حدث استثنائي في أيام الأنفوشي

بعد أن استقرت السمانة فوق الصاري المرتفع، الخالي من العلم، في الجانب الأيمن من سراي رأس التين … ألقت نظرة متأملة على مباني السراي من حولها والحديقة الواسعة يحيط بها سور مرتفع كحدوة حصان، والمباني المقابلة للشاطئ، تآكلت واجهاتها بملح البحر، والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال، والشاطئ — وطريق الكورنيش — في تلك الأيام الخريفية التي تخلو من الحركة.

تقافزت السمانة فوق الصاري، وتهيأت لمواصلة الرحلة. لكنها — في قرار مفاجئ — غيرت طريقها، وعادت إلى شواطئ أوروبا.

•••

في اليوم التالي، قدمت — في الطريق نفسه — ملايين الأسراب من السمان، غطت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت، تهادت — من الأبواب والنوافذ — إلى داخل الشقق والدكاكين. حتى الكبائن القليلة المغلقة، في امتداد الشاطئ، استطاعت — بوسيلة ما — أن تنفذ بداخلها.

بدا للناس — من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كل الأمكنة — عجزهم عن المقاومة. مالوا — مؤقتًا — إلى التريث؛ فرحلة السمان لا تعرف التوقف.

•••

هل يعدُّ السمان نفسه لإقامة طويلة؟ … لم يحاول أن يضايق الناس، ولا أن يسطو على ما يمتلكون أو يدس منقاره في شئونهم الشخصية. أهمل حياتهم، فهم يحيونها بمثل ما اعتادوا: النوم والصحو والعمل والنقاش والفصال والأخذ والرد واجترار الذكريات. أحسنت مجموعاته الانتشار، فهيأت لنفسها الرزق. اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها. أفرزت — من بين أسرابها — كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. حتى الصغار، أقامت لهم مدارس ودور حضانة في حنيات السلالم والأدوار الأرضية. أغنت الناس عما ألفوه — في الزمن الخالي — من الجري وراء أسراب السمان، حتى يهوي مجهدًا في أيديهم، فتنازلت — بطيب خاطر — لموائد الطعام عن مرضاها والمصابين في حوادث.

•••

لم يعد في الأمر ما يريب. استفاد الناس من حياة السمان بصورة مؤكدة: النظام والهدوء وحب العمل — والكسب — والميل إلى عدم السهر. لكن شيئًا ما مقلقًا، تحرك في النفوس، وتصاعد بالهمس، أثاره الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرفون بمثل ما اعتادوا، وتنبهوا — وإن كان متأخرًا — إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمقاسمة في المكان مهما كان شخصيًّا. خلت التصرفات من العفوية التي كانت سمة أيامهم السابقة. بدا لهم استمرار الوضع — بصورته الحالية — غاية في الصعوبة. تهامسوا، وعقدوا الجلسات السرية، وتبين لهم — بعد نقاش طويل — أن السكوت عن المقاومة — رغم كل شيء — طريق إلى الجنون.

(إبداع — فبراير ١٩٨٦م.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤