الفصل الأول

شهوة الحب الجامحة

الوقوع في الحب
«العالَمُ، بالنسبة لي،
العالَمُ كلُّه، بوسعه أن يتوقَّف
أن يُطوَّقَ بذراعَيكِ، بالنسبة لي يرقد العالَمُ هناك،
بأضواء عينَيكِ وظلالهما،
ذاك هو الجمالُ الذي أبدًا
لا يشيخ.»
جيمس ويلدون جونسون
«الجمالُ الذي أبدًا لا يشيخ.»
«النيرانُ تتأجَّجُ في أنحاء جسدي – آلامُ حبِّي لك. الوجعُ يَسْري في جسدي مع لهيب غرامي بك. السقمُ يجولُ في جسدي مع حبِّي لك. الألمُ مثل غليان على وشك الانفجار مع حبِّي لك. يُستهلَك بنيران حبِّي لك. أتذكَّرُ ما قلتِه لي. أُفكِّر في حبِّك لي. أتمزَّق بحبِّك لي. الوجعُ، والمزيدُ من الوجع. إلى أين تذهبين مع حبِّي؟ أخبروني أنكِ ستمضين من هنا. أخبروني أنك ستتركينني ها هنا. جسدي يغمرُه خَدَرُ الأسى. تذكَّري ما قلتُه، يا حبيبتي. الوداعُ يا حبيبتي، الوداعُ.»١ هكذا تكلَّم الشاعر الهندي غير المعروف من جنوب آلاسكا في تلك القصيدة المحتدمة المشاعر، المسجَّلة باللسان المحلي لأهل البلدة عام ١٨٩٦م.

كم من الرجال والنساء أحبُّوا بعضهم البعض في كل الحِقَب والعصور التي سبقَتك وسبقَتني؟ كم من أحلامهم قد تحقَّقَت؛ وما قدرُ ما أُهدِر من عواطفهم وهواهم؟ عادةً وأنا أمشي أو أجلس لأتأمل، أتساءل عن كلِّ علاقات الحب الممزقة للقلوب تلك التي امتصَّها هذا الكوكب. ولحسن الحظ، ترك لنا الرجال والنساء حول العالم كمًّا هائلًا من الأدلة التي تُشير إلى حيواتهم العاطفية.

من أوروك، في سومر القديمة، تأتي القصائد باللغة المسمارية على الألواح الآشورية تلك التي تُمجِّد غرام إنانا، الملكة السومرية، ﺑ دوموزي، راعي الغنم. «حبيبي، يا بهجة عينيَّ.» هتفت إنانا إلى محبوبها قبل أربعة آلاف سنة.٢
المخطوطات السنسكريتية والنصوص الهندية الأخرى، المؤرخات الأقدم بين عامَي ١٠٠٠، ٧٠٠ سنة ق.م.، تحكي عن «شيفا»، رب الكون الأسطوري الذي افتُتِن ولعًا ﺑ «ساتي»، الفتاة الهندية الصغيرة. كتَب الربُّ إلهامَه أنه «رأي نفسَه مع ساتي فوق قمة الجبل مجدوليْن معًا بالغرام.»٣
بالنسبة للبعض، لا تأتي السعادةُ أبدًا. هكذا كان «قيس»، ابن شيخ القبيلة في الجزيرة العربية القديمة. الأسطورة العربية، التي يعود تاريخها للقرن السابع عشر الميلادي، تحكي الحكايةُ عنه، فتقول إنه كان الفتى الوسيم الذكي – حتى التقى «ليلى»، تلك التي من معانيها: الليلةُ الطويلة حالكةُ السواد، نظرًا لشَعر ليلى الداهم الاسوداد.٤ ثَمِلًا للغاية، كان قيس في إحدى الليالي حتى إنه انتفض من مقعده، وهام على وجهه في الطرقات يصرخ باسم معشوقته. ومن يومها، اكتسب لقب: «المجنون». وسرعان ما استمر قيس في الهُيام مع رمال الصحراء، يعيش مع الحيوانات في الكهوف، ينشد قصائده لمحبوبته، بينما ليلى خبيئةٌ في خيمة أبيها، تتسلَّل في الليل لتقذفَ قصاصات الغرام للرياح. وراح السابلةُ المتعاطفون ينقلون تلك التضرُّعاتِ إلى فتى الشِّعر، أشعث الشَّعر، ذاك الذي لا تكاد تغطِّي الأسمالُ جسدَه. غرامُهما المُتبادَل أدَّى في الأخير إلى معركة بين قبيلتَيهما – ثم موت العاشقَين الخالدَين. ولم تبقَ إلا تلك الأسطورة الأبدية.
«ميلان» أيضًا، عاشَت بالاحتضار. في القرن الثاني عشر. تحكي الخرافةُ الصينية «ربَّة اليشم»، عن الصبيَّة المدلَّلة «ميلان»، ذات الخمسة عشر عامًا، ابنة الضابط الكبير «في كيفينج» وكيف وقعَت في الحب مع «تشانج بو»، الشاب المفعم بالحيوية ذي الأصابع النحيلة والموهبة الخاصة في نحت أحجار اليشم الكريمة. «منذ خُلقَت السماءُ والأرض، خُلقْتِ أنتِ لي، وأنا خُلقتُ لكِ، وأبدًا لن أترككِ تمضين.» هكذا صرَّح تشانج لميلان ذات صباح في حديقة بيتها.٥ كان هذان العاشقان من طبقتَين مختلفتَين في مجتمع مثل الصين ذات النظام الطبقي الصارم. ولمَّا غمرهما اليأس، هربَا معًا – ثم ما لبثَا أن اختفيَا. فرَّ العاشقُ، وهي دُفِنَت حيةً في حديقة أبيها. لكن حكاية ميلان تظلُّ تتردد في أرواح كثير من الصينيِّين.

روميو وجولييت، باريس وهيلين، أورفيوس ويوريديس، آبيلارد وإليوز، ترويلاش وكريسيدا، تريستان وإيسلوت: آلاف قصائد العشق، والأغنيات، والحكايات عبرتِ القرون في أوروبا القديمة مثلما عبرَتها في الشرق الأوسط، واليابان، والصين، والهند، وكل المجتمعات التي تركت لنا مخطوطاتٍ مكتوبة.

حتى حينما لا يكون لدى الشعوب وثائق مكتوبة، فإن لديهم الدليل على وجود ذلك العشق بطريقة ما. في الحقيقة، وعند مسح ١٦٦ ثقافة متنوعة، وجد الأنثروبولوجيون دلائل على الحب الرومانتيكي في ١٤٧ ثقافة منها، أي حوالي ٩٠٪ منها.٦ في اﻟ ١٩ مجتمعًا المتبقية، أخفق العلماء ببساطة في فحص هذا التوجُّه لحياة تلك الشعوب. ولكن من سيبريا إلى التخوم البرية النائية في أستراليا إلى الأمازون، تغنَّتِ الشعوبُ بأغنيات الحب، وأُلِّفت قصائد العشق، وحُبكتِ الأساطيرُ والخرافات حول الغرام الرومانسي. الكثير منها يصنع تعاويذ الحب السحرية، وتقدم التوابل والبهارات التي تُؤَجج مشاعر الغرام الجياشة. كثيرون يفرون مع عشَّاقهم، وكثيرون يصارعون بعمق ألمَ الحب غير المتحقق. البعض يقتلون عشاقهم. والبعض يقتلون أنفسهم. كثيرون يغرقون في الكآبة والحَزَن العميق حتى لا يكادوا يأكلون أو ينامون.

خلال قراءة القصائد، والأغاني، وقصص الشعوب حول العالم، وصلتُ للإيمان بأن طاقة الحب الرومانسي مضفورةٌ في نسيج المخ البشري. وأن الحبَّ الرومانسي تجربةٌ بشرية كونية.

ما تلك الكيمياء؟ ما ذلك الشعور غير القابل للسيطرة عليه؟ ذاك الذي يختطف العقل، ثم يجلب السعادة القصوى في لحظة، وفي اللحظة التالية يجلب اليأس والحَزَن؟٧

(١) دراسة الحب

«آهٍ، أخبروني الحقيقةَ عن الحب.» هتف الشاعر و. ﻫ. أودين. لكي نفهمَ ما الذي تُورثه تلك التجربة الإنسانية العميقة بالفعل، قمتُ بفحص الأدب السيكولوجي في الحب الرومانسي، بعد إقصاء تلك السمات أو الإشارات أو الحالات التي ذُكرت على نحوٍ متكرر. ولا عجبَ، كانت ذلك الشعور القوي تركيبًا معقدًا ومتشابكًا من سمات كثيرة بعينها.٨

بعد ذلك، لكي أُرضيَ نفسي بأن تلك الخصائص للولهِ الرومانسي إنما هي كونية، توسَّلتُها بوصفها ركائز للاستطلاع الذي صممتُه حول الحب الرومانسي. وبمساعدة ميشيل كريستياني، ثم طالب بالدراسات العليا بجامعة روتجريس، وكذلك د. ماركيو هاساجوا ود. توشيكازو هاساجوا بجامعة طوكيو، قمتُ بتوزيع هذا المسح بين الرجال والنساء في جامعة روتجريس في نيوجيرسي وفي جامعة طوكيو وحولهما.

بدأ التصويتُ على النحو التالي: «هذا الاستطلاع هو حول «الوقوع في الحب»، الشعور بأن تكون مُتيَّمًا، أن تكون عاشقًا، أو أن تكون منجذبًا رومانسيًّا للغاية نحو شخص ما.»

«إن لم تكن حاليًّا «واقعًا في الحب» مع شخص ما، بل وقعت في غرام شخص ما في الماضي، فرجاءً أجب عن الأسئلة حول الشخص الذي في المُخيِّلة.» ثم سُئل المشاركون أسئلةً ديموغرافيةً، مع تغطية الشرائح العُمرية المختلفة، والخلفيات الاقتصادية، والعقائدية، والعِرقية، والميول الجنسية، والحالة الاجتماعية. وأيضًا طرحتُ عليهم أسئلةً حول علاقاتهم العاطفية. كان من بين الأسئلة: «ما المدة التي استغرقتها واقعًا في الحب؟» «ما النسبة المئوية من اليوم كان هذا الشخص يشغل أفكارك؟» و«هل تشعر أحيانًا أن مشاعرك خارج حدود سيطرتك؟»

ثم اكتمل جسدُ الاستطلاع (راجع الملاحق). يحتوي على خمس وأربعين عبارة، مثل: «يكون لديَّ طاقةٌ أكبر حينما أكون مع …» «قلبي يسابقني حينما أسمع صوتًا … في الهاتف.» و«حينما أكون في الفصل، العمل يسرح عقلي مع …» «قمتُ بصوغ تلك الأسئلة لكي تعكسَ الخصائص التي تتقاطع أكثر مع الحب الرومانسي.» كان مطلوبًا من الموضوعات أن تحدِّد إلى أيِّ مدى تتفق مع كل تساؤل على مقياس سبع نقاط تتدرج من: «عدم الموافقة القصوى» وحتى: «الموافقة القصوى». غطَّت الاستطلاع مجموعة من ٤٣٧ أمريكيًّا، و٤٠٢ ياباني. ثم قام خبراء الإحصاء «ماك جريجور سوزوكي وطوني أوليفا» بترتيب كلِّ تلك البيانات ليقدِّما لنا تحليلًا إحصائيًّا.

كانت النتائج مدهشةً. العُمر، والنوع، والميول الجنسية، والانتماء الديني، والانتماء العِرقي: ليس من بين تلك التباينات الإنسانية ما صنع اختلافًا كثيرًا في الاستجابة أو النتائج.

على سبيل المثال، الناس من الجماعات العمرية المختلفة أجابوا بغير اختلافات إحصائية واضحة على ٨٢٪ من الأسئلة. الناس فوق سنِّ الخامسة والأربعين سجَّلوا أنهم عاطفيون مع أحبَّائهم مثل أولئك الذين كانت أعمارهم تحت الخامسة والعشرين. الطبيعيون والمثليون جنسيًّا أعطوا استجاباتٍ مماثلة في ٨٦٪ من الأسئلة. في ٨٧٪ من الأسئلة، أجاب الرجال والنساء الأمريكان على نحوٍ متماثل لدرجة كبيرة: كانت هناك اختلافات طفيفة في النوع. الأمريكان «البيض» و«الآخرون» أجابوا على نحوٍ متشابه على ٨٢٪ من الأسئلة: ولم يلعب العِرق تقريبًا أيَّ دور في التأجج العاطفي. ولم يختلف الكاثوليك والبروتوستانت كثيرًا في ٨٩٪ من الإجابات: الانتماء الكَنَسي لم يكن عاملًا ذا بال. وبينما أظهرَت تلك الجماعات اختلافاتٍ في «التميُّز الإحصائي» بالنسبة لاستجاباتهم، كانت عادة واحدة من تلك الجماعات ذات استجابة أكثر قليلًا من الأخرى.

الاختلافات العظمى كانت بين الأمريكان واليابانيِّين. في معظم الأسئلة الثلاثة والأربعين التي أظهرَت التباينات الواضحة إحصائيًّا، عبَّرَت جنسية بعينها عن العشق الرومانتيكي على نحوٍ أعظم من الجنسيات الأخرى إلى حدٍّ ما. بينما الاثنا عشر سؤالًا التي تُظهر الاختلافاتِ الدراماتيكية، بدَت جميعها كأنما تُقدِّم أكثر، تفسيرات ثقافية واضحة. على سبيل المثال، فقط ٢٤٪ من الأمريكان وافقوا على عبارة: «حينما أتكلم مع … عادةً ما أخشى أن أقولَ الكلمة الخطأ.» بينما وافقت النسبة الضخمة ٦٥٪ من اليابانيِّين على هذا الاعتراف. أظن أن ذلك التباين الخاص حادثٌ؛ لأن اليابانيِّين الشباب عادةً ما يكون لديهم علاقات أقل، وأكثر رسميةً مع الجنس الآخر، مقارنةً بما لدى الأمريكان. وهكذا، وباعتبار أن كلَّ الأمور مأخوذة في الاعتبار، فإن داخل هذين المجتمعَين الشديدَي الاختلاف، كان الرجال والنساء متشابهين في مشاعرهم فيما يخص الحب الرومانسي.

الحب الرومانسي. الحب الاستحواذي. الحب الملتهب. الافتتان. سَمِّهِ ما شئت، الرجال والنساء من كلِّ عصر وفي كل ثقافة كانوا «مسحورين، مسلوبي العقل، فاقدي الصبر، «مضطربين» بتلك الطاقة التي لا تُقاوَم. أن تقع في الحب هو أمرٌ كونيٌّ بالنسبة للبشرية؛ إنه جزءٌ من الطبيعة البشرية.»٩

وأكثر من ذلك، فإن هذا السحر يزور كلًّا منَّا على النحو نفسه وبالطريقة نفسها.

(٢) «المعنى الخاص»

واحدٌ من أول الأشياء التي تحدث حينما تقع في الحب هو أن تُجرِّبَ تبدُّلًا عاطفيًّا دراماتيكيًّا في الوعي: «موضوع غرامك» يحتلُّ ما يُسمِّيه علماءُ النفس «المعنى الخاص». يُصبح محبوبُك غيرَ مألوف، متفرِّدًا منقطعَ النظير، وكُليَّ الأهمية. بوصفِه رجلًا مُبتلًى بالمشاعر، كتب: «كل عالمي كان قد تبدَّل. أصبح له مركزٌ وحيد جديد، هذا المركز هو مارلين.»١٠ روميو، شكسبير عبَّر عن هذا الإحساس على نحوٍ أوجز، قائلًا عن معبودته: «جوليت هي الشمس.»

قبل أن تنموَ العلاقة لتتحول إلى عشق رومانسي، ربما تجد نفسَك منجذبًا إلى أشخاص مختلفين، تُركِّز اهتمامك على أحدهم، ثم أحدٍ غيره. ولكن في الأخير تبدأ في تركيزِ وَلَعِك وغرامِك على شخص واحد فقط. إميلي ديكنسون أسمَت هذا العالَمَ الخاصَّ ﺑ «ملكوتك الخاص».

ترتبط هذه الظاهرة بعدم مقدرة الإنسان على الشعور بالعشق الرومانسي مع أكثر من شخص واحد في فترة واحدة. خلال استقصاءاتي، قال ٧٩٪ من الرجال و٨٧٪ من النساء إنهم/إنهن لا يمكنَّ أن يخرجوا لموعد غرامي حينما يكون المحبوب/ﺔ غير متاح.

(٣) الاهتمام المُركَّز

الشخص المأسور بالحب يُركِّز تقريبًا كلَّ اهتمامه على المحبوب، حتى ولو أوقع الضرر بكل شيء وكل شخص حوله، بما في ذلك العمل، الأسرة، والأصدقاء. أورتيجا واي جاسيت، الفيلسوف الإسباني، أسمَى هذه الحال: «الحالة الفائقة من اليقظة والتركيز، تلك التي تحدث في الإنسان العادي». هذا التركيز الموجَّه لبؤرة بعينها هو إحدى سمات الحب الرومانتيكي.

الرجال والنساء المفتتنون أيضًا يركزون على الأحداث كافة، والأغنيات، والخطابات، وكل الأشياء الصغيرة الأخرى التي تشاركوا فيها مع أحبَّتِهم. اللحظة التي توقَّف فيها في الحديقة ليُريَها بُرعمَ الربيع؛ المساء الذي قذفَت فيه إليه بحبَّات الليمون وهو يُعِدُّ العصائر: «إلى حبيبي مالك مشاعري»، كل تلك اللحظات العفوية العارضة تتنفس. ٧٣٪ من الرجال و٨٥٪ من النساء يتذكَّرون تلك الأمور الصغيرة التي فعلها عشَّاقُهم أو قالوها. و٨٣٪ من الرجال و٩٠٪ من النساء يستدعون تلك الحكايات الثمينة في عيون أذهانهم وهم يتذكرون أعزَّتَهم.

بلايين من العشاق الآخرين يشعرون بدفقة من العاطفة الماسَّة حين يتذكرون اللحظات التي قضَوها مع عشَّاقهم. مثال آسيوي مؤثر من هذا يأتينا في قصيدة صينية من القرن التاسع؛ «حصيرة البامبو» ﻟ يوان تشين. تعذَّب تشين قائلًا: «لا أقدر أن أتحمَّل/ أن أُعيدَها إلى مكانها/حصيرة النوم البامبو:/تلك الليلة التي أحضرتُكَ فيها إلى البيت/شاهدتك وأنت تبرمينها.»١١ بالنسبة إلى تشين، أصبح شيئًا عاديًّا يُستعمل يوميًّا، حاملًا طاقة أيقونية سحرية.
حكاية لانسيلوت، التي كتبَتها كريستين دي ترويز في القرن الثاني عشر، تُصوِّر الملمح نفسه من العشق الرومانسي. في هذه الملحمة، يجد لانسيلوت مشطَ الملكة جنيفر واقعًا في الطريق بعدما مرَّ موكبُها وحاشيتُها. عَلِقَت بأسنانه بعضُ شعراتها الذهبية. كتبت دي ترويز: «راح العاشق يتعبَّد الشعيرات، يلمسها مئاتِ الآلاف من المرات بعينَيه وشفتَيه وجبهته، ووجنتَيه.»١٢

(٤) تعظيم شأن الحبيب

المفتون يبدأ أيضًا في تعظيم، أو حتى تهويل شأن كلِّ السمات البسيطة في المحبوب. تحت وطأة الضغط، تقريبًا كل العشاق بوسعهم أن يسردوا كلَّ الأشياء التي لا يحبُّونها في أحبَّتِهم. لكنهم يطرحون تلك المُدركات جانبًا أو يُقنعون أنفسهم بأن تلك العيوبَ ملامحُ تفرُّد وجاذبية. «هكذا يُدير العشاق أسبابَ عاطفتهم/لكي يحبوا نساءَهم لدرجة عشق نقاط ضعفهن.» هكذا تأمل موليير. حقًّا. بل إن البعض يعبدون محبوباتهم بسبب عيوبهن.

«وولعُ العشاقِ بالمزايا الإيجابية في أحبَّتِهم هو لونٌ من التجاهل الفاضح للواقع.١٣ إنها الحياةُ عبر منظارٍ ورديٍّ، ما أسماه علماءُ النفس «تأثير العدسة الوردية». هكذا تصف فرجينيا وولف هذا النوعَ من الرؤية القصيرة النظر على نحو حيوي، قائلة: «على أن الحبَّ … إنْ هو إلا وهمٌ خادع. قصةٌ يحبكها الإنسانُ في ذهنه عن شخص آخر. ويعلم المرء طوال الوقت أنها غير حقيقية. وبالطبع يعلمُ لماذا يحرص دائمًا ألَّا يكسرَ ذلك الوهم.»

النماذج التي اخترناها من الأمريكان واليابانيِّين تعكس بالتأكيد «تأثير العدسة الوردية» تلك. حوالي ٦٥٪ من الرجال، و٥٥٪ من النساء في الاستطلاع وافقوا على عبارة: «… لديه/لديها بعض العيوب، لكن تلك العيوب بالفعل لا تُزعجني.» و٦٤٪ من الرجال و٦١٪ من النساء أجمعوا على عبارة: «أحبُّ كلَّ شيء في …»

لَكَم نخادعُ أنفسَنا حين نحبُّ. كان شوسر على حقٍّ حين قال: «الحبُّ أعمى.»

(٥) «التفكير المُقْتحِم»

واحدٌ من الأعراض الرئيسية في الحب الرومانسي هو التفكير الاستحواذي المُفرِط في المحبوب. معروفٌ لدى علماء النفس باسم «التفكير المُقتحِم». فأنت ببساطة لا تستطيع أن تُخرجَ حبيبك من رأسك.

والأمثلة على التفكير المقتحِم تظهر بغزارة في الأدب. الشاعر الصيني ابن القرن الرابع، تزوييه، كتب: «كيف يمكنني ألَّا أفكرَ فيك …»١٤ وكذا شاعرٌ يابانيٌّ مجهول عاش في القرن الثامن كتب يئنُّ: «اشتياقي لا نهاية له فمتى ينقطع.» جيروت دي بورنيل، شاعر التروبادور الفرنسي ابن القرن الثاني عشر، أنشد يقول: «عبر عشق عظيم … أفكار تُعذِّبني على نحو غير رحيم.»١٥ أما المواطن النيوزيلاندي فقد عبَّر عن معاناته بتلك الكلمات: «أرقد يقِظًا ليلةً بطول العمر/لكي يفترسَني العشقُ سرًّا.»
ربما المثال الأكثر إدهاشًا للتفكير المقتحِم يأتي من القطعة الأدبية القروسطية في ولفارم فون إيشنباتش، للأديب بارزيفول. في تلك القصة، كان بارزيفول يركب حصانَه ويتهادَى به على إيقاع الخبب حينما شاهد فوق جليد الشتاء ثلاثَ قطرات من الدماء، مختبئات تحت بطة جرحَها صقرٌ. ذكَّرته قطراتُ الدم بمزيج المرمر مع اللون القرمزي في بشرة زوجته، كوندويرامورس. مشلولًا بالمفاجأة، جلس بارزيفول في حال من التأمل، متجمدًا في سرج فرسه. «وهكذا، تلبسه إلهام التأمل، تائهًا في أفكاره، حتى هجرَته حواسُّه. العشقُ الهائل أسرَه في حال من الاستعباد.»١٦

لسوء الحظ، كان بارزيفول حاملًا رمحه المسنون — رمز الفروسية والتحدي. وسرعان ما لاحظه فارسان كانَا يعسكران في مرج قريب مع الملك آرثر، فركضَا نحوه ليبارزاه. ليس قبل أن يغطيَ أتباع بارزيفول قطرات الدم بوشاح أصفر، ثم أفاق من غيبوبة العشق، فامتشق سلاحه، وتأهَّب للمعركة المميتة.

الحبُّ جبَّارٌ. وليس مدهشًا، إن ٧٩٪ من الرجال و٧٨٪ من النساء في استطلاعي قرروا أنهم أثناء وجودهم في الفصل الدراسي أو في العمل كانت أذهانهم تعود باستمرار لمعشوقيهم. وإن ٤٧٪ من الرجال و٥٠٪ من النساء وافقوا على عبارة «مهما بدأ عقلي في التفكير، إلا أن عقلي دائمًا ينتهي بالتفكير في …» استطلاعات أخرى سجَّلَت النتائح نفسها. وسجل المشاركون في الاستطلاع أنهم يفكرون في «أحبتهم» حوالي ٨٥٪ من ساعات صحوهم.١٧

كم كان ميلتون ذكيًّا في «الفردوس المفقود»، حين جعل حواء تقول لآدم: «باستحواذك لي، أنسى الوقتَ كلَّه.»

(٦) لهيبُ العاطفة

من بين اﻟ ٨٣٩ من الأمريكان واليابانيِّين الذين شاركوا في استطلاعي حول الحب الرومانسي، كان ٨٠٪ من الرجال و٧٩٪ من النساء موافقين على العبارة: «حينما أتأكد أن … مُغرمٌ بي، أشعر أنني أخَفُّ وزنًا من الهواء.»

ليس من سمة مشتركة تُشير إلى «الوقوع في الحب» تجمع بين المضروبين بالعشق غير ذلك الطوفان من العواطف الجامحة التي تنساب بجبروت داخل العقل. البعضُ يُصبح خجلًا لدرجة موجعة أو مرتبكًا في حضور محبوبه. والبعض يصير شاحبًا. والبعضُ يتورَّد وجهُه نضارةً. والبعض يرتجف. والبعضُ يتلعثم. والبعض يتصبَّب عرَقًا. والبعض ترتعشُ ركبتاه، أو يشعر بالدوار، أو يُصاب باضطراب في المعدة. والبعضُ سجَّل تسارعًا في التنفس. والعديد سجَّل شعورًا باضطرام اللهيب في القلب.

كاتولويس، الشاعر الروماني، كان دون شكٍّ مُكتسَحًا بالهوى. كتب إلى حبيبته يقول: «لقد جُنِنتُ بكِ/رؤيتك حبيبتي ليزبيا/تُذهبُ مني التنفسَ/لساني يتجمَّد/وفي جسدي/يشتعل اللهيب.»١٨ أونو نو كوماشي، الشاعرة اليابانية ابنة القرن الثامن، كتبت: «أرقد يقظةً على جمر/نيران العاطفة المتأججة/تتأجج، تضطرم في قلبي.»١٩ والمرأة في «نشيد الإنشاد»، قصيدة الحب الشعرية العبرية، التي كُتبت بين عامَي ٩٠٠–٣٠٠ قبل الميلاد، تقول في رثائها: «أنا ذابلةٌ بالعشق.»٢٠ وأما الشاعر الأمريكي والت ويتمان فقد وصف عاطفتَه الصاخبة بدقة قائلًا: «العاصفةُ الهوجاء تسير عبر جسدي، يقولُ هزيمُها: أنا أرتجفُ عشقًا.»٢١

العشاقُ يمتشقون طيارات ورقية مفعمة بالبهجة وشديدة السرعة عالية التحليق، حتى إن الكثيرين منهم يجدون من العسير عليهم أن يأكلوا طعامهم أو يناموا ليلهم.

(٧) الطاقةُ العنيفة

فقدان الشهية وانعدام النوم يرتبطان مباشرةً بعرَض آخر من أعراض شعور الحب المسيطر: الطاقة العاتية. شابٌّ من جزيرة المحيط الهادي الجنوبية أخبر أحد الأنثروبولوجيِّين، أنه حين يفكِّر في حبيبته، «يشعر كأنما يقفز نحو السماء!»٢٢ ٦٤٪ من الرجال و٦٨٪ من النساء في استطلاعنا سجوا أيضًا أن خفقان قلوبهم كان يتسارع حينما يسمعون أصوات أحبتهم على الهاتف. و٧٧٪ من الرجال و٧٦٪ من النساء سجلوا أن جيشانًا في الطاقة يتلبسهم حينما يرافقون أحبَّتَهم.

المغنُّون، المنشدون، الشعراء، كُتَّاب المسرح، الروائيون: رجالًا ونساء ظلوا يغنُّون لقرون عن هذه الكيمياء الحاثَّة للطاقة، وكذلك عن التلعثم والارتباك والعصبية، القلب الخافق، وفقدان التنفس وكل تلك الأعراض التي تُصاحب العشق الرومانسي. ولكن من بين كلِّ أولئك الذين ناقشوا ذلك الصخبَ الفيزيقي، لم يبرع في التصوير أحدٌ مثلما فعل أندريا كابلانوس، أو أندريا القس، الفرنسي المثقَّف ابن عقد ١١٨٠، الذي اقترب من البلاط العالي الملكي، وكتب: «في فنون العشق النبيل»، إحدى أعظم كلاسيكيات الأدب على مرِّ الزمان.

أثناء القرن الذي عاش فيه بدأت تقاليدُ العشق في البلاط الملكي في الظهور بفرنسا. تقاليد وبروتوكولات بدأت تصكُّ قوانين التواصل بين الحبيب والحبيبة. العاشق غالبًا ما يكون شاعر تروبادور، رفيع الثقافة والتعليم، موسيقيًّا، مُغنيًا، غالبًا من سلالة الفرسان. محبوبته، في أحوال كثيرة، تكون سيدة متزوجة من أحد نبلاء عائلات أوروبا المرموقة. أولئك التروبادور يبدءون في تأليف، ثم إنشاد أبيات شعرية متأججة الغرام لكي يتغزل في سيدة البيت ويتعبد في محرابها.

على أن تلك الغراميات كان متوقعًا منها أن تكون طاهرةً عفيفة ومراقَبة وخاضعة للكود والقواعد الخاصة بالفرسان. ولذلك في هذا الكتاب، صكَّ كابلانوس قواعدَ الحب في البلاط الملكي. ودون أن يدري، سرد كذلك العديدَ من العادات والطبائع الأساسية الخاصة بالحب الرومانسي التي تُبيِّن الاضطرابات الداخلية للعشاق. ذاك أنه عبَّر بذكاء: «في رؤيته المباغتة الخاطفة لحبيبته، يبدأ قلب العاشق في الخفقان.»٢٣ و«الرجلُ المعذَّبُ بأفكار العشق، قليلًا ما يأكل أو ينام.»٢٤
تحدَّث رجل الكنيسة الحاذق أيضًا عن «التفكير المقتحم» الذي يمر به العشاق، موضحًا: «كل شيء يفعله العاشق ينتهي به للتفكير في محبوبه.» و«العاشق الحقيقي على نحوٍ مستمر ودون انقطاع مُسيطَرٌ عليه بصورة معشوقه.» وأوضح كذلك أن العاشق يركِّز كلَّ انتباهه على شخص واحد حينما يكون في حالةِ حبٍّ، قائلًا: «لا أحدَ بوسعه أن يحبَّ اثنين في وقت واحد.»٢٥

سماتٌ أساسية للعشق لم تتغير مطلقًا تقريبًا منذ آلاف السنين.

(٨) المزاج يتأرجح: من النشوة إلى الإحباط

«انجرفَ مع المياه الزرقاء/تحت القمر الصافي/يلتقط الزنابق البيضاء من البحيرة الجنوبية/كل زهرة لوتس/كانت تنطق بالحب/حتى انكسر قلبُه.»٢٦ بالنسبة إلى شاعر القرن الثامن الصيني لي بو، كان الحبُّ موجعًا.

الشعورُ بالحب يحلِّق عاليًا ويهبط من حالق. إذا غمر المحبوبُ عاشقَه بالاهتمام، إذا هاتفَه بانتظام، أو أرسل إليه إيميلات عاطفية، أو شاركه وجبة طعام أو لحظة مرح ذات أصيل أو ذات مساء، إذن يُشرق العالمُ بالحبور. أما لو بدَا المعشوق غير مبال، كأن يأتيَ متأخرًا دائمًا، أو لا يأتي أبدًا، لو أخفق في الرد على الإيميلات، أو الهاتف، أو الخطابات، أو إن أرسل أيَّ إشارات سلبية، يبدأ العاشق في الشعور بالإحباط. مثل هذا العاشق الكسول الخامل، المحبط، يظل مكتئبًا إلى أن ينجحَ في اجتذاب انتباه محبوبه، فيهدأ القلبُ الواجفُ المضطرب، وتتجدد الحيوية.

العشق الرومانتيكي بوسعه أن يُنتجَ مزاجًا متأرجحًا يتغير من النقيض للنقيض. من حال الابتهاج القصوى حينما يكون الحبُّ في ذروته، إلى الإحباط أو حتى الغضب والهياج حينما يتمُّ تجاهلُ المشاعر أو رفضها. كما وصفه الكاتب السويسري هنري فريدريك إميل: «كلما أحبَّ الرجلُ أكثر، عانى أكثر.» أهالي التاميل في جنوب الهند وضعوا تسميةً لهذه الحال المضطربة. سمَّوا تلك الحال من الاضطراب العاطفي: ماياكام، بما يعني حال الخَدَر، الدوار، الخداع والوهم.

لم يُدهشني أن ٧٢٪ من الرجال و٧٧٪ من النساء في استطلاعي لم يوافقوا على الجملة: «تصرفات … لم تؤثر أبدًا على اتزاني العاطفي.» بينما ٦٨٪ من الرجال و٥٦٪ من النساء أيَّدوا العبارة: «حالتي العاطفية تتوقف على ما يشعر به … تجاهي.»

(٩) الحنين إلى التوحُّد العاطفي

«تعالَ إليَّ في أحلامي/ووقتها/وفي النهار/سأعود من جديد في حال أفضل./لأنه هكذا/ سيقضي عليَّ كلُّ الحنين اليائس/الذي يسكن نهاري.»٢٧ العشاق يتوقون بلهفة إلى الوحدة العاطفية مع أحبَّتهم، كما كان يعلم الشاعر ماثيو آرنولد.٢٨ من دون هذا التواصل مع المحبوب، يشعر العشاق بأنهم غيرُ مكتملين أو كأنما هم مُفرَّغون، كأنَّ جزءًا أساسيًّا من تكوينهم مفقودٌ.

الحاجة الهائلة للوحدة العاطفية بوصفها إحدى خصائص العاشق التي عُبِّر عنها بخلود في السمبوزيوم، حفل الغداء، المقام في أثينا على شرف أفلاطون عام ٤١٦ ق.م. في هذه الأمسية الاحتفالية اجتمع رسميًّا بعضٌ من أعظم العقول الإغريقية الكلاسيكية على مأدبة الغداء في منزل أغاثون. وفيما كانوا متكئين على أرائكهم، اقترح أحد الضيوف أن يقوموا بتسلية أنفسهم بمناقشة موضوعات لها علاقة بالعشق: كل ضيف من الحضور يأخذ دوره ليصفَ إلهَ الحب ويمجِّدَه.

وافق الجميع، وامتنعَت عازفة الفلوت. ثم راح واحدٌ إثرَ واحد يأخذ دورَه في تمجيدِ ربِّ الحب. بعضهم وصف ذلك الكائن الفائق بأنه الأكثر «قِدَمًا» والأعلى «شرفًا» أو الأقل «حصافة» بين جميع الآلهة. وأقرَّ آخرون بأن إلهَ الحب «شابٌّ»، أو «حساس»، أو «قوي»، أو «طيب». إلا سقراط. بدأ سقراط مداخلتَه بأن سردَ الحوار الذي دار بينه وبين ديوتيما، المرأة الحكيمة من مانتنيا. حينما كانت تتحدث عن إله الحب، أخبرَت سقراط بأنه: «يسكن دائمًا في دولة الحاجة.»٢٩

«دولة الحاجة». ربما ليس من عبارة في كل تاريخ الأدب قد قبضت على جوهر الحب الرومانتيكي العاطفي مثل تلك: «الحاجة». في استطلاعي، وافق ٨٦٪ من الرجال، و٨٤٪ من النساء على عبارة: «أتمنَّى بعمق أن يكون… منجذبًا/منجذبة إليَّ مثلما أنا منجذبٌ إليه/إليها.»

تلك الرغبة العارمة في الذوبان والتوحُّد مع المحبوب، تُحلل وتُفنِّد مجمل الأدب العالمي.

كتب الشاعر الروماني ابن القرن السادس باولو سيلنتياروس: «هكذا يرقدُ العاشقان/مُغلقَي الشفاه/محمومَين/أبدييَّ الظمأ/كلٌّ منهما يتوق أن يدخل بكامله في عمق الآخر.»٣٠ يوفور وينترز، الشاعر الأمريكي ابن القرن الثاني عشر كتب يقول: «علَّ ورثتنا يضعوننا بعد موتنا في جرَّة واحدة محكمة الإغلاق/لأن الروح الواحدة لا تعود أبدًا.»٣١ وعبَّر ميلتون ببراعة عن ذلك في «الفردوس المفقود» حينما قال آدم لحواء: «نحن واحدٌ/لحمٌ واحدٌ/أفقدكِ حين أفقدُ نفسي.»
يؤمن الفيلسوف روبرت سولومون أن تلك الرغبة الملحَّة هي السبب الأوَّلي الذي يجعل العاشق يقول: «أنا أحبك.» ليست هي جملة من أجل إخبار حقيقة، بقدر ما هي طلب للتأكيد. يتوق العاشق لسماع تلك الكلمات السحرية: «أحبك أيضًا.»٣٢ عميقة هي الحاجة للتوحد العاطفي مع المحبوب لدرجة جعلَت خبراء النفس يؤمنون بأن شعور العاشق بالنفس يصير مشوشًا وضبابيًّا … وكما قال فرويد: «كلما زاد الحبُّ وطأةً، هدَّد بطمس الحدود بين الذات وبين المحبوب.»

قبض الروائي جويسن كارول أوتس بحيوية على حالة الانصهار المبهج تلك قائلًا: «إذا ما التفت الناسُ إلينا فجأة فسوف نرتجف ونرتد للوراء/الجِلد المبتل سوف يرتعد/وأخيرًا/سوف يتمزق عن شخصين؟»

(١٠) البحث عن دليل

حينما لا يعرف العاشق إن كان محبوبُه يقدِّر حبَّه ويبادله إياه، يصبح فائق الحساسية للعلامات والإشارات التي يُرسلها الحبيبُ المعبود. كما كتب روبرت جريفز: «الإصغاءُ إلى دقَّة الباب، انتظارُ إشارة.» في استطلاعي سجل ٧٩٪ من الرجال و٨٣٪ من النساء أنهم حينما كانوا في حال انجذاب شديدة إلى شخص ما، كانوا يفحصون بدقة تصرفات المحبوب، باحثين عن دلائل وإشارات تَشِي بشعورِ أحبَّتِهم تجاههم. وقال ٦٢٪ من الرجال و٥١٪ من النساء إنهم كانوا يبحثون عن معانٍ مختلفة لكلماتِ أحبَّتِهم وإشاراتهم وتغيرات ملامحهم.

(١١) تغيير الأولويات

العديد من المفتونين يُغيِّرون أيضًا من أسلوب ملبسهم، أسلوب معيشتهم، عاداتهم، وأحيانًا قِيَمهم لكي يفوزوا بالحبيب. اهتمامٌ مفاجئ بلعبة الجولف، دروس رقصة التانجو، جمع الأنتيكات والتُّحَف، قصة شعر جديدة، موسيقى موزار بدلًا من موسيقى الريف الغربي، أو حتى الانتقال إلى مدينة جديدة أو البدء في عمل جديد: الرجال والنساء المضروبون بالهوى يتبنَّون كلَّ سبل الاهتمامات الجديدة، والمعتقدات، وأساليب الحياة المختلفة، إرضاءً لأحبَّتِهم.

بطل العشق في البلاط الملكي ابن القرن الثاني عشر، أمدريا كابلانيوس، لخَّص تلك القوة الدافعة، كاتبًا يقول: «الحبيب لا يرفض شيئًا للحبيب.»٣٣ في حين عبَّر عنها بفظاظةٍ الرجلُ الأمريكي أسير الحب قائلًا: «كل ما تحبُّه هي، أحبه أنا.»٣٤ وكان واحدًا من كثيرين. ٧٩٪ من الرجال الأمريكان و٧٠٪ من الأمريكيات في استطلاعنا أجمعوا على العبارة: «أحب أن أترك جدول مواعيدي مفتوحًا حينما يكون/تكون … غير مشغول/مشغولة، حتى يمكنَنا اللقاء.»

العشاق يُعيدون ترتيب حيواتهم لكي تتوافق مع أحبَّتِهم.

(١٢) الاعتمادية العاطفية

العشاق يغدون أيضًا معتمدين على العلاقة، شديدي الاعتماد. ها هو أنطونيو يعترف لكليوباترا في مسرحية شكسبير: «قلبي مربوطٌ بالحبال في دفَّتكِ.» ووصفت القصيدة المصرية الهيروغليفية القديمة الاعتمادية نفسها قائلة: «قلبي سيكون عبدًا/فهلَّا عانقتَني.»٣٥ شاعر التروبادور ابن القرن الثاني عشر أرنوت دانيال، كتب: «أنا مِلكُها من الرأس للقدمين.»٣٦ بينما كان كيتس الأكثر عاطفيةً ليقول: «أصغِ، أصغِ لكي تُنصتَ إلى صوتِ تنفُّسِها الهادئ/وهكذا عِشْ للأبد/أو لتقع في إغماءة البهجة حتى الموت.»

ولأن العاشق دائمًا ما يكون معتمدًا على المحبوب، فإنه دائمًا ما يعاني من «اضطراب الانقسام» حينما يكون بعيدًا عن حبيبه.

قصيدةٌ لشاعر ياباني مجهول، كُتبت في القرن العاشر، موجوعة بذلك اليأس. «يُشرق الصبحُ الباكر/موغلًا في التلألؤ الباهت/للضوء الأول./مُدثَّرًا بالحزن/أُدَثِّرُكِ في أكفانك.»٣٧

العشاق ليسوا إلا عرائس ماريونيت تتدلَّى من خيوط يحملها آخرون.

(١٣) التقمُّصُ العاطفيُّ

كنتيجة لما سبق، يشعر العشاق بتقمُّص عاطفي هائل نحو المحبوب. في استطلاعي، وافق ٦٤٪ من الرجال و٧٦٪ من النساء على العبارة: «أشعر بالفرح حينما يكون/تكون … سعيدًا/سعيدة، وحزينة حينما يكون حزينًا.»

الشاعر إي إي كامنجز كتب حول هذا بعذوبة قائلًا: «هي تضحكُ فتشرقُ بهجتُه، هي تبكي فيغيمُ أساه.» بل يُقبل بعض العشاق على التضحية بأنفسهم في سبيل معشوقيهم. وربما كانت تضحية آدم من أجل حواء هي العطاء الأكثر دارماتيكية في مجمل الأدب الغربي. كما وصفها ميلتون، حينما اكتشف آدم أن حواء قد أكلت من التفاحة المحرَّمة، اختار آدم أن يأكل التفاحة أيضًا، وهو يعلم أن هذا سيؤدي إلى طرده مع حواء من جنة عدن، كما يعني موتهما. قال آدم: «لأنني معكِ/سيكون قراري المحدد بالموت.»٣٨

(١٤) الفجيعةُ تُؤجِّج الهوى

الفجيعة عادةً ما تُغذي اللهيب. أسمِّي هذه الظاهرة المثيرة للفضول: «جاذبية خيبة الأمل»، ولكن من الأفضل تسميتها: «تأثير روميو وجولييت». الحواجز الاجتماعية أو الفيزيقية تُشعل الغرام الرومانتيكي.٣٩ إنها تُمكِّن الشخص من أن يتجاهل الحقائق ويركز على السمات الاستثنائية في الآخر. حتى المشاحنات والانفصالات المؤقتة بوسعها أن تكون محفِّزات.
أحد أطرف الأمثلة الأدبية وأكثرها إضحاكًا من بين تلك التي تبيِّن كيف تُؤجِّج الفجيعةُ الغرامَ، مسرحية تشيكوف ذات الفصل الواحد: «الدُّب».٤٠

في تلك الدراما كان هناك مالك أرض حاد المزاج، جريجوري ستيبانوفيتش سميرنوف، يزور بيت أرملة شابة ليستردَّ بعضَ مال كان زوجُها الراحل قد اقترضه منه. رفضت المرأة دفع كوبيك واحد. إنها في فترة حداد، قالت تفسِّر له، وسرعان ما راحت تصرخ في وجهه: «لستُ في مزاجٍ نفسيٍّ يسمح لي بالاهتمام بشئون المال.» أشعل هذا غضبَ سميرنوف ضد كل النساء، فراح ينعتهن ﺑ المنافقات، المرائيات، الزائفات، الثرثارات، الفضائحيات، الحقودات، طويلات اللسان، الكاذبات، الحقيرات، التافهات، قاسيات القلب، وغير المنطقيات. «برررر»، هكذا دمدم: «أنا أرتجفُ في معطفي المصنوع من الفراء». فورة غضبه أشعل بدوره فورةَ غضبها، فبدأ كلاهما يكيلان لبعضهما البعض الإهانات والشتائم. وسرعان ما طلب المبارزة. تملَّكَتها شهوة أن تصنع ثقبًا في رأسه، أحضرت الأرملة مسدسَين كانا يخصَّان زوجَها الميت، ثم أخد كلٌّ منهما موقعَه.

وبينما أخذت الضغينة تنمو بينهما، بدأ ينمو كذلك الاحترامُ المتبادل – ثم الانجذاب. وفجأة هتف سميرنوف: «الآن هذه هي المرأة! أُدركُ الآن! المرأة الحقيقية! ليست نحَّابةً شكَّاءةً واهنةً هشَّة، إنما هي كرةٌ من اللهيب، صاروخ، كتلة بارود! من العار قتلها!» بعد دقيقة أعلنَ لها حبَّه الأبدي وسألها أن تكون زوجته. وبينما كان خدمها يتدافعون داخل غرفة المعيشة للدفاع عن سيدتهم بالفئوس، والبلطات، ومذرَّات القمح، فوجئوا بالعاشقَين منصهرَين في عناق محموم.

تلك العلاقة الشاذة بين الفجيعة وحرارة الغرام يمكن رصدها لدى كلِّ العشاق المأزومين سيِّئي الحظ في أساطير العالم التاريخية العظمى. تُغذِّي الصعوباتُ الهوى على نحو ما، أو آخر، كأنما العشاق يسعَون نحو العسير من الصعاب.

القصة الغربية الأشهر من هذا النوع، ظهرَت بالطبع في تراجيديا شكسبير: روميو وجولييت. هذان العاشقان الصغيران في القرن السادس عشر من «فيرونا». وقعَا في شَرَك عداء تاريخي بين عائلتين من العائلات ذوات السيادة والسلطان، عائلة مونتاجو وعائلة كابيوليت. روميو ابنُ العائلة الأولى، وجولييت ابنة الثانية. لكن روميو وقع في هوى جولييت بمجرد أن رآها في إحدى حفلات العائلة، فهتف: «أوه/هذه البنتُ تُعلِّم القنديلَ كيف يُشعُّ ضوءَه برَّاقًا!/هل أحبَّ قلبي قبلَها؟/لَعَمري ما الذي أراه!/أنا لم أرَ الجمال الحقَّ قبل هذه الليلة.»٤١ وخضعَت جولييت بدورها لسهم كيوبيد؛ فما إن رحل روميو عن الوليمة، حتى أمرت جولييت وصيفتَها: «اذهبي وهاتي اسمَه. واعرفي إن كان متزوجًا./لو كان/فسوف يكون ضريحي هو فراش زفافي.»٤٢ وتُطوى المسرحيةُ على سلسلة من العقبات وارتباكات سوء الفهم لم تصنع إلا مزيدًا من اشتعال غرامهما.

خمسة وستون بالمائة من الرجال و٧٣٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على عبارة: «لن أكفَّ أبدًا عن حب … حتى حينما تسوء الأحوال جدًّا.» ووافق ٧٥٪ من الرجال و٧٧٪ من النساء على عبارة: «حينما تتراجع علاقتي مع … أحاول بكل قوتي أن أُعيدَ الأمور إلى نصابها.»

إحدى أكثر النتائج غير المتوقعة في استطلاعي كان تقريبًا يشير إلى دور الفجيعة في الحب. المثليون جنسيًّا، من الرجال اللوطيِّين والنساء السحاقيات، كانوا دائمًا يسجلون اضطرابًا أكبر وقلقًا عاطفيًّا أكثر من الطبيعيين. أولئك الأشخاص يُعذَّبون أكثر بالسُّهاد والأرق، وفقدان الشهية، والتوق للتوحد العاطفي مع المحبوب. وأظن أن هذا الألم النفسي يحدث، ولو جزئيًّا، بسبب الحواجز الاجتماعية التي بالتأكيد تُواجه العشاق المثليِّين.

أولئك الذين أجابوا استطلاعي وهم يفكِّرون في الحبيب السابق بدَوا أيضًا يعانون من الهشاشة العاطفية. لقد عانوا كذلك من أوقات عصبية دون طعام أو نوم. كانوا خجولين أو أفظاظًا مع عشَّاقهم القدامى. لقد عانوا أكثر من «التفكير المقتحِم» وكذلك من تقلبات المزاج المتأرجح. وسجَّلوا تسارعًا في خفقان القلب في لحظات التفكير في لهيبهم القديم. أظن أن كثيرًا من أولئك المستجيبين قد تمَّ رفضُهم من أحبَّتهم، وأن تلك الفجيعة الموجعة قد ألهبَت تأججهم العاطفي.

مثل زورقٍ في بحرٍ متلاطم الأمواج، يركب الرجال والنساء أمواجَ الكآبة العاتية وأمواج البهجة. إذا تزوجت مَن تحب بشخص آخر، أو تزوج مَن تحبِّين بأخرى، إذا كان أو كانت تعيش في بلد بعيد وراء البحار، إذا كنت تتكلم لغة مختلفة، أو كنت تنتمي إلى عِرق مختلف، أو حتى كنتَ قادمًا من منطقة أخرى من المدينة، كل تلك العقبات قد تؤجج العاطفة الرومانتيكية.

يقول ديكينز في هذا: «الحب يعلو إلى قمة نموه الخصب مع الفراق وتحت وطأة المصاعب القصوى.» للأسف هذا حقيقي.

(١٥) الرجاء والأمل

«قل إنني ربما أعيش في الرجاء.» هكذا توسَّل بيروس لأندروماخي في دراما «راسين» حول الحب والموت. لماذا يستمر العشاق في الأمل، حتى حينما يكون نرْد الحياة ضدهم على نحو قاس؟ معظمهم لا يزال محتفظًا بالأمل في أن تعودَ علاقاتُهم الموءودة للحياة من جديد، بعد مرور سنوات من انتهائها على نحوٍ مرير. الرجاء سمةٌ غالبةٌ أخرى من سمات الحب الرومانتيكي.

قصيدة ساحرة من القرن السادس عشر للشاعر مايكل درايتون عبَّرَت عن هذا التفاؤل. تبدأ هكذا: «بما أنه لا رجاء هناك، هلمِّي، تعالَي نذوب في قبلة ثم نفترق!/كلَّا، لقد انتهيتُ، لن تُجديَ فيَّ المزيد/وأنا سعيد/نعم، سعيد ملْء قلبي،/لأنني هكذا سأُحرِّر نفسي على نحوٍ تامٍّ/هيَّا نتصافح للمرة الأخيرة وللأبد/دعينا نمحو كلَّ عهودنا؛/وحينما نلتقي من جديد في أيِّ وقت/دعينا لا ننظر إلى عيون بعضنا البعض/لأنه لم يَعُد بيننا مثقال ذرة من حبِّنا السابق.» بتلك الكلمات أعلن درايتون، بثقة ظاهرة، أن العلاقة قد انتهَت بسهولة وإلى الأبد. ولكنه، في نهاية القصيدة، يغيِّر نغمتَه فجأة. مغمورًا بالأمل، يبدأ في مجادلة ذلك «الحب»، بأن بوسعِه أن يُنقذَ: «الآن، إن أمكنكِ، حينما انتهى الحب تمامًا/ربما يكون بوسعك أن تشفيَه/وتستعيديه من الموت إلى الحياة.»٤٣

أظن أن ذاك الميل للرجاء مزروعٌ في مخ الإنسان البشري منذ الحقب السحيقة. لهذا كان أجدادنا على نحوٍ عنيد يطاردون أقرانهم حتى انتهاء آخر لمحةٍ ممكنة من الرجاء.

(١٦) الاتصال الجنسي

«من الأفضل أن أموتَ مئات المرات ولا أن أعيشَ دون ذلك التواصل الجسدي الرائع معك. أحبُّكَ. أحبُّكَ حتى درجة اليأس. أحبُّكَ كما أحبُّ روحي.»٤٤ هكذا صرَّحت سايكي لزوجها إيروس، في «الحمار الذهبي»، رواية القرن الثاني تأليف آبوليوس. «مشتعلةً بالرغبة»، تُكمل الحكاية، «مالَت وقبَّلَته على نحو عنيف ومندفع، قبلةً إثر قبلة إثر قبلة، مغمورةً بالخوف من أن يستيقظ قبل أن تنتهيَ.»٤٥

الشِّعر في كلِّ أنحاء العالم يشهد على العشَّاق وعلى تَوْقِهم العنيف للتواصل الجنسي مع المحبوب، سمة أساسية أخرى من سمات الحب الرومانتيكي.

في نشيد سليمان، نادَت المرأة: «يا رياح الشمال استيقظي/انهضي، يا رياح الجنوب/هُبِّي على حديقتي/واجرفي نباتاتي من التوابل والبهار/اجعلي حبيبي يخرج إلى حديقته/لكي آكلَ ثمارَه الشهية.»٤٦ إنانا، ملكة سومر القديمة، التي استُثيرت بجاذبية داميوزي الجنسية، فقالت: «أوه يا داميوزي! امتلاؤك هو بهجتي!»٤٧ على أن الأعذبَ لأُذُني هي قصيدة الشاعر الإنجليزي المجهول بعنوان «النحيب»: «أيتها الرياحُ الغربية/متى تَهُبِّين؟/بوسع الأمطار الصغيرة أن تمطر-/يا إلهي، لو أن حبيبتي كانت بين ذراعي/وأنا في فِراشي من جديد!»
فرويد، أيضًا، مثله مثل غيره من العلماء والدارسين وكذلك البشر العاديِّين، اعتبر الرغبة الجنسية عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحب الرومانتيكي.٤٨ فكرة جديدة بالكاد. أولئك الذين درسوا «كاما سوترا»، الدليل الهندي في التعامل الحب بالقرن الخامس، يعرفون أن كلمة Love مشتقة من كلمة Lubh باللغة الهندية السنسكريتية، ومعناها «الرغبة».

ليس من العبث أن نجد دائمًا مشاعر الرومانسية مجدولة ومضفورة بالتَّوق الجنسي. ومع هذا، إن كان العشق قد تطور عبر الزمن مع أجدادنا لكي يدفعَهم أن يركزوا طاقة عشقهم على شخص «واحد» بعينه، على الأقل حتى يكتملَ التخصيب، (كما سأوضح في فصل لاحق)، إلا أن الحب الرومانسي لا بد أن يقترنَ بالرغبة الجنسية.

تُكرِّس نتائجُ استطلاعي تلك الظاهرة. ٧٣٪ من الرجال و٦٥٪ من النساء يحلمون آناء الليل وأطراف النهار بممارسة الحب مع عشَّاقهم.

(١٧) الحصرية الجنسية

يشتهي العشاق كذلك الحصرية الجنسية. لا يحبون أن تُلطَّخ علاقاتهم «المقدسة» بالغرباء. حينما يرغب شخصٌ ما أن يشارك صديقةً في الفراش، فإنه لا يعبأ كثيرًا ما إذا كان لرفيقة الفراش تلك رفيق آخر أم لا. ولكن ما إن يقع الرجلُ أو المرأة في الحب ويبدأ في التوق للتوحد العاطفي مع محبوبه، فإنه يطلب الإخلاص الجسدي الحصري من حبيبه.

تعكس العديد من قصص الحب العالمية تلك الحصرية الجنسية، مثلما تعكس رغبةَ العشاق في الحفاظ على إخلاصِ أحبَّتِهم. على سبيل المثال، حينما تم إقصاؤه عن حبيبته إيزيولت الجميلة، أحبَّ ترستان امرأة أخرى لها الاسم نفسه، فقط لأن تلك المرأة تحمل نفس لقب حبيبته نفسه. ولكن ترستان لم يستطع أن يُجبرَ نفسه على إتمام عملية الزواج على النحو الكامل. وفي الملحمة العربية، حينما خُطبت ليلى وتم زفافها إلى رجل آخر غير حبيبها المجنون قيس، كانت ليلى كذلك تتهرب من فراش الزوجية. وحوالي ٨٠٪ من الرجال و٨٨٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على العبارة: «الولاء الجسدي أمرٌ شديد الأهمية حينما نقع في الحب.»

من بين كل سمات الحب الرومانتيكي، يظل هذا الحنين للحصرية الجنسية هو الأكثر أهمية بالنسبة لي. ربما تطور هذا الأمر لسببَين جوهريَّين: لكي يحميَ الرجال من أسلافنا من أن يكونوا أزواجًا لزوجات مشاع يُنجبْنَ لهم أطفالًا من صلب غيرهم، وكذلك لكي تحميَ النساء من أسلافنا من مزاحمة النساء لأزواجهن ليتقاسمْنَهم باعتبارهم آباء لأطفالهن. هذا التوق للحصرية الجنسية كان سببًا في أن يحميَ أجدادُنا حامضهم DNA، ذلك الحامض العزيز، حينما يوفرون تقريبًا كلَّ أوقاتهم وطاقاتهم في الاهتمام بشخص حبيباتهم.

ولكن يتزامن مع هذا الدافع لتأكيد الولاء الجنسي أثناء فترة الغزل، ظهورُ ضيف غير مرغوب فيه، إنه وحش شكسبير أخضر العينين: الغيرة.

(١٨) الغيرة: «رفيقة الحب»

في كتابه حول قواعد الغرام في البلاط الملكي، كتب كابيلانوس: «ذاك الذي لا يشعر بالغيرة، غيرُ قادر على الحب.» أطلق على الغيرة «رفيقة الحب»؛ لأنه كان يؤمن بأنها تؤجج لهيب الرومانسية.٤٩
قبض رجل الدين هذا ذو البصيرة، كالعادة، على المعنى الصحيح. في كل مجتمع درس فيه الأنثروبولوجيون العشق الرومانسي، رصدوا أن العشاق من كلا الجنسين يُصبحون غيورين، غيورين جدًّا.٥٠ وكما حذَّر «آي تشينج»، كتاب الحكمة الصيني الذي كُتب قبل ثلاثة آلاف عام، يقول الكتاب: «الرباطُ الحميم ممكنٌ فقط بين شخصين؛ لأن مجموعة من ثلاثة أشخاص، تُولِّدُ الغيرة.»٥١

(١٩) التوحُّد العاطفي ينتصر على التوحد الجنسي

ولكن حتى الرغبة في تبادل الممارسة الجنسية والتوق للإخلاص الجنسي تظلان أقل أهمية بالنسبة للعاشق من الحنين للتوحد العاطفي مع المحبوب. الرجل أو المرأة الواقعان في الحب يودُّ كلٌّ منهما أن يهاتفَه المحبوب ليقول له: «أنا أحبُّك»، أو أن يأتيَها بالزهور أو أي هدية رمزية، أو أن يدعوَها لمباراة رياضية أو للمسرح، أن يضاحكَها ويحتضنَها، وأن يغمرَها بالاهتمام. يتحرَّق العاشق شوقًا لأن ينالَ اهتمامَ حبيبه. هذا التوق العاطفي يفوق بمراحل الرغبة في مجرد الإشباع الجنسي.

خمسة وسبعون بالمائة من الرجال و٨٣٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على عبارة: «أن أعرف أنَّ … واقعٌ في غرامي أهم كثيرًا من أن أمارس معه/معها الجنس.»

(٢٠) الحب اللاإرادي، غير المُسيطَر عليه

«انظروا إلى هذا الإله الأقوى مني، القادم لكي يتحكم في حياتي من الآن فصاعدًا. الحب يسيطر على روحي على نحوٍ كامل.»٥٢ كتب دانتي تلك الكلمات في القرن الثالث عشر لكي يصفَ اللحظات الأولى التي شاهد فيها باتريشيا. كان يعلم القوة المهيمنة الكامنة في الحب الرومانتيكي. بالفعل، تكمن في قلب ذلك الاستحواذ المهيمن قوَّتُه: الحب الرومانسي، الذي هو غالبًا غير مُخطَّط له، لا إرادي، وظاهر فيه انعدام السيطرة عليه.

كم من العشَّاق وقعوا في شَرَك تلك القوة المغناطيسية؟

بلايين، ربما.

«ربَّة اليشم»، ملحمة الرومانسية الصينية بالقرن الثاني عشر، قالت عن تشانج بو، وميلان: «كلما تعبَا وقررَا إخماد الحب الذي استيقظ، ضُخَّت فيهما طاقته.»٥٣
وكتب الفرنسي ابن القرن الثاني عشر، تشيرتين دي ترويز، عن جنيفر لانسيلوت: «رغمًا عنها، كانت مُجبرةً على الحب.»٥٤
ولكن تأملات طبيعة الجاذبية الرومانسية غير القابلة للمقاومة ليست محصورة في الخيال الأدبي وحسب. في الخمسين من عمره، كتب أحدُ مديري المؤسسات الأمريكان لزميل له يقول: «بدأت أومِن بنظرية تقول إن انجذابي نحو إميلي هو حراكٌ يُشبه الغريزة البيولوجية. جاذبية خارج نطاق الإرادة والسيطرة المنطقية. إنها تُوجِّهني. أحاول باستماتة أن أكافحَها، أو أن أحجِّمَ تأثيرها ونفوذها، أو أن أُقنِّنَها، أن أُنكرَها، أن أستمتعَ بها، ولكن، اللعنة، عبثًا أجعلها تستجيب! على الرغم من أنني أعلم أن إميلي وأنا لا فرصة لنا مطلقًا لنصنع معًا حياة مشتركة، إلا أن التفكير فيها هو محض قهر لا أستطيع مقاومته.»٥٥
حتى الأب المؤسس ذو الرصانة جورج واشنطن، كان قد خبر هذه القوة الكامنة في الحب الرومانتيكي. في عام ١٧٩٥م كتب رسالة إلى حفيدته ينصحها بأن تأخذ حذرَها لئلا يغدوَ الحبُّ «عشقًا لا إراديًّا».٥٦

الرجال والنساء المعاصرون يشعرون أيضًا بذلك العجز الذي يصاحب تجاربهم. ستون بالمائة من الرجال و٧٠٪ من النساء في استطلاعي، وافقوا على عبارة: «الوقوع في الحب لم يكن بالفعل اختيارًا؛ إنه وحسب قد ضربنا.»

(٢١) حالةٌ عابرة

ولكن، كما أن الحب يأتي دون دعوة، بوسعه أيضًا أن يتبخَّر. وكما غنَّت فايوليتا، في أوبرا فيردي التراجيدية «لا ترافياتا»: «دَعْنا نعيش للبهجة وحدَنا، طالما الحبُّ، مثل الزهور، سرعان ما يذبل.»

عرف أفلاطون هذه السمة في ربِّ الحب، فيقول: «بحكم الطبيعة، هو ليس خالدًا ولا غير خالد. أحيانًا في يوم واحد يضرب بسهمه في قلب الحياة … ثم يموت، ثم … يعود للحياة من جديد.»٥٧ الحبُّ متقلِّبٌ ذو نزوات، متطاير، متذبذب، غير ثابتٍ؛ بوسعه أن يتبخَّر، يُضرم نيرانه، ثم يخبو من جديد.

لأيِّ أمدٍ يستمر سحرُ الحب؟

لا أحدَ يعرف. فريق من علماء الطب العصبي استنتجوا مؤخرًا أن الحبَّ الرومانتيكيَّ يدوم على نحو طبيعي بين اثنَي عشر، وثمانية عشر شهرًا.٥٨
وكما سترون في الفصل الثالث، فإن فحصَنا ودراستنا للمخ البشري يقترحان أن الحب بوسعه أن يدومَ سبعة عشر شهرًا. على أنني أُراهن أن أمَدَ الحبِّ يختلف على نحو لافت، تبعًا لطبيعة الشخوص المتورطة في الحب. معظم الناس قد شعروا بحال عابرة من الافتتان تستغرق أيامًا فقط أو بضعة أسابيع. وكما تعلمون، حينما يكون هنا عوائق للعلاقة، فإن ذلك الأجيج قد يظل مشتعلًا لسنوات عدة. المحنُ تُؤجج العشق الرومانتيكي.٥٩

على أن هذه النيران في القلب تميل إلى أن تخبوَ إذا ما انخرط العشاق في حال الاستقرار اليومي في المتع؛ حيث يتم إحلاله في منطقة أخرى من المخ: التواصل، الشعور بالسكون والتوحد مع المحبوب.

(٢٢) الصور المتعددة للحب

بالطبع، بوسع الحب الرومانتيكي أن يتخذ أشكالًا عدَّةً. بوسعك أن تستيقظ وحيدًا في منتصف الليل تغمرك مشاعر اليأس والإحباط. ثم تأتيك مهاتفة أو إيميل من حبيبتك في الصباح فتبدأ آمالُك في الانتعاش. ثم تقابل حبيبتَك على العشاء فتتكلم وتضحك فتتحول فورةُ مشاعرك إلى حال من الأمن والسلام. بعد العشاء تقفزان على فراشك معًا في كتاب، وسرعان ما تغمرك الرغبة الجنسية. ثم في الصباح تختفي حبيبتك وقد نسيَت أن تقول لك: إلى اللقاء، ثم تُخلف معك موعدَها القادم أو تُخطئ وتناديك باسم آخر، فتدخل في اليأس والقنوط والكآبة من جديد.

«يا لَها من مطاردة للفرح وسعي محموم نحو ما لا يأتي! يا لَه من صراع من أجل ما يهرب! يا لَها من لعبة الرق والمزمار! يا لَها من فورة البهجة المتوحشة؟» هكذا كان يعرف جون كيتس بوضوح أن الحبَّ الرومانسيَّ ما هو إلا ثورة اضطراب جُماعها دوافعُ متباينةٌ على نحوٍ وحشيٍّ ومشاعر مختلطة من حالات ذهنية لا حصر لها. العطف والحنان، الفرح، الرغبة، الخوف، القلق، الشك، الغيرة، الترقب، الارتباك، عدم الارتياح، الخجل: في أية لحظة يمكن لهذا التليسكوب من المشاعر أن ينزاح، ثم يعاود الانزياح من جديد لزاوية جديدة.

«الحب أفضل ما يُشبَّه به هو الفيضانات والأعاصير.» هكذا كتَب السير ولتر رالييه.٦٠ نسبح في هذا المدِّ والجزر. ولكن علماء النفس بوجهٍ عامٍّ يميِّزون بين نوعَين أساسيَّين من الحب الرومانتيكي: الحب المتبادَل — وهو المصحوب بالتحقق والفرح؛ والحب غير المتبادَل — أي المصاحب للخواء، والقلق والهم والأسف.٦١ جميعنا تقريبًا جرَّب بهجة الحب وأوجاعه.
لسنا وحدنا. في كتابه: «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان»، يفترض تشارلز دارون أن الإنسان يتشارك مع الحيوانات «الدنيا» في كثير من المشاعر.٦٢ بالفعل، الكثير من الحيوانات ذات الفراء وذات الريش تلك التي تشاركنا هذا الكوكب يبدو أنها تشعر بنسخة ما من العشق الرومانتيكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤