تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام

… وكان الناس، كلما رأوا رجلًا صالحًا، ظنوه المهدي.

فرت حبات المسبحة بأئمة كثيرين، يختلفون في النهج والأسلوب والتصرفات، يتفق توالي العهود في توالي النكبات والمظالم والجور، يطل شعاع أمل فتطويه غلالات حالكة السواد. ما يبدو حلمًا طارئًا يصبح هو الواقع الذي لا نجاة من إساره. يسرف الناس في القسوة على أنفسهم، وعلى الآخرين، يلفهم دخان السكينة الهادئة، أو يقطر الدم، تتألف التنظيمات والجمعيات المعلنة — والسرية — تعانق الواقع، وتعيب على الماضي ما كان، أو ترفضه، وترنو إلى الماضي بنظرة ثابتة: لا تحيد.

خلف الحزن الهائل تساؤلات — بدأت همسًا — ومناقشات وروايات للحكاية منذ بدايتها: منذ أسلم الرسول العظيم خلافته إلى الإمام، وآل البيت من بعده.

علت الهمسات، فأصبحت يقينًا تملؤه الثقة. تألفت التنظيمات التي تؤكد عودة المهدي يومًا. إنه — بعدُ — أمل الخلاص للملايين من المؤمنين والغلابة والذين ضاعت حقوقهم؛ ذلك الذي اختفى منذ قرون، يعود إلى الأرض، فينشر في أرجائها الأمن والطمأنينة والسلام، يملؤها عدلًا وفروسية وبطولة. قال الرسول: «لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر أمتي رجل من ولد الحسين، يملأ الدنيا عدلًا كما ملئت ظلمًا.» النظرات مقيدة إلى المساجد والبيوت والشوارع والأزقة والحواري والنوافذ والمقاهي والكهوف، تنتظر المعجزة؛ تحطم إطار الزمن الراكد، وتخترق القرون المجدبة، وتملأ الحاضر اليائس أملًا وبطولة وجمالًا. لا بد أن يأتي المهدي يومًا، يهبط في السحاب، الرعد صوته، والبرق سوطه، والعدل مذهبه الذي لا ينحرف عنه. قائد جيش الملحمة آتٍ، قلبه ينبض بالإيمان، وسيفه مسلول على أعداء الله. لا بد — في آخر الزمان — من ظهوره، حلقة أخيرة في سلسلة آل البيت الأطهار، يؤيد الدين، ويظهر العدل، فيتبعه المسلمون، ويعيد الحق الإسلامي إلى نصابه، ويناصر المسيح حين ينزل من بعد الدجال الذي يخرج في عهده، فيقتله، ويأتم المهدي في صلاته. ألم يختفِ الرسول في شِعب جبل ثور ثلاث سنين، فلم يصل إليه أحد؟ ألم يختفِ في الغار؟ ألم تطل غيبة نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا، قبل أن يعود إلى قومه، فيبث دعوته؟ … لا بد من ظهور المهدي، فتحل البركة، ويفد الرخاء، ويظهر العدل، ويتأيد الدين. وثمة نظرات متعجلة، مشفقة، إلى جبال رضوى، بين مكة والمدينة، فيها محمد ابن الحنفية، حي لم يمت، وصي علي بن أبي طالب، وهو الإمام المنتظر. وثمة كهف في اليمن ما يزال عند بابه جماعة، يتطلعون ليل نهار — منذ قرون — إلى مدخله المعتم، ينتظرون المعجزة. وربما يظهر في منطقة «المقرن» عند التقاء النيلين الأبيض والأزرق مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. وبدو قرية الرجيب الجبلية في الأردن، أهملوا المعاناة وقسوة الحياة، بعيدًا عن الريف والحضر، وتركزت أبصارهم على مجموعة من الكهوف الصغيرة، القديمة. وثمة رواية أنه ها هنا يحيا إمام آخر الزمان، قبل أن يظهر للعالم الذي أفسدته المباذل والشرور؛ ليملأه رخاءً وعدلًا وقسطًا. وربما كانت العودة الظافرة في مغارة صفرو بالمغرب، أو مقبرة سيدي مسعود بن إدريس بالجزائر، أو مغارة جبل الغرة، أو مسجد ميداس، أو مسجد الوديان بتونس، أو مغارة المغاوري فوق جبل المقطم، أو مغارة جبل قاسيون المطل على دمشق، أو الكهوف الصخرية المتناثرة في جبل الرقيم بالصحراء الأردنية، والآلاف يقفون أمام باب السرداب الصغير في الحلة بالعراق، تنقضي اللحظات بطيئة، قلقة، متوترة، من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، والنداء يصدر من أعماق النفوس: أيها الإمام، لقد كثر الظلم، وعم الجور، وساءت الحال، فاخرج إلينا لتنقذنا مما نحن فيه. وثمة الواقفية الذين يثقون في أن الإمام داخل سرداب «الحلة» فلا يغادره إلا وقتًا معلومًا، يقفون كل ليلة — لا يدركهم سأم — بعد صلاة المغرب، على باب السرداب، معهم قارب أعدوه ليركبه، وينقضي الليل فلا يظهر، فيعودون إلى وقفتهم التي لا يدركها السام، بعد صلاة المغرب، في اليوم التالي. قلة قليلة، تنتظر قيامه في مقابر البقيع بمكة المكرمة، ينفض التراب عن جسده الطاهر، يبدو كأن مئات الأعوام التي توالت منذ مات ودفن، لم تؤثر في ملامحه ولا في وسامته، ولا شبابه الحي الدافق، يغادر المكان الذي يضم أجداث الآلاف من آل البيت والصحابة والتابعين، مقصده البيت الحرام، ينادي من فوقه: الله أكبر! … تجمع هؤلاء الذين كاد يهدهم اليأس من بزوغ الأمل. السفينة بلا ربان، الخراف تبحث عن راعيها، القلب الهامد ينتظر قبلة الحياة. قالوا: لأنه لا بد من توحيد مقاومة المظلومين، وقهر الظالمين، فإن الأنظار تظل تتطلع إلى البطل. وقالوا: البحث عن المنقذ يحتم ظهور الإمام المنتظر. وقالوا: المهدي لا تشغله الولاية، ولكن الناس هم الذين يحتاجون إلى الإمام!

•••

فكرة الإمام هي الشغل الشاغل، يعلو النقاش ويخفت ويتفق ويختلف ويتناقض، يبدأ برسائل الجامعات والمنشورات، وينتهي إلى الجمعيات السرية والمتطرفة. ظهرت في مدينة «العين» دعوة لشيخ مجهول الاسم، تنادي بأن تكون الإمامة بالاختيار المطلق عن كل قيد، أفضل أبناء الأمة هو الأجدر بتولي المسئولية، ورعاية شئون المسلمين. الصدِّيق والفاروق وعمر بن عبد العزيز والعشرات من غير آل البيت، أجادوا سياسة الدولة، وحققوا للأمة الإسلامية أمجادًا لم تكن تخطر في بال، فلماذا الإمامة تقتصر في آل البيت وحدهم؟ يؤمنون بالله، وبالجنة والنار والملائكة والكتب المنزلة والأنبياء، وإنفاق المال فيما يعني من الواجب والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله، والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل والسائل وفي الرقاب، والمحافظة على الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس. ناقشوا وجوب تناول الطعام باليمين، والشرب باليمين، وحمل العصا، وإطلاق اللحى، وتحريم اقتناء الصور الفوتوغرافية، والشرب والمرء واقف، واستفظاع الأكل على الطاولات، والجلوس على المقاعد، فالرسول لم يأكل على هذه، ولم يجلس على تلك … انضم المئات إلى جماعة سرية، توزعت مقارها في مدن شتى؛ لأن المسلمين في زمن الاستضعاف، فإنه لا يحق للمرء أن يجاهر بإسلامه، أو فرائض دينه. التقية أنسب وإلا تعرضت حياته لاضطهاد ربما لا تقوى على احتماله نفسه الضعيفة. أباحت جماعة وليدة لأعضائها عدم التردد على المساجد، أو السعي لأداء فريضة الحج، أو أداء صلاة الجمعة، أو العيدين، وأباحت زواج المشركات ومشاركة الكفار أعمالهم وشئون دنياهم، حتى تنطلق الصيحة — في يوم قريب — فتوقظ النائم، وتفزع اليقظان، ويسترد الإسلام مكانته وعزه. في صراحة، أعلنت دعوة أخرى تعددت أقطار دعاتها: ما يهمنا في الحاكم استقامته ونشر الدين، والعمل بالكتاب والسنة، فلا يهم — من بعدُ — أن يكون إمامًا أو سلطانًا، أو حتى حاكمًا عسكريًّا. كانت الشورى — في القديم — مُعلِمة لا مُلزمة، أما في زماننا الحالي، فإنه لم يعد من المتصور أن يستشير الإمام أهل الحل والعقد، ثم يهمل آراءهم. ما معنى الشورى إذا كان رأي الإمام هو الذي يمضي؟

– نحن نختاره ليكون خادمًا لنا.

– الإمام خادم؟!

– اخترناه ليكون أجيرًا يقوم على مصالحنا … ومن له الحق في إعطاء البيعة، له الحق في سحبها!

وعندما قال إمام الجامع الكبير بالجزائر: القرآن حمَّال أوجه.

رفع الشاب المصحف بيده، وقال: القرآن به حلول كافة مشكلات العصر!

قامت جماعة التبليغ، تجوب الأقطار، تطيل الإقامة في المساجد والخلوات، تدعو إلى الله. الأبدان خالية إلا من الصفاء والمودة والتسامح، فلا سلاح أو شبهة عنف، وللسياسة ناسها الذين يغيب عنهم فهم الدين؛ السياسة تورث القلوب قسوة تلهيها عن ذكر الله. ولهجة التوسل تُحدث تأثيرها في المحسنين الذين لا يبخلون على الدعوة بما تحتاجه من مال. أفراد الجماعة يصبرون على حكم الله، يأخذون بما أمر، ينتهون عما نهى عنه، يخلصون العمل والنصيحة للمسلمين، يجتنبون الكبائر والزنا وقول الزور والكبر، يتشاغلون بقراءة القرآن، يبذلون المعروف، يكفون الأذى، يتركون الغيبة والنميمة والسعاية. ظهرت دعوة جديدة — لها دعاتها في كافة الأمصار — وإن لم تفصح عن قائدها ولا مصدرها الرئيسي. الهجرة هي الشعار الذي أعلنته الجماعة، الخروج من دار الحرب إلى دار السلام، من دار الخوف إلى دار الأمان، من دار الكفر إلى دار الإيمان، تشدد على أعضائها فهم لا يصلون مع الناس، لا يلقون السلام ولا يردون السلام، وكيف يصلون في أرض غلب عليها الحرام، ويسلمون على الذين يسبون الصحابة والتابعين، الجزء المريض يفصل عن بقية الجسد، فيستريح، والغالب في جسد الأمة يعاني من السقم والأورام والتشدد الذي تجعل منه الدعوة الجديدة مدخلًا لتعاليمها. ربما هو السبيل إلى حياة طيبة قادمة؛ فالتعليم في مدارس الدولة حرام لأنها غير دينية، والعمل في الحكومة جريمة لأن الحكومة تتعامل بالربا، والانخراط في الجيش جريمة كذلك، لأنه يدافع عن دولة كافرة. يرفضون الكهرباء، ويوقدون المصابيح، وينامون على الأرض بدلًا من الأسرَّة. حتى أئمة المساجد — هؤلاء الذين يدافعون عن الأنظمة الفاسدة، ويدعون لأئمتها — لا يجوز الصلاة خلفهم. الصلاة في المساجد — عمومًا — حرام؛ لأن الكفار وحدهم هم الذين يترددون عليها. مما يدخل في إطار البدع: تحية العلم، السلام الوطني، زيارة قبر الجندي المجهول، برامج التليفزيون، تعليم البنات، الاختلاط، اشتغال المرأة في الوظائف وإدارة الأعمال. الحل في الهجرة إلى مكان يبعد عن السلطة المباشرة للحكومة، فتقام الحدود والواجبات حسبما أمر الله. الهدف المؤقت جمع الأنصار وإعداد المئونة. الهدف القريب هو الرحيل والهجرة الجماعية، تبشيرًا بميلاد المجتمع الذي يعبد الله وحده.

•••

هل يسقط من الحساب هذا الزمان، ما بين وفاة الرسول وظهور الإمام؟ يتواصل الزمان بما كان أيام النبي، وتمسي التعاليم امتدادًا لتعاليم الرسول العظيم؟ … تضيء المعجزات التي غابت بوفاة آخر الأنبياء والمرسلين؛ يعود الموتى — مرة ثانية — إلى هذه الدنيا؟ يولد الصبي، فيكلم الناس في المهد؟ ينزل الطعام على الجوعى مباشرة من السماء؟ يشفي — دون علاج — الأعمى والأبرص والمشلول؟ يردد الطير والحيوان آيات الحمد والتسبيح؟ يلين الحديد في اليد المؤمنة كما يلين الشمع، يحادث الطير البشر، ويحادث البشر الطير، فلا يخفى حتى ما يريده النمل، تخضع الجان للإرادة الإنسانية، لخير الإنسان ورخائه، تظهر الدابة: طولها ستون ذراعًا، لها وجه إنسان، وجسد ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تحمل عصا موسى وخاتم سليمان، وتكلم الناس لما يأتي أمر الله كمقدمة من مقدمات الساعة؟ … ويتفجر ضياء الإمام في أيامه الباهرة، يخرج الدجال، ينزل — من بعده — المسيح، فيغيب الدجال في معلوم آجله، ويضع المسيح الجزية، ويقتل الخنزير، ويجدد ما درس من شريعة الإسلام، ويتبعها، وتكون السجدة واحدة لرب العالمين، ويعم ضياء إمام آخر الزمان … لا يشغل إنسان نفسه بالعمل، مع العدل تحل البركة، ويأتي الرخاء فإذا تمنى أحد شيئًا ناله دون أن يسعى إليه، أو يعلن عن أمنيته. تختفي الأمراض، ويصبح الموت أسطورة. كل من أدركته الشيخوخة يغطس في أقرب نهر، فيعود شابًّا. يأمر الإمام، فتأتي — من أماكن مجهولة — سفن ضخمة، تحمل طعامًا وثيابًا، وما لا يخطر على ذهن بشر. تتحقق على الأرض جنة المحرومين: تُرفع الشحناء والتباغض، ويتآلف البشر والحيوان والجماد، ويدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتداعب الوليدة الأسد فلا يؤذيها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتفرض الكلمة الواحدة نفسها فلا يُعبد إلا الله، والسلام هو اللحظة والاستمرار، والحرب أسطورة. لا تقتصر الحياة الآمنة على الإنسان وحده، يشاركه في ذلك الحيوان في الغابة: الأسد يصادق الثور، الفهد يسالم الجدي، القط يؤاخي الفأر، يصبح الجميع متحابين، حتى الموج يهدأ عن عراك الصخر.

•••

يا أيها المهتدي من الله سبحانه، الهادي إلى السلام والعدل والمساواة … متى تظهر؟ … يقترب يوم الإيمان، يدخل «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يلبسون ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وثيابًا من حرير، يحلون بأساور من الذهب والفضة، لا يسمعون لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا، يتكئون على الأرائك، لا يرون شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا، وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا، لهم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، دون شقاء وتعب. تمضي الأيام في نعيم دائم يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ وثمة قاصرات الطرف، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ  جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

•••

توضحت — فيما بعد — نبرات الأصوات الهامسة. أبانت عما تريد وما لا تريد، ناقشت وأبدت الرأي وقبلت ورفضت ووضعت الصورة في إطارها المحدد: حتى يعود — أجلَّه الله — من غيبته، فإن الحياة يجب أن تمضي في سيرها المعلوم: الأشجار تهبُ الثمار، الناس يتناكحون ويتناسلون ويذهبون إلى المصالح، يشيدون ويبدعون ويعملون للحاضر، وللآتي أيضًا. إذا تحدد الجهد في انتظاره — أفاده الله — فمن يبني ويزرع ويجمع الجيوش ويحمي الثغور ويذود عن الحياض ويصرف الأموال العامة في مصارفها؟ علينا، حتى يئوب — أيده الله — أن نعمل ونعمل: تتحول أكواخ الطين والصفيح وأسطح البوص، إلى بيوت من الطوب، تحل الباحات الواسعة النظيفة، محل الزرائب، يعرف الجميع الثلاجة والتلفزيون والتليفون والفيديو، يكون للماشية مكانها المستقل، فلا تشارك الفلاح نومه، يجني الفلاح — والصياد — ثمار كدِّه، تختفي المصادرات والحراسات وزوار الليل، تختفي كذلك اللامبالاة والسمسرة والأتعاب والعمولات، يغيب التجسس على الحريات الشخصية، يبين الفردوس عن بعض ملامحه في الدنيا، فلا يصبح وعدًا غير مرئي في الآخرة. ما دامت المرأة لم تعد حبيسة بيتها، وخرجت إلى المدرسة والجامعة والسوق والملاهي والعمل، فإن عليها أن تخرج إلى المسجد، تقف في مؤخرة الصفوف — كما اشترط الإسلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله.» المرأة — الآن — تتعلم وتتثقف وتعمل وتخالط الرجال، وتعلم الكثير الكثير من شئون الدنيا؛ من حق المرأة أن يكون لها أمر زواجها.

قالوا: ما نريده ليس الأيدي المقطوعة والظهور الملتهبة بالسياط والرجم حتى الموت، وإنما القضاء على المشكلات من قبل أن تعطي ردود أفعالها، تنتفي التبعية وتعرف الحرية طريقها إلى المواطن العادي، ووسائل الإعلام والانتخابات، توضع الضوابط على الاستهلاك وفوضى التوزيع، يصدق المتحدث — أيًّا كان — فيما يقول، نتبادل التحيات والابتسامات والكلمات الطيبة، تعود من فضلك وإني آسف، نحب الورود والفجر والأصيل والغروب، نزرع النخلة فتحصل على الثمار أجيال تالية، يجيد المنكبُّ على صناعة بين يديه، تجري المحافظة على الآداب العامة وصيانة الحرمات ومراعاة أحكام الشريعة، نطارد الجناة ونحارب المنكرات من العقود التي يحرمها الإسلام، يتأكد منع الغش وإجبار محتكري الطعام على بيعها بالأسعار المعقولة، وفحص الموازين — بطريقة دورية — لضمان استيفاء الوزن ومراقبة الصناعات وشئون الدواوين والمدارس، نحلم بالغد والمستحيل.

قالوا: دولة الإسلام هي المطمح، فلماذا الهجرة، والعودة — مرة ثانية — فاتحين؟ لماذا لا نوفر الجهد، فتقوم دولة الإسلام في بلد الدعوة، ليخرج منها المسلمون — بعدها — فاتحين؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤