية أبلونيوس وعلى وجه الدقة. وبرغم ذلك، من الممكن أن نعي ماهية موضوع قضيةٍ ما، أن نتصوره بغير الرجوع إلى برهان. وتعطينا الإيجابات Affirmations الصادقة والأولى أمثلة على هذا. وفيما بين النمطين الأقصيين ثمة أنماط أخرى قائمة في الوسط بينهما، ومنها يستخرج السجزي فيما بعد التصنيف التالي للقضايا الرياضية:
  • (١)

    القضايا التي يمكن تصورها من المبادئ الفلسفية مباشرة.

  • (٢)

    القضايا التي يمكن تصورها قبل أن يكتمل برهانها.

  • (٣)

    القضايا التي يمكن تصورها حينما تتشكل فكرة برهانها.

  • (٤)

    القضايا التي يمكن تصورها فقط بعد البرهنة عليها.

  • (٥)

    القضايا يصعب تصورها حتى بعد البرهنة عليها.

ومن أجل تمييز أفضل للنظام الضمني الذي يحكم هذه الأنماط الخمسة، وبالتالي من أجل فَهم أفضل للمبدأ الذي يحكم تصنيف السجزي، لا بد من فحص الأمثلة التي استخدمها لتوضيح كل حالة من تلك الحالات الخمس.

ووفقًا لهذا، فإن القضية: «الأشياء المتصلة يمكن قسمتها إلى ما لا نهاية»١٦ تمثل النمط الأول؛ فمن الواضح أنها مستعارة مباشرة، أو عن طريق برقلس، من كتاب «الفيزيقا» (٣، ٢٠٦، ب١٦) حيث كتب أرسطو يقول: «كل ما هو متصل ينقسم إلى ما لا نهاية.» ويوصي السجزي كل من يريد الإحاطة بهذا التصور عن قابلية أي متصل للقسمة اللامتناهية، بأن يتبع الطريق الفلسفي الذي يمكن رسم خطوطه على النحو التالي: للاستهلال بتعريف الامتداد والاتصال، يبدأ المرء بتبيان أن الشيئين غير القابلين للقسمة غيرَ ممتدَّين، لكي يبين بعد ذلك أن الشيئين غير القابلين للقسمة لا يمكن أن يُشكلا متصلًا، وأن يستنبط من هذا القضية المذكورة آنفًا١٧ ويشير السجزي إلى حجة برقلس.١٨

لقد كان السجزي جيد الاطلاع على كتاب «الأصول» وأفضل من أي شخص آخر في عصره، وبالتالي ألمَّ جيدًا بالقضية الأولى من الكتاب العاشر، فيندهش المرء لماذا يفضل السجزي المعالجة الفلسفية بدلًا من الإشارة إلى إقليدس، حيثما كان لا يعني «بالشيء» أي شيء أكثر من الفكرة الإقليدية عن المقدار، واختياره على أية حال كان اختيارًا مقصودًا، أملاه الهدف، الذي كان يتعقبه: أن نستوعب، بعون الإيضاح الفلسفي، تصور قابلية أي مقدار للقسمة اللامتناهية، وأن نبرر صدق هذا التصور، وبإنجاز هذه المهمة فإن قابلية أي مقدار للقسمة اللامتناهية ستصبح بعدئذٍ حقيقة أولى في الرياضيات، وبناءً على ذلك، في متناول التفكير الاستنباطي. ومن ثم استنبط السجزي توًّا قابلية الخط، الذي هو شيء متصل، للقسمة اللامتناهية. وعلى هذا يبدو منهجه، وقد أُقيمَ على فكرة أن الدراسة الفلسفية التمهيدية هي فقط التي تجعل من الممكن تصور أول إيجاب في الرياضيات وتبرير صدقه.

والنمط الثاني للقضية يَضوي تحت لوائه القضايا الرياضية القابلة للتصور توًّا، حتى قبل أي برهان. وفي هذه المرة التساؤل ليس عن البديهيات، بل عن القضايا التي تعتمد عليها مباشرة. فضلًا عن أن هذا الاعتماد فوري لدرجة أنه يجعل من الممكن اعتبار هذه القضايا كبديهيات، أنها على الأقل تخدمنا حين نعمل على تنقيحها، ويطرح السجزي ثلاثة أمثلة: الأول ليس إلا III, 10، أي القضية العاشرة في الكتاب الثالث من «الأصول» (حيث يتم تبيان أن الدوائر لا يمكن أن تتقاطع مع بعضها في أكثر من نقطتين)، وهذا إيجاب وضوحه الذاتي موروث من التقاليد. فالواقع، أن كتاب «الأصول» قد درس بالفعل مسألة تقاطع دائرتين في I, 1، أي القضية الأولى من الكتاب الأول، حيث يسلم إقليدس بوجود نقاط التقاطع كمسألة واضحة بذاتها. بيد أن الشراح لم يُخفقوا في شجب الضعف في هذا المنظور. وفعلًا، مع خواتيم القرن العاشر، كتب ابن الهيثم يقول: «قال إقليدس: إن الدائرتين تتقاطعان مع بعضهما في نقطة، ولكنه لم يثبت أنهما تتقاطعان معًا أصلًا، إنه سلم بهذه الخاصة بغير البرهنة عليها.»١٩ وفي عهد أحدث وضع توماس هيث٢٠ ملاحظةً مماثلة، وذلك حينما كتب عن هذا التقاطع أن «إقليدس يبدو وكأنه يفترضه كأمر جلي» على الرغم من أنه ليس هكذا …٢١ طالما أنه يتطلب في الواقع تقديم بديهية عن الاتصال.٢٢
على هذا النحو يشير كل شيء إلى أن السجزي تبِع إقليدس في افتراض وجود نقاط للتقاطع على أنه واضح بذاته، ومن ثم نظر إلى هذه القضية تقريبًا كقضية أولية. وإن المرء، في الواقع، إذا سلم بوجود نقاط للتقاطع على طريقة برهان الخلف a redictio ad absurdum في مثال إقليدس؛ فإن هذا سيكفي لإثبات أن هذه النقاط لا يمكن أن تكون أكثر من اثنتين.
بل وإن المثال الثاني أكثر وضوحًا. إنه معنيٌّ بالتفاوت في شكل المثلث، والذي أعلنه إقليدس وبرهن عليه في «الأصول» (I, 20) — أي في القضية العشرين من الكتاب الأول — حيث برهن على أنه بأي منظور واعتبار كان، فإن مجموع ضلعَي أي مثلث أكبر من الضلع الباقي، وقد سخر الأبيقوريون من هذه المبرهنة، وادَّعَوا أنها «واضحة بذاتها evident حتى للحمار وليست في حاجة إلى إثبات.»٢٣ ويذكرنا برقلس بأنهم «أي الأبيقوريين خرجوا بأن المبرهنة الحالية معروفة للحمار من ملاحظة أن التبن إذا كان موضوعًا على طرَف من أطراف الأضلاع، فإن حمارًا باحثًا عن علفٍ سوف يتخذ طريقه على طول ضلع واحد وليس عن طريق الضلعين الآخرين.»٢٤ وبرقلس نفسه، في دفاعه عن إقليدس، لم يذكر هذا الوضوح الذاتي كخاصية للمبرهنة، أنه حاول ببساطة أن يُعيِّن طبيعتها، وذلك حين كتب يقول: «في هذا ينبغي الرد. مع التسليم بأن المبرهنة واضحة بذاتها للإدراك الحسي، ينبغي الرد بأنها لا تزال غير جلية بالنسبة للتفكير العلمي.»٢٥
أما المثال الأخير على النمط الثاني للقضية فهو الآتي: إذا زادت قاعدة المثلث المتساوي الساقين، فإن الزاوية المقابلة للقاعدة تزداد. ويمكن اعتبار هذه القضية كلازمة Corollary للقضية ٢٥ في الكتاب الأول (I, 25 من «الأصول») فهي مستنبطة «بطريقة منطقية بحتة»٢٦ من القضية الرابعة في الكتاب الأول (I, 4) وقد كان عن هذه القضية وعلى، وجه الدقة، حين كتب برتراند رسل: «الحق أن دليل إقليدس رديء، حتى إنه كان سينجز العمل بصورة أفضل إذا افترض هذه القضية كبديهية٢٧ وهذا ما لم يخفق هيلبرت في أن يفعله.»٢٨
ويضوي النمط الثالث للقضية تحت لوائه تلك القضايا التي لا يمكن تصورُها إلا حين الاضطلاع بالبرهنة عليها، أي حين يشكل المرء الفكرة عما يفترض من أجل البدء في تركيب البرهان. ومن ثم فإن تفهمنا للتصور يبدو، وفقًا للسجزي، ناشئًا عن تفهمنا للبرهان، بيد أن القضايا من هذا النمط، حتى أبسطها، لا تزال أقل مبدئية Less-Primitive من القضايا السابقة؛ لأنها لا تُستنبط مباشرة من البديهيات؛ إذ تأتي بينهما تركيبات هندسية وسيطة من قَبيل العديد من المأخوذات Lammas. وكأول مثال، يأخذ السجزي شكلين متوازِيَي الأضلاع لهما نفس المساحة مُوجبًا أنه إذا كان طول أحدهما أكبر من طول الآخر، فإن عرضه سيكون أقل من عرض الآخر. ومن الجلي أن هذه القضية تلتجئ إلى تصور التساوي مطبَّقًا على أشكال لها نفس المساحة وليس لها نفس الأبعاد. وعلى أية حال، هذا التصور لم يتم تعريفه في كتاب «الأصول»، الذي كان المرجع بالنسبة للسجزي، وكان لا بد وأن يستنبط منه. ومن الناحية الأخرى، إذا أخذنا في الاعتبار متوازيَي أضلاعٍ لهما نفس المساحة وأيضًا زواياهما متساوية، مثلما فعل السجزي كما هو واضح. فحينئذٍ يمكن استنباط قضيته من كتاب «الأصول» (القضية IV, 14)؛ حيث يبين إقليدس أنه بالنسبة لمثل هذين المتوازيَي الأضلاع، الأضلاع المحيطة بزاويتين متساويتين بينهما تناسب طردي، بيد أن إقليدس يعوزه أربع مأخوذات للبرهنة على القضية IV, 14 — أي القضية الرابعة عشرة في الكتاب الرابع من «الأصول».
والمثال الثاني محض تعميم للمثال السابق على منشورَين متوازيي السطوح ولهما نفس الحجم، ويقترح السجزي أن يتم تمثيل هذين الجسمين بمساعدة قطعتين من الشمع لهما نفس المقدار. ولكن هذا النموذج، حتى وإن كان يقترح تمثيلًا للخاصة المعينة، فإنه لا يعطي مفهومًا صادقًا عنها. فأولًا، لا بد من تعريف مفهوم الحجم المتساوي والاضطلاع بإقامة البرهان بمساعدة كتاب «الأصول» (القضية ٣٤ من الكتاب الحادي عشر، XI, 34)، والذي يتطلب مأخوذات عدة.
أما النمط الرابع للقضية فيضوي تحت لوائه تلك القضايا التي يمكن تصورها فقط بعد أن تتم البرهنة عليها. وهذه القضايا، على عكس قضايا النمط السابق، لا يمكن استنباطها مباشرة عن البديهيات، ولا هي تعتمد على حدسنا للخواص التي تمثلها الأشكال. فلا الشكل المرسوم ولا النموذج المشيد — مثلًا الجسمان من الشمع — يقومان مقام الدعم لتصورنا للخاصة المعيَّنة. فضلًا عن أن هذه الخاصة تنشأ عن خاصة أخرى أعمق، وبالتالي تتطلب أن يتم «تحليل» قبل أن يمكن الإحاطة بمفهوم عن موضوعها. ويعطي السجزي مثالًا: القضية ٣٢ في الكتاب الأول I, 32 من «الأصول» (أي بالنسبة لكل مثلث مجموع زواياه الثلاث يساوي زاويتين قائمتين) فمن ناحية، نحن نعرف أن خاصية وجود زوايا مساوية لزاويتين قائمتين جزء من مفهوم المثلث نفسه، أو وَفقًا لما يمكن أن نقرأه في كتاب «التحليلات الثانية»: «كل ما يمكن تبيان أن زواياه تساوي زاويتين قائمتين … هذا هو الموضوع الأول الذي ينتسب إليه المحمول مادة البحث، بصورة متكافئة وكلية. والبرهان على أي محمول، بالمغزى الماهَوي هو إقامة الدليل عليه من حيث هو منتسب لهذا الموضوع الأول بصورة متكافئة وكلية.»٢٩ ويلاحظ برقلس في تعليقه على هذه الفقرة أن واقعة وجود زوايا مجموعها مساوٍ لزاويتين قائمتين «هي خاصة للمثلث بما هو كذلك، وهذا هو السبب في أن أرسطو، في بحثه في التفكير البرهاني اليقيني apodicitic (أي كتاب التحليلات الثانية) حين مناقشة الصفات المباطنة للموضوع يستعمل هذا كمثال حاضر.»٣٠ بيد أن نفس هذه الواقعة تلقي تبريرها الصادق في المسلمة الخامسة٣١ الشهيرة من كتاب «الأصول»، «الكتاب الأول».
وبناء على ذلك تترتب أمثلة السجزي بالنسبة للأنماط الأربعة الأولى، وَفقًا لطبيعة القضايا الأقل والأقل أولية Elementary وهذه الطبيعة لا تعكس فقط درجة الاعتماد المنطقي في علاقتها بالبديهيات، بل وإنها تعكس أيضًا الدرجة التي تبدو بها الأفكار بالنسبة لنا أكثر أو أقل في وضوحها الذاتي Self-Evident ودرجة اعتماد ذلك الوضوح الذاتي على قدرتنا على إدراك الخصائص من الأشكال الهندسية، وبالتالي فإن استنباط الخاصة التي يصعب تصورها، من خاصة أخرى أقل في صعوبة التصور، يقنع العالم الرياضي بإمكانية تحسين تصورنا. وهذا هو منهج السجزي في معالجة النمط الخامس للقضية.
وكمثال على تلك القضايا التي يصعب تصورها حتى بعد أن تتم البرهنة عليها، يختار السجزي تلقائيًّا القضية ١٤ في الكتاب الثاني من «المخروطات»٣٢ وهي القضية التي كانت أول ما ألهمه ببحثه، والتي تكرست لها الدراسة. ولكن العالم الرياضي في هذه الحالة، على خلاف الحالة السابقة، لم يعُد يكفيه إيضاح بسيط بواسطة مثالٍ ما كشأن الأنماط التي درسناها فيما سبق، إنه يعتزم جلو المفهوم الغامض للخط المقارب من أجل فهم أفضل للخاصة التي عينها أبلونيوس وبرهن عليها. ومثل هذا المشروع في واقع الأمر يعادل البحث عن سبل ملائمةٍ أكثر للحديث عن اللامتناهي، ولكن العالم الرياضي، بالنسبة لهذه النقطة أيضًا، يصل في سياق عمله إلى التحقق من أنه لزام عليه، بالإضافة إلى استخدام متتابعات تعالج اللاتناهي، دراسةُ النهايات Limits المتناهية لمتتابعات لا متناهية. ويتأتَّى هذا حتمًا إذا ما رغب في وصف مسلك الخط المقارب — موضع الدراسة ها هنا — وهو مسلك كان موضعًا للدراسة منذ العصور القديمة ولكن بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما عن طريقتنا، في أن الخط المقارب بالنسبة للمفكرين في تلك المرحلة كان متمثلًا بوصفه نهاية لا يمكن الالتقاء بها، ولكن يمكن الاقتراب منها لأية درجة نشاء. ومن المعروف جيدًا أن السجزي لم يستعمل مصطلحات من قبيل «النهايات» Limits و«التقارب» Convergence، فضلًا عن أنها مفاهيم كانت غريبة على الرياضيات في ذلك العصر. لكن النص المرفق بالنسخة الفرنسية من هذا البحث لا يقتصر على الإشارة إلى أن هذه التصورات قد صيغت في مصطلحات هندسية، بل إنه يثبت هذا، ومن ثم سوف نعمد في تحليلنا إلى استخدام مثل تلك المصطلحات، التي كان السجزي يجهلها، وسوف نستخدم مناهجَ تصورية لم تكن في حوزته، وهذا من أجل عرضٍ أفضل لمقاصده، ولكي نُعيِّن بدقة الصعوبات التي ربما تكون قد صادفته.
يبدأ السجزي على خلاف سابقيه ومعاصريه، بأن يُبرر الخاصة المعيَّنة في II, 14 — أي القضية ١٤ في الكتاب الثاني — عن طريق إقامتها على أخرى أوَّلية أكثر. والترجمة الرياضية لخطة كهذه تُفضي به إلى مستهل محاولة لإعادة تركيب القطع الزائد أو فرع منه، بواسطة نقاط. ولكن سرعان ما تواجهه مشكلة العبور من المنفصِل إلى المتصِل. دعنا إذن نتوجه مباشرة إلى صميم دراسته: المأخوذة والمبرهنة:
ليكُن الخطان المستقيمان المعطَيان و ؛ و نقطة متغيرة على السطح ؛ بحيث إن مساحة متوازي الأضلاع تُساوي الثابت á ولنفترض أن X = ON وأن Y = OM حتى يمكن القول إن:
(2-1)
  • المأخوذة: إذا كانت (أو ) تقترب من اللانهاية فإن (أو ) تقترب من 0. وإذا تحركت على السطح المستوي بتلك الطريقة التي تظل تحقق الشرط (2-1)، فإن ترسم فرعًا من القطع الزائد الذي خَطَّاه المقاربان هما الخطان المستقيمان و . ويطبق السجزي هذه المأخوذة من أجل إقامة البرهان على المبرهَنة.
  • المبرهنة: حينما تتحرك بصورة لا متناهية على طول الخط ، فإن يقترب من ، دون أن تبلغ النقطة الخط المقارب .

وفحص المنطوقات المعلَنة آنفًا، فضلًا عن فحص براهين السجزي، يُتيح لنا أن نُعيِّن كل نقطة من النقاط التالية على حدة.

  • (١)
    من أجل تأسيس العبور من المنفصل إلى المتصِل، يأخذ السجزي في الاعتبار متتابعة ما ( ) من النقاط بحيث إن المتتابعة ( ) المناظرة لها تقترب من اللانهاية، وعلى هذا، إذا افترضنا أن ، فإن ما فعله السجزي يرتد إلى البرهنة على أن .

    يسير كل شيء كما لو كان العالم الرياضي قد عرف بصورة حَدسية الخطة التي تعبر عنها المبرهنة:

    لتكن ؛ حينئذٍ تقترب من حينما تقترب من اللانهاية. إذا، وفقط إذا، كان بالنسبة لكل متتابعة ( ) تقترب من اللانهاية، المتتابعة تقترب من .
  • (٢)
    هذه الترجمة للمشكلة تُصوِّب الانتباه إلى العقبات التي واجهها السجزي، وهي العقبات التي تجعل خاصةً ما يصعب تصورها، مهما كانت جودة البرهان عليها، والآن يعرف السجزي أنه ليس بالضرورة يتم الوصول إلى «نهاية» Limit متتابعةٍ ما حينما توجد هذه النهاية. وعلى هذا فحين يبرهن على أن تقترب من الصفر ، فإنه يبرهن بالمثل على أن لن تبلغ أبدًا الخطَّ المقارب ، الذي يعني أنه ليس هناك حد من المتتابعة يساوي الصفر، وبالتالي يساوي نهاية المتتابعة. والآن نقول إنه ها هنا، وعلى وجه الدقة، نجد أول سبب لكون النتيجة يصعب تصورها بالنسبة لعلماء الرياضة في القرن العاشر.
بيد أن الصعوبة الثانية، والأكثر مهابة، مرتبطة بما يمكن أن نسميه «لااتصالية المساحة» فلتكن المساحة في الواقع (OMnHnNn) = An. فمن الواضح أن . ولكن تقترب من الصفر حينما تقترب من اللانهاية، وهذا يتضمن أن متوازي الأضلاع على قدر ما هو سطح، يقترب من الخط المقارب بمعنًى ما. والآن، فعلى مدى انشغال السجزي بالأمر، كانت مساحة الخط المستقيم صفرًا. وفي سياق بُرهانه، أوجب بالمثل تمامًا أن المرء لا يستطيع باستخدام قطع الخط Line-Segments أن يمد سطحًا، لأن مساحة السطح بالضرورة ليست صفرية. ولنتذكر أن المسألة بالنسبة للسجزي، مسألة فئة Set متناهية، أو على أوسع الفروض، فئة لا تُحصى من قطع الخط. وبالمثل تمامًا ينتج أن:

وينتج عن هذا الصعوبة التي يمكنها هي فقط، بالنسبة للسجزي، أن تكون متأصِّلة وجوهرية: كيف يمكننا أن نُكوِّن تصورًا عن خاصة من هذا القبيل، حتى ولو كانت قد أُقيمَ عليها البرهان بطريقة صحيحة؟

ومن الواضح أن أسباب هذه الصعوبة، في عُرف السجزي، ليست لها علاقة بالقدرة الذاتية على تمثُّل الموضوع الرياضي، بل تتعلق بمنهج تركيب الموضوع. وإذا كان على العالم الرياضي ألا يتكلم فحسب عن اللاتناهي، بل وأيضًا أن يصِف هذا النمط من مسلك الخط المقارب، فيجب أن يبدأ بإبراز هذا المنهج المطمور. ووظيفة المأخوذة هي العرض المضبوط لمنهج التركيب هذا، ونستطيع إذن أن نفهم لماذا اعتقد السجزي، على خلاف كل الدلائل التاريخية المستمدَّة من النصوص، أن أبلونيوس كان لا بد وأن يعرف هذه المأخوذة قبل أن يُقيم هذه المبرهنة.

•••

ولم يحُطَّ السجزي رحاله لا بعد المأخوذة ولا بعد المبرهنة؛ إنه واصل التزامه بوصفه عالمًا رياضيًّا عن طريق النظر في حالةٍ أعم؛ إنها حالة مُنحَنَيَي خطَّين مُقارِبَين. ومهما كانت أهمية النتائج الرياضية، وفوق كل شيء مهما كانت أهمية الوسيلة التي أدت إلى اكتشافها، فإنها لا ينبغي أن تَحُول بيننا وبين ملاحظة التغير في المنزلة الفلسفية لمُبرهَنة أبلونيوس وفي المسائل التي أثارتها. والواقع أن السجزي لم يتعرف البتة على «السمة الاستشكالية» لهذه المبرهنة، والتي أكد عليها جمينوس ومن بعده برقلس. وهو أمر لم يعُد خطرًا أو محيرًا، بل أصبح أمر توضيح مبسِّط لنمط العلاقة بين القابل للتصور، بمعنى القابل للتعقُّل، وبين القابل للبرهنة. لذلك اضطلع السجزي ببحثٍ منطقي من أجل إحكام طوبولوجية وتصنيف القضايا التي تم بالفعل تحليلها. ويصدق القول إنه لاحظ انفصالًا بينها، وهو انفصال، كما يمكن أن نفهم، يبدو في نقطةٍ ما راجعًا إلى التمييز بين مَلَكَتَين للرُّوح، بيد أن العالِم الرياضي موجِزٌ في قوله، حتى إن عرضه لا يسمح لنا بوصف تلك العلاقة بالتفصيل، مهما كان من الضروري تعيين هُوِيتها.

ودعنا نتذكر من جديد أن «فعل التصوُّر Conceiving» بالنسبة للسجزي فعل نطقي Discursive٣٣ يمكننا من أن نعيَ مفهومًا، إنه لِهَذا فعل من أفعال الفهم Understanding ولكننا قد لاحظنا من الناحية الأخرى أن النمط الأول للقضية يضوي تحت لوائه فقط البديهيات التي يجب أن تُقام عليها المعرفة الرياضية. ويقول السجزي إن تصورها «مشتقٌّ من مبادئ فلسفية» وبالتالي من المبادئ التي نحيط بها هي ذاتها بواسطة الحدس العقلي. وتتخذ المبادئ الفلسفية مسلكها فيما يتعلق بالبديهات الرياضية بنفس الطريقة التي تَتخذ بها الحدوس العقلية مسلكها فيما يتعلق بالمبادئ. ومن الناحية الأخرى، فإن فعل التصور، في حالة الأنماط الأربعة الأخرى، فعل من أفعال الفَهم، ويبدو أن صعوبته تزداد بصورة متناسبة مع نقصان القوة الحدسية للوعي بالخصائص التي تمثلها الأشكال الهندسية. وهكذا حين نعي بطريقة حدسية أن مجموع زوايا مثلث تساوي زاويتين قائمتين، فإن هذا الوعي لا ينشأ كثيرًا عن تمثُّل مثلث بقدر ما ينشأ عن رؤيتنا أن مجموع أي ضلعين أكبر من طول الضلع الثالث. وإذا كان تصور النمط الأول يعتمد على الحدس العقلي الخالص، فيبدو إذن أنه يسير، وعلى قدر ما تعنيه الأنماط الأربعة الأخرى، بواسطة حدس عقلي، ولكن على أساس تمثيلات الأشكال الهندسية.
وقد كان أمرًا مُذهِلًا أن هذه المجموعة من المسائل قد غابت عن ملاحظة معاصري السجزي وخلفائه. وقد لاحظنا أن علماء الرياضة أنفسهم لم يفقدوا الاهتمام بمبرهَنة أبلونيوس. ويقيننا أقل بشأن إسهام الفلاسفة، ولا مندوحة عن انتظار نتائج بحوث أخرى. ومع ذلك، فإن ظهور هذه المشكلة، بالإضافة إلى مبرهنة أبلونيوس في كتابات فيلسوف القرن الثاني عشر موسى بن ميمون٣٤ توعز بأنها شكَّلت قطاعًا من العَتاد المألوف للفلاسفة، أو على الأقل لأولئك الفلاسفة المطَّلعين على الأعمال الرياضية،٣٥ ولكن شهادة ابن ميمون تهمُّنا ها هنا لسببين؛ أولًا: أنها تؤكد بقاء مسألة السجزي نابضة، وثانيًا: تمكننا من أن نقدر كيف تغيرت هذه المسألة بعد أن شرع الفلاسفة في معالجتها.
وابن ميمون، في نقده للمتكلمين ذوي الاتجاه العقلاني، يأخذ عليهم التمسُّك بأن كل ما يستطيع الخيال تصوره يُسلِّم به العقلُ كمُمكن. وفي مواجهة هذا الموقف، يريد ابن ميمون البرهنة على أنه يمكن أن توجد أشياء مستحيلة، هي مع ذلك ضرورية وَفقًا للخيال، وكمثال «جسدية الرب ووجوده تعالى كقوة حالَّة في جسد. فالخيال لا يَعي شيئًا إلا الأجساد أو الخصائص القائمة في صلب أجساد.»٣٦ ومن هنا نجد أنه في سياق هذا النقد يَشرع ابن ميمون في معالجة مسألة السجزي، مُقحِمًا تغيُّرًا كبيرًا حين يستبدل «الخيال» «بالتصور» أنه يصوغ المشكلة على هذا النحو: «لتعرف أن ثمة أشياء معينة يمكن أن تبدو مستحيلة إذا محَّصها الخيال فتكون غير قابلة للتصوُّر، كشأن الترافق في الوجود لخاصيتين متقابلتين في موضوع واحد، وحتى وجود نفس هذه الأشياء، التي لا يستطيع الخيال تمثُّلها، قد أُقيم رغم ذلك بإثبات، ويُصدِّق عليها واقعها.»٣٧ وكما فعل ابن ميمون مع السجزي، يستخدم مُبرهَنة أبلونيوس كمثال:
وبالمثل تم الإثبات، في الكتاب الثاني من «المخروطات» أن الخطَّين، اللذَين هما في البداية على مسافة مُعينة من بعضهما، يمكن أن يقتربا من بعضهما بنفس النسبة مع امتدادهما أكثر، ومع هذا لا يلتقيان أبدًا، وهذه واقعة لا يمكن تصورها بسهولة، لا تتدخل في مدى إدراك الخيال. ويقرر الكتاب المذكور آنفًا عن هذين الخطَّين، أن الأول مستقيم والآخر مُنحنٍ، وتبعًا لهذا تم إثبات أن الأشياء التي لا يمكن إدراكها أو تخيُّلها، والتي قد نجدها مستحيلة إذا اختبرها الخيال على حدة، هي برغم ذلك قائمة في الوجود الواقعي.»٣٨

وبناء على هذا يتضح، بصرف النظر عن الاستبدال، أن هذه الحجة كعَين حجة السجزي، على الرغم من أن ابن ميمون لا يُعيد تصنيف القضايا الرياضية الذي قام سلفُه برسم خطوطه، ومن أجل إيضاح هذه النقطة دعنا نعود باقتضاب إلى ما كان ابن ميمون يعنيه «بالخيال».

في «دلالة الحائرين» يتكشف لنا معنى هذا المصطلح عن طريق المقابلة بينه وبين «العقل»٣٩ وتبعًا لابن ميمون، فإن الخيال لا يميز البشر عن الحيوانات، فهو مشترك لمعظم الحيوانات. علاوة على هذا، فإن فعل الخيال يقابل فعل العقل، وفي الحق، بينما «يحلل العقل ويقسم الأجزاء المكوِّنة للأشياء … ويشكل أفكارًا مجردة عنها، ويتمثَّلها في صورتها الحقيقية بالإضافة إلى تمثُّلها في علاقاتها السببية … مميزًا ما هو خاصةٌ للجنس عما هو جزئي عارض للفرد»، مما يجعل البرهان ممكنًا، و«يحدد ما إذا كانت صفات مُعيَّنة لشيء ما جوهرية أو غير جوهرية»، فإن الخيال ذاته غير قادر على افتراض أي من هذه الوظائف. إنه «فقط يعي الفردي، المركب في تلك الحالة الحاصلة التي يعرض بها ذاته للحواس، أو أن الخيال يضم الأشياء التي توجد منفصلةً ويربط بعضها معًا.» ويواصل ابن ميمون حديثه قائلًا إن الخيال لا يستطيع البتة «الظفر بصورة عقلية لا مادية تمامًا عن أي موضوع، مهما كان شكل الصورة العقلية مجردًا.»٤٠
ومن الواضح أن ابن ميمون لم يفعل أكثر من الارتداد إلى الأرسطيين العرب، وهو مذهب كان قائمًا بصورة مباشرة على الكتاب الثالث من «في النفس De Anima» (قارن الفصلين ١١، ١٢). والآن، فإن الملمَح البارز لهذا المذهب، كما يعبر عنه ابن رشد مثلًا،٤١ هو، على وجه الدقة، وجود شكلين للتصور: «تصور خيالي» وفقًا له «الأشياء المتخيلة نتصورها بوصفها فردية ومادية»، و«تصور نطقي»، أو «تصور عقلي» وهو تجريد لكل مادة من الفكرات العامة.

وليس من الضروري أن نواصل السير لكي نتحقق من أن مشكلة السجزي لم تعمر بعده فحسب، بل وأيضًا تم تحويلها على يد الفلاسفة. وهذا هو السبب في أن التقابل بين التصور والبرهان قد حلت محله رابطةُ الخيال-البرهان، القائمة كما يجب أن نلاحظ على أساس علم النفس. والمنزلة الأولية التي تعمد إليها دراسات علم النفس صرفت الانتباه عن بحث السجزي في المنطق. والواقع أن ابن ميمون لم يستبقِ إلا النمط الأخير من الأنماط الخمسة: الأشياء التي لا يمكن تخيلها ولكن وجودها يُقيمه البرهان. وعلى هذا لن يندهش المرء، بعد دراسته هذه الأمثلة، من أن هذا النمط يعني دائمًا «الأشياء اللامتناهية».

ولهذا، إذا كانت المشكلة قد اكتسبت عُمقًا ميتافيزيقيًّا بعد أن أعاد الفلاسفة صياغتها، فإنها فعلت هذا على حساب قوتها المنطقية، التي كانت قد جذبت علماء الرياضة، ولكنها عمرت بعد علماء الرياضة والفلاسفة في ذلك العصر، كما هو بيِّنٌ من أعمال عديدة عبرية ولاتينية من نهايات القرن الرابع عشر. وتعرض تلك الأعمال التأثير كثير التشارك للنسخة اللاتينية من نص عربي غُفِل مَن اسمُ مؤلفه، وأيضًا لنسخة أو أخرى من «دلالة الحائرين»، سواء بالعبرية أو باللاتينية.٤٢
لقد عمرت أيضًا بعد كل هذه الشروح كما تُبين إشارة مونتاني٤٣ أو فولتير٤٤ مثلًا. علاوة على ذلك، نحن نعلم أن هذه المسألة، التي اكتسبت قوةً ورواءً، كانت الموضوع المحبَّذ للفلسفة الكلاسيكية.
١  منطوق القضية على النحو التالي: «الخطوط المقاربة والقطع الزائد، إذ تمتد إلى الأمام بلا نهاية، تقترب من بعضها دائمًا أكثر، وسوف تدخل مسافة أقل من أي طول يمكن تعيينه.» ترجمة توماس ل. هيث للكتاب Apollonius of perga Treatise on Conic Sections, (Cambridge: Heffer, 1896, p. 61).
٢  برقلس Proclus فيلسوف ينتمي للأفلاطونية الجديدة في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي. وهو عالم رياضي اهتم كثيرًا بالهندسة، وأورد تعليقات على كتاب إقليدس «الأصول»، حيث وضع بديلًا للمُسَلَّمة الخامسة هو: إذا قطع مستقيمٌ أحد مستقيمين متوازيين، فإنه يقطع الآخر. وسوف نعود في هامش تالٍ إلى إشكالية المسَلَّمة الخامسة الخطيرة. (المترجمة)
٣  هو جمينوس الرودسي، ذاع صيته حوالي عام ٧٠ق.م. فكان من أبرز علماء الرياضة، السكندريين في القرن الأول ق.م. الذي يُعَد، إلى حد ما، عصر هبوط للرياضة إذا ما قورن بعصرها الذهبي في القرن الثالث ق.م. الذي شهد إقليدس وأرشميدس وأبلونيوس. وقد كتب جمينوس مقدمة في الرياضة لم يبقَ منها سوى شذرات، ولربما كان عنوانها: التنسيق أو النظر العقلي في الرياضيات، فكانت المصدر الرئيسي الذي اعتمده برقلس في تعليقاته على الكتاب الأول من «الأصول»، واعتمده أيضًا الفضل بن حاتم والتبريزي والفارابي … حوت مقدمة جمينوس تصنيفًا للرياضيات؛ فقسمت الرياضة البحتة إلى فرعين: حساب الأعداد، والهندسة، أما الرياضة التطبيقية فقُسِّمَت إلى: العمليات الحسابية، القياسات الأرضية، التوافقيات، البصريات، الميكانيكا، الفلك. فله كتابه بعنوان «المدخل إلى علم الفلك» تُرجِمَ إلى اللاتينية والعبرية … وصنف جمينوس الخطوط أيضًا، فمنها البسيطة (المستقيمات والدوائر)، ومنها ما هو أكثر تعقيدًا (القطوع المخروطية. منحنيات قطوع السطوح وما إليها) وحاول كذلك تصنيف السطوح. وكان أحد الرواد القدامى للفلسفة الرياضية، حتى إن جورج سارتون يضعه تحت عنوان: فلاسفة رياضيون. (تاريخ العلم، ﺟ٥، ص١٣٨-١٣٩).
وقد تتلمذ جمينوس على بوزيدونيوس، فيلسوف الرواقية الكبير، وبوزيدونيوس سوري الأصل، عاش بين ١٥٣، و٥١ق.م. وسخط على تقاليد سوريا آنذاك، فغادرها وجاب أقطار عديدة، واستقر زمانًا في رودس — موطن جمينوس — حيث نعِم بنفوذ كبير حتى أصبح رئيس مدرسة فلسفية، يبدو أن جمينوس تعلَّم فيها. وكان بوزيدونيوس — كما قال عنه صديقه شيشرون — صديقًا لكل المستنيرين في عصره، واشتهر بسَعة معارفه؛ فهو مؤرخ وعالم جغرافي وفيلسوف ولاهوتي وعالم طبيعي، ثم هو رياضي مرموق. لكن مصنفاته ضاعت ولا نعرف عنه إلا ما رواه الآخرون في تلك الميادين. وفيما يختص بالرياضيات، فإن برقلس أورد في تعليقاته على إقليدس الكثير من نظريات بوزيدونيوس الرياضية (د. عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ط٣، ١٩٧١م، ص٧٨-٧٩). (المترجمة)
٤  Procli Diadochi, In Primum Euclidis Elementorum Li-brum Commentarii,ed. G. Friedlein (Leipzig: Teubner, 1873, reprint, olms, 1967), p. 177, trans. G.R. Morrow in Proclus, A Commentary on the First book of Euclid’s Elements, (Princeton: Princeton U. Press, 1970), p. 139.
٥  المرجع السابق، ص٢٢٢.
٦  المرجع السابق، ص٢٢٣.
٧  انظر: Marchall Clagett, Archimedes in the Middle Ages Vol. 4. (Philadelphia: American Philosophical Society, 1980), pp. 33–161.
٨  الطوسي المشهور في تاريخ الرياضيات العربية هو نصير الدين الطوسي (ت٦٧٢ﻫ/١٢٧٤م) وهو ذو شأن عظيم في الهندسة.
أما سلفه الطوسي المذكور في النص فهو شرف الدين المظفَّر بن محمد بن المظفَّر الطوسي (ت١٢١٣م)، فغير معروف جيدًا، على الرغم من أن الجبريين العرب دأبوا على الإشارة إليه. وذكر جورج سارتون في كتابه (Introduction to the History of Science) أن الرسالة التي ألفها شرف الدين الطوسي في الجبر ذات أهمية جوهرية للجبر وللهندسة على السواء، ويقول عنه ابن خلكان أنه مبتكِرُ الأسلوب الخطي المعروف باسم العصا. ونسب إليه الرياضي شمس الدين بن إبراهيم المارديني ابتكاره «طريقة الجداول» أي الحل العددي للمعادلات التكعيبية.
وقد عاش شرف الدين الطوسي في القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري)، وعلم الرياضيات في دمشق ثم الموصل ثم بغداد ثم خراسان.
ومن مؤلفاته: رسالة في صنع الأسطرلاب المسطح، جواب على سؤال هندسي مطروح من الصديق شمس الدين، رسالة في الخطَّين اللذَين يقربان ولا يلتقيان، وهذا هو موضوع الدراسة المطروحة. (المترجمة)
٩  انظر:
Sharaf Al-Din Al-Tusi, Oeuvres mathematiques. Algebre et geometrie au xlleme siècle.
تحقيق وترجمة وتعليق: د. راشد.
(Paris: Les Belles Lettres, 1986), Vol. I, pp. cxx iii–cxxi, 7–10 and 126, vol. 2, p. 130 et seq.
١٠  Ibn al-Haytham, Oeuvres mathematiques، لتقوم بنشره: “Les belles Lettres”.
١١  انظر طبعة النص العربي وترجمته في «السجزي وابن ميمون».
١٢  الواقع أن معرفتنا بوجود نسخة عربية من كتاب برقلس «الأصول لإقليدس» لا تستند حتى الآن إلا على إشارة واحدة لعنوانه وضعها مصنِّف القرن العاشر ابن النديم (راجع: الفهرست، تحقيق: رضا تجدد، طهران، ١٩٧١م، ص٣١٢)، ويؤكد السجزي، كما يمكن أن نقرأ في عمله، ما أشار إليه المصنف، والواقع أنه يقتبس العنوان المذكور: حدود أوائل الطبيعيات (أي: أصول الفيزيقا Elements of Physics)، ويعطي إشارة لمرمى هذا العمل كي يبرهن على قابلية المقدار للقسمة اللامتناهية على أساس المناهج الفلسفية. على أية حال، يمكننا الآن إثبات أن كتاب برقلس قد تُرجِمَ — أو على الأقل جزء منه — إلى اللغة العربية. فلنشكر عملًا مجهولًا تتضمنه واحدة من أقدم مجموعات المخطوطات في المكتبة الأهلية بباريس — إنها مجموعة هامة من صحائف يعود تاريخها في الواقع إلى القرن العاشر — وقد كتبها السجزي نفسه على الأرجح، وتبعًا للمراجعات التي أُجرِيَت للتحقق من هذه المسألة في كتب المؤرخين حتى منتصف القرن التاسع عشر. انظر مثلًا: Gerhard Endress the Works of Yahya ibn Adi, an analytical inventory (Wiesbaben: Reichert Verlag, 1077), “And: Yahya ibn Adi’s Critique of Atomism: Three Treatises on the indivisible Part”, Zeitschrift fur Geschichte der arabisch-islamischen Wissenschaften, 1 (1984), 155–179.
والمخطوطة رقم ٢٤٥٧ في المجموعة العربية بالمكتبة الأهلية بباريس بها نص مجهول المؤلِّف عنوانه: أي متصل يمكن أن ينقسم إلى أشياء قابلة للقسمة اللامتناهية. وهذا النص يستنسخ ترجمةً لعدة قضايا في النص اليوناني، لبرقلس، كما انحدر إلينا بتقليد المخطوطة اليونانية (وهي ليست بالضرورة نفس المصدر الذي أُقيمَت عليه الترجمة العربية، ونحن بصدد نشر طبعة لهذا النص مرفقة بترجمة في دراسة منفصلة سوف نناقش فيها كل المشاكل التاريخية والعلمية التي يثيرها هذا العمل. انظر ترجمتنا للشذرات الإغريقية في «السجزي وابن ميمون».
١٣  على سبيل المثال، انظر له: «حل مسألة في عمل يُوحَنا ابن يوسف: قسمة نصفي خط مستقيم، وشرح كتاب يوحنا في هذا الأمر» (مخطوطة بالمكتبة الأهلية بباريس، رقم ٢٤١٧، الصفحات ٥٢، ٥٣ من المخطوطة العربية).
١٤  ويمكن أن نورد على سبيل الاستشهاد الفيلسوف الشهير الفارابي، السابق على السجزي، فهذا هو ما قاله في «البرهان»: «اسم العلم، كما قد قلنا بالفعل، يُستعمَل عادة على معنيين، أحدهما للحكم والآخر للتصديق.» الصفحة ١ من المخطوطة العربية. لقد طور الفارابي هذا المبدأ في كتابه، ودبر م. أ. الحسنوي من أجلي نسخة مصورة من هذه المخطوطة. ويمكن أن نذكر أيضًا فلاسفة لاحقين من أمثال ابن سينا. قارن: الشفاء: المنطق، المجلد الخامس، تحقيق: أبي العلا عفيفي، القاهرة، الإدارة العامة للثقافة، ص٥٢ وما بعدها. واتخذ ابن تيمية في الرد على المنطقيين هذا المبدأ الفلسفي بصورة وثيقة الصلة بالموضوع. قارن كتاب الرد على المنطقيين، بومباي، ١٩٤٩م، ص٤ وما بعدها.
١٥  قارن، مثلًا: الفارابي، البرهان Posterior, Analytics, (2.3.9la).
١٦  انظر: النص والترجمة في «السجزي وابن ميمون».
١٧  تُعرَف هذه الطريقة ببرهان الخلف، وهو منهج إثبات القضية أو تبريرها، عن طريق إثبات كذب نقيضها، وبرهان الخلف دائمًا منهجٌ أَثيرٌ لعلماء الرياضة، شرقًا وغربًا. (المترجمة)
١٨  انظر: Procli Diadochi Lycii Elementatio’Physica, ed. Helmut Boese (Berlin: Akademic-Verlag, 1958), pp. 30–32.
١٩  ابن الهيثم، في حل شكوك كتاب إقليدس في الأصول وشرح معانيه، مكتبة جامعة إسطنبول، المخطوطة رقم ٨٠٠.
٢٠  سير توماس ل. هيث، صاحب أفضل وأجود الترجمات الإنجليزية الحديثة لكتاب «الأصول». وقد أصدرته في ثلاثة مجلدات جامعة كمبردج، عام ١٩٠٨م. ثم صدرت له طبعة منقحة في ثلاثة مجلدات أيضًا، عام ١٩٢٨م. وقد أخرج أيضًا ترجمة جيدة لكتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية». (المترجمة)
٢١  Euclid’s Elements, trans. Thomas L. Heath, Vol. 1, (New York: Dover, 1956), p. 235.
٢٢  السابق، ص٢٣٥-٢٣٦.
٢٣  Proclus, Comentary, p. 251.
٢٤  مثله.
٢٥  مثله.
٢٦  Elements, p. 300.
٢٧  Bertrand Russell, Principles of Mathematics, (London: Routledge & Kegan Paul, 1937), p. 405.
٢٨  Elements, P. 249.
٢٩  Posterior Analytics, 1.4.74a.
٣٠  Proclus, commentary, p. 302.
قارن: Friedlein, Procli Diadochi, p. 384.
٣١  هذه المسلَّمة التي تنص على عدم التقاء الخطَّين المتوازيين هي التي أدت إلى الهندسات اللاإقليدية بعد أن انفردت هندسة إقليدس بالميدان ألفَي عام، فاتخذها نيوتن هندسة تطبيقية للواقع الفيزيائي رغم إدراكه أن السطح ليس دائمًا مستويًا، ذلك لأنه لا هندسةَ سواها.
وقد أتت خطورتها من أن جميع الرياضيين تقريبًا تشككوا في أنها مسلَّمة، فحاولوا إثباتها. ومن أشهر الرياضيين العرب الذين انشغلوا بهذا ثابت بن قُرة في عمله «كتاب مقدمات إقليدس»، وابن الهيثم في «كتاب حل شكوك إقليدس»، وثمة أيضًا الجوهري في القرن الثالث الهجري، وعمر الخيام (ت٥١٧ﻫ/١١٢٣م) وشمس الدين السمرقندي (ت٦٧٤ﻫ/١٢٧٦م).
بصفة عامة أعربت البراهين المباشرة عن فشلها، فلم يبقَ إلا برهان الخلف. ولكي يفترضوا العكس، أي إمكانية التقاء المتوازيَين، افترضوا أن السطح غير مستوٍ، هكذا أدت المسلمة الخامسة إلى الهندسات اللاإقليدية، وهي الهندسات التي لا تفترض أن السطح مستوٍ، فلا تسلم بمسلَّمات إقليدس.
ويمكن اعتبار نصير الدين الطوسي (ت٦٧٢ﻫ/١٢٧٤م) بكتابه «تحرير أصول إقليدس» رائد هذا الطريق. وقد ذهب كروثر إلى أن الخاصة التحليلية للغة العربية ساعدت على جعل نقده لهندسة إقليدس نقطة البدء الحقيقية للهندسات اللاإقليدية. إنه رائد شق الطريق، ثم سار فيه جيرولا موساكشيري وجاوس … إلخ حتى وصلنا في النهاية إلى نسق لهندسة السطح المقعَّر مع نيكولاي لوباتشيفسكي (١٧٩٢–١٨٥٦م)، ونسق لهندسة السطح المحدَّب مع ريمن (١٨٢٦–١٨٦٦م) والتي جعلها أينشتين هندسة للواقع الفيزيائي، فاتضح أن هندسة إقليدس ليست كشفًا مطلقًا، بل فقط بناء عقلي معجز ومتكامل، وأُميط اللثام عن حقيقة الرياضيات من حيث كونها نسقًا استنباطيَّا يكفيه اتساق النتائج مع المقدمات بصرف النظر عن الواقع التجريبي (انظر في تفصيل هذا كتابنا: العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، ص٣٥٩–٣٦٧). (المترجمة)
٣٢  ذكرنا في التقديم أن العرب نقلوا كتاب «القطوع المخروطية» تحت اسم «المخروطات»؛ لذلك يفضل استعمال «المخروطات» حين يكون الحديث في قلب سياق التراث الإسلامي.
٣٣  يعني هذا المصطلح أنه فعلٌ يتم عبر مراحل بمعنى أنه مقابل للبديهي الذي يتم على دفعة واحدة. (المترجمة)
٣٤  يرد في النص الاسم اللاتيني المشهور لهذا الفيلسوف: Maimonides. وميموندز هو أبو عمران موسى بن عبيد الله بن ميمون (١١٣٥–١٢٠٤م). وُلِدَ بقُرطبة، وقيل إن ميلاده كان قُبيل عيد الفصح اليهودي — أي الرابع من نيسان العبري — عيد ذكرى خروج موسى بن عمران — عليهما السلام — مع بني إسرائيل من مصر. أما «أبو عمران» فكُنيته.
وقد هاجر مع أسرته إلى شمال أفريقيا واستقر في القاهرة سنة ١١٦٥م؛ حيث ارتفع نجمه كطبيب، وأصبح الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي وابنه، ترأَّس عام ١١٧٧م الطائفة اليهودية في مصر. وباستثناء كتاب واحد، كتب جميع أعماله تقريبًا — وهي في اللاهوت والفلسفة والمنطق والطب — باللغة العربية.
يُعَد ابن ميمون أكبر فيلسوف في زمانه، بعد ابن رشد. على أن أثر ابن رشد كان واسع النطاق، حتى ساهم في تشكيل الفِكر اللاتيني، أما ابن ميمون فقد اقتصر تأثيره على المِلَّة اليهودية.
ولعل أهم أعماله «رسالة في صناعة المنطق» وهو كتاب من أربعة عشر فصلًا قصيرًا، كتبه بعد عام ١١٥١م، وأصبح — في ترجمته العبرية — النصَّ المنطقي النموذجي في الدوائر اليهودية إبان العصور الوسطى. وله أبحاث منطقية أخرى أقل أهمية منها:
اصطلاحات ابن ميمون المنطقية، المنطق، رسالة في المنطق …
على العموم لم تُقدِّم رسالة ابن ميمون المنطقية جديدًا على الإطلاق. فهي ملخص قياسي للاصطلاحات المنطقية العربية، وتعود أهميتها الرئيسية إلى دورها في نقل هذا التقليد إلى اليهود.
(نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق: د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٥م، ص٤٠٦ وما بعدها). (المترجمة)
٣٥  لم يكن هذا الاهتمام بالرياضيات قَصرًا على الفلاسفة الأرسطيين من المشرق، أمثال الكِندي والفارابي وابن سينا، بل أيضًا يشاركهم فيه فلاسفة المغرب، من أمثال ابن باجه (أو Avempace، المتوفى عام ١١٣٨/ ١١٣٩م، بعد مولد ابن ميمون بثلاثة أعوام)، وكان له تأثير مباشر على ابن ميمون. ومن ثم نجد أعمال ابن باجه، خصوصًا تلخيصه لأعمال ابن سيد الرياضية، تثبت معرفته الشخصية للرياضيين في عصره، كما تثبت إلمامه بكتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية». قارن: Sharaf al-Din al-Tusi, Oeuvres, Vol. 1, p. 129, notes).
وكان ابن ميمون أيضًا على معرفة بكتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية» كما تُبين الهوامش التي كتبها على قضايا معينة في هذا العمل. انظر: حواشٍ على بعض أشكال كتاب المخروطات، مخطوطة مانيزا، جينيل ١٧٠٦١٦، الصفحات ٢٦–٣٣ من المخطوطة العربية.
٣٦  دلالة الحائرين، تحقيق حسن عطاي، منشورات جامعة أنقرة، رقم ٩٣ (أنقرة، ١٩٧٤م)، ص٢١٥. انظر أيضًا: الترجمة الفرنسية التي قام بها شلومو منك Shlomo Munk (باريس، ١٨٥٦م) والترجمة الإنجليزية التي قام بها م. فريد ليندر second edition, M. Fried Lander, 1904’ reprint, New York: (Dover, 1959).
٣٧  المرجع السابق، ص٢١٤.
٣٨  المرجع السابق، ص٢١٥.
٣٩  المرجع السابق، ص٢١٣-٢١٤.
٤٠  المرجع السابق، ص٢١٤.
٤١  ابن رشد، كتاب النفس، حيدر آباد، ١٩٤٧م، ص٥٥-٥٦.
٤٢  بشأن تأثير النص اللاتيني (عن خطين De daubus lineis) «دلالة الحائرين»، خصوصًا الكتاب الأول منه، الفصل ٧٣، انظر:
Clagett, Archimedes, pp. 335 et seq.
٤٣  فذلك هو ما كتبه في «كتاب: المقالات، الفصل ١٢»:
“… en la Geometrie (qui Pense avoir gagn’e le haut point de certitude parmy les sciences) il se trouve des demonstrations in’evitables subvertissans la verite de l’experience: comme Jacques peletier me disoit chez moy qu’il avait trouvè deux lignes s’acheminant l’ une vers l’autre pour se joinder, qu’il verifiait toutefois ne pouvoir jamais, jusqu’ a l’infinite, aariver a se toucher.”
٤٤ 
“… Voltaire. Philosophical Dialogues, VII, 1 N’etes-vous pas force d’admettre les asymptotes en geometrie, sans comprendre comment ces lignes peuvent s’approcher toujours, et ne se toucher jamais? N’y a-t-il pas des choses aussi incomprehensibles que demontrees dans les proprieties du cercle? Concevez donc qu’ on doit admettre I; incomprehensible est prouvee.”

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤