هل؟! …

(١)

علا صوتي – مهددًا — في غضب. تلاحقت الوخزات في صدري، حادة قاسية، فأغمضت عيني.

(٢)

قال الطبيب: ربما الوفاة جنائية، ولا بد من تشريح الجثة!

همس سليمان ابن عمي، في أذن شقيقي الأكبر محروس.

– أعطِ الطبيب شيئًا، فيأمر بدفن الجثة دون تشريح.

قال محروس في أسف: ومن أين؟ … همي الآن أن أدبر تكاليف الجنازة!

(٣)

بدا سليمان ملمًّا بأحوال الموتى والجنازات والدفن. اشترط على الحانوتي أن يكون الكفن ستة أثواب من الحرير، ويرعى الله في الغسل، فلا يبقى من «السانلايت» حتى البروة، ولا يدس في حقيبته زجاجة ماء الورد، قبل أن تفرغ تمامًا، ويبسمل ويحوقل، ويتلو ما بوسعه من أدعية.

(٤)

سار في الجنازة أقارب وأصدقاء وجيران وزملاء عمل. ترددت الشهادتان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. جرت الصلاة على الجثمان في المسجد القريب من البيت. رافق النعش — في الطريق إلى القرافة — محروس وشقيقي الأوسط سلامة وسليمان ابن عمي. تعالى «صوات» امرأة عابرة لمجرد المشاركة. صرخت أمي في ألم: أيُّ تقاليد تحول بين أمٍّ ومرافقة ابنها إلى قبره؟!

(٥)

كان التربي قد انتهى — قبل وصول السيارة — من رفع «المجاديل»، وتهيئة القبر. غلبت الآلية على تلاوة القارئ، فنهره محروس: احترم التلاوة، فنحن ندفع لك!

(٦)

أصرت أمي أن تلمس الكفن بيدها، قبل أن يدخل القبر. احتضنته بأصابع متشنجة، فكادت تمزقه. تصورت — بإصرارها — أنها ستنزل. أحاط معي بكتفيها محروس وسلامة، حتى أعاد التربي «المجاديل» إلى موضعها، وأغلق القبر.

(٧)

بدت الظلمة كابية، فتلاشت الأصوات تمامًا، فيما عدا صوت جرذ، عاد — بعد إغلاق القبر — إلى مألوف حركته.

(٨)

تحركت أيد بالمجاديل، فغادرت موضعها. تسلل نور، وصوت التربي ينفذ إلى الداخل: تأكد أن أحدًا لن يمر، حتى أفرغ من نزع الكفن.

(٩)

قررت أن أمنعه. دبر محروس ثمن الكفن بالكاد، وأصر سليمان أن يكون ستة أثواب من الحرير، واحتضنت أمي الجثمان، قبل أن يتوسد التراب.

اقتربت الخطوات بطيئة حذرة. حاول أن يعالج الكفن بأصابعه لدقائق، ثم تعالى صوته الهامس: ناولني مطواة … أخشى أن يتمزق الكفن!

ومضى في اتجاه النور.

(١٠)

غاب التربي، وإن بدت أنفاسه قريبة. لو أني تحركت بصورة ما، فلن يجازف بالاقتراب. إصبعي أو عيني أو فمي، حركة خاطفة يلمحها، فلا يقوى على فعل شيء، يعدل عن محاولته، ويظل جسدي مستورًا.

فهل أحاول؟ هل أحاول؟

(القصة — يناير ١٩٨٦م.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤