الرائحة

(١)

لا يذكر بالتحديد، متى — للمرة الأولى — تسللت الرائحة الغريبة إلى أنفه؛ رائحة غامضة تبين حقيقتها، وإن أثارته. استفزته لدرجة الالتفات إلى مصدرها. ربما كانت البداية حين اضطر إلى التوقف — مرغمًا — حتى يمر الموكب الرسمي. ربما لم تكن كذلك، وإن بدت الرائحة واضحة أكثر من مرات سابقة لا يتذكرها.

سأل جاره — بعفوية — عن مصدر الرائحة. أنكر الجار وجود الرائحة أصلًا.

(٢)

لم تكن الرائحة — في ذاتها — مصدر التنبه. طبيعتها الغامضة، أشبه بتداخل الظلمة والأوراق النقدية ودورات المياه والحجرات المغلقة، تسري في الهواء، تتسلل إلى الأنف، تضفي على النفس شعورًا بالانقباض والتوتر والخوف من المجهول الذي لا يدري مبعثه.

تشمم — في البداية — نفسه. أطال الوقوف تحت «الدوش»؛ يزيل أي أثر للعرق من جسده. الجلسة المتصلة، يطالع ويقرأ ويسجل البيانات، في قاعة المطالعة بمكتبة البلدية، منذ تفتح أبوابها، حتى يعلن الموظف قرب موعد الإغلاق. ربما غلفت الجسد المتعب برائحة العرق، فبدت في أنفه غير مألوفة.

(٣)

سأل زوجته: ألا تشمين الرائحة؟

قالت: ليست جديدة … بائع الطعمية تحت البيت من قبل أن نسكن.

– لا أعني تلك الرائحة … إنها رائحة أخرى.

– تساءلت: هنا … داخل الشقة؟

في تأكيد: طبعًا.

– لكنني — كما تعلم — أحرص على تنظيف الأرض جيدًا بالديتول، وأرش في الأركان — بعد ذلك — عطرًا طيب الرائحة.

كأنه يحدث نفسه: هل هو ذلك العطر؟

– إني أستعمله منذ سنوات.

– فمن أين تأتي الرائحة إذن؟

– لا أشم أية رائحة!

(٤)

سألته زوجته، وهو يسحب الغطاء على صدره: هل تعانين من القلق؟

توقف إصبعها على زر النور: أنا؟

– أراك تسرفين في تدخين السجائر.

زوت ما بين حاجيها: ينبغي أن أدخن السجائر أولًا … لتصبح المشكلة بعد ذلك، هي الإسراف في تدخينها!

– كأنك لا تدخنين؟!

– طبعًا.

رفع ظهره إلى مسند السرير. همَّ أن يحدثها عن أعقاب السجائر التي بدت مألوفة لعينيه في «الطفاية»، حيرته الأحاديث الهامسة، والتي تجنب وضعها في إطار الشك. ربما الاهتمامات المشتركة التي تغيب عن عالمه، كرة القدم — مثلًا — أو مسلسلات التليفزيون … لكن النظرة التي يعرفها جيدًا، دفعته إلى التأمل فيما جرى ويجري، نظرة تلتمع في العينين لما تطرح العاطفة مقدماتها، يشعر باحتياجها إليه، ترافق النظرة تلك اللحظات لا تجاوزها، ترتبط بالدفء الآتي. تأكدت شكوكه بالنظرة التي التمعت، في غير أوانها، وكان مشغولًا عن حديثها الهامس بكتاب يقرؤه.

أعدَّ الكلمات وما ينبغي قوله. همَّ بالنزول من السرير ليناقش الأمر من بدايته … لكن الرائحة اللعينة فاجأته، أحاطت بوجهه وصدره، أفقدته الرغبة في التقاط الجزئيات، تسللت بالخدر في أعصابه، فبدت الأشياء سخيفة وبلا معنى.

أشار بيده، فأطفأت النور.

(٥)

لم تكن هذه الوقفة مما يدور في باله. مع أنه تعوَّد أن يكون في الجانب المقابل، البعيد، من مدخل البيت، فإن السنوات الثلاث التي أمضاها في الحي، لا بد أن تجعله معروفًا للكثيرين. ظلت نظراته ثابتة على المدخل ذي الضلفة المغلقة. لم يشغله مرور الوقت، حرارة الشمس اللاهبة، النظرات المتطلعة والمتسائلة والمتأملة.

أرجأ الوقفة التي يشغلها تبين الحقيقة. عاد إلى البيت لما اندفعت سيارة مرسيدس في حفرة طينية، فنثرت رذاذًا على ثيابه. أدهشه أن الرذاذ تصاعد إلى أنفه بتلك الرائحة اللعينة التي كأنها تطارده.

(٦)

جال بعينيه في لافتات الأطباء المتناثرة على عمارات محطات الرمل. لم يشد انتباهه الاسم، بقدر ما اطمأن إلى الصفة: أستاذ أنف وأذن وحنجرة. قال له أبوه يومًا: إذا دخلت قسم البوليس، فاسأل عن المأمور. إذا ترددت على مصلحة ما، فاتجه إلى المسئول. الصغار يبتزونك ولا يفيدونك شيئًا!

فاجأه خلو العيادة من المترددين. ظن أنه قدم في غير الموعد المحدد … لكن الممرض دعاه للدخول. أقبل عليه الطبيب مرحِّبًا كصديق قديم. بدا الوجه مألوفًا، كأنه يعرفه، أو التقى به من قبل.

تحدثا في السياسة والرياضة وبرودة الجو بما يخالف هذه الفترة من العام. فارق السن الواضح أتاح للطبيب أن يتحدث عن تجاربه السياسية المبكرة، والمظاهرات التي شارك فيها ضد السراي والاستعمار وزعماء الأقلية. الثورة لها إيجابياتها، لها سلبياتها كذلك: غلطتان كفيلتان بهز الأساس الذي شيدت الثورة فوقه كل ما بنته: زيادة أعداد الأميين، وغياب الديمقراطية!

قال: فماذا عن التصنيع والسد العالي وتوفير فرص العمل ومجانية التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية؟!

وهو يتراجع بأعلى صدره، ويرفع يدين مفتوحتين، كأنه يستسلم: لا أريد أن أبدو في موقف المعارض للثورة … إني محب يرجو لمحبوبه الكمال.

لمحه الطبيب وهو يختلس النظر إلى ساعة يده، قال في بساطة: الوقت سرقنا … مم تشكو؟

استعان بيديه في التعبير عن الرائحة التي نغصت عليه حياته … لا يدري كنهها ولا مصدرها. يهب من نومه — أحيانًا — على هزات عنيفة، توقظه بها زوجته، تحدثه عن الأنات المكتومة التي يصدرها في نومه. يتذكر أن ما سبق الاستيقاظ مباشرة، حلم ضبابي التفصيلات، وإن تغلف بتلك الرائحة الغامضة المثيرة، التي يشعر لقوتها — أحيانًا — كأنه يوشك على الإغماء.

سأله الطبيب: ماذا تشم الآن؟

قال: رائحة العيادة … أدوية ومطهرات.

– ألا تشم تلك الرائحة التي تتحدث عنها؟

– لا!

– فأين تصادفك بالتحديد؟

– في نافذة البيت … في الشارع … في المكتب … حاولت أن أصل إلى مصدرها، فلم أوفق!

أمال الطبيب رأسه. وضع قطرات في منخاريه، وانتظر قليلًا: ماذا تشم الآن؟

– رائحة هذه القطرة.

وتلك الرائحة؟

– لا أشمها!

هز الطبيب رأسه في حيرة. سحب من المكتب دفتر الروشتات … كتب — بالإنجليزية — جملًا غير واضحة — قال وهو يدفع إليه بالروشتة: انتظر لثلاثة أيام نتيجة هذه الأدوية … إذا عاودتك الرائحة تعال!

(٧)

غابت الرائحة عن الأماكن المعتادة. لم تعد زوجته توقظه بهزاتها التي تكررت في الأيام الأخيرة. تيقن أن الدواء قد فعل مفعوله. قرر أن تعود إلى حياته سيرتها الأولى. عابثَ زوجته — بلا سبب — لمجرد تعويض أيام التوتر التي عانت من رذاذها. أقبل على القراءة والكتابة — فدراسة التاريخ عمله — بصورة مجنونة. تصاعد المرح داخل النفس، ومع الآخرين، بما لم يعهده من قبل. أعاد تنظيم مكتبته، بحيث لا تدفعه الفوضى — كما فعل مرات عديدة — إلى شراء الكتب، بدلًا من البحث في الغابة المتشابكة الأغصان!

(٨)

لم يكن تسللًا من الرائحة ما حدث. بدا أشبه بالاقتحام. أثار الحساسية في أنفه وعينيه، حرك السعال المتواصل في حلقه. حاول أن يسترد أنفاسه. فلم يأبه بالنظرات المشفقة — والساخطة — للمزدحمين في المدرجات، يتابعون — باهتمام — نقاشًا ساخنًا في المراحل المتعاقبة للتاريخ الحديث.

(٩)

غادر القاعة، تلفه الرائحة اللعينة، تعمي عينيه، وتضايق صدره، وتسري بتثاقل في رجليه. قبل أن يجاوز الباب، تناهى إليه السؤال: هل كان أحمد عرابي درويشًا أم بطلًا؟

(الهلال — يناير ۱۹۸۳م.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤