الفصل السادس والثلاثون

قائمة التخطئة

أيلول ١٨٦٤–حزيران ١٨٦٥

لقد أصبح بقاء وزارة منجيني في الحكم متعسرًا بعد مذبحة تورينو، فانسحبتْ وتركت لخلفها ميراثًا من الخلل الذي ولدته، ولما رفض رتازي تأليف الحكومة توجه الملك نحو لامارمورا بصفته أصلح وزير في مثل هذه الأزمات، وكانت ولادته في بيمونته وميوله البيمونتية تساعده على تسكين بعض الحدة والتخفيف من شكوك تورينو، وكان يصعب على القوميين من أهل الأقطار الأخرى أن ينتقدوا وطنيته بسبب اتصاله المديد الخاص بكافور، وكان رجلًا نزيهًا شجاعًا ذا بصيرة نافذة ورزانة محتفظًا بمعظم تقاليد المدرسة الصالحة التي هيأت رجال الدولة البيمونتية.

وكانت صلابة هذه المدرسة وشغفها بالعدل والعقل قد جعلتا أعضاءها يَنشئون سياسيين، وكان لامارمورا يكره الميثاق لا من حيث المبدأ ولا لأنه يقول بنقل العاصمة، بل لأن طبيعته الصادقة كانت تنفر من الالتباس الذي ينطوي عليه الميثاق؛ ولأنه كان يعلم بأن منع الغارة على الحدود متعذِّرٌ، وقد قبل المهمة مؤملًا أن يستطيع سَدَّ الثغرة بين بيمونته وإيطالية وقانعًا بأن قبول الميثاق بجميع مساويه خيرٌ من قطع العلاقات مع فرنسة برفض معاهدة قد وقع عليها، وقد عزم على أن يعرض الميثاق والملاحق على المجلس النيابي وألا يبقى في منصبه إلا إذا قبلهما المجلس، أما المجلس فقد أقدم على المذكرة وأخر الميثاق خشية أن تؤدي استقالته إلى إثارة العاصفة، ولم تستطع جماعاتُ اليسار والبيمونتيين حين الاقتراع عليه أن يظفروا بأكثر من سبعين صوتًا معارضًا.

وأما خارج المجلس فكاد الرأي المعارض للميثاق أن يكون قويًّا مرعبًا، ولا سيما في أوساط الجماعات الدموقراطية، أما غاريبالدي فصرح قائلًا: «لا يربطنا ببونابارت سوى ميثاقٌ واحدٌ يمكن تنفيذه وهو: خلصوا البلاد من وجوده.» وقد أدمى نقل قاعدة الحكومة قلب بيمونته ولم يسلم الملك نفسه من نقمة المدينة، وقد أصاب ذات مرة ضيوفَه حين ذهابهم للحضور في حفلة رقص رسمية سخريةٌ من الجمهور، وأرسل إليه بعض النواب كتابًا يسخرون منه ويطلبون إليه أن يحيط قصره بالجنود ليستطيع من في البلاط أن يرقصوا بأمان.

ولقد اشتد الهياج وانقلب إلى غضبٍ شديد حين صرح مازيني في آذار سنة ١٨٦٥ بأن الميثاق يتضمن ملحقًا خفيًّا آخر نص فيه على أنه إذا استولت إيطالية على روما أو فنيسيه بدون مساعدة فرنسة فإنها سوف تتخلى عن جميع بيمونته حتى «سيسيه»، ولا شك في أن الإفرنسيين كانوا يحيكون الدسائس بنشاط بيمونته الغربية، الأمر الذي ساعد على أن يلقى تصريح مازيني آذانًا صاغية في تورينو، وعلى الرغم من سمعة لامارمورا الحسنة ونزاهته فلم يستطع أن يعيد إلى الناس طمأنينتهم، وبلغ هياج جميع الطبقات درجةً أصبح يفضل معها أن يرى قيام الجمهورية في تورينو بدلًا من انضمامه إلى فرنسة.

لقد قضى قيامُ الحرب «الدائم» على الذُّعر في المجلس النيابي ولكن المستقبلَ كان ينذر بالخطر؛ إذ أصبح من المتعذر الحصولُ على أكثرية مستقرة في المجلس، وأخذ النزاع بين الأحزاب لأتفه الأسباب يزيل من أهمية ومنزلة البرلمان، وأوشك أن يصبح الدستور في موضع خطر، وحاول ريكاسولي وأصدقاؤه أن يمنعوا اليسار من المعارضة التافهة، وأن يدمجوه بالمعتدلين المتطرفين ولكنهم فشلوا، أما الوزارة فعلى الرغم من أن أعضاءها المهمين كانوا من البيمونتيين فقد احتفظت بحيادهم بين الحزب الدائم وحزب الكونسورتيريا «عصبة الدس»، ولم تبذل أي جهد لتهدئة الأحقاد على أنها هي أيضًا أصيبتْ بالشلل بسبب النزاع القائم بين لانزا وسيللا، وكانت لانزا مثال البيمونتي الحقيقي الدائب على تأييد سياسة الحرب.

وقد انتقل بعد سنة ١٨٥٠ بلا ضوضاء إلى يمين الوسط وأصبح من المعجبين بكافور وتلاميذ كافور، ومع أنه كان كاثوليكيًّا مخلصًا في كاثوليكيته فهو لم يتردد في القول بمبدأ الكنيسة الحرة، أما سيللا فكان مثل لانزا من الأسر البورجوازية الفقيرة في بيمونته، وكان بصفته وزيرًا للمالية ذا بصيرة وخبرة وصلابة، وكان حين يضع القوانين يفكر في حاجات الخزينة أكثر من تأثير تلك القوانين الاجتماعية، وكان من حيث المذهب الاقتصادي ينتسب إلى جماعات الأحرار، وإذا كانت آراؤه المالية تضعه في مصاف رجال اليمين فإنه كان في القضايا الدينية ينحاز إلى اليسار، وكان يؤمن بالكنيسة الحرة.

وكان من الطبيعي أن يحدث الاصطدام بين رجلين مختلفي الطباع وقوى الإرادة، فسيللا يريد مثلًا أن يسد عجز الميزانية بفرض ضريبة على الحبوب، أما لانزا فكان يخشى أن ترمز هذه الضريبة إلى الاستبداد القديم، كما أنه كان حريصًا على ألا يتزايد الاستياء، وقد أوصى بسياسة تفاهم مع الكنيسة، وحاول أن يُقلِّل من تدخل الحكومة في شئونها إلى الحد الأدنى، وكان لامارمورا لا يعتقد كثيرًا بالكنيسة الحرة.

ولما شاهد لانزا أن أكثرية الوزارة ضده استقال في آب ١٨٦٥ وترك الوزارة في ساعةٍ حرجة، والواقع أن موقف الحكومة غدا صعبًا بعد استقالته. اعتزمت الوزارة حل المجلس النيابي ظنًّا منها بأن البلاد قد تنتخب أكثرية مستقرة، وكانت نتائج الانتخابات في جميع الأنحاء — ما عدا بيمونته — فشلًا للنواب السابقين أو كادت؛ إذ خرج منها حزب الكونسرتسريا ضعيفًا جدًّا، أما حزب اليسار الذي كان يتمسك بمنهجٍ ديمقراطي غير إكليركي فنال ما ناله المعارضون الأحرار الذين التفُّوا حول الحزب الدائم واستعدوا لتأليف حزب في مركز اليسار ويخضع لرتازي إلى حدٍّ ما، وهكذا أصبحت الأحزاب الثلاثة متوازنة بحيث أصبحت الوزارة عاجزةً عن أن تضمن لها أكثرية، وفشل ريكاسولي أيضًا بجهود لإدماج اليسار بأصلح رجال اليمين وساد الارتباك أكثر من قبل، وزاد نقل العاصمة في الارتباك بدلًا من أن يُساعد على إعادة النظام على أي صورةٍ كانت.

وكانت ميزانية سيللا الجديدة مبدأَ الخصومة؛ إذ كانت تفرض ضريبة على الحبوب والأبواب والنوافذ، فأثارت عاصفة من النقد حين لم يمر على البرلمان أكثر من شهر، وأخفقت الحكومة في مسألة ثانوية، وسبب هذا الإخفاق اقتراعٌ معارضٌ من قِبَل اليسار ومركز اليسار اللذين اتفقا ضدهما فاستقالت، ووافق لامارمورا على إعادة تأليفها آملًا أن يستطيع تنفيذ المشاريع التي تؤدي إلى الاستيلاء على فنيسيه أولًا ولأن الموقف كان في أشد الخطورة ثانيًا، ومع ذلك فكان لا بد للقضية الرومانية من أن تظهر في كل حادثة من حوادث السياسة الداخلية، ورغم أن الميثاق عالج قضية السلطة الزمنية إلى حين، ولكن لم يمس العلاقات بين الكنيسة والدولة إلا عرضًا، وكان وَقْعُهُ على الإكليريكيين كالصاعقة واعتبروه نذيرًا بتخلي فرنسة عنهم؛ إذا كان الميثاق جعل روما أحيانًا أكثر تساهلًا في أمورٍ فرعية فإنها كانت لا تزال تشتد صلابة حينما يجري البحثُ حول النقاط الخطيرة.

ومع أن أنتونللي كان لا يزال يتمتع بقوةٍ مَكَّنَتْه من إعادة «دي ميرودة» إلا أن إخلاصه كان موضع الريبة وكان نفوذه قد تضعضع، فأصبح البابا في قبضة رجالٍ كان تعصبهم أكثر خطرًا من أساليب أنتونللي المعوجَّة، وكانت سياستهم داخل الكنسية سياسةً مركزية، فبينما كان الأساقفة خاضعين كل الخضوع لروما؛ كان الإكليروس الوضع تابعًا للأساقفة، وكان الراهب الذي يتظاهر بالاستقلال في الرأي عرضةً لأن يُحرم من كثيرٍ من المزايا إن أمكن ذلك، فكاد يقضي على الرُّهبان الأحرار في إيطالية.

ومع ذلك ظل الذين وَقَّعُوا على مذكرة بساجلية يناضلون ولو ساعدتهم الحكومة أو الشعب لَنجحوا، ولما أَهملت وزارة منجيني سلاحها الماضي وتخلت عن حمايتها التي شملتهم بها، إلى ذلك التاريخ اضطر كثيرٌ من الرُّهبان الأحرار بعد أن يئسوا؛ إلى الإذعان، وراحت الكنيسة تزدري بالعودة إلى الرقي، بالرسالة العامة والسيلابوس؛ أي قائمة الأخطاء: «خلاصته الأحكام العامة» الملحقة بها التي أصدرتها البابوية في ٨ كانون الأول ١٨٦٤ تدل على أن الهوة السحيقة والبون الشاسع بين البابوية وبين الحكومة المتمدنة، وقد ذكرت قائمة الأخطاء: «بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن البابا يستطيع أو يجب عليه أن يتفاهم أو ينسجم مع ما يسمونه بالرقيِّ والحرية أو التمدن الحديث.»

والقائمةُ تهاجم الفكرَ والنقدَ الحديث من جهة وتكيل التُّهم للمصلحين الكاثوليك من جهةٍ أخرى، وقد نددت بمن ينكر على الكنيسة سلطتَها الزمنية أو بمن يطالب بحرية الفكر فيما يخص النظام الكنسي، وقد حملت على دُعاة التسامُح الديني وعلى المدارس المدنية والنكاح المدني والطلاق في البلاد الكاثوليكية، وهي تطالب بأن يكون للإكليروس بعضُ الإشراف على المدارس وعلى انتخاب المعلمين، وأن يُعاد تأسيس المحاكم الكنسية وأن تتخلى الحكومة عن حقها بتعيين الأساقفة.

وكان من الطبيعي أن يعتبر المنوِّرون وحَمَلَة الآراء الحرة في أوروبا قائمةَ الأخطاء هذه حكمًا قاسيًا فكان بدهيًّا أن تحتج الحكومات المتمدنة على هذه الأحكام التي تؤدي إلى تقويض أساس الحكومة، ولم تكظم الحكومة الإفرنسية غيظها واشتد هياج الرأي العام في البلاد حتى اضطر «دوبانلوب» أسقف أورلئان لتنفيذ النقاط الرجعية في القائمة.

أما في إيطالية فأثارت القائمةُ الشعورَ الكامن وألهبتْه، وبلغ من شدته أن أحبطت كل محاولة تقوم بها الحكومة للتفاهُم مع روما على أساس التسامح معها، فانقلب شعورُ الوطنيين الطليان فجأة إلى خصومةٍ شديدة مما ألهم غاريبالدي أن يصرح في جريدة دموقراطية: «بأن الهدف النهائي للثورة الإيطالية هو القضاءُ على الكنيسة.» وأخذ أهل مودينه يحيون ريتان واقترح نائبٌ في المجلس النيابي بأن يُجبر كل راهب على أن يؤدي يمين الولاء والإخلاص للحكومة.

وكان القانونُ المدني قد حسم قضية النكاح المدني العويصة؛ فجعل المراسم المدنية إجباريةً والطقوسَ الدينية اختيارية، واغتبط قسمٌ عظيمٌ من الناس بقرار المجلس النيابيِّ القاضي بفرض الخدمة العسكرية على طلاب المدارس الدينية، ولو أن وزارة منجيني شجعت الإكليروس الحر لأقامتْ في الكنيسة قوة تضطر روما إلى الإذعان.

واستمرت وزارة لامارمورا على السياسة المثيرة ذاتها بمهاجمتها المدارس الدينية ومساعدتها رؤساء البلديات على التدخُّل في الشئون الطقسية، وبممارستها السلطات القديمة التي تخول الحكومة فَرْضَ العقوبة على أعضاء رجال الإكليروس الذين يسيئون استعمال سلطتهم، وقد انقسمت الوزارةُ في الرأي إلى فريقين متباينين: فريق لم يوافق أبدًا على سياسة كافور الإكليريكية، وكان يرى أن منح الكنيسة حرياتٍ جديدةً هو سياسةٌ خطرة جدًّا، وكان يرغب في الوصول إلى حلٍّ لا يمس الأُسُس الجوهرية التي سبق أن نظمت الصلات بين الكنيسة والدولة، وأن يتجنب أسباب الاختلاف المهمة، لا سيما المتعلقة بالأسقفيات الشاغرة، على أن تمنح امتيازات جديدة للأساقفة.

أما الفريق الثاني الذي يتمسك بتقاليد كافور؛ فكان لا يرى هذه السياسة حلًّا للقضية، وكان يعلم بأنه أصبح متعذرًا الآن مطالبة روما بالتخلي عن السلطة الزمنية باختيارها، وانحصرت سياسته — في ذلك الوقت — في تمهيد الطريق بإزالة بعض الموانع القائمة بين الكنيسة والهيئة الاجتماعية الحديثة، وكان الفريقان متفقَين على إلغاء الأديرة وبيع أملاك الكنيسة، وكان القانون البيمونتي لسنة ١٨٥٥ قد أعفى نحو نصف المساكن الدينية في الإيالات القديمة، وكان تشريع سنة ١٨٦٠ وسنة ١٨٦١ قد شمل أومبريه والمارك ونابولي، بَيْدَ أنه أعفيتْ في هذه الإيالات أيضًا بعضُ المساكن.

أما في صقلية وفي إميلية ولمبارديه فلم ينفذ إلغاء الأديرة؛ فلذلك كان ما يزال في جميع البلاد نحو من ٢٤٠٠ مسكن يسكنها ٤٧٠٠٠ من المنتسبين للكنيسة منهم ١٣٠٠٠ شخص ينتمون لجمعيات المتسولين ويقدر دخلهم بسبعة عشر مليونًا من الليرات يُجبى نصفها من صقلية، ولم يك معقولًا — أو ممكنًا — الاحتفاظُ بأديرةٍ دائمة في قسم المملكة، بينما كانت الأديرة ملغاة في الأخير؟ وقد اقتضت بعض الأسباب الاقتصادية استغلالَ أراضي واسعة لا حق للتصرف بها.

وكانت واردات الأديرة والأسقفيات والجمعيات الكهنوتية نحو خمسين مليونًا من الليرات، فإنَّ استمرارَ الدولة والبلديات على دفع ملايين كثيرة لحاجات الكنيسة أمرٌ لا يطاق، يضاف إلى ذلك الشعورُ السائد بأن الأديرةَ تؤلِّفُ مراكزَ لمقاومة كل ما هو حديثٌ نافع، وأنها معسكراتٌ قائمةٌ يستند إليها البابا في كفاحه ضد إيطالية.

وبينما كان العلمانيون المتطرفون يريدون إلغاءَ جميع الأديرة من دون استثناء؛ كان هنالك شعورٌ قويٌّ بضرورة استبقاء الجمعيات التعليمية التي تهذب ١٠٠٠٠٠ صبي في بعض البيئات الكاثوليكية، وبينما كان جميعُ الأحرار متفقين على بَيْعِ الممتلكات الكنيسية؛ فإن اختلافًا عظيمًا احتدم بينهم حول مصير ثَمَن ما يُباع، وإذا كان الاتفاق قد تم على أن يقوم قسمٌ من تلك الواردات مقام الإعانات التي كانت تدفعها الدولة والناحيات، إلا أن الكلمة لم تتفق على مدى الحِصَص التي يجب تخفيضُها وأية حاجة تُقَدَّم على الأخرى أهي حاجة الخزينة أم هي حاجة الكنيسة؟

وبينما كان الفريق الكافوري — ولا سيما ريكاسولي العضو النافذ فيه — يريد إما إيداع الإكليروس المبلغَ للتصرف به كما يشاءون، أو وضعه تحت تصرف المجالس التمثيلية في الإيالات والناحيات التي تمثل الإكليروس والمدنيين معًا، من دون أن يكون للحكومة دخل فيها؛ كان الفريق الآخر يريد إيداعها إلى مؤسسة حكومية، وكانت وزارة منجيني قد أعدت لائحة قانونيةً في أوائل سنة ١٨٦٤ تُعالج فيها القضية إلى حدٍّ ما بموجب المبادئ التي أثرت عن كافور.

بيد أن وزارة لامارمورا بذلت سياستها بغتة ووضعتْ لائحةَ قانون تستند إلى مبادئ الفريق المتطرف، وتصرح — بجرأة — بأن حاجة البلاد المالية أو بالأحرى منفعة الخزينة تتقدم على جميع الاعتبارات، وهي تقترح الاستيلاء على معظم الواردات باسم الخزينة، وذلك بوضع جميع أملاك الكنيسة والأديرة تحت إشراف وزارة المذاهب، وبذلك يصبح الإكليروس هيئةً تتولى الدولةُ إعالتَها، فتردد الجميع باللائحة ما عدا الحزب اللاإكليريكي المتطرف، وكان طبيعيًّا أن يهاجمها الأحرارُ المعتدلون الذين كانوا يعتبرون أملاك الكنيسة خاصة بالكنيسة. أما الإصلاحيون الكنيسيون فلم يسعهم الموافقة على أن تدير مؤسسةٌ حكوميةٌ واردات الأبرشيات القروية.

أما أنصار الكنيسة الحرة من إصلاحيين أو غير إصلاحيين؛ فلم يسعهم قبولُ الاقتراحات التي مِن شأنها أن تُحدث معارضة شديدة في الأوساط الكنيسية جميعها، فأَعَدَّ الإصلاحيون الكنسيون لائحة أخرى تَضمن صيانة المساكن الخاصة بالتعليم والشئون الخيرية وتضع واردات الأملاك الكنيسية تحت تصرُّف مجلس الأساقفة المنتخَب من قبل جميع الكاثوليك البالغ أعمارهم أكثر من ثلاثين سنة.

وأصبح التوفيق بين اللائحتين المتباينتين عسيرًا ويظهر أن المجلس نفسه كان أشد من الوزارة شعورًا ضد الإكليروس، ولما يئست الحكومة من الوصول إلى تسوية؛ اعتزمت التفاهُمَ مع روما مبتدئة بتسوية المقاعد الأسقفية الشاغرة، وكان قد بلغ عدد تلك المقاعد الشاغرة ١٠٨ مقاعد من ٢٢٩ مقعدًا، وقد شغر بعضها بفصل أربابها والبعض الآخر بالموت أو الالتجاء إلى روما أو إلى الخارج.

وكانت جميعُ الأحزاب السياسية ترغب في تقليل عدد الأسقفيات وتخفيض وارداتها التي تبلغ ثلث واردات الأسقفيات في فرنسة وإسبانيا معًا، وما عدا ذلك فكانت هناك مشكلة البراءة Exquatein ويمين الإخلاص، وكان قانون بيمونته القديم كقوانين البلاد الأخرى؛ يُحتِّم على الأسقف ألا يباشر أعمال منصبه في المملكة إلا بعد حصوله على براءة ملكية، وكانت البابوية قد اعترفت بذلك رسميًّا في إيطالية الشمالية ولكنْ لم يتجاوز الاعترافُ إلى إيالات البابا القديمة وإلى نابولي، إذ إن ذلك معناه الاعترافُ بسيادة الملك عليها الأمر الذي لا تريد روما أن تُقرَّه، ثم إن روما كانت تعمل بشدة على فكرة إجبار كل أسقف جديد على أداء يمين الإخلاص والولاء لقوانين الدولة.

وكانت وزارة منجيني قد أهملت قضيةَ الأسقفيات الشاغرة، بَيْدَ أن لامارمورا راي ألا منتدح عن البحث فيها وتسويتها، ولما قَدَّمَ البابا في آذار سنة ١٨٦٥ بعض مقترحات لتسويتها انتهز لامارمورا هذه الفرصةَ للمفاوضة، وأوفد إليه مندوبًا زوده بالتعليمات التي تقضي بأنْ يعترف بأكثرية التعيينات التي أجراها البابا، وأن يوافق على عودة الأساقفة المنفيين ما عدا الذين كرههم الشعب؛ لأن عودتهم قد تُحدث اضطرابات، على أن يؤدي جميعُ الذين يُعَيَّنون حديثًا يمين الإخلاص، وأن يحصلوا على البراءة.

وهذان الأمران تكاد تُجْمع البلاد الكاثوليكية على الأحرار بضرورتها، وقد أظهرت روما — بادئ الأمر — ميلًا نحو التساهُل، وكان البابا يَتُوقُ إلى إشغال الأسقفيات الشاغرة، وقد جال في خاطره استدعاءُ حامية إيطالية حين ذهاب الإفرنسيين، بَيْدَ أن المنفيين في روما عارضوا كل حدث يؤدي إلى الاعتراف بالمملكة الجديدة، وكان لانزا يستطيع أن يجرد المعارضين هؤلاء من السلاح لو قبل اقتراحه بالكف عن المطالبة بيمين الإخلاص والبراءة معًا، بَيْدَ أن أكثرية الوزارة رفضتْ ذلك، وانتهى الأمرُ بأن قطع أنتونللي المفاوضات، ولما علم الناس بفشل المفاوضات تَنَفَّسوا الصعداء، وكانت الجماعات المتنفذة والمعتدلون والدموقراطيون ينفرون من كل ما يتعلق بمشروع أو مبدأ الكنيسة الحرة، حتى إن الرُّهبان الأحرار أنفسهم أقدموا على الانضمام إلى المحتجِّين فاشتد سخطُ البلاد على روما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤