الفصل السابع

الحب الضائع

الرفض واليأس والغضب
ارقدْ ساكنًا، ارقدْ ساكنًا، يا قلبي المكسور،
قلبي الصموت، ارقد ساكنًا وانكسرْ،
الحياةُ، والعالمُ، ونفسي أنا،
جميعها تتغير،
من أجل خاطر الحلم.
كريستينا روزيتي
«الزواج»١
«أمشي نحو الداخل، نحو الداخل، نحو الداخل/أنا أمشي نحو الداخل./لا أحد يحبُّني/هي بالتحديد/لذلك أمشي نحو الداخل.»٢ ألقى أحد الإسكيمو من البلاد الباردة تلك القصيدة الحزينة حوالي عام ١٨٩٠م.
تقريبًا كلُّ إنسان في هذا العالم شعر بوجع الرفض الرومانتيكي عند لحظة ما من حياته. التقيتُ فقط ثلاثة ممن زعموا أنهم أبدًا لم يُترَكوا من قِبَل شخص عشقوه؛ رجلين، وامرأة. كلا الرجلين كان وسيمًا، موفور الصحة، ثريًّا، وفائق النجاح في عمله. وكانت المرأة نجمة تلفزيونية شابة. أولئك الناس نادرون. بين طلاب الجامعة في «كيس ويسترن»، سجل ٩٣٪ من الجنسين أنهم تم التخلِّي عنهم من قِبَل شخص ارتبطوا به عاطفيًّا. ٩٥٪ أيضًا قالوا إنهم تخلَّوا عن شخص أحبَّهم بعمق.٣ تقريبًا لا أحدَ في هذا العالم فرَّ من الشعور بالخواء، وفقدان الرجاء، والخوف، والغضب الشديد الذي يصنعه الرفض والتخلي والهجر.٤ «الفراق هو كلُّ ما نحتاج أن نعرفه عن الجحيم.» كما كتبت إميلي ديكنسون.
لأنني أنا وزملائي في عملية مسح المخ أردنا أن نفهم المدى الكامل للمشاعر الرومانسية، شرعنا في مشروعِ مسحٍ ثانٍ للمخ على بعض الناس الذين تم رفضهم حديثًا من قِبَل أحبَّائهم. وجدنا متطوعين كثيرين؛ كانوا جميعًا في حال عذاب رومانتيكي موجع. وعلى الرغم من حزنهم، أو ربما بسببه، كانوا يريدون أن يجتازوا اختبار FMRI. هذه التجربة هي في طور التقدم كما قلت، لكن المشاركين أخبروني الكثير جدًّا عن هذا الوجع ومراحل اليأس التي خلَّفها رفض الحبيب.
كتب الشاعر دونالد ييتس: «الناس المدركون الحب غير قادرين عليه.»٥ كما سترى، قليلون منَّا غير مدرك حينما يتعلق الأمر برفض عاطفة الحب الرومانسي. نحن غير مهيئين لذلك.

(١) العشاق المرفوضون

«هل سبق ورُفضت في الحب؟ ولكنك لم تستطع تجاوز الأمر؟» زملائي وأنا علقنا بيانًا على مجلة حائط قسم السيكولوجي داخل الحرم الجامعي الخاص بجامعة نيويورك في ساوني برووك، ويبدأ البيان بالكلمات السابقة. كنَّا قد عقدنا العزم على القيام بمسح شامل لأمخاخ رجال ونساء قد تم ازدراؤهم للتوِّ في قصة حب. بحثنا فقط عن أولئك الذين كانوا بالفعل يعانون.

كان العشاق المرفوضون سريعي الاستجابة. مثلما كان مع تجربتنا السابقة، قمنا بغربلة لاستبعاد أولئك الذين يستخدمون يدَهم اليسرى، والذين يضعون قِطعًا معدنية في أدمغتهم (مثل مشابك الأسنان)، أو الذين يتناولون أدوية مضادة للاكتئاب، والذين يعانون من الخوف من الأماكن المغلقة (كلستروفوبيا). ثم ناديتُ المشاركين وتكلمت مع كلٍّ منهم بإسهاب، مناقِشةً تفاصيل علاقاتهم الغرامية غير السعيدة للحصول على تفسير واضح لما يمكن أن يحدث في أمخاخهم أثناء عملية المسح المخي.

العملية التي وصفتُها كانت مماثلةً لتلك التي استخدمناها مع الخاضعين للدراسة ممن كانوا سعداء في حبِّهم. كلُّ مشارك كان ردُّ فعلِه يختلف ما بين صورة يشاهدها تخصُّ حبيبَها أو حبيبتَه التي يرفضها/ترفضه، وبين صورة محايدة لا تُولد مشاعر سلبية أو إيجابية؛ وبين تلك العمليات كان الخاضع للتجربة يعمل عملية تنظيف ذهني بالعدِّ تنازليًّا من بين كمٍّ ضخم من سبعة. أثناء ذلك، كان جهاز المرنان المغناطيسي الوظيفي FMRI يسجِّل نشاطَهم المخيَّ.

وجدتُ أن اللقاءات التمهيدية أكثرَ صعوبة. تأثرت كثيرًا بكل حكاية سمعتها. بدا لي أن كلَّ ذوي القلوب المكسورة من الرجال والنساء كانوا محبطين بعمق. وكنت أتوقع هذا. لكن الكثير منهم أيضًا كانوا غاضبين، وكان ذاك هو الملمح غير المتوقع في الرفض العاطفي ما جعلني أتعرف على هذه القوة البغيضة في تلك العاطفة.

أولًا شاهدتُ تلك «البغضاء العشقية» الحارقة، كما أطلق عليها الكاتب المسرحي أوغسطس ستريندبرج، فورًا بعدما أجريتُ جلسة المسح المخي للسيدة باربارا.

(٢) بغضاء العشق

كنَّا قد أجرينا المسحَ المخيَّ لباربارا حينما كانت في حال عشق مجنون وفرح من مايكل. مثل بقية الخاضعين للتجربة ممن كانوا في منتهى السعادة في الحب، خرجت باربارا من التجربة الأولى متألقة. كانت عيناها ترقصان. كانت تُقهقه بعذوبة. وغادرت طاولة جهاز المرنان المغناطيسي الوظيفي برشاقة، وحماس، ممتلئة بالتفاؤل. وكانت قد علقت على هول سرورها وهي تُمضي كلَّ هذا الوقت الطويل ناظرةً إلى صورة مايكل، مستعيدةً ذكرياتها في أوقاتهما معًا. ولكن بالنسبة لباربارا، لم تَدُم تلك الحالة الحيوية النشطة. بعد خمسة أشهر تركها مايكل.

علمتُ بهذا في أحد النهارات حينما دخلتُ معمل الطب النفسي في سوني، باستوني برووك، لأجدَها تنتحب على مائدة مؤتمرات كبيرة. أصابني الهلعُ أن أرى تلك الشابة الجميلة مكسورة للغاية. بريق شعرها انطفأ. فقدَت وزنها. وجهها شاحب ومجعد بآثار الدموع. كانت تتصرف كأنما تحمل أثقالًا هائلة فوق ذراعيها، بالكاد كانت تتحرك. وأخبرتني أنها «تعسة»؛ لأن «قيمتها الذاتية قد أُصيبَت بطلق ناري». قالت: «أفكاري دائمًا تعود للوراء إلى حيث مايكل … أحمل ثقلًا في صدري من التعاسة.» كانت قد قضَت ذلك النهار في الفراش، تحدِّق في الفراغ.

مسَّني حزنُها للغاية حتى إنني اضطررتُ لمغادرة الغرفة. ولكن ما إن وقفت في العتمة جوار المكتب لكي أجمعَ شتات نفسي، حتى تبينتُ أن باربارا بوسعها أن تقدم معرفة علمية قيِّمة لا تُصدق: بوسعها أن تُريَنا ماذا يحدث في المخ حينما يكون الشخص للتو قد أخفق في الحب على نحو عميق.

ولهذا استأذنت باربارا وأنا أعتذر إن كانت تقبل أن تُجريَ مسحًا مخيًّا آخر، ولكن هذه المرة بوصفها خاضعة لفحص الذين أخفقوا في الحب. وحذرتها أن التفكير في علاقتها الغرامية أثناء عملية المسح المخي ربما يُثير مشاعر صعبة، وافترضتُ أنني ربما أحتاج أن أتكلم معها بعد جلسة المسح المخي لكي أعيدَ إليها هدوءَها (إن كان ذلك ضروريًّا)، وأنني أيضًا ربما أودُّ أن أُهاتفَها في البيت بعد أيام قليلة بعد العملية لكي أتأكد أن التجربة لم تسبب لها إحباطًا أكثر. على أنني أوضحت لها أن جلسة المسح هذه ربما تساعد آخرين ممن كانوا يعانون مثلما تعاني. وترددتُ في اقتراح أن نُجريَ هذه التجربة في اليوم نفسه.

بينما كنَّا نسير نحو معمل المسح، تسحب قدمَيها ببطء، كانت تبدو كأنما تغرق في لجَّة من اليأس.

لم تكن تلك إلا البداية فقط. رغم أنني كنت أستشعر أن باربارا سوف تكون محبطة، أذهلني ما حدث مباشرة بعد انتهاء التجربة. وَثَبَت باربارا من فوق طاولة المسح، وانطلقَت خارجة من الباب، ثم خارج البناية. لم تُعطني وقتًا لكي أتكلمَ معها أو حتى تنتظر لكي تأخذ مبلغ اﻟ ٥٠ دولارًا قيمة المشاركة في المشروع. أذهلني أيضًا أنها بعد نصف ساعة عادت لتأخذ الخمسين دولارًا. كانت مضطربة على نحوٍ وحشي. توسلتُ إليها أن تجلس معي في غرفة الانتظار. وفعلت. وهناك بدأَت تتكلم.

أخبرتني أنها بينما كانت تنظر إلى صورة مايكل أثناء التجربة، راحَت تستدعي كلَّ خلافاتهما. «لن أستطيع أبدًا أن أتجاوزَه». انفجرت في البكاء، ثم استسلمت للنحيب. بينما كانت تبكي، لاحظتُ شيئًا آخر في باربارا: كانت غاضبة مني. كانت ترمقني شذرًا من بين دموعها. وفجأة صرخت في وجهي: «لماذا تريدين دراسة هذا الأمر؟» كانت ساخطة وأنا أحدِّق فيها، ثم فقدَت صوابها والقدرة على الكلام. بالتدريج تبيَّن لي شيء مهم: أثارت التجربة في باربارا ما أطلق عليه الطبيب النفسي ريد ميلوي: «غضب الهجران».٦ هاجمَتني أنا لأنني أنا التي كنتُ متاحة أمامها.

سألت نفسي، هل دوائر المخ الكهربية المسئولة عن عاطفة الحب الرومانتيكي، متصلة اتصالًا مباشرًا على نحوٍ ما بشبكة المخ مما يسميه علماء النفس بالغضب/الكراهية؟

آمنتُ كثيرًا أن عكس الحب ليست الكراهية، بل اللامبالاة. الآن بدأتُ أعتقد في أن الحب والبغضاء/الغضب ربما يكونان متشابكَين على نحو معقد بالمخ البشري، وأن اللامبالاة ربما تسير وحيدةً في دائرة مختلفة تمامًا. الأكثر من هذا، أن هذا الجسر المخي بين الحب وبين البغضاء/الغضب ربما يساعد في تفسير لماذا شائعةٌ جدًّا حول العالم جرائم الحب — مثل المطاردة، القتل، والانتحار: حينما يتمزق ذلك الرباط فينحرف الحب، يستطيع المخ بسهولة أن يحول تلك القوة الجبارة إلى الثورة والهياج.

(٣) جنونُ الهجران

«لا شك أن هذا الأسلوب هو الأمثل. لا شك أنني في الوقت المناسب/سوف أتعلم أن أكرهك مثل الباقين/مثلما أحببتك مرة.»٧ كان الشاعر و. د. سوندجراس قد خبر الغضب نفسه الذي شعرَت به باربارا. في الحقيقة، شاهدتُ ذلك الغضب المرير في العديد من الحالات المهجورة المنبوذة بينما يخضعون لجهاز المسح المخي.

وكذلك شاهدتُ البارانويا أو الشعور بالاضطهاد في شابة جميلة اسمها «كارين». كان «تيم»، صديق كارين، قد هجرها منذ ثلاثة أشهر. كانَا يتواعدان لعامَين تقريبًا وخطَّطَا للزواج. كانَا قد اختارَا معًا خاتم الخطوبة والزفاف. ولهذا، حين تركها من أجل امرأة تعمل معه، فقدَت صوابها. «فقدتُ ١٥ رطلًا من الوزن في أسبوعين.» ناحَت كارين، وكانت ما زالت تعاني من اضطرابات النوم. «أفكر فيه على نحو مستمر.» أخبرتني. «كل شيء يجعلني حزينة. لا أعبأ كيف يبدو مظهري، أو مع مَن أكون. لا أعبأ بأي شيء على الإطلاق. هذا بشعٌ، الأمر مؤلم للغاية.» كانت تضع كل صور «تيم» في صندوق وتخبئه في خزانتها. وكانت تتعاطى مضادات اكتئاب.

انقلب نهاري مع كارين على نحو غريب. بدَت مكتئبةً حينما التقيتُ بها في محطة نيويورك المركزية الكبرى في نهار المسح. لكنها بدَت أكثرَ حيوية وابتهاجًا، وساحرة بالفعل، خلال الساعتين، مدة رحلة القطار الذي استقللناه إلى ستوني برووك. حينما دخلنا معمل علم النفس، تحوَّل مزاجُها من الميل للثرثرة إلى الوجوم والاكتئاب. في طريقنا للغداء كانت عيناها دامعتَين. لم تأكل شيئًا من البيتزا ولا شربت الكوكا الخاصة بها، ولا قضمة واحدة ولا رشفة. وتباطأت ونحن نسير نحو معمل المسح المخي. بعد ذلك أخبرتني أن التجربة بدأت تغمرها وتهزمها. بدأت تشعر أنها ما كان يجب أن تُضحيَ وتكون فدائية، وأنها تكره تيم، وأنها لم تَعُد ترغب أن يُذكِّرَها أحدٌ به. «تلك كانت غلطة كبرى.»

لم تُخبرني كارين بهذا قبل جلسة المسح. أجرينا المسحَ المخيَّ لها دون مشاكل. ولكن ما إن خرجَت من الجهاز، حتى أصابها الهياجُ الشديد. ثم بدأ الأمر: تحوَّلَت إلى خبير الأشعة، وراحَت تشتم الرجل الذي غَرِق في الذهول وهي تزعم أنه تعمد إدخال اسم «تيم» ضمن أصوات جهاز المرنان المغناطيسي. «تيم»، «تيم»، «تيم»، «تيم». أخبرتنا أنها ظلَّت تسمع اسم «تيم» يتردد فيما كانت تنظر إلى صورته. أكدتُ لها مرة ومرات أننا لم نخدعها، وأننا لم يكن بوسعنا حتى العبث بجهاز معقَّد ثمنه ملايين الدولارات؛ حتى وإن رغبنا في ذلك، وأنني أبدًا لا أرغب في إرهابها عن طريق إدخال اسم «تيم» داخل أصوات الماسح.

لم يبدُ أنها صدَّقتني حتى قفلنا راجعين في القطار، وبعد حوالي ساعتين وعدة كئوس من البيرة. في الأخير، حينما ظننتُ أنني استعدتُ ثقتها، سألتُها ما إذا كان أيٌّ من أقربائها يعاني من البارانويا. «نعم، أمي» أجابَتني. ولم أُكمل المحادثة بعد ذلك.

سألتُ كلَّ مشارك فورًا بعد خروجهم من جهاز المسح المغناطيسي MRI. كنت أودُّ أن أعرف بمَ يشعرون وهم ينظرون إلى صور أحبتهم، وماذا يجري في عقولهم وهم يحدِّقون في الصور المحايدة، وبمَ كانوا يشعرون وهم يُجرون تجربة العد التنازلي. من الواضح أن كارين وهي تنظر إلى صورة «تيم»، تحوَّل حزنها وإحباطها إلى غضب عارم. لا بد أن غضبَها استحثَّ البارانويا، أو الشعور بالاضطهاد؛ لأنها، كما أخبرتني فيما بعد، انفجرَت بالغضب حين اعتقدَت أنها سمعَت اسم «تيم» يتردد بانتظام.

فورة الغضب، والبارانويا، هما ما استشعرَتهما بغموض في ردود الفعل تلك. ولكنني كنت أتوقع بملء عقلي أن مشاركينا المنبوذين في الحب سوف يخرجون من جلسة المسح وهم غير سعداء. وكنت على حق. فقط شابة واحدة كانت تبكي بحرقة أثناء التجربة حتى إنها اختنقَت بالوسادة التي نستخدمها في تأمين دماغ كل مشارك. في الحقيقة، رأيت هذا الغضب تقريبًا في كل المشاركين الخاضعين للتجربة. وفي كل مواجهة لم أستطع أن أهرب من التفكير في الرجال والنساء الذين لا حصر لهم في كل ركن من أركان العالم، ممن يعانون من هذا الشعور اليائس المرير نفسه.

(٤) يأسُ الحب

«أمي/لا أقدرُ أن أُسيِّرَ أموري/أصابعي تؤلمني/شفتاي جافتان/آه!/لو شعرتِ بالألم الذي أعاينُ!/ولكن/آه!/مَن ذا بوسعه أن يشعر بما أشعر؟!»٨ لكي نُجيبَ عن تساؤل الشاعرة سافو اليائس ذاك المكتوب منذ ٢٥٠٠ عام، لقلنا: ملايين عاينوا عذاب الرفض في الحب.
من الأمريكتين إلى سيبيريا، ترك الآلافُ من الناس قصائدَ تحمل ذكريات عن أوجاع قلوبهم. أحد هنود الأزتك ترك تلك الكلمات الحزينة في القرن السادس عشر: «الآن أعرفُ/ لماذا كان على أبي/أن يخرج من البيت/ويبكي/تحت المطر.»٩ «أنظرُ في اليد التي تحملها/بينما الألم أقسى من أن يُتحمَّل.» هكذا كتب شاعرٌ ياباني.١٠ وتركت إيدنا سانت فينسينت ميلاي تلك السطور الجياشة: «حبيبي/أيها الشوكة العذبة/حينما تسللت إلى قلبي/أخذتُ الطعنةَ التي ذبحتني/فرقدتُ على العشب/أشلاءً منثورةً مضمخةً بالدموع والمطر.»١١
جمَّع الأنثروبولوجيون دلائل تؤكد ذلك الأسف. باحَت إحدى الصينيات المهجورات قائلة: «لا أقدر على تحمُّل الحياة. اختفى كلُّ اهتمامي بالحياة.»١٢ «كنتُ وحيدة وحزينة حقًّا، فاستسلمتُ للبكاء. امتنعت عن الطعام ولم أَعُد أنام جيدًا، ولم أستطع الحفاظ على عقلي في العمل.» هكذا انتحبت امرأة بولونيزية مهجورة.١٣ عند نهر سبايك في غينيا الجديدة، ألَّف الرجال المرفوضون أغاني غرامية تراجيدية أطلقوا عليها اسم «ناماي»، وأغاني في الزواج، «الذي ربما يكون قد حدث.»١٤ وفي الهند، أنشأ الرجال والنساء مكسورو القلوب ناديًا، أسمَوه «مجتمع دراسة القلوب المصدوعة». كل عام، في اليوم الثالث من مايو، يحتفلون باليوم العالمي للقلوب المصدوعة، يحكون فيه حكاياهم، ويواسون بعضهم بعضًا.١٥
الرفض في الحب يُغرق العاشق في أعقد وأعمق أوجاع الاضطراب العاطفي مما يمكن أن يمرَّ بالإنسان البشري. الندم، الغضب، والعديد من المشاعر الأخرى بوسعها أن تمرَّ بالمخ على نحوٍ قاسٍ حتى لا يكادَ الإنسان قادرًا على الأكل أو النوم. درجات ذلك الوجع وظلاله تتنوع تبعًا للإنسان وطبيعته. لكن أطباء الأمراض النفسية والعصبية يقسمون الرفض في الحب إلى مرحلتين عامتين: «رفض التصديق» و«ترويض النفس/اليأس».١٦

في أثناء مرحلة رفض التصديق، يحاول العشاق المرفوضون بجنون استعادة أحبتهم. وما إن تحلَّ مرحلة ترويض النفس، يكفون تمامًا عن المحاولة ويسقطون في القنوط.

(٥) المرحلة ١

رفض التصديق

ما إن يبدأ شخصٌ في إدراك أن رفيقه يفكر في إنهاء العلاقة، حتى يعتريَه القلق العميق. يغرق في الحنين والتوق، ويسخِّر كلَّ وقته، وكل طاقته، وكل انتباهه للرفيق الذي هجر. ويصبح هاجسه: إعادة الاتحاد مع حبيبته/حبيبها.

العديد من الخاضعين لعملية المسح التي نُجريها يجدون صعوبةً في النوم. والعديد فقدوا أوزانهم. البعض يتشنج. وآخرون كانوا يتنهدون ويتأوهون وهم يتكلمون معي عن أحبَّتهم في لقاءات ما قبل المسح التمهيدية. جميعهم كانوا يسردون الذكريات ويركزون على الأوقات العصيبة، باحثين باستمرار عن أدلة للخلل الذي حدث متأملين كيف يمكن أن يُرمموا الصدوع التي أصابَت العلاقة. وجميعهم أخبروني أنهم لن يكفُّوا عن التفكير في أحبَّتِهم «الرافضين»، كل ساعة تمرُّ كانت الأفكار حول الحبيب تؤرقهم.

العشاق المهجورون أيضًا يقطعون خطواتٍ استثنائيةً ليُعيدوا التواصل مع أحبَّتِهم السابقين؛ إعادة زيارة الأماكن المشتركة، المهاتفة ليلًا ونهارًا، كتابة الرسائل، أو الإيميلات. يتوسلون. يقومون بزيارات دراماتيكية لبيت الحبيب أو مكان وجوده أو عمله، ثم ينفجرون، فقط لكي يستعيدوا أو يجددوا تضرعهم من أجل إصلاح العلاقة. معظمهم كانوا يركزون بقوة على أحبَّتِهم الراحلين حتى إن كل شيء في الوجود كان يُذكِّرهم بأحبَّتِهم. كتبت الشاعرة كينيتش فيرينج: «الليلة/أنت في قلبي وعيني/وكلُّ مصباح من مصابيح الشوارع مرَّت به سيارتُنا/يُظهر لي/أنتَ من جديد: مازلتَ أنت.»١٧

خلاصة الكلام، الناس المرفوضون يتوقون للتوحد من جديد. لهذا يرفضون التصديق، يظلون أسرى إشارة واحدة من الرجاء.

جاذبيةُ الإحباط

«الهوى مرضٌ مليء بالأوجاع/يرفض كلَّ العلاجات/نباتٌ ينمو بالنحول/العقمُ في أجلَى صِوَرِه/لماذا هو كذلك؟» شاعر القرن السابع عشر صمويل دانيال، نمنم تلك المقطوعة البالغة الغرابة عن الحب الرومانتيكي: بوصفه منبع الفجيعة، هكذا يفعل الهوى الرومانسي. تلك الظاهرة شائعة جدًّا في الأدب وفي الحياة، حتى إنني صككتُ مصطلحًا عنها: «جاذبية الإحباط». وأظن أن جاذبية الإحباط متلازمةٌ مع كيمياء المخ.

كما تعلمون، يُنتَج الدوبامين في مصانع موجودة في «قاع» المخ، ثم يُضَخ لأعلى حيث النواة المُذنبة وبقية مناطق المخ؛ حيث تنتج الدوافع للفوز بالرغبات المطلوبة باعتبارها جوائز. إن تأخرت المكافأة المرتقبة في المجيء، تُطيل هذه النواة المذنبة المنتجة للدوبامين من نشاطاتها؛ لتزيد معدلات المخ في هذه المُحثَّات الطبيعية.١٨ ويتلازم الكم الكبير من مستويات الدوبامين مع الدافع القوي والسلوك المباشر نحو الهدف، مثلما يحدث في حالات الإثارة والخوف.١٩ لخَّص الكاتب المسرحي الروماني تيرينس، دون أن يدريَ، تلك الكيمياء الخاصة لجاذبية الإحباط قائلًا: «كلما قلَّ رجائي/اشتعل حبي.»
خبراء علم النفس توماس لويس، وفيري أميني، وريتشارد لانون أقروا بأن ردَّ الفعل الرافض للتصديق هذا ليس إلا ميكانيزمًا حيوانيًّا أساسيًّا ينشط حينما تتمزق أي علاقة اجتماعية من أي نوع.٢٠ يستخدمون المثال الخاص بالجرو الصغير. حينما تُبعد الجرو عن أمِّه وتضعه في المطبخ وحيدًا، سيبدأ في الخطو. على نحوٍ هائج، ودون كلل، سيُنقِّب في الأرضية، يُخربش الباب، يَثِب على الحوائط، ينبح، ثم يعوي معترضًا. صغار الفئران التي تُعزَل عن أمها لا تكاد تنام لأن ثورة أمخاخها تكون حادة للغاية.٢١

أطباء النفس أولئك يعتقدون، مثلما أعتقد، أن ردة الفعل الرافضة تلك تصاحب تزايد معدلات هرمون الدوبامين، وكذلك النوريبينفراين. تزايد معدلات الدوبامين والنوريبينفراين، كما يقولون، يزيد من حساسية التيقظ والحث عند المهجورين لكي يبحثوا ويطلبوا المساعدة.

في الواقع، يمكن أن يكون الرفض فعالًا للغاية في علاقات الحب. أولئك الذين يمارسون فعلَ الهجر يشعرون عادة بالذنب لتسبُّبِهم في فصم العلاقة.٢٢ لذلك كلما زاد رفض الطرف المهجور، زاد احتمال أن يُقدِّر الطرف الهاجر الأمر فيعود للعلاقة. الكثيرون يفعلون هذا، على الأقل بشكل مؤقت. إذن الرفض قد يكون مفيدًا.

لكن هذا ليس دائمًا على كل حال. وأحيانًا تتسبب صدوع العلاقات في حال رعب تصيب الطرف المهجور.

مثل تلك القوة الدافعة للرفض، فإن هذا الرعب شائع في الطبيعة؛ وهو ما يسمى «اضطراب الفراق».٢٣ حينما تترك أمٌّ صغيرَها الطائر، أو صغيرها من الثدييات، تصبح تلك الكائنات الضئيلة مضطربة على نحو عميق. يبدأ قلقها بخفقان قوي في القلب. يبدأ الصغير في الصراخ ويؤدي حركات الرضاع. «نداءات الألم» تلك تكون محمومة ومتكررة. الجراء المهجورة ورضيع ثعلب الماء ينوح وينتحب. فراخ الدجاجات تسقسق. صغار القرد الهندي والقرود التقليدية تُصدر أصواتًا مكتئبة. حينما تنفصل صغار الجرذان عن أمهاتها، تُصدر صرخات فوق صوتية دون انقطاع.٢٤ يعتقد خبير الأعصاب جاك بانكسيب أن قلق الانفصال يتولَّد من جهاز الرعب في المخ — شبكة المخ المعقدة التي تجعل المرء يشعر بالضعف، قصر النفس، والخوف.٢٥
جهازٌ مخيٌّ آخر له دورٌ مهم: نظام الضغط العربي. يبدأ الضغط العصبي تحت المهاد «الهيبوثالامس»؛ حيث يُفرز الهرمون القشري (CRH)، ثم يبدأ في السير بخفاء إلى الغدة النخامية القريبة؛ وهنا يبدأ في إفراز هرمون ACTH. يسافر هذا الهرمون عبر تيار الدم إلى غدة الأدرينالين فوق الكظرية (التي توجد فوق الكلية) فيأمر قشرة الغدة أن تُخلق وتُفرز هرمون الكوتيزول، «هرمون الضغط العصبي». بين هذا كلِّه ينشط جدًّا الجهاز المناعي ليحارب المرض.٢٦ وعلى الرغم من كل هذه الجاهزية الجسدية، إلا أن العشاق المحبطين يميلون لأن يمرضوا بجفاف الحلق ونزلات البرد. الضغط العصبي القصير الأمد أيضًا يحثُّ على إنتاج الدوبامين والنوريبينفراين ويحظر نشاط السيروتونين٢٧ — الإكسير المصاحب للحب الرومانتيكي.

يا لَلسخرية: بينما الشخص المعبود يتسلل مبتعدًا، فإن العناصر الكيميائية المرتبطة بالمشاعر الرومانسية تتزايد بقوة، لتُؤجج الهوى العاطفي، الخوف، الترقُّب، لكي تُجبرَنا على المحاولة بكل قوانا، على أن نُؤمِّنَ سببَ مسرَّتِنا: الحبيب الذي هجرنا.

غضبُ الهجران

محاولة استعادة الحبيب الهاجر، الحنين «إليه» أو «إليها»، القلق من الانفصال، الرعب من الفقدان المُنذِر: كلُّ ردود الفعل تلك كان لها أهميتها لديَّ. ولكن ما الذي يدفع الأحبة المهجورين إلى ذروة الغضب المشتعل؟ حتى حينما يقدم الحبيب أو الحبيبة الهاجرة المسئولية بصفته صديقًا (وحتى بصفته شريكًا) ويفصمُ العلاقة بعطف ورغبة في التخفيف عن المهجور، يتحول العديد من المهجورين، على نحوٍ عنيف، من مشاعر القلب المصدوع إلى ذورة الغضب. الشاعر الإنجليزي «جون ليلي» علَّق بحكمة على تلك الظاهرة عام ١٥٧٩م، قائلًا: «مثلما يفعل أفضلُ النبيذ، يفعل الخلُّ الرخيص، لهذا يتحول أعمق الحب إلى كراهية عمياء.»

لأن الحب والكراهية مرتبطان في جدلية متشابكة في المخ البشري. الدائرة الكهربية الأساسية للكراهية/الغضب تسير نحو مناطق الفص الصدغي الموجود أسفل منطقة تحت المهاد ونحو مراكز المنطقة الرمادية، منطقة المخ المركزية.٢٨ العديد من المناطق المخية الأخرى ضالعة في الغضب، بما فيها المنطقة المنعزلة، الجزء من القشرة المخية التي تجمع المعلومات من الجسم الداخلي ومن الحواس.٢٩ ولكن ها هو المفتاح: شبكة المخ الأساسية للغضب مرتبطة بقوة مع مراكز القشرة الأمامية التي تُجري عملية تقدير المكافآت وتوقع المكافآت.٣٠ وحينما يبدأ البشر وبقية الحيوانات في إدراك أن مكافأة متوقعة ما، يتهددها الخطر، تبدأ القشرة الأمامية في إصدار إشارات للفص الصدغي التي تحثُّ مشاعر الغضب.٣١

يُعرف هذا لدى علماء النفس باسم «ظاهرة عدوان الإحباط»، تلك الاستجابة للغضب، التي تلازم التوقعات غير المتحققة معروفةٌ جدًّا لدى الحيوانات. على سبيل المثال، حينما تُحثُّ صناعيًّا دوائر المكافأة المخية لدى القطط، تشعر القطط بسعادة غامرة. فإن انسحبَت تلك المحثَّات، فإنها تعضُّ. وفي كل مرة يزداد انسحاب السعادة، تستشيطُ القطط غضبًا. تمامًا مثل الأحبة المهجورين يزدادون حنقًا أكثر فأكثر. «كل منطقنا لحل المشكلات ينتهي بالاستسلام للمشاعر.» هكذا كتب «بليز باسكال». عرف باسكال بوضوح كم يمكن أن نكون ضحايا لعواطفنا.

فورةُ الغضب والهياج لا تكون بالضرورة موجهة نحو الحب المفقود، على كل حال.٣٢ فالقرد الهائج سوف يقذف حُمَم غضبه نحو قرد مسكين خاضع بدلًا من أن يهاجم قردًا ذا سلطان. على النحو ذاته، قد يركل عاشقٌ مهجور كرسيًّا بقدمه، أو يقذف كأسًا، أو يصبُّ غضبه على صديق أو زميل جامعة بدلًا من أن يثور على حبيبته الهاجرة.

لهذا يرتبط على نحو حميم في المخ كلٌّ من الحب الرومانتيكي والغضب الناتج عن الهجران. وحينما تفكر في الأمر، ستجد أن بين ذلكما الشعورين الكثيرَ من المشتركات. كلاهما متزامنٌ مع الثورة الجسدية والذهنية؛ كلاهما يُنتج طاقة طافرة. كلاهما يدفع الإنسانَ لأن يركز اهتمامه بهوس على الحبيب. كلاهما يُنتج سلوكياتٍ موجهةَ الهدف. وكلاهما يسبِّب الحنين والتوق الهائلَين، إما للتوحد مع الحبيب، أو من أجل الانتقام من الحبيب الذي هجر.

لا عجبَ إذن أن صديقتنا الخاضعة للمسح المخي، باربارا، قد انفجرَت في وجهي. لا بد أن باربارا قد استعادت مشاعرها الرومانتيكية العميقه مع مايكل وهي تنظر إلى صورته في جهاز المسح المغناطيسي؛ فتحول هواها العنيد إلى إحباط، ذاك الذي جلب الكراهية والانتقام. وحدث أنني فقط كنتُ الهدفَ القريب منها في تلك اللحظة.

«الإنسان الحديث هو أحد تذكارات ومخلَّفات الإنسان القديم.» هكذا كتب الطبيب النفسي «ديفيد هامبرج». لماذا طوَّر أسلافُنا القدامى وصلات المخ لكي نبغض الشخص الذي سبق وعبدناه؟

الهدفُ وراء غضب الهجران

الغضبُ مكلِّفٌ على نحو هائل، فيما يخص الطاقة الجسمانية والأحماض والهرمونات المبذولة. فهو يُجهد القلب/يرفع ضغط الدم، ويُضعف الجهاز المناعي.٣٣ لهذا تطورت في العهود السحيقة تلك الروابط بين الحب الرومانسي وغضب الهجران لكي تحلَّ المشكلة الكبرى الخاصة بالتزاوج والتناسل.

أول الأمر، كنت أظن أن تلك الشبكة المعقدة من الأسلاك المُخية قد انبثقَت من أجل غرض مختلف تمامًا عن شأن التزاوج: لمحاربة المغازلين المنافسين.

«موسم الحب هو تلك المعركة.» كما كتب داروين.٣٤ يتغازلون. يحاربون المنافسين. ذكور الخراف، ذكور أسود البحر، وذكور العديد من الفصائل الأخرى يجب أن تعارك بعضها البعض لكي يفوزوا بالرفيقة المناسبة للغزل. وعزوتُ هذا لأن جاذبية الكراهية/الغضب ربما تكون مترابطة بغاية في المخ الخاص بالثدييات لكي تُمكِّن المغازلين من أن يتحركوا للأمام وللخلف بين الانجذاب للرفيق المفترض ليثوروا في وجه المغازل المنافس. لكن تلك النظرية لم تصمد تحت المراقبة المتفحصة الدقيقة.
الذكر من الذكور المُغازلة المتنافسة يتبختر ويتخذ أوضاعًا استعراضية لكي يهاجم المنافس الآخر، مثل فارس روماني في مباراة من أجل الحب والمجد. وحينما تنتهي المباراة، يستعرض الفائز مشاعر الانتصار، بينما يتسلل الخاسرُ منسحبًا في خذلان. لكن أيًّا منهما لا يُبدي غضبًا. حتى إن هناك دليلًا بيولوجيًّا قويًّا يؤكد أن الجهاز العصبي في حال التنافس الغزلي بين الذكر-الذكر مستقلٌّ عن جهاز الغضب في المخ. تلك التنافسية متلازمة مع ازدياد معدلات التستوستيرون وهرمون الغدة النخامية في المقابل.٣٥ لهذا لا يتطور الغضبُ البشري الناتج من الهجران من أجهزة الدوافع العاطفية تلك التي تستخدمها الثدييات لقتال المتنافسين.

إذن لماذا بسهولة يُمكِّن المخُّ البشري العاشقَ/العاشقةَ المهجور من أن يبغض المرأة أو الرجل أو الذي كان معبودًا؟

ناقش الطبيب النفسي «جون بولبي» في الستينيات الماضية أن الغضب المصاحب لفقدان المحبوب هو جزء من التصميم البيولوجي للطبيعة من أجل استعادة التواصل الإنساني المفقود.٣٦ لا شك أن هذا الغضب يخدم ذلك الهدف أحيانًا. لكن فورة الغضب تلك ليست خصلةً حميدةً؛ إذ لا أتصور أن الغضب والهياج قادرٌ على اجتذاب حبيب لعلاقة مفصومة.

لهذا وصلتُ للاعتقاد أن غضب الهجران قد تطور لكي يخدم هدفًا آخر، لكي يدفع العشاق المحبطين للتخلص من الرفقاء والعلاقات المعدومة النهايات، لكي يلعقوا جراحهم، لكي يستأنفوا بحثهم عن الحب في عشب أكثر اخضرارًا.

أكثر من هذا، إن كان الحبيب المهجور قد أنتج طفلا من تلك العلاقة المصدوعة، فإن غضب الهجران سوف يمنحهم الطاقة للمحاربة من أجل مستقبل أطفالهم. لقد رأيتم بالتأكيد ذلك السلوك في عمليات الطلاق المعاصرة. رجال ونساء أسوياء يُظهرون العنف في المطالبة بتأمين أطفالهم المهجورين من أمهم أو أبيهم. في الحقيقة وجدنا أحد القضاة الأمريكان الذي ينظر دوريًّا في قضايا العنف الإجرامي أن القلق ضربة على أمنه الشخصي أثناء نظره قضايا الطلاق، خصوصًا حينما يكون في القضية طفلٌ تحت الوصاية. هو وغيره من القضاة يتعرضون لملاحقات مرعبة لكي يتم دفعهم للمساعدة في قضايا نزاع بين الأزواج تتحول إلى عنف.٣٧

لستُ مندهشة من أن غضب الهجران ينفجر أحيانًا في فورة عنف. الرجال والنساء المهجورون قد أهدروا أوقاتًا ثمينة من أعمارهم وطاقات هائلة على الرفيق ذاك الذي هجرهم. وعليهم أن يستأنفوا رحلة البحث من جديد عن رفيق آخر. مستقبلهم أصبح مهددًا — هم وأصهارهم الاجتماعيون، سعادتهم الشخصية، وكذلك سمعتهم. ثقتهم بأنفسهم خُرِّبت على نحو حاد. والوقت يُداهِمُ. منحَتنا الطبيعة آلية مريحة لكي تساعدنا على أن نتحرر من الرفيق الرافض ومن ثم نستمر في العيش: الغضب.

وللأسف، هذا الغضب لا يمحو الحبَّ من قلب إنسان بالضرورة، لا يمحو تَوقه وحنينَه، أو رغبتَه الجنسية في الرفيق الهاجر.

في دراسة مثيرة حول ١٢٤ زوجًا من العشاق، اكتشف عالمَا النفس «يروس إليس» و«نيل مالاموث» أن الحب الرومانسي وما أسمياه «الغضب/الإحباط» يستجيب للأنواع المختلفة من «المعلومات».٣٨ تتذبذب درجةُ «الغضب/الإحباط» لدى الإنسان في الاستجابة للأحداث التي تقوِّض أهدافه، مثل الخيانة أو قلة الالتزام العاطفي من قِبل الشريك. تتقلب مشاعر الحب الرومانتيكي لدى الإنسان، بدلًا من ذلك، في الاستجابة عند حدوث تقدم في أهداف المرء، مثل الدعم الاجتماعي من قِبل الشريك والأوقات السعيدة في الفراش معه. وهكذا نجد أن الحب والغضب/الإحباط، رغم أنهما وثيقَا الارتباط، إلا أنهما ينتميان إلى جهازَين مستقلَّين؛ ومع هذا بوسعهما أن يعملَا في تزامن. باختصار، بوسعك أن تكون غاضبًا على نحو عنيف، ولكنك مع هذا غارقٌ في الحب. هكذا كانت باربارا.

وفي الأخير، على كلِّ حال، تضمحل كلُّ تلك المشاعر. التركيز المرضيُّ على الرفقة الفاشلة، الاندفاع نحو استعادة المحبوب، المكاشفة والمواجهة، القلق من الفراق، الرعب، وحتى الغضب: كلها تذوب مع الزمن. على الشخص المهجور أن يتعامل مع أشكال جديدة من الألم-التسليم، واليأس.

(٦) المرحلة ٢

التسليم

«أنا مُجهَد بالحنين.» هكذا كتب الشاعر الصيني «لي بو»، ابن القرن الثامن. أخيرًا استسلم العاشق اليائس. ذهب المحبوب إلى الأبد وقُضي الأمر. يغرق الكثيرون في انعدام الأمل. يتقلبون في الفراش ويبكون. يتجرعون كأس إكسير الأسف المر، البعض يتخشَّب في المقعد ويحدِّق في الفراغ. لا يكادون يعملون أو يأكلون. قد ينتابهم شعور بين الحين والحين بأن يستحثوا حبَّهم الغابرَ أو تمرَّ بهم لمحاتُ غضب. وبوجه عام، يشعرون بحزن عميق. لا شيء يشفيهم من كربهم سوى الزمن.

فقدان المحبوب عادة ما يفجِّر الحزنَ العميق والإحباط في الحيوان البشري، ما يُعرف لدى علماء النفس باسم «استجابة اليأس».٣٩ في المسح الذي أجريتُه حول الحب وما ناقشته في الفصل الأول، وجدت أن ٦١٪ من الرجال و٤٦٪ من النساء أقروا بأنهم مروا بفترات يأس حين ظنوا أن عشاقهم ربما لم يعودوا يحبونهم. وفي دراسة حول ١١٤ رجلًا وامرأة من المهجورين من أحبتهم خلال الأسابيع الثمانية الأخيرة، كان أكثر من ٤٠٪ منهم قد مروا «بحالة إحباط مرضية واضحة»، منهم ١٢٪ أظهروا إحباطًا ما بين المتوسط والحاد.٤٠ الناس قد يموتون أيضًا بسبب انكسار قلوبهم. يقضون بتوقف القلب أو الجلطات الناجمة عن الاكتئاب.٤١

يتعامل الرجال والنساء مع حزن-العشق على نحو مختلف.

يكون الرجال معتمدين أكثر على حبيباتهم،٤٢ ربما لأن الرجال، كقاعدة، لديهم روابط أقل نحو أقربائهم وأصدقائهم. ربما بسبب هذا، يميل الرجال أكثر للتحول نحو الخمور، المخدرات، أو القيادة المتهورة أكثر مما يلجئون لأقربائهم أو أصدقائهم حينما ييأسون من الرفيق الرافض.٤٣ أكثر من ذلك نجد أن الرجال يميلون أقل لأن يبوحوا بأوجاعهم، يحتوون أحزانهم داخل أعماقهم الذهنية.٤٤ حقق البعض معدلات أقل على مقياس الإحباط لأنهم يضعون القناع بمهارة فوق معاناتهم، لكي يُخفوها حتى عن أنفسهم.٤٥
وعلى الرغم من أن العديد يدثِّرون أحزانهم، إلا أن المقابلات مع الرجال المرفوضين، والملاحظات التي دُوِّنت على أدائهم في العمل، وعاداتهم اليومية، وتفاعلاتهم مع أصدقائهم، عادة ما تُظهر أنهم مرضى نفسيًّا وجسمانيًّا.٤٦ الرجال أيضًا يُظهرون حزنهم على أكثر الأنحاء دراماتيكية: يُقدِم الرجال أكثر من النساء بنسبة ثلاثة أضعاف إلى أربعة على الانتحار بعد خفوت علاقة غرامية.٤٧ كما قال الشاعر «جون دريدن»: «الموتُ بهجةٌ/حينما الحياةُ ألمٌ».٤٨
عادة ما تعاني النساء على نحو مختلف. في الثقافات حول العالم، مرَّت النساء أكثر من ضعف عدد الرجال بحالات الاكتئاب العظمى.٤٩ يُصبحنَ مكتئبات لأسباب شتى، بالطبع، ولكن السبب الشائع هو رفض الحبيب. وفي دراسات حول الرفض الرومانتيكي، سجلت النساء مشاعرَ أكثر حدة في الإحباط، خصوصًا: فقدان الرجاء.٥٠
النساء المرفوضات ينتحبنَ، يفقدنَ الوزن، ينمنَ كثيرًا جدًّا أو لا ينمنَ على الإطلاق، يفقدنَ الاهتمام بالجنس، لا يستطعنَ التركيز، تصبح لديهن صعوبات في تذكُّر الأمور اليومية الاعتيادية، ينسحبنَ اجتماعيًّا، يفكرنَ في الانتحار. محبوسات في زنزانة القنوط المظلمة، بالكاد يستطعنَ أن يُدِرنَ الأمور اليومية الأساسية. بعضهن يكتبنَ أوجاعهن. والكثير من النساء يتكلمنَ، يُثرثرنَ بالساعات في الهاتف لأيِّ أُذُن شغوفة على استعداد أن تُنصت، يحكين كلَّ شيء. وعلى الرغم من أن تلك الثرثرة تهب النساءَ بعض الراحة، فإن استعادة تلك الأحلام الممزقة عادة ما تُضرم النيران من جديد. وفيما تُسهب المرأة في الحديث عن العلاقة الميتة، تُطعم الأشباح – لأنها تُعيد نكءَ الجراح، وإن لم تقصد.٥١
هذه المرحلة الثانية من الرفض-التسليم، تتزامن مع اليأس، وهي مسجلة على نحو جيد في الفصائل الأخرى. صغار الثدييات تُعاني بقسوة حينما تنفصل عن أمهاتها. هل تذكرون الجرو الصغير؟ حينما عزلتموه في المطبخ، في البدء اعترض وتمرَّد. وفي الأخير، تكوَّر في ركن مثل كومة كئيبة. صغار القرود المهجورة تمصُّ أصابعها أو أصابع قدميها، تحتضن نفسها، وعادة ما تتكوَّر على الوضع الجنيني ثم ترتجف.٥٢
شعور اليأس يكون مصاحبًا لدوائر شبكية عديدة مختلفة لدى مخ الثدييات (بما فيها الإنسان).٥٣ من بينها في جهاز المخ الخاص بالمكافأة ووقوده: الدوبامين. وما إن يبدأ الشريك المهجور بالتدريج في إدراك أن المكافأة لن تعود أبدًا، تبدأ الخلايا المنتجة للدوبامين في منتصف المخ (تلك التي أصبحت نشطةً للغاية خلال مرحلة الرفض والإنكار) الآن في تقليص نشاطها.٥٤ ويتزامن اضمحلال معدلات الدوبامين مع حال الخمول واللامبالاة، القنوط، فقدان الرجاء، الاكتئاب.٥٥ ويشارك كذلك جهاز الضغط العصبي. كما تذكرون ربما، نعرف أن التوتر العصبي القصير الأمد يُنشط إنتاج الدوبامين والنوريبينفراين ويحظر إنتاج السيروتونين. ولكن ما إن يخفت ضغط الهجران، حتى تدفع كلُّ معدلات العناصر المؤثرة الأخرى تحت المعدلات الطبيعية، لكي تُنتج الاكتئاب العميق.٥٦

يسمِّي شكسبير المخ ﺑ «المكان الهش لإقامة الروح». هو أيضًا المكان الهش لإقامة الحب الرومانتيكي.

الاكتئاب بوصفه تكيُّفًا؟

مثل غضب الهجران، يبدو القنوطُ خصيمًا للإنتاجية. ما الفكرة وراء المعاناة والألم حينما تفقد حبيبك؟ أليس من الأفضل أن تعالجَ طاقتك بدلًا من أن تفقدها في البكاء؟

العديد من العلماء يعتقدون الآن، على كل حال، أن هناك أسبابًا جيدة للإحباط، جيدة للغاية لدرجة أن دوائر المخ الكهربية المعقدة تلك قد تطورت كنسخة طبق الأصل منذ ملايين السنين.٥٧ عزا البعض ذلك بالأصل لكي تتمكن صغارُ الثدييات المهجورة من أن تحافظ على قواها وجَلَدها، وإثنائها عن التجول دون هدف حتى عودة أمهاتها، والإبقاء عليها هادئة ومن ثَم حمايتها من الافتراس. الإحباط من ثم مكَّن الحيوانات من الحفاظ على طاقتها في أوقات الضغط العصبي. كذلك دفع الإحباط أسلافنا البشريِّين إلى التخلي عن المغامرات الخطرة وتبنِّي استراتيجيات أكثر نجاحًا من أجل تحقيق أهداف، خصوصًا الأهداف الخاصة بالتناسلية مثل التزاوج.٥٨
القنوط مثله مثل تجربة الوهن تلك التي ربما تطورت لأسباب جيدة كثيرة. هدف ذو صلة أوثق على نحو خاص هو ما قدَّمه عالم الأنثروبولوجي إدوارد هاجان، وعالم البيولوجي «بول ويستون»، والطبيب النفسي «آندي طومسون». اعتقدَ أولئك العلماء أن الثمن الحيوي والاجتماعي للإحباط يكمن في الواقع في فائدته؛ فاكتئاب شخص ما، هو إشارة مخلصة وصادقة للآخرين أن هناك شيئًا خطأً. وهكذا فإن الاكتئاب قد تطور، كما يقولون، لكي يُمكِّن الأسلاف الواقعين تحت الضغط العصبي من أن يُشيروا إلى الوجع ويطلبوا الدعم الاجتماعي في أوقات الحاجة الماسَّة،٥٩ خصوصًا حينما كانوا غير قادرين على الإقناع اللفظي أو استخدام القوة للحصول على مساندة الأصدقاء أو الأقرباء.

المثال ممكن أن يكون امرأة شابة عاشت قبل مليون عام حدث أن طارد زوجُها امرأةً أخرى من القبيلة وتزوجها. في البدء أنكرَت الزوجةُ الأمرَ ورفضَت بمرارة، وانجرفت في تيار الغيرة الغاضبة، وحاولت إقناع زوجها أن يترك تلك الغريمة. هاجت ولجأت إلى أبيها وأقربائها لكي يدعموا طلبها. وحينما عجزت عن إقناع زوجها وأقربائها بالكلمات ونوبات الغضب، غَرِقت في الإحباط العميق. تلك الفجيعة أشاعت الفوضى في حياة المعسكر، ودون شك أثَّرت بالسلب على قدرتها في جَمْع الخضراوات ورعاية الأطفال وبقية الأقرباء. وفي النهاية شحذ قنوطُها وإحباطُها وإجبار أقربائها وعشيرتها لكي يطردوا هذا الزوج الفاضح الخائن وبدءوا في مواساتها حتى استعادت حيويتها، ووجدت رجلًا جديدًا، وأنتجت المزيد من الطعام، واستأنفت رعاية الأطفال، واستعادت البهجة لها وللجماعة.

أخيلوس، كاتب المسرح الكلاسيكي الإغريقي ابن القرن الخامس قبل الميلاد، اكتشف فضيلةً أخرى في الإحباط. حينما جهر أجاممنون: «الذي يتعلَّم لا بد أن يعاني. وحتى في نومنا، يتساقط فوق القلب الألمُ الذي لا يُنسى قطرةً فقطرة، وفي يأسنا، وعلى عكس إرادتنا، تأتي الحكمةُ إلينا برحمة الآلهة الهائلة.»

الاكتئاب، باختصار، يهبك عمقًا لبصيرة. بوسع العلماء الآن تفسير الأمر. يُبدي الناس متوسطو الاكتئاب تقديرًا أوضح لأنفسهم وللآخرين.٦٠ كما وصفها عالم النفس «جيفري زيغ»: «إنهم يعانون فشل الإنكار.» وحتى الاكتئاب الحاد والمزمن يمكن أن يدفع الإنسان لتقبُّل الحقائق غير السعيدة، واتخاذ القرارات، وحل الإشكالات من أجل تأمين البقاء على قيد الحياة والقدرة على التناسل.٦١

وهكذا، مثل رد الفعل الاستنكاري الرافض، فإن اليأس الناجم عن الرفض ربما قد تطور لعدة أسباب. من بينها، أن العشاق اليائسين كانوا قادرين على تجميع الأصدقاء والأقرباء الودودين المحبين الصبورين المتعاطفين من حولهم واستخدام طاقاتهم الذهنية المتألقة لكي يُقدِّروا أنفسهم ويتجاوزوا علاقتهم الغرامية الفاشلة، ثم تحديد أهداف جديدة، ومراجعة خطط زواجهم، وأن يجرِّبوا حظَّهم من جديد — وقد يحظَون بشريك مناسب للزواج. الألم الذي يعانيه الرجال والنساء المرفوضون ربما أيضًا يُوجههم بعيدًا عن الطرق المشابهة التي ستؤدي بهم لاختيارات خاطئة مماثلة في المستقبل.

في مناقشة القيمة التطويرية لليأس، لا بد أن يميز المرء بين الأسف من الرفض الرومانتيكي وبين الاكتئاب الذي يمكن أن يصاحب التشوش العقلي الداخلي الحاد والطويل الأمد، مثل الاكتئاب الفصامي. الذي نهتمُّ به هنا هو حالة الأسى والحزن العميق الذي عادة ما يشعر به الرجال والنساء المتوازنون نفسيًّا لفترة من الزمن حينما يتم هجرهم من قِبَل الشخص الذي يعبدونه.

لا يعاني كلُّ إنسان بنفس الدرجة، بكل تأكيد. كيف تعتمد ردود فعلنا أمام الرفض على عوامل عديدة بما فيها أسلوب نشأتنا منذ الصغر.

بعض الناس يصنعون روابطَ آمنة وهم أطفال فتكوِّن لديهم تقديرًا وثقة بالذات ما يمكِّنهم من التعافي السريع، وتجاوز تجربة الحب الفاشل بسرعة أكبر نسبيًّا. آخرون نشئوا في بيوت لا يعمرها الحب مشحونة بالتوتر، والفوضى، والرفض، فينشئون ضعافًا هشِّين على نحو ملحوظ.٦٢ وبينما نغامر في الحياة، نطور مشاعر جديدة ذات كفاءة أو غير ذات كفاءة، وأنواعًا متعددة من التجارب الرومانتيكية، ونسخًا مختلفة من الآليات التي تؤثر في كيفية مواجهة وتحمُّل الحب المفقود.٦٣ بعض الناس لديهم فرصٌ أكبر من غيرهم للتزاوج؛ أولئك يستبدلون بيسر بذلك المحبوب الرافض عاشقًا جديدًا يساهم في إلهاء المهجور والتخفيف من مشاعر الرفض والقنوط. ثم إننا جميعًا مختلفون في أسلوب استثارتنا؛ ببساطة بعضنا يكون أقل غضبًا، أقل إحباطًا، أكثر ثقة بالنفس، وأكثر هدوءًا أمام كوارث الحياة على وجه العموم أو أمام حالة رفض الحب على وجه الخصوص.
ونظل، نحن أبناء الجنس البشري، نُستثار على نحو شديد التعقيد فنعاني حينما يتم ازدراؤنا من قِبَل مَن نحب. في كل مكان فوق الأرض ثمة رجال ونساء بوسعهم استدعاء تفاصيل مريرة من لحظات عذاباتهم، حتى بعد مرور سنوات عديدة من انتهاء انفعالات الغضب والهياج.٦٤ لسبب قوي خاص بالتطورية. أولئك الذين يحبون ويتزاوجون وينجبون سوف يمررون جيناتهم إلى الأجيال التالية، بينما أولئك الذين خسروا في لعبة الحب والجنس والتناسل سوف يفنون وتفنى جيناتهم.

نحن مُصَمَّمون لكي نعانيَ حينما يخفق الحب.

من الأسف، فإن المشاعر التي ترافق الرفض قد تقود بعض الرجال والنساء إلى أفعال موصومة بوصمة «قابيل» المميتة.

جرائم الهوى: الغيرة

«مصيرُنا للدموع/نقضُ غَزْل الحبِّ الذي غزلناه في سنوات عديدة/في تلك القبلة الأخيرة/أنا هنا أحرركِ وأستسلم/فعودي إلى نفسك/انزوي فأنتِ اليومَ حرَّةٌ من جديد.»٦٥ هكذا كان الشاعر «هنري كينج» قادرًا على أن يترك الحب المهاجر يمضي إلى حال سبيله.
بعض الناس يجدون هذا مستحيلًا غير قابل للتطبيق. حتى قبل أن يرحل الشريك بالفعل ويترك العلاقة يكون الرجال والنساء تملكيين «له» أو «لها»على نحو متطرف. الغيرة شائعة ومشتركة في أنحاء العالم.٦٦

في الواقع، وكما ناقشنا في الفصل الثاني، تلك التملكية شائعة للغاية ومشتركة في مجمل الطبيعة، حتى إن العلماء يُطلقون عليها «حفظ الرفيق».

حينما تُهدَّد علاقةٌ من قِبَل مغازل منافس، بعض الغيورين يعبسون. آخرون يهيمنون ويحتكرون أوقات الرفيق، يُخفون المحبوب بألَّا يصطحبوه أو يصطحبوها إلى الحفلات، أو حتى قد يوبخ رفيقه إن تكلم مع آخرين في مناسبة اجتماعية. الكثيرون يحاولون إثارةَ غيرةِ الحبيب في المقابل. والكثيرون أيضًا يحاولون أن يبدوا أكثر أهمية، أكثر إثارة، ثراء، أو وسامة وجمالًا من المنافس، لكلٍّ من المقاومة الذاتية. البعض يُمطر الحبيب بالهدايا والعواطف لكي يحافظ على اهتمام حبيبه غير مشتت. والبعض يهدد بقتل نفسه إذا ما تركه الرفيق من أجل حبيب آخر.

الرجال والنساء يصبحون غيورين للعديد من الأسباب المتشابهة. حينما يرى كلا الجنسين غزلَ الرفيق لآخرين، قد يُصبحون تملُّكيين على نحو عنيف. إذا انتزع الحبيب قُبلة من أخرى، أو أُغرم بأخرى، أو غازلها، فإن كل هذا قد يسبِّب صدعًا على نحو خَطر في نفس المرأة والرجل إن حدث العكس.٦٧ في أوقات مختلفة في الحياة وفي مجتمعات مختلفة، يتباين الرجال والنساء فيما يجعلهم ويجعلهن يغارون.٦٨ لكن الشباب من الرجال والنساء يُبدون اختلافات ثابتة فيما يُثير مشاعر الرفض وكيف يعالجون القلب الواقع في براثن الغيرة.
الرجال ينفجرون غضبًا من الخيانة الجنسية الحقيقية أو المتخيلة.٦٩ هذه النزعة الذكورية ربما لها أصلٌ تطوريٌّ؛ فالرجل قد يمرُّ بمخاطرة كبرى إن تزوج امرأة غير مخلصة؛ لأنه قد يستهلك وقتًا هائلًا ويُهدر طاقة هائلة في تربية أطفال رجل آخر. الرجال ميالون أكثر لأن يتحدَّوا منافسين قد يهاجمونهم بكلمات بذيئة أو لكمات ثقيلة. في مجتمعات عديدة، نجد الرجال ميالين أكثر من النساء لكي يُقْدِموا على الطلاق من زوجات يعتقدون أنهن خائنات، ما قد يكون انعكاسًا لخوف الرجال من الارتباط بنساء غير مخلصات.
وإن خاف الرجال أن يكونوا أزواجًا لخائنات، تخشى النساء من أن يكنَّ مرفوضات — عاطفيًّا واقتصاديًّا.٧٠ لهذا إن بدأت العلاقة في الانهيار، أخذَت المرأة خطواتٍ لتجاوز العقبات. النساء يَمِلْن أكثر من الرجال لأن يغفرنَ نزواتِ الرجال أو السقطات الجنسية العابرة التي يقع فيها الرجل مع امرأة أخرى. ولكن إن اعتقدت المرأة أن الرجل يؤسِّس تواصلًا عاطفيًّا جادًّا مع امرأة أخرى، أو علمَت أنه يقضي وقتًا أو يُنفق مالًا على تلك المنافِسة، فإنها تغدو غيورةً على نحوٍ مخيف.

لهذا السلوك أيضًا أصلٌ في النظرية الداروينية. على مدى ملايين السنين، احتاجت النساء من أسلافنا للرجال لكي يساعدوهن في تربية صغارهن. لهذا، طوَّرت النساء ميكانيزمات المخ لكي يجعلهن ذوات نزعات شديدة التملُّكية حينما يُهدِّد الرفيقُ بسحب المصادر الاقتصادية أو الدعم العاطفي أو بترك علاقة من أجل علاقة أخرى.

«الحب مثل الشعلة، محمية من الانطفاء/يحترق الفتيل؛ لكنه يبقى مشتعلًا مدة أطول/وما إن يتعرض لعواصف الغيرة والشك/يتوهج اللهب أكثر، ولكن سرعان ما يخمد.» هكذا كتب الشاعر «وليم والش».٧١ من اللمحة الأولى، تبدو الغيرة مثل دق ناقوس الموت لعلاقة حب. لكن السيكولوجيين يعتقدون أن الغيرة قد تحثُّ أحد الطرفين على أن يحاول أن يُريح الطرف الآخر الفاقد للثقة عن طريق إعلان الإخلاص وإبداء الحميمية. بالفعل، بوسع تلك التطمينات والتأكيدات أن تساهم في إطالة عمر العلاقة.٧٢

بوسع الغيرة أن تُقوِّض علاقة عاطفية، على كل حال. وتلك الاستجابة بوسعها أيضًا أن تكون قابلة للتكيُّف. الرجال والنساء الغيورون عادة ما يلتقطون إشاراتٍ عبقريةً بأن العلاقة تنهار. وكل يوم يبقون مرتبطين برفقاء غير ملتزمين، يفقدون فرصًا لمعرفة رفقاء أكثر مناسبة — على سبيل المثال إمكانية أن يلتقطوا أمراضًا جنسية بالعدوى.

وهكذا فإن للغيرة عواقبَ تناسلية وخيمة. بوسعها أن تقوِّيَ شراكة وبوسعها أن تدمرها. في كلا الحالين، الغيرة مفيدة. وكنتيجة، أصبحت تلك السمة غير المبهجة خيطًا في نسيج العلاقة الرومانتيكية الإنسانية، جزءًا من منظومة المشاعر العارمة التي احتاج إليها أسلافنا في الأراضي العشبية بأفريقيا العتيقة لكي يفوزوا في لعبة التزاوج.

حينما يرحل عاشق للأبد، على كل حال، يمكن أن تقود الغيرةُ، ودوافعُ الرفض، ومشاعر الإحباط، وجميع قوى التشويش المعوِّقة تلك التي تصاحب الفقد، يمكنها جميعًا أن تقود إلى العنف — والتراجيديا.

المطاردة، الإيذاء الجسدي، والقتل

الرجال يطارِدون. يتتبعون الحبيبات على نحوٍ مهووس، وعادةً يُهددون ويهاجمون أولئك اللواتي تركنهم.٧٣ البعض يُمطر المرأةَ برسائل بذيئة أو متوسِّلة. البعض يسرق متعلقات ثمينة أو شخصية مثل الملابس الداخلية. البعض يتعقب الحبيبة السابقة في سيارتها. البعض يرابض بالقرب من بيت حبيبته السابقة أو مقر عملها لكي يتهكَّمَ بكلمات نابية أو لكي يستعطف ويتوسل. في إحدى الدراسات التي أُجريَت على طلاب جامعة أمريكية، قالت ٣٤٪ من النساء إنهنَّ كنَّ يُتعقبن ويُلاحَقن ويُؤذَين من قِبَل رجال كنَّ قد رفضنهم.٧٤ وواحدة من بين كل اثنتي عشرة امرأة أمريكية تتم ملاحقتهن ومطاردتهن على يد رجل ما في مرحلة ما من حياتها، عادة يكون الزوج أو الحبيب السابق. في الواقع، فإن قسم العدالة بالمحاكم يقرر أن أكثر من مليون امرأة أمريكية كل عام يتم مطاردتها (معظمهن ما بين الثامنة عشرة والتاسعة والثلاثين من أعمارهن)، وأن ٥٩٪ منهن يُلاحقن على يد صديق سابق أو زوج أو رفيق أو رجل كان يساكنها في بيت فيما قبل.٧٥ واحدة من بين كل أربع نساء يتم ضربها كذلك، أو صفعها، أو دفعها، أو على نحو ما، يتم التعدي الجسدي عليها من قِبل المطارِد الرجل.٧٦ في الحقيقة، سجلت خمسة تحقيقات مستقلة أُجريت على ثلاث قارات أن حوالي ٥٥٪ من بين ٨٩٪ من الحالات، يصبح المطاردون فيها عنيفين ووحشيِّين تجاه عشيقاتهم السابقات.٧٧ معظمهم من الرجال.
يضرب الرجالُ النساءَ ضربًا مبرحًا. ثلث نساء أمريكا يذهبنَ إلى قسم الطوارئ بالمركز الطبي، واحدة من بين كل أربع نساء حاولت الانتحار، وحوالي ٢٠٪ من النساء الحوامل ممن يطلبنَ الرعاية الأبوية تعرضنَ للضرب من قِبَل رفقائهن الحميمين.٧٨ وفي دراسة حول واحدة وثلاثين امرأة أمريكية تم الاعتداء عليها، سجلت تسع وعشرون منهن أن غيرة الرفيق الذكر كانت السبب الأغلب للضرب.٧٩ تلك الإحصاءات ليست مدهشة. السبب الأكثر شيوعًا في ضرب الزوجة في كل مكان في العالم هو تملكية الذكر.٨٠
الرجال يقتلون أيضًا. حوالي ٣٢٪ من جرائم القتل التي ضحاياها نساء في الولايات المتحدة تمت على يد أزواج، أو أزواج سابقين، أو أصدقاء رجال، أو أصدقاء سابقين من الرجال، ولكن الخبراء يعتقدون أن النسبة الصحيحة قد تكون ما بين ٥٠٪ إلى ٧٠٪.٨١ أكثر من ٥٠٪ من جرائم القتل هذه سبقتها أولًا مطاردات من العشاق.٨٢ الرجال يرتكبون الشطر الأعظم من جرائم القتل في كل دول العالم، كذلك.٨٣

الحكاية الكلاسيكية الأشهر بشأن الغيرة هي مسرحية «عطيل» لشكسبير. يا لعبث! عطيل، العربي ذو البشرة السمراء، حقق مكانته الرفيعة بسبب جسارته في حروب فينيسيا ضد الأتراك. والآن وقد عاد إلى فينيسيا، يلتقي ديدمونة، ابنة السيناتور الجميلة. العربيُّ والحسناء يقعان في الحب من اللحظة الأولى تقريبًا؛ ثم يتزوجان سرًّا. لكن عطيل يستخدم وسيطًا، كاسيو، ليكون رسوله إلى ديدمونة. ولكي يكافئ الجنديَّ الشاب، عيَّنه ملازمًا أول في كتيبته.

إياجو، أحد أكثر الأوغاد خداعًا وشرًّا في مجمل الأدب الغربي، كان يشتهي تلك الرتبة. كان قلبُه يحترق بغضًا لكاسيو ولعطيل، فأضمر الانتقام. بدأ على نحو شديد الدهاء في تغذية عطيل بكلمات مواربة تحمل أكثر من معنى حول عدم إخلاص ديدمونة وخيانتها له مع كاسيو. عطيل العربي رجلٌ بدائيٌّ فطريٌّ حادُّ المزاج سريعٌ في ردة الفعل. بدأ من فوره يستعرُ غيرةً، ويشتعل غضبًا. «أُفضِّل أن أكون ضفدعًا/يعيش في اختناق قبو تحت الأرض/من أن أترك زاوية صغيرة في شيء أحبُّه/لاستخدام الآخرين.»٨٤ وفي النهاية انفجر في جنون التوحش، فقتل زوجته المعبودة المخلصة.
تاريخيًّا، نلاحظ أن العديد من المجتمعات تربِّي وترعَى تلك النزعة الذكورية في حراسة الحبيبة من المنتهكين ومن هجران الحبيبة. ويعتبر القانون العام الإنجليزي أن ذبح الزوجة المتلبسة بالزنا أمرٌ مفهوم يمكن تبريره، بل يُبرأ إذا حدث القتل في لحظة ذروة الانفعال.٨٥ التقاليد القانونية في أوروبا، آسيا، أفريقيا، وجزر الميلانيزا، وبين الهنود الأمريكان، تاريخيًّا، أيضًا يعفون عن أو يُبرئون القتل إذا اقترفه زوج في لحظة غيرة.٨٦ وحتى عام ١٩٧٠م، في العديد من الولايات الأمريكية، كان قانونيًّا أن تُقتل الزوجة المتلبسة بخيانة الزنا.٨٧
وعلى قاعدة كل هذا العنف يقف حثٌّ ذكوري بدائي يمنع الرجل من أن يكون زوجًا لامرأة خائنة لتكريس فكرة أن المرأة ما هي إلا وعاء يحمل حامضهم النووي الجيني DNA. ليس مدهشًا، أن النساء الأمريكيات — من كل الطوائف الدينية، وجميع الخلفيات الاقتصادية — يمثلن ستة أضعاف الرجال ليكنَّ ضحايا جرائم الهوى من بين العشَّاق.٨٨

القصاص الأنثوي

النساء أقل من الرجال كثيرًا ميلًا في التشويه والقتل حينما يشعرنَ بالغيرة من غريمة أو حين يخفنَ من الهجران. يملنَ إلى توبيخ أنفسهن للتقصير وللاعتقاد أنهن غير ملائمات، ويحاولنَ أن يُغرين ويغوين، أملًا في استرداد عاطفة رفقائهن وإعادة بناء العلاقة.٨٩ هنَّ أيضًا أكثر ميلًا لمحاولة فهم المشكلة والحديث حول التفاصيل. ولكن حينما يخفق كلُّ هذا، تبدأ بعضُ النساء في مطاردة الرجال. حوالي ٣٧٠٠٠٠ رجل أمريكي سجلوا أنهم تمت مطاردتهم عام ١٩٩٧م، معظمهم بين عمرَي الثامنة عشرة والتاسعة والثلاثين — أي الرجال في عمر الإنجاب.٩٠

على عكس الرجال، فإن الإناث المطارِدات لديهن مشاكل ذهنية أخرى. ومثل الرجال، تُرسل النساءُ الرسائل والإيميلات والمكالمات التليفونية بلا انقطاع، أو يظهرنَ دون توقع؛ لأنهن يتتبعنَ بهوسٍ الرجالَ الذين غادروا. أعرف امرأة اعتادت أن تنام على عتبة باب حبيبها السابق.

والنساء أيضًا يقتلن الأحبة الرافضين. ولكن بنسبة أقل كثيرًا يُقدمْنَ على هذه الخطوة القاسية المتطرفة. عام ١٩٩٨م، كان فقط ٤٪ من جرائم القتل، قُتل الضحايا الرجال فيها على يد حبيبة راهنة أو سابقة.٩١
من بين كل حكايات جرائم العاهات المستديمة النسوية، كان الأكثر صدمة لعقلي تلك الخاصة ﺑ ميديا، أميرة كولخيس القديمة. كما حكاها الكاتب المسرحي الإغريقي يوريبيدس في القرن الخامس قبل الميلاد. كانت ميديا مجنونة بعشق جاسون، الإغريقي.٩٢ ومن أجل أن تساعده على استعادة «فروة الصوف الذهبية»، خانت أباها، ووضعَت شقيقاتها في مواجهة شقيقها وذبحته، ثم هربت من بلدتها. سافرت ميديا مع جاسون ليستقرَّا في كورنث مع ولدَيهما الصغيرين. ولكن للأسف هجرها جاسون ليتزوج ابنة كريون ملك كورنث. وكما تقول مربية أطفال ميديا عنها: «إنها لا تتناول الطعام؛ ترقد مهدمة في الوجع/تُذيب الساعات الطوال في الدموع.»٩٣ وفي النهاية أرسلت المعذبةُ ميديا هدية عرس إلى الزوجة الجديدة – فستانًا مسمومًا اشتعل باللهب وأحرق الأميرة الكورنثية والملك حتى ماتا. لكن ميديا لم تنتهِ مع جاسون. ذبحَت ولدَيهما أيضًا. وهكذا، فقد اغتالَت ميديا جينات جاسون الحية ودمَّرت نسلَه المستقبلي.
تمامًا مثل الحب، الكراهيةُ عمياء؛ بالنسبة للبعض، لا شكل للعنف ثابت. قد يكون متطرفًا للغاية. وهذا العنف مدفوع، على الأقل جزئيًّا، من قِبل كيمياء المخ. كما تذكرون، حينما يُرفَض العشاق للمرة الأولى، فإنهم يُنكرون ويرفضون التصديق، وهو ردة الفعل المصاحبة لانخفاض معدلات الدوبامين والنوريبينفراين. هذه المعدلات المتزايدة من المنبهات الطبيعية ربما تمنح المطارِد، والضارب، والقاتل تيقظهم المركز والطاقة الوحشية. وأكثر من هذا، فإن المعدلات العالية من الدوبامين عادة ما «تُخفض» معدلات السيروتونين في المخ. كما أن المعدلات المنخفضة من السيروتونين مصاحبة لحال العنف الأرعن تجاه الآخرين.٩٤

المطارِدون والقتلة مسئولون عما يرتكبون من جرائم العشق بكل تأكيد. وبالفعل، نحن البشر قد ارتقينا وطوَّرنا ميكانيزمات المخ الحاذقة لكي «نكبح» دوافع العنف لدينا. على أننا، نحمل داخلنا «استجابات لا إرادية قاتلة»، كما يسمي عالم النفس ويليم جيمس ضراوتنا ووحشيتنا البشرية. وأولئك التعساء من الرجال والنساء ممن لا يحتوون الأمر، فإنهم يقتلون عشاقهم. بينما ثمة آخرون يقتلون أنفسهم.

انتحار الهوى

الإنسان البشري هو الوحيد بين جميع المخلوقات فوق الأرض ممن يُقدمون على الانتحار الوحشي بأعداد هائلة.

من العسير الحصول على مبررات دقيقة حول لماذا يقتل بشرٌ أصحاء أنفسهم؛ تنقصنا إحصاءات متماسكة. فقدان المال، السلطة والنفوذ، المكانة، أو الاحترام، أو إدراك أن الإنسان لن يقدرَ أبدًا على تحقيق هدف طال انتظاره، كل هذه الأمور يمكن أن تدفع إنسانًا إلى الخروج من هذه الحياة. لكن معظم الرجال والنساء لا يملكون الكثير من المال، ولا السلطة، ولا البريستيج الاجتماعي، ولا الأهداف التي لم يستطيعوا تحقيقها. إنهم، يقعون في الهوى دون أمل. والحب الرومانتيكي، كما تعلمون، يكون مصحوبًا بمعدلات عالية من الدوبامين وربما النوريبينفراين — عناصر المخ التي غالبًا تُخفض معدلات السيروتونين. وليس من قبيل المصادفة، كما أظن، أن النسب المنخفضة من السيروتونين تتزامن مع الانتحار.٩٥
باختصار، حينما تتحول علاقة غرامية لتغدوَ مريرة، يتحول المخ البشري كيميائيًّا ليدخل في الاكتئاب، وتنشأ احتمالية التدمير الذاتي. أظن أن العديد من الرجال والنساء حول العالم ممن يقتلون أنفسهم يفعلون هذا بسبب فقدان الحب. على مدى عقود، يظل اليابانيون يمجدون هذا الفعل، أعني «انتحار العشق»، كما يسمونه، بوصفه حالة نبيلة من حالات الإخلاص في العاطفة.٩٦
محاولات الانتحار بسبب العشق ربما أيضًا كانت مُتبنَّاة في العصور الغابرة.٩٧ منتحرون كثيرون، معظمهم من النساء، أخفقوا بالفعل في قتل أنفسهن. ويعتقد السيكولوجيون الآن أن هذه الحالات نماذج من الخطط المتطرفة التي تستخدمها نساء مهجورات قسرًا لكي تُجبرَ المحب على الرجوع إلى العلاقة. ومن أسف، أنه في العديد من الحالات يحدث خطأ في التكتيك فيحدث قتل النفس بالخطأ. الانتحار لا شك حال من حالات عدم التكيف. لكنه شائع في كل مكان، خاصة بين الرجال. بالنسبة لأولئك البشر تعساء الحظ ينتصر الدافع البدائي للحب على الرغبة في الحياة.

«يا لَلقسوة، هل أنت تقول. لكن ألم أُحذِّرك؟ هل أُحصي عليك طرائق الحب؟ الخوف، الغيرة، الانتقام – الألم. جميع تلك المشاعر تنتمي للعبة الحب البريئة.» عبرَت تلك الكلماتُ القرونَ لتصل إلينا من الأسطورة السلتية حول تريستان. كيف بوسعك أن تخنق تلك العاطفة لحبيبٍ هجرَك؟ كيف تستحثُّ مشاعر رومانتيكية في شخص تراه جذابًا، حتى تتقافز النشوة الرومانتيكية في قلبك؟ ربما الأكثر أهمية، كيف بوسع المرء أن يحفظ حيوية العشق الرومانتيكي في علاقة طويلة الأمد؟

أعتقد أن بوسعنا السيطرة على تلك العاطفة. ولكن علينا أن نحتال على المخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤