الفصل السادس

لماذا نحبُّ

تطوُّر الحب الرومانتيكي
«نوافير تتمازجُ مع النهر،
والأنهارُ مع المحيط،
رياح الفردوس تختلط للأبد،
مع العاطفة العذبة،
لا شيء في العالم يبقى وحيدًا،
كل الأشياء بقانون إلهي،
تتعشَّق وتتضافرُ وتذوب في الأشياء الأخرى.
فلماذا أنا
لستُ معك؟»
بيتسي بايش شيلي
«فلسفة الحب»

«يبدو أنني أحببتكِ على أشكال لا حصر لها/مرَّات لا عدد لها/في حياة إثر حياة/طوال عمر بعد عمر …/اليومَ ها هو مكدَّس عند قدميك/وجد ضالته أخيرًا: فيكِ: الحبُّ/حبُّ الجنس البشري في كل أيامه/منذ الأزل وحتى الأبد.» الشاعر الهندي رابندرانت طاغور كان يشعر أن حبَّه لامرأة قد عبر الدهور داخل عقل خُلق منذ بداية الأزمان. بالفعل، نحن نحمل كل تاريخ فصيلنا البشري مطمورًا في عقولنا، كل المسارات والدوائر التي شيَّدها أسلافُنا فيما يغنُّون ويرقصون ويتشاركون حكمتهم وطعامهم ليتوددوا إلى أحبتهم وأصدقائهم، وحينئذٍ يقعون في الحب «معه» أو «معها».

كيف حدث أن صرنا نغازل ونحب بالطريقة التي نفعلها؟ الفيل الفحل لم يُمطر «تيا» بالقصائد لكي يثبتَ لها أنه ملك الأفيال. سكيبر الذي وجد حبيبته الصغيرة في أحد مساءات الربيع؛ لم يغنِّ أغاني روك آند رول لآلاف من إناث القنادس لكي يؤثر فيهن أولًا. ميشا وقع في غرام ماريا بمجرد أن هزَّت ماريا ذيلَها الكلبيَّ ودَعَته للعب معها. لكل الحيوانات تفضيلاتها التزاوجية. ومعظمها تُطور أساليب تزيُّنها وغزلها باختلاف أنواعها لكي تُبهر أولئك الذين سيصبحون عشاقًا. لكن ليس من مخلوقات سوى الإنسان، الذي يستعرض مواهبه على هذا النحو المبالغ فيه كما في سونتات القصائد والقفز من الطائرات.

كما لاحظ عالم النفس جيوفري ميللر، العديدَ من صفاتنا البشرية الاستثنائية، مثل مهاراتنا اللغوية المنمقة، انجذابنا لكل أنواع الرياضات، حميتنا الدينية، خفة ظلِّنا وقِيَمِنا الأخلاقية، جميعها مهارات شديدة التنميق، غالية الثمن، نؤديها من أجل عملية التزاوج، وعديمة الأهمية للغاية في رحلة الكفاح من أجل الوجود لكي نرتقيَ بالكاد من أجل أن نحيَا يومًا آخر. كان على الحيوانات أن تبرز، على الأقل جزئيًّا، لكي تساعدنا على الغزل والفوز في لعبة التزاوج.

والأكثر من هذا، فقد عرضت هذا على كل المغازلين الرائعين الذين تتبعناهم لكي نُقنعَهم بالرفقاء المقترحين، فوجدنا أن الرجال والنساء أيضًا قد طوروا شبكة معينة في أمخاخهم لكي يستجيبوا لتلك السمات: الدائرة الكهربية للحب الرومانسي. تلك العاطفة، الصورة المطورة من الانجذاب الحيواني، تنبثق للوجود لكي تدفعَ كلًّا منَّا لكي يختارَ من بين العديد من العروض الغزلية المتنوعة، فنفضل واحدًا بعينه، ثم نبدأ رقصة التزاوج الأولية حصريًّا «معه» أو «معها».

لكن «ميلر» أبدًا لم يُخبرنا متى، أين، أو لماذا بدأ الكائنُ البشريُّ في تطوير تلك المواهب. وأنا لم أقدِّم تفسيرًا حول كيف تحوَّل فصيلنا من مخلوقات كانت تشعر بانجذاب مؤقت لفرد «بعينه» إلى رجال ونساء مستعدين للموت من «أجلها» ومن «أجله».

شيء حدث في عمق الزمان، أنتج اندفاع الانسان المحموم ذاك، نحو الحب.

(١) الحب في الأشجار

أشجارُ النخيل، أشجار التين، أشجار الكمثرى البرية، أشجار الماهوجني، أشجار دائمة الخضرة، أشجار، أشجار، وأشجار أكثر وأكثر تنبسط على أراضي أفريقيا الشرقية منذ ثمانية ملايين سنة.

هنا عاش آخر أسلافنا من ساكني الغابات. للأنثروبولوجيين دليلٌ مباشر صغير عن طبيعة حياة أسلافنا اليومية. ولكن أجدادنا الأوائل ربما عاشوا على النحو الذي يعيشه التشيمبانزي الحديث. نحن البشر نتشارك أكثر من ٩٨٪ من الحامض النووي DNA مع تلك المخلوقات. التشيمبانزي الأفريقي القياسي، وفصيل قريبه الأصغر المدعو بونوبو ما زالوا يحيَون فيما تبقَّى من تلك البيئة الأفريقية الأولية. ويظهر التشيمبانزي سمات عديدة من تلك التي تشارك فيها مع أجدادنا الأوائل. كما التشيمبانزي القياسي الراهن والبونوبو، بالتأكيد عاش أسلافنا في تجمعات، تتكون عادة من ثمانين إلى مائة ذكر وأنثى. كانوا ينامون في أعالي الغابات المظللة بأوراق الشجر، يستيقظون بعد الفجر، ويهبطون أرض الدغل ليقوموا بجولات تكرارية في محيط المنطقة المشتركة. لا بد أن يلتقيَ الأعضاء ويمتزجوا منفردين أو في جماعات صغيرة، يتناولون الطعام ويتبادلون الاجتماعيات العاطفية. الأسلاف الأوائل من البشر أولئك عرفوا مَن هو عضو الأسرة، كما عرفوا الصديق، وعرفوا الخصم. وكانوا يُثرثرون فيما بينهم عبر ما لا يقل عن خمسين نوعًا من الصيحات والأصوات الحادة، وكذا ثلاثون إيماءة وحركة تعبيرية. تمامًا مثل تشيمبانزي اليوم، كانوا يستخدمون الصخور كمطارق ليكسروا حبَّات البندق، وخلَّات الأسنان يصنعونها من العصيِّ الرفيعة، والمناديل من أوراق الشجر والحشائش المبطَّنة. مثل التشيمبانزي كانوا يقذفون الأحجار والعصيَّ لكي يهاجموا ويسيطروا، وليتصيدوا القرود. كانوا يتقاسمون اللحوم، ويشنون الحروب على الجيران التشيمبانزي، لكي يستولوا على أراضيهم. بعضهم كانوا يمزحون، وبعضهم كانوا قادةً، آخرون كانوا جسورين، مخادعين، فضوليِّين، أو عدوانيِّين. والكثير منهم كانوا يصنعون الصداقات، والعداوات، يمنحون البراعم كهدايا، يدافعون عن الرفاق في المشاجرات، ويمكثون جوار الأقارب الذين قضَوا نحبَهم. وكانوا كذلك يمارسون الحب. التشيمبانزي والبونوبو من بين أكثر الحيوانات النشطة جنسيًّا فوق الأرض. يقبِّلون أحيانًا قبلة فرنسية عميقة، يجولون ذراعًا في ذراع، يتعانقون، يضربون أحبَّتَهم برفق، يُربِّتون، يتزيَّنون، ينحنون أمام بعضهم البعض، وغالبًا يتزاوجون خلال معظم (إن لم يكن طوال) دورة الإناث الشبقية. لكن على عكس البشر، كان أسلافنا الأواخر من قاطني الأشجار غير انتقائيين في علاقاتهم العاطفية، تمامًا مثل تشيمبانزي وبونوبو أيامنا الراهنة. في ذروة الدورة الشبقية، كانت الأنثى من الأسلاف تقترن بذكر واحد وترحل عن التجمع لكي تتزوجَه في خصوصية. لكن تلك العلاقة مؤقتة، في معظم الأحوال لا تزيد مدتها عن أيام قليلة أو أسابيع. لم يكونوا يقعون في الحب. دون شك كان لأقربائنا الأوائل «تفضيلاتهم»، مثل بقية الكائنات الأخرى. لكن هذا الشبيه البعيد لم يُظهر ذلك التركيز المهووس على حبيب فرد محدد، ذاك المميز جدًّا في حالات الهوى والعشق لدى البشر. وربما لم يكوِّنوا أبدًا شراكة مكتملة تسمح بتربية الصغار. الأم لا تحتاج رفيقًا ليساعدها في حماية صغارها. تمامًا مثل التشيمبانزي، كانت الأمهات تربي صغارها بمفردها. إلا أن بعضًا من أسلافنا من قاطني الأشجار لا بد وأنهم قد شعروا بانجذاب نحو شريك ما «أكثر» من سواه، نوع من الألفة ربما تطوَّر في الأخير إلى ذلك الحب الإنساني. متى، أين، وكيف بدأت الإنسانية، بتلك الطاقة والعنفوان، لا أحد يعرف. على أنني أعتقد أن تلك الرحلة بدأت مباشرة بعد ما بدأ أسلافُنا في الهبوط من أشجار شرق أفريقيا ليشيِّدوا عالمًا جديدًا فوق هذه الأرض المفعمة بالمخاطر.

(٢) الخطوة البشرية

الحفريات البشرية الأولى جاءت من تشاد الشرقية. في عام ٢٠٠٢م، سجل الأنثروبولوجيون كشفهم جمجمةً شبه مكتملة وأيضًا العديد من الأفكاك والأسنان في تلك الدولة في أواسط أفريقيا.١ شبيهٌ ما بالإنسان عاش هنا، بالقرب من البحيرة العذبة الضحلة، منذ ما بين ٦–٧ ملايين من السنين. لا بد أنهم كانوا يقضون معظم أيامهم في الأشجار التي تتكاثف على طوال الشاطئ. البعض لا بد أيضًا كان يخاطر بالنزول للسهول المكشوفة، الملاصقة لشرائط الغابات التي تتمايل فيها أعشاب البراري. ربما راحوا يتتبعون نسرًا إلى حيث جثة نصف مأكولة لظبي أو لأحد الوحوش الضارية. ربما كان الأشجع من بينهم هو الذي يرمي العصيَّ أو الأحجار على الأسود التي تأكل، لكي يسرقوا وجبة طعامها. البعض ربما خاض في المستنقع العميق أيضًا، وهو يرقب محاذرًا فرسَ نهر غاطسًا لكي يتصيد سلحفاة أو يحبس في زاوية غزالًا جاء ليشرب. نعلم القليل عن أولئك الأقرباء. عظامهم لا تُخبرنا حتى إن كانوا يسيرون على قدمين أو أربع أقدام. ولكن «تيوماي»، الجمجمة كما يسميها أهالي تشاد، كانت جزءًا من سلالتنا البشرية. حقًّا، مخُّه لم يكن أكبر من مخ التشيمبانزي. إنما كان له وجه أكثر تسطيحًا، وفكٌّ أكثر شبهًا بفك الإنسان، وكذا أسنان شبيهة بما لدى البشر. وكان هو وأقرباؤه يتغازلون، يتزاوجون، ويُنجبون. وأنجب أطفالُهم، وأنجب أطفالُ أطفالِ أطفالهم أيضًا. لأنه قبل حوالي ٣٫٥ مليون سنة، كان العديد من أشباه الإنسان يجوبون الغابات الشاسعة والمفتوحة وغابات السافانا التي تمتد بطول شرق أفريقيا. وجد الأنثروبولوجيون المئات من العظام والأسنان الأحفورية. تلك الأقوام قد تغيرت. وجوههم، سيقانهم، مؤخراتهم، والجماجم، جميعها تدل على الرجال والنساء الذين مشوا منتصبين على قدمين، بدلًا من أربع. أنا أعني تلك الخطوة البشرية. بينما تتوازنُ أعناقنا فوق أكتافنا، وتمتشق عمداننا الفقارية فوق مؤخراتنا، وتنبسط الساق، وتنثني الركبة، لنطرق الأرض بكعوبنا، ونلف وندور حول كاحل القدم ثم نقفز فوق أطراف أصابعنا، حتى نكاد نسقط تقريبًا دون جهد للأمام.

هذا التجديد الفردي كان له أن يغير كثيرًا في طبيعة الحياة فوق الأرض. عن طريق المشي على قدمين، أصبح بوسع أسلافنا أن يحملوا الصخور ويُلقوا بها على الفهود أو الأسود التي تهاجمهم في الظلام. عن طريق المشي، أصبح بوسعهم أن يحملوا العصيَّ ليحفروا الأرض ويزرعوا البذور والبراعم. عن طريق السير، صار بوسعهم أن يقذفوا الأحجار الصغيرة على الحيوانات الضئيلة التي تُعشش في الحشائش. السير على قدمين أيضًا حرَّر اليدين من أجل التلويح للتعبير، كما حرَّر الأفواه للنطق بالكلمات. عن طريق السير، والتجميع، وحمل الأشياء، بدأ أسلافنا خطوتهم غير المدوَّنة نحو الحداثة.

كل هذا حقائق. الآن من أجل النظرية. أعتقد أن الخطوة البشرية سبَّبَت مشاكل للإناث، أصبحن مضطرات إلى حمل أطفالهن على أذرعهن بدلًا من حملهم فوق ظهورهن. في الأشجار، كانت إناث أسلافهن من ذوي الأربع من أشباه التشيمبانزي يحملن صغارهن على ظهورهن. في تلك البيئة المكسوة بأوراق الشجر كانت الأيادي حرَّة لجمع الثمار والخضراوات. وكان بوسع الأنثى بسهولة أن تتسلق الأشجار وأن تهرب من المهاجمين إلى مكان آمن عالٍ عن الأرض. ولكن ما إن بدأ أسلافنا في المشي على الأرض أسفل الأشجار وفي الخارج في السهول المفتوحة، وكذا في حملِ العصيِّ والأحجار ليحصدوا الطعام، أظن أن الأنثى أصبحَت محمَّلة أكثر بالأعباء.

كيف يمكن لأمٍّ صغيرة أن تحفر الأرض لبذر الجذور، أو تصيد الحيوانات الصغيرة بيد واحدة بينما تحمل طفلًا متكورًا يزن عشرين رطلًا باليد الأخرى؟ كيف يكون بوسعها أن تهرب بسرعة من الأسود الجائعة التي يسيل لعابُها بينما تئنُّ تلك الأنثى بحمل ذراعَيها المحملتين؟ أظن أن تلك الإناث الأولى قد بدأت في الاحتياج إلى رفقاء لكي يساعدوا في الإطعام والحماية، على الأقل في فترة حملهن وتربيتهن الصغار.

وهكذا وبينما تبنَّى أجدادنا الحياة على الأرض الخطرة، أصبح الترافق والعلاقة الثنائية أمرًا حتميًّا للإناث وأمرًا عمليًّا للذكور. وهكذا تطوَّر الأمر إلى الارتباط برفيق واحد، وهي العادة البشرية في تشكيل علاقة ثنائية بين رجل واحد وامرأة واحدة في وقت واحد.٢
لدينا بعض الأدلة على حدوث التطور إلى الزواج الأحادي منذ زمن بعيد. حديثًا، كانت عظام الرجال والنساء الذين عاشوا قبل حوالي ٣٫٥ مليون سنة تم حساب أحجامها ووجدوا توافقًا مع الهياكل العظمية. وتبيَّن أن الرجال كانوا على نحو ما أكبر حجمًا من النساء؛ وللحق كان الجنس يختلف بين واحدهم والآخر تقريبًا كما يختلف على نحو نسبي بين رجال الزمن الحديث ونسائه. عادة ما يستخدم الأنثروبولوجيون اختلافات الحجم بين الجنسين في فصائل الكائنات ليقيسوا أي نوع من الحياة الاجتماعية كانت تعيش تلك الجماعات. وأشارت تلك الاختلافات الحجمية إلى أن أولئك الأقارب الأوائل عاشوا حياة أقرب ما تكون للوحدات الاجتماعية التي نعيشها الآن: «كانوا أحادييِّ التزاوج على نحو مبدئي».٣
وجد العلماء أدلة وراثية جينية أيضًا تؤكد أحادية التزاوج لدى أسلافنا الأوائل. تذكرون جرذان البراري، تلك الكائنات الشبيهة بالفئران التي تكوِّن تزاوجات ثنائية فورًا بعد البلوغ وتمضي حياتها مع شريكها في جحر؟ عالم الأعصاب توم إنزيل وزملاؤه اكتشفوا زيادة حامض DNA في الجين الذي يتحكم في توزيع الهرمونات المستقبلة في المخ، وكذلك غياب حامض DNA في تلك الكائنات التي ليس لديها انتقائية في اختيار الشريك، أولاد العمومة غير الاجتماعيين من الجرذان الجبلية. أخذ أولئك العلماء عينة ضئيلة من حامض DNA من جرذان البراري وحقنوها في ذكور ذوي خصال شديدة النفور اجتماعيًّا. وبكل تأكيد وُجد أن تلك الجرذان قد بدأت في تكوين علاقات ثنائية مع إناث محددة بعينها.٤
للبشر جينات مشابهة لتلك التي تتحكم في نشاط الغدة النخامية. وبعض الناس (وليس كلهم) يحملون هذا التزايد في حامض DNA في هذا الجين.٥ يومًا ما سنعرف ماذا تعمل بالضبط تلك المنطقة الجينية في الناس، ولماذا يحملها البعض ولا يحملها البعض الآخر. حتى الآن بوسعنا أن نقول التالي: منذ زمن بعيد جدًّا، كان على البشر أن يكوِّنوا ثنائيات لكي يربُّوا صغارهم؛ لأنه يوجد على الأقل جين واحد يتحكم في أحادية التزاوج، والسلوكيات المرتبطة بذلك، وهذا الجين موجود في حامض DNA الخاص بنا.
«اثنان خيرٌ من واحد.» هكذا يقول الإنجيل.٦ وأظن أن أسلافنا قد أدركوا هذه الآية قبل أكثر من ٣٫٥ مليون سنة.

(٣) تطور الطلاق

على أنني لا أرى أن ذلك الرباط الثنائي لا بد أن يكون أبديًّا في كل أنحاء العالم، حيث مسموحٌ للبشر بالطلاق (وبوسعهم الطلاق اقتصاديًّا)، يوجد الكثيرون ممن يختارون الطلاق. إذا ما سألتهم لماذا يفصمون وحدتهم، يعطيك كلٌّ منهم إجابة مختلفة. لكن ارتباط البشر له أنماط عدة، وبعض هذه المخططات أخذ في التطور في مهد النوع البشري.

توصلتُ إلى هذا الاستنتاج بينما كنت أجمع معلومات حول الطلاق في تنويعة بشرية من خمسة وثمانين من التجمعات البشرية المسجلة في كتاب الديموجرافي السنوي في الأمم المتحدة.٧ وجدت كمًّا مثيرًا للدهشة من نماذج الانفصال بين الناس. كانت هناك توقعات عديدة، دون شك. ولكن كقاعدة، فإن الأزواج حول العالم الذين انفصلوا يكثر انفصالهم في العام الرابع من الزواج، وفي منتصف العشرينيات من أعمارهم، مع وجود طفل صغير.

في البدء كانت تلك النماذج بلا معنى بالنسبة إليَّ. ولكن بعدما قرأت حول عادات التزاوج والاقتران في الكائنات الأخرى، بدأت أرى بعض التوازيات الخارقة.

فقط ٣٪ من الثدييات تقترن كزوجين لتربية صغارهما؛ البشر من بينهم؛ ولكن تلك العادة تحدث فقط تحت ظروف خاصة. من بينها: إناث الثدييات تكوِّن رابطة ثنائية حينما لا يستطعنَ أن يربِّينَ صغارهن بمفردهن.

مثل الثعالب. الثعلب وأنثى الثعلب يكونان رباطًا ثنائيًّا في منتصف فبراير، يحفران جحورًا عديدة، ويربيان صغارهما معًا. يفعلان هذا لأن الأنثى تحمل أكثر من خمسة صغار ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تولدُ عمياء وصماء. حليب الأنثى يكون خفيفًا للغاية حتى إنها تضطر للبقاء في الجحر بشكل مستمر تقريبًا لإرضاع صغارها. تكاد تموت من الجوع ما لم يطعمها أحد. لهذا تكوِّن هي و«صديق خاص» ما رابطة ثنائية ليربِّيا معًا صغارهما. وبينما يشرع الصغار في التجوال خارج الجحر في ذروة الصيف، ينفصل الرفيقان. انتهت مهمتهما معًا. في العام التالي ربما يعيد الزوجان رباطهما، ولكن في الأغلب سوف يتخذ كلٌّ منهما رفيقًا مختلفًا.

مسلسل أحادية التزاوج شائع لدى أصدقائنا من ذوي الريش. طائر أبو الحنَّاء المغرد الذي يُزيِّن بموسيقاه وحضوره حدائقنا كل ربيع، يترافق في ثنائيات مع كل موسم تزاوج. لا شك أن الرفيقَين يتقاسمان الواجبات كذلك. أحدٌ ما لا بد أن يرعى البيضة حتى تفقس، ثم يحمي الفراخ الوليدة؛ بينما يقوم الآخر بتوفير الطعام للأسرة. يُفرخ ذاك الثنائي الناجح مواليدَ عديدة ويُربِّيها. ولكن، ما إن تنمو الأجنحةُ الصغيرةُ وتطير بعيدًا، ينفصل الأبوان. في العام التالي، العديد منها سيتخذ شريكًا جديدًا.

وهكذا، في تلك الفصائل التي تترافق لتربِّي الصغار، يبقى الكثير منها فقط بما يكفي لكي تنموَ صغارها وتتجاوز مرحلة الطفولة.

المبدأ ذاته يبدو أنه مطبَّقٌ لدى البشر. نجد في المجتمعات التقليدية، أسلوب الحياة مع التمارين المعتادة، وحمية إنقاص الوزن. نقص الوزن الذي كان مرتبطًا بطقس تربية الصغار لفترة ممتدة من الوقت يمنع حدوث التبويض لسنوات عديدة بعد المخاض. من بين تلك المجتمعات كان كانج بوشمان في أفريقيا الجنوبية. سكان أستراليا البدائيون، الغينيون في غينيا الجديدة، اليانومامو في الأمازون، والنيتسيلكي في الإسكيمو، النساء في تلك الثقافات يَمِلنَ إلى حمل الصغار كل حوالي أربع سنوات. وكنتيجة لذلك، يعتقد الأنثروبولوجيون أن فترة السنوات الأربع، هي الفترة الطبيعية التي تفصل بين كل حمل وآخر طوال فترة عمر الإنسان فيما قبل التاريخ.٨

وهكذا فإن فترة حضانة الإنسان متماثلة بشكل عام في أنحاء العالم كافة لفترة الزواج التي تنتهي بالطلاق.

وهكذا، ها هي نظريتي، ربما مثل طيور الحناء المغردة، والثعالب، والعديد من الكائنات من سلالة التزاوج الأحادي، كان أسلافنا البشريون الأوائل الذين عاشوا قبل ٣٫٥ مليون سنة يظلون في تزاوجات ثنائية فقط بما يكفي لتربية طفل واحد خلال مرحلة طفولته، حوالي أربعة أعوام.٩ حينما لا تحتاج الأم إلى حمل الطفل وحضانته على نحو مستمر ويكون بوسعها أن تتركه مع جدته، خالته، ابنة خالتها، أو مع صغارها الأكبر سنًّا، في أثناء جمعها الطعام، فإنها لا تعود في حاجة إلى رفيق بكامل الوقت لكي يؤمِّن حياة الطفل. في الحقيقة بوسعها أن تحصل على الطلاق إذا ما وجدت رجلًا جديدًا تحبُّه أكثر. وكان للطلاق البدائي أيضًا توابعُ جينية: الرجال والنساء الذين «يتزوجون للمرة الثانية» قد يربُّون أطفالًا لآباء وأمهات آخرين، صانعين بذلك نماذج خيرية منوعة للتعدد النسبي.

«المشكلة ممكنة فقط في ملابس العمل.» هكذا كتب خبير الصناعة هنري ج كيزر. وما إن تطور مسلسل التزاوج الأحادي عبر أجيال لا تُحصى، أعتقد أن هذا المراس الفطري البشري مختار لدوائر مخية كهربية قصيرة المدى في اتصالها. بالتزامن مع هذا الابتداع الملحوظ جاءت الفكرة البشرية التي تُسمَّى «الأب»، «الزوج» والأسرة التي تتمركز حول النواة، والميل الإنساني لعدم الراحة من العلاقات الطويلة، وولع الإنسان بفصم العلاقة والتزاوج من جديد: مسلسل التزاوج الأحادي.

ولكن هل هذا الميل الفطري إلى تكوين شراكة قصيرة الأمد، تسبَّب في إشعال تطور الحب الرومانتيكي لدى الإنسان؟

ربما تسبب. ربما الانجذاب الذي يشعر به التشيمبانزي والمخلوقات الأخرى نحو رفيق «مخصوص» قد أصبح أكثر حدَّة واستمرارية، حتى إن الرجال والنساء البدائيين بدءوا في تكوين ثنائيات لتنشئة الصغار باعتبارهم فريقًا. وعندئذٍ ما إن يبدأ الانجذاب في الانحسار ببطء، حتى تنموَ مشاعر التلاصق الحادة. حينما يبدأ صغيرهما في الحبو خارج مرحلة الطفولة، أظن أن الزوجين يبدآن في البحث عن حب طازج. شركاء قليلون ربما يبقون معًا لكي يُنجبوا أطفالًا أكثر؛ والعديد غيرهم يبحثون عن رومانس جديد — وبلا وعي يُدفعون لإنتاج أطفال جدد.

لكن عملية التزاوج بالتأكيد كانت أسهلَ على نحو ما منذ ٣٫٥ مليون سنة. أقول هذا لأن أولئك الجنوبيِّين كان لديهم فراغٌ جمجمي حوالي ٤٢٠سم مكعب، أكبر على نحو طفيف من متوسط حجم جمجمة التشيمبانزي. وأشارت الانطباعات التي تكوَّنت حول الغشاء المخي الموجود داخل جماجم تلك الحفريات إلى أن نطاق اللغة البشرية لم يكن قد اتسع. لم يكونوا يتحدثون بالطرائق الإنسانية المعتادة. علاوة على هذا، لم يترك الأجداد رسومًا على جدران الصخور، وليس من مزامير أو طبال من صنع أياديهم. إنهم حتى لم يصنعوا سكاكين أو أقداحًا صخرية أو أي أدوات صخرية للصيد، وهي العلامة الدماغية للنوع البشري. أسلافنا لم يكونوا قد طوروا الموهبة اللغوية أو أي أدوات غزلية مما تتفاخر بها الإنسانية. تطور اللغة ترادف مع تطور تلك المواهب الإنسانية المميزة في الغزل، تلك التي أعتقد أن الحب الرومانسي لا بد أن يُزهرها.

لكي يغازلوا، كان على الجنوبيِّين الأوائل أن يعتمدوا على حالتهم في المجموعة، على حكمتهم وسحرهم الشبيهَين بما لدى التشيمبانزي. ربما كانوا يشعرون بعمق بالانجذاب نحو رفيق ما، وربما بقوا ملتصقين برفيق التزاوج لعدة سنوات. لكن العديد منهم ذهب ليغازل ويحب رفيقًا جديدًا.

(٤) «أيها العالم الجديد الجسور»

العالم الجديد الجسور الخاص بالبشر، ذاك الذي تساءلت عنه ميراندا في مسرحية «العاصفة» لشكسبير، بدأ في الظهور منذ حوالي مليوني سنة. كان البشر الجدد قد بدءوا يجوبون السهول المفتوحة التي هي اليوم دولتا كينيا وتنزانيا — Homo Habilis أو الإنسان ذو اليدين.
وجد الأركيولوجيون أكوامًا من أدواتهم الحجرية غير المكتملة منثورةً عبر سهول شرق أفريقيا.١٠ أجيال إثر أجيال من البشر الأوائل «هومو هابيليس» لا بد قد أتوا إلى تلك المناطق الحجرية لكي يصنعوا مطارق من الحجر، وسكاكين، وسندانًا، وأدوات أخرى، ثم خلَّفوا وراءهم شظايا صخرية وأجزاء غير مكتملة وقِطَعًا ناتئة من الصخور الزجاجية والكوارتز والأحجار الكلسية. لم يكونوا أصحاب مهارة عالية. لقد ضربوا فقط وجهًا أو وجهين من الصخرة ليصنعوا حافة حادة أو مدببة. لكن تلك الأدوات البدائية كانت فائقة بالنسبة لأي أدوات صنعَتها أي كائنات أخرى كانت تعيش في تلك الحقبة.

أسلافنا هابيليس كانوا أيضا يتجمعون حيثما يبدو أنها أمكنة لتوليد اللحوم. هناك كانوا يجرُّون كتلًا ضخمة من نتاج لعبة القنص، ثم يجلسون ويقطِّعون شرائح اللحم بالعظام، يزيلون النخاع والدهون، ثم يتقاسمون الطعام. وُجد حوالي ٢٥٠٠ قطعة من عظام الحيوانات في تلك الأكوام من النفايات. ثمة دلائل على أن أسلافنا كانوا يقنصون تشكيلة ضخمة من الحيوانات الكبيرة، أيضًا. الحمار الوحشي البدائي، الخيول، الخنازير، القرود، الغزلان، وعدة أنواع أخرى من الظباء كانت من ضمن طرائدهم. ولأن تلك الحيوانات كانت كبيرة الحجم جدًّا لأن تُستهلك على نحو فردي، فإن أقرباءَنا كانوا يتقاسمون غنائمهم تبعًا للقواعد الاجتماعية المُتَّبعة.

وتركوا أيضًا ما يمكن اعتباره دليلًا على الحب الرومانتيكي.

بعض أولئك القنَّاصة تركوا عشرات الأدوات الحجرية حول فيل ساقط. عظامه كافة بقيَت ما عدا نابه وحوافر أصابع قدميه. هل أزالوا تلك الزوائد كتمائم لجلب الحظ في القنص، أم في الحب؟ هل كان أولئك القناصة يمنحون تلك التذكارات لكي يلسبوا قلوب فتيات «لهن خصوصية ما»؟

أقترحُ تلك الاحتمالات جميعها؛ لأن تلك الأقوام كانت آخذة في نمو العقل واكتساب الذكاء. أحد أولئك اﻟ هومو هابيليس، ممن عاش قبل حوالي ١٫٨ مليون سنة فيما يعرف الآن بالمناطق الوعرة «كوبي فورا» بكينيا، بلغ حجم الفراغ الذي شغله المخ لديه حوالي ٧٧٥سم مكعب. أصدقاؤه وجيرانه كان حجم الجمجمة لديهم في متوسط ٦٣٠سم مكعب. وجدير بالملاحظة أن إحدى الجماجم التي عمرها ١٫٨ مليون سنة كان بها فراغ في الجانب الداخلي وهي تعادل المنطقة المخية التي نعرفها اليوم باسم منطقة بروكا. يستخدم الإنسان تلك المنطقة المخية لتكوين الكلمات وإنتاج الأصوات التي تشكِّل اللغة البشرية.

إنه الكلام. ثمة نظريات مختلفة عدة حول تطور اللغة البشرية حتى أعلن مجمع اللغويات في باريس عام ١٨٦٦م أنه لن يقبل مقالات جديدة حول هذا الموضوع. هذا الإعلان تقريبًا لم يردع أحدًا. وأنا لن أقدم نظرية تفصيلة أخرى. ومع هذا، فحينما بدأت منطقة بروكا المخيَّة في اتخاذ شكلها الآدمي منذ ١٫٨ مليون سنة، أصبح منطقيًّا الاعتقادُ بأن بعض أسلافنا قد بدءوا في الكلام بنوع ما من اللغة البشرية البدائية.

بوسع المرء بالتأكيد أن يرى أهدافًا عديدة للغة، عن طريق الصخب الذي يحمل أو لا يحمل المعنى، تشكَّلت ثم أُعيد تشكيل الكلمات، وبالكلمات المتواترة نحويًّا تكونت الجملة. رجال ونساء اﻟ هومو هابيليس استطاعوا تكوين الجدل، صفقات الهجوم، مؤازرة القادة، الاحتيال على العدو، تعليم المهارات، توبيخ الغشاشين، نشر الأخبار، وضع القواعد، تسكين الحزن والدموع، الدفاع عن الأقرباء، استرضاء الآلهة، واستدعاء الأحداث التي حدثَت منذ سنوات.

الأحاديث الآدمية الأولى كانت غالبًا حول الطقس. أقول هذا لأنني ألاحظ أهمية حديث الناس حول هذا الأمر وتكراريته. لا شك أن أسلافنا أيضًا كانوا يتناقشون حول: أي طريق سلكه الحمار الوحشي، عند أي جرف تحتشد القرود الأفريقية وقت الغسق، البطيخ الناضج بالقرب من الوادي الضيق، ولماذا كان طفل «مارا» يبكي في الليل. من المحتمل أنهم قد عبَّروا عن مئات الأفكار الأخرى والمشاعر التي كانت تمرُّ في يومهم، أو البارحة، أو الغد.

لكنهم عن طريق الكلمات أيضًا استطاعوا أن يمارسوا الغزل. كان بوسع الرجال والنساء قص الحكايات الذكية، وإنشاد النغمات الجنسية، وإغواء العشاق المحتملين بأفكار مثيرة. عن طريق الكلمات، كان بوسع أسلافنا أن يجاملوا، يُغووا، أو يشاكسوا. كان بوسعهم أن يُثرثروا، يسردوا الحكايا، وأن يتهامسوا مع الأحبة أيضًا. وفيما أخذت اللغة البشرية الأولى في الظهور بالتدريج، لا بد وقد بدأ أسلافنا هذه الدردشة البشرية التي لا نهاية لها حول «هو»، و«هي». في هذا التوقيت من رحلة تطور الإنسان، أظن أن الدوائر الكهربية للمخ في جاذبية الحيوان قد بدأت تتطور إلى الصيغة البشرية: الحب الرومانتيكي. أضع هذه الفرضية بسبب سلسلة من الأسباب ذات الصلة.

(٥) فتى ناريوكوتوم

مات فتًى. غَرِقت عظامه في وحل مستنقع منذ حوالي ١٫٦ مليون سنة فيما يُعرف اليوم باسم: كينيا. في عام ١٩٨٤م، جمَّع أنثروبولوجيو حقبة ما قبل التاريخ، تقريبًا معظم بقاياه الأحفورية.١١ حينما أعادوا تركيب عظامه وأسنانه، شخصوا أمام صبيٍّ كان ما بين الثامنة والثانية عشرة من عمره. كان على نحو ما يُشبهني ويشبهك.
صبي ناريوكوتوم، Nariokotome Boy كما أطلق الأنثروبولوجيون على هذه الحفرية المدهشة. كان طوله يناهز الست أقدام، ودخل مرحلة البلوغ. يداه، ذراعاه، مؤخرته، ساقاه، كانت جميعها مشابهة لما لدينا. في الحقيقة، لو أنه ارتدى قناعًا، لأمكنه التجوُّل في شوارع اليوم دون أن يلحظَه أحد. ولو أنه خلع خوذة رأسه لانقطعَت أنفاسنا من الدهشة. كان لفتى ناريوكوتوم خطُّ حاجبَين ثقيلَين فوق عينَيه. جبهته كانت منخفضة ومائلة. ووجه كان ناتئًا. أسنانه كبيرة. ولم يكن له ذقن.

على أنه، هو وأقرباؤه من ذوي القوائم المنتصبة، كانوا قد تطوروا في نواحٍ عدة. أولئك الناس صنعوا أدوات مدهشة، تُعرف باسم الفئوس اليدوية. بعضها كان على شكل حبَّة اللوز، والبعض مثل الكمثرى أو دمعة العين؛ والعديد منها بلغ طوله ١٧ بوصة من القمة المدببة وحتى القاع المستدير، وجميعها كانت متوزانة النسب ومتناسقة. هذا الفن الشعبي كان له أحاديثه من أجل صناعة الأدوات والأسلحة البدائية. وتركوا خلفهم آلافًا من الفئوس اليدوية انسيابية الشكل، وكذا ما لا حصر له من تشكيلة السواطير، والمعاول، والسكاكين، على طول المستنقعات والبحيرات والشلالات والأنهار في أفريقيا الشرقية. كانوا قنَّاصة.

كانوا يصرعون المخلوقات الضخمة أيضًا. فقد خلَّفوا وراءهم مئات الأدوات حول هياكل خراتيت، أفيال، أبقار، وحمير وحشية. لكي يتتبعوا، يحاصروا، ثم يقتلوا تلك الضواري، كانوا بحاجة إلى مهارات مكانية ذات حساسية. لكي يُكوِّموا غنيمتهم، كانوا بحاجة إلى ذاكرة لروابطهم الاجتماعية والتزاماتهم ومهارات لغوية متقدمة. لكي يُشبعوا، يمنحوا، ينسقوا، يتعاونوا كجماعة، لا بد أنهم احتاجوا إلى روح الدعابة، والحنوِّ، والعديد من المهارات الاجتماعية التنفيذية الأخرى كذلك. الرجال والنساء من السلالة المنتصبة القامة التي تسير على قدمين في طريقها لأن تغدوَ بشرًا.

صبي ناريوكوتوم وأقرباؤه أيضًا روَّضوا النار.

لا الكمبيوتر، ولا المطبعة، ولا الآلة البخارية، كانت السبب في تحول الإنسانية مثلما فعل ذلك التطور التكنولوجي الأوَّلي: التحكم في اللهب.

عن طريق النار كان بوسعهم تصليد رءوس الرماح، طرد الثدييات الصغيرة من جحورها بالدخان، دفع الفيلة نحو المستنقع، سرقة عشاء الأسد، وإخافة كل أنواع الكائنات من كهوفها، ثم الاستيلاء على تلك الكهوف. المريض، الصغير، العجوز، كان بوسعه اللجوء إلى المعسكر. كانوا قادرين على صيانة المعسكر. وكان بوسعهم مواصلة النهار بالليل، يتحدثون حول لهب النار، وينامون في حماية بريقها. متحررين من إيقاعات الحيوانات الأخرى كافة، أسلافنا القدامى أولئك كان لديهم الوقت للغناء والرقص، يسترضون القوى المجهولة، يتأملون الأمس، يقررون الغد، ويستكشفون الأفق المترامي عند الشمال.

كانوا يستكشفون، حاملين الجمر الملتهب، نزح أسلافنا ذوو القامات المنتصبة خارج أفريقيا لكي يستكشفوا مناخات أكثر برودة، لأنهم قدروا على ذلك. منذ حوالي ١٫٨ مليون سنة بدأ طقس الأرض يتحول إلى الإغراق ليبدأ العصر الجليدي. دوريًّا، كانت جبال الجليد تسحب مياه المحيطات فينخفض مستوى سطح البحر في العالم أكثر من ثلاثمائة قدم، تاركًا طرق الأراضي الواسعة خارج أفريقيا. قطعان الحيوانات الضخمة كانت تتجه صوب الشمال لترعى في أراضٍ جديدة طازجة. وكانت عائلات الكائن المنتصب القادمة تَتْبعهم، تاركةً وراءها العظام والأدوات في أوروبا البعيدة، الصين، جزيرة جاوة بأندونيسيا منذ أكثر من مليون سنة.

(٦) قوة المخ

من بين كل النعم التي منحَتنا إياها النار، يظل الأهم ربما هو مقدرة الجنس البشري على طهو الطعام. وفي اعتقادي أن هذا الإبداع قد ساهم على نحو ملحوظ في تطور الحب الرومانتيكي لدى الإنسان.

طهو الطعام أسرَعَ من عملية إفراز الأحماض الأمينية التي تساعد في عمليات الهضم.١٢ طهو الخضراوات يدمر المواد المؤكسدة السامة في الجسم. وطهو أي طعام يخرِّب المواد العضوية الميكرو التي تنتزع المقاومة من الجهاز الهضمي وتقتل. ساعد الطهوُ صبيَّ ناريوكوتوم، وأقرباءَه، على أن يحيَا ويترعرع.
لكن الطهو أيضًا أسرَعَ من تطور المخ البشري لسبب طريف. على الحيوانات أن تستهلك طاقة أيضية ضخمة من تلك الطاقة المسئولة عن أكسدة المواد الغذائية لكي تبنيَ وتصونَ القلب والكبد والكليتين والمعدة والأمعاء. وعليها أن تستهلك طاقة أكبر لكي تبنيَ وتغذِّيَ المخ. لذلك على الحيوانات أن تُخصصَ توظيف مصادر طاقاتها. ولأن على المخلوقات التي تأكل بالأساس أوراق الشجر أن تُخصص قدرًا ضخمًا من الطاقة للأعضاء الهضمية، فإنها لا تستطيع أن تدعم مخًّا مركَّبًا كذلك.١٣ بينما تلك الكائنات التي تأكل اللحوم، لديها فائض من الوقود لكي توزعَه على قوة المخ.

هكذا بالضبط فعل الإنسان الأول المنتصب القامة. كان لدى صبي ناريوكوتوم حجمٌ جمجميٌّ يبلغ ٨٨٠سم مكعبًا. وبعض أقربائه كان يصل حجمُ جمجمته إلى ١٠٠٠سم مكعب؛ ليس أصغر كثيرًا من حجم الجمجمة لدى الإنسان المعاصر الذي يبلع ١٫٣٢٥سم مكعبًا.

يا لَه من استثمار! فبينما المخ البشري يمثِّل فقط ٢٪ من وزن أجسامنا، إلا أنه يستهلك ٢٥٪ من طاقتنا الأيضية، و٤٠٪ من جلوكوز الدم باعتباره غذاء. آلاف الجينات، في الحقيقة ثلث الجينوم الخاص بنا، تحدد تطورها. خلال العام الأول، يستهلك الأطفال ٥٠٪ من طاقاتهم الأيضية لمجرد بناء ميكانيزم المخ وتشييد حدَّته وتصفيته.١٤ الأكثر من هذا، فإن أقل خطأ في تلك العمليات من شأنه أن يُضعف من وظائف المخ على نحو خطير. ولهذا كان التطور المخي للكائن المنتصب القامة مكلفًا للغاية، مثلما هو ضعيف في عمليات التحول والفقر الهندسي. هذا العضو المدهش لا بد عليه أن يخدم أهدافًا شديدة الأهمية: من بينها التأثير على شريك التزاوج عن طريق أنواع جديدة من المواهب اللغوية، الفنية، الأخلاقية وغيرها من أساليب الإغواء.

الأمخاخ الأكبر حجمًا تُسبب مشاكل للنساء، مأزق لحظة الولادة هي الأمخاخ التي أعتقد أنها أسرعت من تطور الحب الرومانتيكي.

(٧) مأزق الولادة

كيف أمكن لنساء البشر منتصبي القامة أن يحملنَ أجنَّة برءوس كبيرة الحجم عبر قنواتهن الولادية الضيقة؟ حجم الحوض البشري لا بد أن يستعيدَ شكلَه الأساسي لكي يُمكِّن الإنسان من المشي منتصبَ القامة. وهكذا وبما أن رأس الجنين قد ازداد في الحجم، أصبحت النساء من أسلافنا مضطرة لأن يلدنَ أطفالهن في مرحلة «مبكرة» من التطور والنمو. يعتقد الأنثروبولوجيون أن «مأزق الولادة» هذا قد بدأ في الحدوث في الوقت الذي وصل فيه حجمُ الجمجمة للإنسان البالغ حوالي ٨٠٠سم مكعب، في عصر الإنسان الأول المنتصب القامة.

لا شك أن نساء كثيرات قد مُتْن وهنَّ يحاولنَ أن يلدنَ أطفالهن ذوي الرءوس الكبيرة. لكن الطبيعة تحب التنوع، وبعض النساء المحظوظات كنَّ قادرات على ولادة أطفالهن في مرحلة مبكرة من النمو. أولئك الأطفال عاشوا. وسرعان ما تطورَت في أسلافنا سماتٌ خاصة بفصيلنا البشري: أطفال غير مكتملي التطور يحتاجون الحضانة.

مع هذا التطور في النشوء أصبح على النساء من أسلافنا المنتصبي القامة أحمال أكبر في مهمة الأمومة.

وما زاد الأمور سوءًا بالنسبة للأمهات، أن الطفولة تقريبًا تتضاعف. يُكمل التشيمبانزي البلوغ حول سن العاشرة؛ نحن البشر لا نُكمل نمونا إلا حول الثمانية عشرة. وعلى عكس التشيمبانزي الذي يبدأ في إطعام نفسه حول الرابعة، يعتمد طفل الإنسان على البالغين حتى سنوات المراهقة المتأخرة. تُعرف هذه الظاهرة باسم «النضوج المتأخر». يعتقد الأنثروبولوجيون أن تلك السمة بدأت في التطور مع ظهور «الإنسان المنتصب القامة».١٥

يا لَه من عبء وأحمال — الأطفال الصغار، الضعاف، المحتاجون الرعاية يظلون مزعجين، عنيدين، دون مهارات، وجوعى لمدة تصل إلى عشرين سنة.

في أصل لعبة القنص الكبرى، الأدوات والأسلحة المدهشة، ترويض النار، أمخاخنا الآخذة في النمو، أطفالنا المحتاجون للرعاية، فترات مراهقتنا الممتدة، ومشوارنا من أفريقيا داخل تشيلي، العالم الشمالي الخَطِر، لابد أن أسلافنا قد شعروا بضغوط هائلة ليجدوا رفقاءهم الذين يعيشون معهم لمدة أطول من الزمن. حيث إن الأمومة وتنشئة الطفل قد أصبحت أصعب كثيرًا من أن يتحملها شخص بمفرده.

مع هذا التطور أظن أن التودد والغزل صار أقوى. الأفراد عليهم أن يميِّزوا أنفسهم عبر طرق جديدة وخاصة من أجل اجتذاب الشركاء الذين معهم سيكون التوافق والانسجام التام. الرجال والنساء كانوا قد بدءوا يطورون قدرًا قليلًا من المقدرة اللغوية، والموهبة الفنية، الدعابة، الإبداع، الجسارة، وغيرها من المواهب الإنسانية الأخرى من أجل البقاء والحياة في السهول المكشوفة، مثلما تطورت الدوائر الكهربية بالمخ لكي يستطيع أن يُقدِّر ويُثمِّن تلك المهارات لدى الآخرين. الآن يستخدم العشاقُ تلك المواهب بازدياد لكي يستعرضوا أنفسهم وقيمتهم وجيناتهم الجيدة أمام عشيقاتهم كذلك. وأولئك المُغازَلات يستجبنَ، تبعًا لميولهن وتفضيلاتهن وتقديراتهن لتلك المهارات.١٦

مع هذا الاحتياج الهائل للبحث عن واختيار شريك علاقة طويلة المدى، انبثقت، كما أظن، دوائر المخ الكهربية لدى الإنسان، تلك المسئولة عن الحب الرومانتيكي.

(٨) تطور الحب الرومانسي لدى البشر

ربما كانت العملية أسهل بعض الشيء، منذ مليون عام، تفوق بعض أسلافنا في الملاحظات الذكية أو الأحاديث الخلابة، بينما برع آخرون في البطولات الرياضية. تلك هي الصورة التبشيرية الأولى لصحفيِّينا المعاصرين، من أسلافنا الذين كانوا يتتبعون أعمال الجماعة؛ ويرسمون بالأخبار والشائعات صورًا حية للأحبة. بينما سحر الشعراء الأوائل معجبيهم بالحكايات الموزونة إيقاعيًّا. أما أسلاف رمبراندت وماتيس فقد رسموا بالرمال لوحات أجمل. فيما آثر أسلافنا، من المبشرين بنجوم الروك الحاليين، عشقياتهم بغناء الأساطير القَبَلية. البعض عالج المرضى، والبعض قدَّموا قرابينهم لأرواح الرياح والليل. البعض كان جسورًا؛ وآخرون كانوا كرماء على نحو استثنائي. آخرون كانوا يجعلون عشيقاتهم يضحكن. «حينما يجعلها الرجلُ تضحك، تشعر المرأةُ أنها محمية.» هكذا كتب أوجو بيتي. النساء من فصيل البشر المنتصبي القامة كنَّ يقعنَ في غرام الرجال الأذكياء، وكنَّ يرافقنَهم في الشجيرات في الأمسيات الكسول. في تلك الأيام السابقة ذات الاحتياجات الملحَّة، كان أسلافنا في حاجة ماسَّة متزايدة لمواهب خاصة، لكي يكسبوا قلوب رفقائهم في علاقة طويلة الأمد. أولئك الذين برعوا في التراكيب اللغوية المعقدة، أو الفنون، أو الغناء، أمكنهم الحياة والتناسل، ناقلين لنا هذه المواهب الإنسانية الأنيقة وغيرها. ولكن كل رجل وامرأة كان يُعلن تبعًا لميزانيته وطاقته؛ لأن كل شخص له كمية محدودة من الطاقة الأيضية ومن الطاقة المخية التي يستهلكها.١٧ وهكذا كان المغازلون يتمايزون، ويعرضون سلعتهم لكي يجتذبوا الحبيب.
وتستمر عملية الغزل تلك. أكَّد آينشتين مرة أن «الشخص الذي لم يُعطِ إسهامًا عظيمًا للعلم قبل سن الثلاثين، لن يفعل أبدًا.» على الرغم من أن بوسعنا جميعًا أن نرصد رجالًا ونساء قد أحرزوا تفوقًا في حيواتهم في أعمار متأخرة، إلا أن د. ساتوشي كانازاوا أستاذ كلية الاقتصاد في لندن أكَّد مؤخرًا مقولة آينشتين وقدَّم تفسيرًا داروينيًّا بعد فحص ٢٨٠ عالمًا من الرجال، أكَّد أن ٦٥٪ منهم قد أنجزوا اكتشافاتهم الأعظم قبل عمر ٣٥. لاحظ أيضًا أن معظمهم فقدوا دوافعهم الخلاقة بعد سنوات قليلة من الزواج. استنتج كانازاوا أن أولئك العباقرة كانوا «يبحثون لكي يؤثروا في النساء بتفوقهم.»١٨

أعتقد أن الرجال الأوائل من ذوي القامة المنتصبة (والنساء) كانوا يبحثون عن التأثير في رفقائهم المحتملين بفضائلهم وتمايزهم قبل أكثر من مليون عام.

الأكثر أهميةً لحكايتنا، بينما كان المُغازلون يُظهرون مواهبهم الخاصة المختلفة، فإن أولئك الذين «يشاهدون» تلك المناورات والحِيَل الغزلية بدءوا (وبدأْنَ) يحتاجون إلى قدرات متقدمة من الإدراك، الحكم، البصيرة، الذاكرة، الوعي، التيقظ والانتباه، الوعي بالذات، والعديد من ميكانيزمات المخ الحاذقة لكي يمايزوا ما بين المغازلين.

احتاجوا كذلك إلى دوائر المخ الكهربية لتُقدر تلك العروض الغزلية، احتاجوا أن يتذوقوا تلك السلوكيات، ليعجبوا بالحرارة الدينية، ليثمِّنوا تلك الابتكارات، ليحبوا القصائد الذكية، والإيقاعات الماسَّة، ليبتهجوا للأحاديث الطيبة، ليقدِّروا الإخلاص، ويحتفوا بالإصرار والعزيمة، ويثمِّنوا كل تلك المواهب المتعددة. كان عليهم أن يطوروا قوى المخ لكي يضبطوا المزيفين المخادعين. وبالتأكيد احتاجوا أن يطوروا من ميكانيزم المخ لكي يحللوا ويفسروا ما يفكر فيه العشاق المحتملون. هو ما يُعرف ﺑ «نظرية العقل»، تلك المقدرة على فهم الحالات الذهنية للآخرين، رغباتهم، نواياهم،١٩ وهي الملكة التي تطورت على وجه الخصوص لدى البشر. الرجال والنساء الأوائل من ذوي القامة المنتصبة كانوا بحاجة إلى آلية ذهنية لكي يُحدِّدوا ويخمِّنوا الشخصيات وأصول اللياقة الاجتماعية لكي يقدِّروا ويعلوا من قيمة مهارات مغازليهم منذ حوالي مليون عام.

يحتاجون كذلك غريزة بيولوجية هائلة تدفعهم لأن يركزوا طاقتهم الغزلية على شريك عشقي بعينه، وغريزة متينة لكي يكونوا راغبين في إقامة التزام طويل الأمد نحو هذا الفرد المخصوص، حتى إنه قد يموت من «أجله» أو من «أجلها».

«الذي لا يقتلني، يجعلني أقوى.» كما كتب فريدريك نيتشه. من بين البشر المنتصبي القامة، كان اختلافُ الميلاد وتأخُّر سنِّ النضوج عاملَين لإسراع الحاجة إلى رابط طويل المدى ومن ثَم الحاجة إلى المهارة الغزلية. وهذا الضغط الغزلي أعلى من قيمة المواهب البشرية الاستثنائية المدهشة، وكذا الآلية الذهنية البشرية لكي تُقدَّر تلك المواهب، وأيضًا تطورت الدوائر المخية الكهربية من أجل الحب الرومانتيكي، العشق الذي يدفع «المغازِل» و«المغازَل» لكي يصنعَا التزامًا عميقًا يربِّيان به صغارهما معًا لسنوات وسنوات.

«أوَّه، بكل رغبتي، سوف أقتفي أثرك بكُليَّتي.» أعلن والت ويتمان. لطالما احتاج الرجالُ والنساء إلى قول تلك الكلمات منذ مليون عام.

(٩) العقل يتطور مع النهار

بالطبع، كان لأسلافنا أسبابٌ حيوية أخرى لكي يُطوروا القدرات الإنسانية الفريدة. احتاج فتى ناريوكوتوم وأقرباؤه أن يشعروا بالتعاطف مع الرفقاء المجروحين، وبالصبر مع الأطفال العُنَّد أو غريبي الأطوار، وبالتفهُّم مع المراهقين المتبرمين الساخطين، وأن يطوِّروا التعاطف الاجتماعي مع أعضاء المجموعة من ذوي الصخب والغرور. كانوا فريقًا. وكان عليهم التحرك معًا فوق الحشائش، حقل القتال للكائنات الحية. حتى إن أولئك الذين كان بوسعهم أن يُدركوا المخاطر، يتذكَّرون فواجعَ الماضي، يضعون التوصيات، يطرحون البدائل والخيارات، ثم يُقرُّون القرارات، يحكمون المسافات، يستشرفون العوائق، ويُقنعون الرفاق بالتصرفات المنطقية وأساليب المخاطبة التي تحيَا على اختلافاتها. كان العقل البشري يتطور مع ضوء النهار.

ولكن بعد الظلام، كان عليهم التجمُّع حول وهج النار لكي يَشْووا لحومهم، ويشحذوا رماحهم، ويُهدهدوا أطفالهم، يقلدوا النعام، الخنزير البري، أو النمر الأسود، لن يناموا كما كانت تنام أقوامهم القدامى. لا بد أنهم كانوا يغنون أغنيات عن الشجاعة، الثبات والجَلَد، الإخضاع والغزو، يَثِبون ويتبارَون ليستعرضوا الجسارة والمثابرة، يبكون ليُظهروا التعاطفَ والوُدَّ، يتمازحون ليستعرضوا ذكاءَهم وفطنتهم. الكثير منهم أيضًا كانوا يتعانقون. مع ضوء القمر، بدأت مواهبنا المدهشة تأخذ شكلها البشري.

(١٠) الخطو نحو الحداثة

مع مرور الزمن، ظل أسلافنا يتركون أدلة متزايدة حول حياتهم الغزلية. منذ حوالي ٥٠٠٠٠٠ عام، كان لأحد الأشخاص، فيما يُعرف اليوم بأثيوبيا، مخٌّ يَصِل حجمُه إلى ١٫٣٠٠سم مكعب، حول متوسط حجم المخ البشري الحديث. كان له، أو لها، بكل تأكيد مخٌّ مركب – وعقلٌ قادر على العاطفة الرومانتيكية.

منذ حوالي ٢٥٠٠٠٠ سنة، كان هناك رجلٌ يعيش فيما يُعرف اليوم بإنجلترا، استطاع أن ينحت بدقة فأسًا يدوية متماثلة من قوقعة أحفورية وجدها مدفونة في كتلة من الصخور. ربما صنع تلك الفأس هدية لحبيبة أو إعلانًا لكي يُظهر للمحبوبة قدراته على صناعة الأدوات اليدوية. في الحقيقة، يؤكد العلماء الآن أن الفئوس اليدوية الضخمة ذات اﻟ ١٧ بوصة التي نحتها أسلافنا الأوائل قبل مليون عام كانت أكبرَ حجمًا من أن تُستعمل في القنص أو لجمع الخضروات أو الجذور. ولأن الكثير منها كان صعبَ الحمل لكبر حجمه ودقيق التشطيب والصناعة أيضًا، فربما كان الهدف من تلك الفئوس هو التأثير في المحبوبة لكسبِ وُدِّها.٢٠

منذ ستين ألف سنة كان سكان جبال زاجروس بشمال شرق العراق قد دفنوا جثمانًا في قبر غير عميق في أحد نهارات شهر يونيو، ثم غطوا الجثمان بنبات الخبار البري، وزهور الزنبق ونبات الكرمة، وأشواك الدردار، وأزهار الشيح. ربما كان أحدهم يتوق لرؤية محبوبته في الحياة الأخرى بعد الموت. في هذا الوقت نفسه، كان أحد الأشخاص في فرنسا يسحق كتلَ الهيماتيت والمنجنيز ليصنع بودرة من التربة الحمراء والرمادية والبيضاء. بكل هذا، كانت المرأة تُزيِّن ردفَيها وثديَيها من أجل رقصة الصيف.

منذ حوالي ثلاثين ألف سنة، كانت شعوب كرو-ماجنين يتباهون بجماجم تُشبه الجماجم البشرية الحديثة على نحو كامل، وأمخاخ تُماثل ما لديك وما لديَّ. الآن أصبحوا يزينون كلَّ شيء يلمسونه تقريبًا. الفنانون المميزون هبطوا إلى كهوف تحت فرنسا وإسبانيا ليرسموا الثور والغزال، والوعل، ووحيد القرن، والأسود، والدببة، والوحوش السحرية على جدران الكهف الرطبة. تلك المخلوقات الحمراء والسوداء والصفراء كانت تصطفُّ في تلك الكهوف الصغيرة بتلك الطاقة التي بثُّوها فيها. في هذا الصمت المطبق التام لتلك الكهوف، راح الموسيقيون يعزفون الناي ويقرعون الطبول. وكان المئات يرسمون فنونهم على الصخور الجدارية. وترك النحاتون وراءهم نماذجَ لتماثيل صغيرة لثيران بالطمي المحروق. ولا تزال بعض آثار الأقدام في بعض الكهوف تُنبئنا عن أولئك الراقصين على النور الخافت لمصابيح الزيت.

من أوروبا إلى سيبريا، كان الناس يحفرون تماثيلَ لإناث ممتلئات القوام باعتبارهن نماذج للخصوبة، إلى جوار تماثيل صغيرة لنساء حقيقيات كانوا يعرفونهن بالتأكيد. كان القناصة ينحتون مقابض الأدوات من العاج على هيئة خيول رشيقة. كما زيَّن الرجال والنساء أنفسهم بحبات الخرز، والقلائد، والوشم، كذلك بالقبعات، ربطات الشعر، والأثواب الفضفاضة. تُنبئنا الرسومات الجدارية حتى إن النساء كُنَّ يُصففنَ شعرهن.

حينئذٍ منذ حوالي ٤٠٠٠ سنة، كتب أحدُ قاطني سومر القديمة أولَ رسالةِ حبٍّ وُجدت في التاريخ، منقوشة باللغة المسمارية على أول قطعة من الطمي شُكِّلت على شكل منتظم. ترقد تلك الرسالة الآن في المتحف الشرقي القديم بإسطنبول بتركيا، بوصفها كارت معايدة من الماضي. هذا الشخص كان يحب. هو، أو هي، غمرَته مشاعر النشوة والفرح ذاتها، التي يشعر بها العشاق منذ مليون عام.

(١١) سعةُ الإنسان على الحب

كنت قد اقتنعتُ أن سكيبر، ماريا، تيا، وبقية الحيوانات التي أصبحَت مفتونة برفقائها التزاوجيين، تشعر بذات المشاعر التي تشعر بها أنت، وأشعر بها أنا، حينما نقع في الحب. كنت أفسر ذلك بأن أسلافنا بينما بدءوا يصبحون أكثر ذكاء، أخذَت النزعة الإنسانية لديهم في تطعيم تلك المغناطيسية الحيوانية بزخارف من العادات الثقافية والمعتقدات. لكنني غيَّرتُ رأيي. ما أقنعني بأن تلك التجربة الإنسانية في الحب الرومانتيكي أكثر تعقيدًا بما لا يُقاس — وأكثر عنفًا — هو معمار المخ المدهش الذي يُفعِّل إداركنا ومشاعرنا.

«المخ هو ثاني ما أفضله من أعضاء»، هكذا كان يمزح «وودي آلين» كما يُشاع. لو فكر وودي بعمق في قدرات العقل البشري، لجعله رقم واحد. فنحن أكثر ذكاء، أكثر مرحًا، أكثر حذقًا، وفنًّا، وروحانية، ومقدرةً على الابتكار، أكثر إيثارًا — وإثارةً جنسية — من أي حيوان آخر، لدرجة أنك لو استطعت بطريقة ما أن تُجمِّع كلَّ القدرات الذهنية لكل الكائنات غير البشرية، فإنها لن تتساوى مع قدرات طفل صغير في السابعة من عمره.

أظن أن العدَّة الذهنية التي تُنتج تلك المواهب الإنسانية تخلق أيضًا في النزعة الإنسانية «سعةً أضخم» من الحب الرومانسي.

كبداية، نجد أن لدى الثدييات الأكبر حجمًا، أمخاخًا أكبر حجمًا من معظم الثدييات، تبعًا للحجم الجسدي. القشرة الدماغية البشرية (القشرة الخارجية التي بها نؤدي عملية التفكير ونتعرف بها على مشاعرنا) تساوي تقريبًا ثلاثة أضعاف حجمها لدى القرد الغوريللا، التشيمبانزي، وإنسان الغاب.٢١ المخ البشري أثقل وزنًا أيضًا. يَزِن مخ التشيمبانزي حوالي رطل واحد، بينما يَزِن المخ البشري ثلاثة أرطال.٢٢ وللحجم دورٌ. أظهر بول م طومسون بجامعة كاليفورنيا لوس أنجيلوس أن عدد الخلايا الرمادية في الفصوص الأمامية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الذكاء.٢٣
المخ البشري أيضًا أكثر تعقيدًا. عدد الوصلات العصبية بين مناطق المخ تزايدت عن مثيلاتها في قرد الغوريللا.٢٤ لدينا أيضًا جينات أكثر لبناء المخ وصيانته. فالإنسان لديه حوالي ٣٣ ألف جين. حوالي ثلث هذا العدد تبني وتصون وظائف المخ. وعلى الرغم من أننا لا نملك عددًا أكبر كثيرًا مما لدى الغوريللا من جينات، فقط عدة مئات زائدة، إلا أنها تصنع اختلافًا نوعيًّا في كيفية أداء المخ لأن الجينات تتفاعل، وتُضاعف باضطراد عددَ التراكيب والتواليف المحتملة. تُعرف باسم «الانفجار التوليفي»، عند نقطة ما، احتاج أسلافنا جينات أكثر قليلًا ومن ثَم آلية أكبر كثيرًا لكي يبنوا ويُشغِّلوا مخًّا أكثر تفصيلًا وتدقيقًا. بعض جيناتنا تعمل بسرعة أكبر من تلك التي في أقربائنا اللصيقين.٢٥

ليس وحسب أن المخ البشري فقط أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا، بل تقريبًا كل مناطقه المتخصصة قد تمدَّدَت.

على سبيل المثال، القشرة الدماغية الأمامية، مجموعة أجزاء المخ التي تقع مباشرة خلف جبهتك، هي ضعف حجم ما لدى بقية الثدييات (انظر الرسم التوضيحي في ص٧٧).٢٦ وهو أكثر لولبية أيضًا،٢٧ مع ثنيات وطيَّات قشرية لحائية من أجل «إنتاج الذكاء».٢٨ هنا نحن نجمع الحقائق، الأسباب، نَزِن الآراء، نمارس التوقعات والتدبر، نكوِّن البصيرة، نصنع القرارات، نحلُّ المشاكل، نتعلم من التجارب، ونخطط للمستقبل. أيضًا نُضيف المعاني والقِيَم العاطفية لأفكارنا، نُقيِّم مجازفاتنا، ونسجِّل مكتسباتِ ما نجني.

بهذه المنطقة المخية المهمة، القشرة الدماغية الأمامية، كان بوسع البشر امتلاك سعة هائلة للتفكير «فيه» أو «فيها».

أمخاخنا البشرية أيضًا مكَّنَتنا من أن نحسَّ بحرارة وعنف. بصدق، ظننتُ طويلًا أن الطبيعة قد بالغت كثيرًا حين يتعلق الأمر بالمشاعر الإنسانية. نحن «نحسُّ» كثيرًا جدًّا. الآن أعرف لماذا. الفص اللوزي، المنطقة التي على شكل حبة اللوز الموجودة في جانب الرأس تحت القشرة الدماغية، حجمها أكبر من ضعفَي مثيلتها في القرد إنسان الغاب.٢٩ تلك المنطقة المخية تلعب دورًا مركزيًّا في تفعيل الخوف، الغضب، الكراهية والاشمئزاز، والعدوانية؛ وأجزاء منها تُنتج البهجة أيضًا. بتلك السعة المخية لإنتاج العواطف القوية والعنيفة غالبًا، نحن البشر لدينا القدرة على ربط اندفاعنا للحب مع مجموعة هائلة من المشاعر.
نحن كذلك مُنحنا تلك الملكة الفريدة التي تجعلنا «نتذكر» (ﻪ)، أو (ﻬا). «الذاكرة، بين كل قدرات العقل، هي الأكثر حساسيةً ورقَّةً وهشاشةً»، هكذا كتب «بين جونسون». وهو حق. فقط حاوِلْ أن تتذكَّرَ قصيدة طويلة أو ماذا أكلتَ منذ أسبوع. لكي تُساعدَنا على التذكر، تتآمر الطبيعةُ لكي تجعلَ قاعَ المخ، منطقة المخ التي نستخدمها لكي نُنتجَ ونخزِّنَ الذكريات، تقريبًا ضعف حجمه لدى القردة العليا.٣٠ تلك المنطقة المخية تستعيد على نحو مدهش كلَّ المشاعر التي تصاحب الذكريات كذلك. بهذا المصنع المدهش وصندوق التخزين، الذي اسمه قاع المخ، نستطيع نحن البشر أن نستعيدَ تجميعَ أدق التفاصيل حوﻟ(ﻪ) أو حوﻟ(ها).
على أن من بين كلِّ أجزاء المخ الضالعة في تعميق وشحذ وتعنيف الحب الرومانسي، أظن أن الأهم من بينها جميعًا هو الكتلة الرمادية العصبية السفلية في المخ البشري. كما تتذكرون، تغدو تلك المنطقة فعالة حينما تشخص في عيوننا مثيرات الحنين إلى الأحبة ونحن نتأمل صِوَرهم. هذه المنطقة الدماغية تتلازم مع الانتباه المسلَّط على الحبيب والمثيرات العنيفة التي تجعلنا نُكافأ. وهي في الإنسان ضعف حجمها لدى أقرب الكائنات شبهًا لنا.٣١ فبينما أخذَت تلك المنطقة المخية تكبر في الحجم مع أسلافنا المنتصبي القامة، بدأت في تقوية الرغبة في البحث عن الحبيب، والفوز به.
متى بالضبط بدأ الشكل البدائي للمغناطيسية الحيوانية في التطور ليأخذ في النهاية شكل الحب البشري الرومانتيكي، بكل أفكاره المركَّبة ومشاعره المعقدة؟ لا أحد يعرف. لكن العديد من العلماء الآن يعتقدون أن جميع أجزاء المخ البشري (فيما عدا المخيخ) قد تمددت في تناغم.٣٢ نعلم متى بدأ هذا: منذ حوالي مليوني سنة. منذ مليون عام، كان للبشر المنتصبي القامة أمخاخ أكبر حجمًا على نحو كبير. ومنذ ٢٥٠٠٠٠ سنة، كان لأسلافنا البشريِّين جماجمُ في حجم جمجمتك وجمجمتي. ومنذ حوالي ٣٥٠٠٠ سنة اتخذت أمخاخُهم أشكالَ أمخاخنا الراهنة نفسها.

انطلقَت الإنسانية من بوتقتها الدغلية. يومًا ما ربما ننطلق من الأرض ونُحلِّق صوبَ النجوم. أولئك الرحَّالة سوف يحملون في رءوسهم تلك الآلة الذهنية الأنيقة المدهشة التي ولدت على عشب أفريقيا القديمة قبل مليون سنة. بين تلك المواهب الخاصة سوف تكون الفطنةُ والذكاء، موهبة الشعر، الفنون، الدراما، روح الخير والمحبة، والعديد من خصال الغزل الأخرى، متضمنة قدرة الإنسان المدهشة لأن يغرق حتى أُذُنَيه في العشق.

(١٢) الحبُّ النزويُّ

«على أنني مأسورٌ بكلِّ ما فيكِ/بكل فكرة تُراودني/وجهكِ وحسب ما أحرص على رؤيته/قلبُك هو فقط ما أشتهي.»٣٣ في منتصف القرن السابع عشر، عبَّر السير تشارلز سيديلي بحيوية عن ذلك الاندفاع العنيف لحب الآخر. ولكن للأسف، تلك المشاعر ليست دائمًا جالبة بهجة.

كما تعلمون، الحب الرومانسي ليس بالضرورة يمشي يدًا بيد مع الرغبة في التواصل من أجل رفيق تزاوجي لمدى طويل. بوسعك أن تقع في الحب مع شخص له مشوار آخر في الحياة قد لا ترغب أبدًا في الزواج منه. وبوسعك أن تشعرَ بالعاطفة الشديدة تجاه شخص أثناء شعورك العميق بالالتصاق بآخر، هو عادة الزوج. أكثر من هذا، ربما تمارس الجنس مع شخص قد لا تشعر نحوه بأيِّ حب رومانسي، وحتى قد تشعر بمشاعر رومانسية مع شخص بينما تتزوج بآخر. يا لَلجنون، أن تكون مشتبكًا اجتماعيًّا أو جنسيًّا مع شخص ما، وغارقًا بعنف في غرام شخص آخر.

لماذا تصبح دوائر المخ الكهربية الخاصة بالحب الرومانسي متحررة من أحاسيس الشهوة والتواصل الطويل الأمد؟

أظن أن الحبَّ النزوي جزءٌ من خطة الطبيعة. لو كان للإنسان الأول المنتصب القامة زوجة واحدة وطفلان ثم وقع في غرام امرأة أخرى من زمرة مختلفة ومنحها في السر طفلين آخرين، فإنه سوف يُضاعف نسله. وبالمثل، فإن المرأة من أسلافنا ممن تزوجَت من رجل واحد وافتُتِنت بآخر لربما حملَت جنينَ حبيبها و/أو احتاجت طعامًا أكثر أو حماية لأطفالها التي أنجبتهم بالفعل. باختصار، فإن دوائر المخ النزوية حيال الحب الرومانتيكي متقلبة بفعل تصميم الطبيعة. فهي مكَّنت أسلافنا من أن يتبعوا اثنتين من الاستراتيجيات التناسلية المتعاقبة المترادفة. صبي ناريوكوتوم وكل أقربائه كان بوسعهم إنشاء علاقة تزاوجية مستحسنة اجتماعيًّا مع رفيق واحد، مع عشيقٍ سريٍّ، كان بوسعهم إنجاب أطفال إضافيِّين و/أو يتطلبون مصادر إضافية من ثم أيضًا.

اليومَ، رجال ونساء عديدون ما زالوا يتبعون تلك الاستراتيجية الإنتاجية المزدوجة. الإحصاءات الأحدث على اليافعين الأمريكان جاءت من دراسة أُجريَت في المركز القومي للبحوث والآراء في شيكاغو عام ١٩٩٤م. هنا تم اقتراع ٣٤٣٢ من الأمريكان ما بين أعمار الثامنة عشرة والتاسعة والخمسين في نواحٍ مختلفة من الحياة الجنسية.٣٤ ربع هذا العدد من الرجال و١٥٪ من النساء بيَّنوا أنهم انغمسوا في علاقات جنسية أثناء زواجهم وزواجهن. آخرون قد يكونون كاذبين؛ لأن علماء عديدين يعتقدون أن هذه النسبة قليلة للغاية.٣٥ الأمريكان المنغمسون في الرذيلة أيضًا قد يُنجبون أطفالًا من رفيقاتهم السريات. في عام ١٩٩٨م كان هناك برنامج لفحص الأمراض التناسلية، واندهش العلماء حين وجدوا أن ١٠٪ من الأطفال المُختَبَرين لا ينتسبون إلى آبائهم الشرعيين.٣٦
أولئك الزناة بالكاد مختلفون. الانغماس في علاقات خارج إطار الزواج شائع في المجتمعات الإنسانية كافة كما سُجِّل.٣٧ «الخيانة» شائعة حتى بين الكائنات «أحادية التزاوج».٣٨ في دراسة على ١٨٠ فصيلًا من طيور الحسون المغردة، كان حوالي ٩٠٪ من الإناث يحملن صغارًا لا يرتبطون جينيًّا ﺑ «الأب» الذي يُطعمهم.٣٩ في الحقيقة، قيل إن الكائن الذي يُعدُّ أحاديَّ التزاوج بحق في ولاية كاليفورنيا هو نوع معين من فئران الحقول يُشبه الجرذان.

قد بُنينا لكي نحب، ثم نحب مرة أخرى. أيُّ بهجة تجلبها تلك العاطفة حينما تكون أعزب وتبدأ الخروج للحياة، أو تكون مطلقًا في منتصف العمر، أو كنتَ وحيدًا في عمرك المتقدم! أيُّ ارتباك، أي حسرة يمكن أن تجلبها تلك الكيمياء حينما تتزوج شخصًا أُعجبت به، ثم تقع في غرام شخص آخر!

استقلالية هذا النظام المشاعري — الشبق، الانجذاب الرومانسي — كانت قد تطور لدى أسلافنا لكي يُمكِّن الرجال والنساء من الاحتفاظ بعدة علاقات في وقت واحد. ولكن تلك الدائرة الكهربية المخيَّة قد أحدثَت انزعاجًا هائلًا اليوم، متعلقة بمنظومتنا الاجتماعية العالمية وإطار الزنا والطلاق، الغيرة الجنسية الهائلة، المطاردة، والإحباط المرَضي المصاحب لرفض العاطفة.

الحب الضائع. تقريبًا كل إنسان على ظهر الأرض يعرف وجع الرفض. لماذا تسقط في اليأس حينما تفقد شخصًا تهيم به عشقًا وولعًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤