الفصل التاسع

جنون الآلهة

انتصار الحب
أيها الحبُّ — كم أنتَ عميقٌ —
ليس بوسعي عبورَك،
ولكن، هل كان هناك اثنان
بدلًا من واحد —
مجدافان وسفينة — وصيفٌ هائل ذو سلطان.
مَن يدري —
ولكننا قد نصل إلى الشمس.
إميلي ديكنسون
«أيها الحب، أنت عظيم.»
«تلك الأيام، لا شيء مستحيل في هذا العالم. بوسع المرء أن يفعل أي شيء. منحتُ صلاتي اليوم ﻟ شيري باشوباتيبابا لكي يتطور حبُّنا أكثر فأكثر امتلاء، حتى يكبر ويزدهر في المستقبل، حتى يُزهر ويُزهر.»١

كتبت «فايرا بهادر» تلك الكلمات إلى «شيلا» في إحدى القرى بنيبال عام ١٩٩٠م. إنها واحدة من مئات رسائل الحب التي جمعَتها عالمة الإنثروبولوجي «لورا أهيرن» حينما كانت تعيش في تلك المقاطعة التي تبعد حوالي مائة ميل جنوب غرب كاتماندو.

على مدى قرون، ظل الآباء في نيبال يرتِّبون زواج أولادهم تبعًا لعلاقات شديدة التعقيد من الأقارب والطائفة. حتى إن العريس والعروس يتبادلان كلماتهما الأولى معًا يوم الزفاف. ولكن، بعد اختراع الكهرباء، وانتشار علاقات الحب الهندية في قاعات عرض الأفلام، ومع التعليم، ومعرفة القراءة والكتابة، ظهر تقليدٌ جديد: رسائل الحب. ومنذ ١٩٩٣م، كان ٩٠٪ من بين كل الذين تزوجوا قد هربوا مع شخص يحبونه.

وفيما بدأت التجارة، الصناعة، الاتصالات، والتعليم في الانتشار حول العالم، بدأ الرجال والنساء في تطوير طرائق ترتيب زيجاتهم من أجل اختيار آباء وأمهات لأطفالهم ممن يحبون.٢ كما قد تذكرون، في دراسة حديثة تمَّت على سبعة وثلاثين مجتمعًا، من البرازيل وحتى نيجيريا إلى إندونيسيا، صنَّف الرجال والنساء الحبَّ، والانجذاب المتبادل باعتباره المعيار الأول لاختيار شريك الزواج.٣ فقط في الهند، وباكستان، وبعض البلاد الإسلامية الأخرى، وبعض من صحراء أفريقيا، وأماكن قليلة أخرى؛ حيث الفقر منتشر والعائلات الممتدة حريصة على الحياة، يظل أكثر من ٥٠٪ من الرجال والنساء يتزوجون ممن يأمر بهم آباؤهم.٤ وحتى في تلك الأماكن، يذهب الآباء الذين يخطبون لأولادهم للقاء آباء الأُسَر الأخرى ليقرروا قبولَ الزيجات أو رفضها.٥

ليس كل تلك الزيجات ناقصة الحب.

على العكس، في الهند، يقول الناس عادة: «بمجرد زواجنا، وقعنا في الحب.»٦ ولكن معظم الرجال والنساء حول العالم اليوم يختارون شركاءهم بأنفسهم، وهو ما يسميه الصينيون: «الحب الحر.»

(١) إعادة انبعاث الحب الرومانتيكي

ازدهار الحب الرومانتيكي في الزواج، الاحتفال الوجودي بهذه العاطفة في الأفلام، والمسرحيات، والقصائد، والأغاني، والكتب، وشلال المناقشات حول العالم حول الرومانسية في التليفزيون والراديو، والإيمان بأن الحب هو حجر الأساس في شراكة الرجل-المرأة، كل هذا نتيجة العديد من التوجهات الاجتماعية. ولكن القليل منها مهمٌّ على وجه الخصوص. أحدها هو ارتفاع درجة الاستقلالية الفردانية والموجات المصاحبة لذلك من نزول المرأة لسوق العمل مدفوع الأجر.

على مدى ملايين السنين ظل أسلافنا يعيشون على القنص الصغير وتجميع العصبيات. كان كلا الجنسين يعملان. بينما كان الرجال يتنقلون من مكان إلى مكان من أجل القنص، كانت النساء يَقُمن بجولات طويلة على الأقدام من أجل تجميع الخضراوات والفاكهة، وكانت النساء يوفرن حوالي من ٦٠٪ إلى ٨٠٪ من الاحتياجات اليومية. كان الرجال المميزون من ذوي الشعبية، وربما بعض النساء الكبيرات القويات، يقودون العُصبة. التقاليد تربط الجميع بالقواعد الاجتماعية كافة المتآلفة المتعارف عليها بين أفراد القبيلة. ولكن الرجال والنساء كانوا أحرارًا لكي يصنعوا قراراتِهم الشخصية كافة، وكان الأفراد مستقلين نسبيًّا ويمتلكون حرية التعبير.

الحياةُ في مجتمعات القنص/التجميع المعاصرة تُوحي بأن آباءنا الأسلاف (لكي يخدموا أغراضهم الاجتماعية) كانوا يختارون أول أزواج بناتهم.٧ كانت التزاماتهم تتلاقى، على كل حال، فكانوا يُلقون ببعض الأعباء الصغيرة على الصغار لكي يحافظوا على الأداء. لهذا كانت معظم الخطوبات تُخفق. وكان المطلقون يلتقطون الرفيق الثاني وربما الثالث لأنفسهم حين يقدرون. النساء كنَّ قويات، اقتصاديًّا، جنسيًّا، واجتماعيًّا. وحينما كان الأزواج يجدون أن ليس بوسعهم العيش معًا في تناغم، بوسعِ كلٍّ منهما أن يعرض الانفصال. على مدى ملايين السنين كان أجدادُنا يتزوجون غالبًا من أجل الحب.
منذ بضع عشرات الآلاف من السنين تحوَّلت حياة الإنسان على نحو مثير. بينما استقر أسلافنا في الحقول، بدأت تتآكل بالتدريج الاستقلالية الفردانية والاتزان الاقتصادي في السلطة بين الجنسين. وارتفعَت التراتبية الاجتماعية والسياسية المقننة. وما إن بدأ الرجال من إنجلترا إلى الصين ينقُّون الحقول ويُفلحونها، ويأتون بإنتاجهم للسوق المحلية، سرعان ما امتلك الرجال الأراضي، والمواشي، ومعظم ثروات العائلة الأخرى. لم يعودوا قادرين على التجوال وجَمْع طعام المساء، بل ارتبطوا بمهام الدرجة الثانية في الزراعة والبقاء في المنزل، مفتقدين الملكية والتواصل مع التعليم، وفقدت النساء مكانتهن القديمة في كل الثقافات حول العالم.٨ والأكثر من ذلك، أصبح الزواج مشروعَ عمل، تبادل ملكيات، روابط سياسية، ووثاقًا اجتماعيًّا.٩ لا الولد ولا البنت بوسعهما الزواج من أجل الحب.
الحب الرومانتيكي لا يمكن خنقه. الغني يتخذ الخليلات أو الزوجة الثانية؛ بينما الفقير غير مالك الأرض يتزوج من أجل الحب.١٠ ودون شك، كان الكثير من الرجال والنساء المرتبطين بوثاق الخطوبة يقعون في الحب فيما بينهم. احتفت الشعوب أيضًا بالحب في الأساطير والحكايا الخرافية، وفي المسرح، والأغاني، والقصائد، واللوحات التشكيلية. ولكن قدماء المصريين، والإغريق، والرومان، والمسيحيين الأوائل، والمسلمين، والهنود، والصينيين، واليابانيين، وغيرهم الكثير من العالم التاريخي عادة ما كانوا يتزوجون للواجب، للمال، للترابط وبناء الجماعة، وليس من أجل الحب. بالفعل، كان الحب الرومانتيكي متخوفًا منه في معظم مناطق آسيا وأجزاء من أفريقيا. تلك القوة السحرية التي بوسعها دفع الإنسان للقتل أو للانتحار، وربما ما هو أسوأ، بوسعها أن تُربك الشبكة الرقيقة للروابط الاجتماعية.
مع تزايد التجارة والمدن، ثم بعد ذلك مع الثورة الصناعية، بدأ العديد والعديد من الأوروبيِّين والأمريكان رجالًا ونساء يهربون من حياة الحقول. بدءوا يتحررون من شبكة علاقات الدم البدائية المحلية، وعاش المزيد والمزيد من الرجال والنساء وحدهم.١١ ومع القرن التاسع عشر، بدأ الرجال والنساء يتزوجون من أجل الحب — بفرض أن آباءهم موافقون على ذلك.١٢ «سهم كيوبيد المشتعل»، كما يُطلق شكسبير على الحب الرومانتيكي، اخترق قلب شعوب الغرب.
دخول النساء المنتظم لساحة العمل مدفوع الأجر خلال القرن العشرين وفي عمق القرن الواحد والعشرين نشر الرغبة في الزواج عن حب على نحو أبعد وأوسع. امتداد الوظائف الكتابية، وازدهار التخصصات القانونية، وارتفاع الوعي وصناعة الرعاية الصحية، وانتعاش الخدمات الاقتصادية العالمية، وانبعاث المنظمات غير الربحية، وطفرة عصر الاتصالات جميعها جذبَت المرأة إلى سوق العمل.١٣ وكنتيجة لهذا، استعادت المرأة سلطانها الاقتصادي، مثلما استعادت الصحة والتعليم، تقريبًا في كل مكان.١٤ وما إن أصبحن مستقلات اقتصاديًّا، أصبحَت تلك النساء راغبات في الحياة مع شركاء يحببنهم.
«أنا أحبك». في استطلاع الرأي عام ١٩٩١م، سجل ٨٦٪ من الرجال و٩١٪ من النساء أنهم لن يقولوا هاتين الكلمتين لشخص لا يحبونه، حتى ولو امتلك هذا الشخص كلَّ المزايا التي كانوا يبحثون عنها في شريك الحياة.١٥ الصينيون في هونج كونج متساوون في تقرير الزواج عن حب. في استطلاع أُجريَ في التسعينيات، قال فقط ٥٫٨٪ من أولئك الرجال والنساء أنهم قد يتزوجون شخصًا لا يحبونه.١٦ والأكثر إثارة، أن حوالي ٥٠٪ من الرجال والنساء الأمريكان الآن يؤمنون أن من حقهم الحصول على الطلاق لو خفتَت عاطفة الحب.١٧
النساء أيضًا يرفضنَ تعدُّدَ الزيجات أو تعدد العلاقات. حوالي ٨٤٪ من المجتمعات حول العالم تسمح للرجل أن يكون له أكثر من زوجة في الوقت نفسه. تقليديًّا فقط نجد ٥٪ إلى ٢٠٪ من الرجال بالفعل يملكون ما يكفي من الثروة والمكانة لاجتذاب زوجات عديدات. لكن النساء ممن يتحملن تلك الروابط: غالبًا يرَين أنها من الأفضل أن تكون الزوجة الثانية لرجل ثري عن أن تكون الزوجة الأولى لرجل فقير. ولكن بينما استعادَت المزيد من النساء سلطانهن الاقتصادي خلال العقود الحديثة، القليل منهن يتحملنَ التفضيلية، الغيرة، الشجار الناجم عن التشارك في زوج واحد. وكما تقول فاطمة سناطي من طهران، إيران: «ليس بوسع المرأة تحمُّل تلك الأمور.»١٨

ليس فقط الجنس البشري الذي استعاد الاستقلال الشخصي والاجتماعي والسياسي، والمساواة الجنسية؛ نحن كذلك لدينا المزيد من الوقت.

(٢) وقت من أجل الحب

الرجال والنساء يعيشون عمرًا أطول. يعتقد الأنثروبولوجيون أن المدى العمري الطبيعي للإنسان لم يتغير على الأقل خلال مليون سنة. لكنَّ اليوم أعدادًا كثيرة من البشر يعيشون ويتجاوزون مخاطر الطفولة، وعدوى أمراض الطفولة، والحوادث، وموت الولادة، والعنف الذكري-ذكري، فيصل الكثير والكثير إلى الأعمار المتقدمة. عام ١٩٠٠م، كان ٤٪ فقط من الأمريكان يتجاوزون عمر اﻟ ٦٥ عامًا، اليوم ١١٪ يصلون إلى هذه السن؛ ومع عام ٢٠٣٠م سيصل حوالي ٢٠٪ من الأمريكان إلى عمر أكبر من الخامسة والستين، ومع عام ٢٠٥٠م، سيكون حوالي من ١٥ إلى ١٩٪ من إجمالي تعداد العالم إلى أكثر من ٦٥ عامًا كذلك.١٩
الكثير من المسنِّين الآن يعيشون وحيدين، أيضًا، أكثر مما يعيشون مع أولادهم. وهم بصحة جيدة. في الحقيقة يقول بعضُ الديموغرافيين إن علينا أن نبدأ في التفكير في أن منتصف العمر يمتد ليصلَ إلى سنِّ الخامسة والثمانين، لأن ٤٠٪ من الرجال والنساء في هذا العمر يكونون بكامل طاقاتهم الوظيفية.٢٠ إن البشرية تكتسب مزيدًا من الوقت من أجل الحب.

التكنولوجيا تمدُّ يدَ المساعدة. مراهم ولصقات هرمون الذكورة، التستوستيرون، الآن تحافظ على الدافع الجنسي نشطًا. وتُمكن الفياجرا والعقاقير الأخرى كبارَ السن من الرجال من تحسين الأداء في الفراش. ونظام العلاج بالأستروجين يحافظ على انتعاش ميكانيزمات المرأة. ومع الابتكارات الجديدة في الجراحات التكميلية والمراهم والملابس بكل درجات الملمس، والشكل، والموديل، أصبح الرجال والنساء قادرين على التعبير عن مشاعرهم الجنسية تقريبًا حتى لحظة الموت.

لقد بدأنا مبكرًا أيضًا. في مجتمعات القنص/التجميع يبدأ الأطفال في اللعب لعبة الجنس والحب مبكرًا عند الخامسة من العمر أو السادسة. ولكن لأن البنات نحيلات ويؤدين قدرًا هائلًا من التمارين، تصل البنت للبلوغ بوجه عام عند السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وتحمل طفلها الأول في العشرين من عمرها. الأطفال في عالمنا الحديث أيضًا يلعبون لعبة «البيت» و«الطبيب» في أعمار صغيرة. ولكن مع أسلوب حياتنا ذي طبيعة الجلوس الطويل والطعام الغني بالدهون، تَصِل البنات في المجتمعات الصناعية المتقدمة إلى سنِّ البلوغ حول سن الثانية عشرة والنصف. الكثيرات والكثيرات يُصبحنَ حوامل مبكرًا فور بداية دورة البلوغ ودورة مشاعر الرومانسية قبل المتوقع بمدة طويلة.

(٣) الحب لا عمر له

لكن الطبيعة تنحت الفرصة. بالفعل، نحن مبنيون لكي نحبَّ في أي عمر.

الأطفال يقعون في الحب. في إحدى الدراسات المهمة عن رومانسية الطفولة، سجَّل حوالي خمسة من الصغار فقط أنهم أحبوا مثل أولئك في عمر الثامنة عشرة.٢١ ولاحظتُ هذا بنفسي. استمعتُ مؤخرًا إلى ولد في الثامنة من عمره يحكي عن بنت يعبدها في الثامنة من عمرها. لا يقدر على التوقف عن التفكير فيها. كان يستدعي تفاصيل أسلوبها في كل شيء خلال أوقاتهما معًا. وكان يشعر بالزهو حينما تُكلِّمه في المدرسة.
الرجال والنساء في عمر السبعين والثمانين، وحتى التسعين، أيضًا يشعرون بسحر الحب.٢٢ وقع أحد أصدقائي في الحب في سن الثانية والتسعين. كانت زوجته قد ماتت منذ خمس سنوات، وارتبط بصديقة قديمة لعائلته. همُّه الوحيد كان أنها تصغره بكثير. كانت في السادسة والسبعين. على نحو مثير، في دراسة حول ٢٥٥ من المراهقين، والشباب، ومنتصفي العمر من الرجال والنساء، ومواطنين مسنِّين، وجد العلماءُ أنه لا توجد فروق حادة في مشاعر الهوى بينهم؛ الرجال والنساء يحبون بالقوة نفسها وهم في الستين من عمرهم تمامًا كما كانوا في السادسة عشرة.٢٣ يفعل المسنون معًا أشياء خيالية ومتنوعة أكثر.٢٤ ولكن العمر لا يصنع أيَّ اختلاف في المشاعر الرومانتيكية.

(٤) لماذا نحب

أطلق الإغريق القدامى على الحب: «جنون الآلهة.»

لماذا لهذه العاطفة أن تنفجر في أي عمر؟

لأن الدافع للحب إنما هو ميكانيزم متعدد الوظائف.

حينما يقع الأطفال في الحب، فإنهم يقومون بتكتيكات مغازلة، مبدين كيف ومتى وأين يقومون بالغزل. الأولاد والبنات يتعلمون ماذا يجذب الرفيق، وماذا يؤدي للعكس، كيف يقولون نعم وكيف يقولون لا، كما يتعرفون على المشاعر التي ترافق الرفض. إنهم يتحضرون للفصل الدرامي الأهم في الحياة: مطاردة رفيق يستحق المطاردة.

للمراهقين مهمة أكثر صعوبة. وقت الغزل يُداهمهم. يتخذون أشكالًا بدائية للتودد. بينما يفحصون باندفاع فرصَ مواعيدهم الغرامية، يلزم ذلك القبض على المعرفة بأنفسهم وبالآخر لكي يطوِّروا مداركهم حول ما يفضِّلون وما لا يحبون من خصال.٢٥
معظم الرجال والنساء حول العالم يتزوجون في عشرينياتهم.٢٦ الحب الرومانتيكي الآن يقوم بخدمة هدفه الأبدي في التخلص من الشركاء غير المناسبين، انتصارًا للتركيز بكامل الانتباه على الآخر «المخصوص»، من أجل تشكيل رباط-زوجي اجتماعي مشهود مع هذا المحبوب، والبقاء مخلصًا له أو لها جسديًّا، على الأقل بما يكفي ليُنتجا طفلًا معًا. في بعض تلك التزاوجات، تدمِّر تلك العاطفةُ هذه الرابطة بعد برهة، حينما يقع أحد الطرفين في غرام رفيق آخر ليكون رباطًا جديدًا (دون وعي) لكي يُنتج صغارًا جددًا. في تزاوجيات أخرى، يعمل الحب الرومانتيكي على أن يلتصق الزوجان بعضهما ببعض ومن ثم يدعم ذريتهما معًا لسنوات عديدة.
تُعرف تلك الاتحادات الزوجية الطويلة الأمد ﺑ «الزواج المتناغم» أو «زواج الأنداد النبيل»، وهو الزواج بين ندَّين حيث يعمل الزوجان ويتشاركان ويتقسامان الودَّ والحب والواجبات المنزلية.٢٧ لأن النساء دخلن قوة سوق العمل المدفوع الأجر، تكهَّن علماء الاجتماع بأن الزواج الندي المتناغم سوف يكون الصورة الأكثر شيوعًا للقرن الواحد والعشرين.٢٨ ولأن تعداد السكان يَصِل إلى أعمار أكبر، ربما ستظل معدلات الطلاق ثابتة لسنوات قادمة.٢٩ إيجاد الخليط المناسب من الاستقلالية الذاتية والتقارب ربما سيكون الموضوع المركزي بين الكثيرين في تلك العلاقات الندية المتناغمة.

لماذا يقع المسنُّون القدامى في الحب؟ الرومانسية بين كبار السن ربما كان لها أيضًا وظائف متبنَّاة بين أسلافنا القدامى في العصور السحيقة. تلك العاطفة كانت تعطي الرجال والنساء المسنين الطاقةَ، وجنس الخريف الذي يجعل الجسد ليِّنًا، ويكون سببًا ليحافظ عليهم أعضاء ذوي حيوية في الجماعة، ويقدم للمسنِّ شريكًا بوسعه أن يمنحَه الدعم الجسدي والعاطفي. لا تزال الرومانسية بين العجائز تخدم تلك الأهداف الأبدية.

حتى وقت قريب كان الرجال المسنون حول العالم يبحثون عن نساء أصغر عمرًا. لهذا يتوقع الناس أن فرصة النساء المسنَّات في الحب أقل. لكن الذائقة الذكورية تلك قد تتبدل-جزئيًّا بسبب تكاليف تنشئة أطفال. اليوم تُنفق الأسرة الأمريكية من الطبقة العاملة على الأقل ٢٣١٠٠٠ دولار على الطفل قبل أن يصلَ إلى عمر الثامنة عشرة، وتُنفق الأسرة من الطبقة المتوسطة أكثر من هذا، قبل أن يدفعوا مصاريف الجامعة.٣٠ لهذا يصبح الرجال المسنون أكثر حذرًا من النساء اللواتي يردن أن يحملن وينجبن.٣١

الرجال الشواذ والسحاقيات في كل الثقافات يشعرون أيضًا بالحب الرومانتيكي. كما قد تتذكرون من الفصل الأول، أظهر استطلاعي حول الحب الرومانتيكي أن الشواذ من الرجال يعانون من «متلازمة تعرُّق كف اليد» أكثر من بقية المشاركين. أشعر أن أولئك الرجال والنساء يحملون في أمخاخهم بالضبط الدوائر الكهربية البشرية نفسها والكيمياء الخاصة بالحب الرومانتيكي مثلهم مثل أي أحد آخر. أثناء تطورات الرحم أو أثناء الطفولة، يتطلب أولئك البشر على كل حال تركيزًا أكبر على عواطفهم.

(٥) الاندفاع نحو الحب

مرحبًا بصحوة الحب الرومانتيكي-بكل أحلامه وأحزانه.

تلك العاطفة أصبحت عزيزة في عالمنا الحديث. الملايين اليوم يبحثون عنه. في أمريكا ثمة حوالي ٤٦ مليون امرأة عزباء و٣٨ مليون رجل أعزب فوق سن الثامنة عشرة.٣٢ ٢٥٪ انضموا لخدمة التواعد طلبًا للحب الحقيقي، وأكثر من هذه الأعداد يُرسلون للإعلانات الشخصية في الصحف والمجلات.٣٣ عام ٢٠٠٢م حققت إعلانات التواعد على الإنترنت في أمريكا أكثر من ٩١٧ مليون دولار.٣٤
ولكن بكل السبل في رحلة البحث عن الحب الرومانتيكي، كان الأكثر لفتًا للانتباه بالنسبة لي هو تعدد الحب، أي اتخاذ أكثر من حبيب. الرجال والنساء متعددو الأحبة يصنعون علاقات مع أكثر من شخص في الوقت نفسه. هم يؤمنون أن شخصًا واحدًا لا يفي بكل احتياجات المرء، لكن أحدًا منهم لا ترقى علاقته إلى زواج مستقر مُرْضٍ طويل الأمد. لهذا يتفق الزوجان على أن يُخلصا لبعضهما البعض، وعلى وضع عدة قواعد للحذر، ليبدآ رحلةَ الرومانسية. بهذه الطريقة، فإنهم يقتنعان بأن كلًّا منهما بوسعه أن يستمتع بمشاعر الاتصال بشريكه في علاقة حب رومانتيكي.٣٥ وجليٌّ أن تكون مجلتهم البارزة بعنوان «الحبُّ أكثر».

تعدُّد الحب أمرٌ طوباوي، وغير عملي. كما تعلمون، الحب الرومانتيكي متشابكٌ في جدلية مع شبكة دوائر الدوافع/العواطف في المخ، بما فيها دوافع التزاوج البدائية، الشهوة والتجاذب الذكري-الأنثوي. ذكرتُ من قبل أنه على الرغم من أن تلك الأنظمة المخية تتفاعل على نحو منظم، إلا أن بوسعِ كلٍّ منها أن يعمل باستقلالية. بالفعل، بوسعك أن تشعر بالاتصال العميق مع رفيق الأمد الطويل، بينما تشعر بالحب الرومانتيكي مع شخص آخر، بينما تتملكك الداوفع الجنسية حينما تقرأ كتابًا، أو تشاهد فيلمًا، أو تستدعي صورة جنسية في ذهنك. هذه الشبكة المخية ربما تطورت، جزئيًّا، لكي تساعد الأسلاف من الرجال والنساء على أن يصونوا الرباط الطويل الأمد، بينما يجربون اقتناص مزيد من فرص التزاوج (غالبًا ما تكون سرية). الرجال والنساء من ذوي العلاقات المتعددة في آنٍ يهدفون إلى عمل هذا علنًا.

لكن الجنس البشري لا يتشارك الحب على نحوٍ رشيق. كما كتب المواطن الأسترالي: «نحن شعب غيور.» ليس من المدهش أن يمضيَ متعددو العلاقات الغرامية عدة ساعات كل أسبوع لكي يعالجوا ويسوُّوا مشاعر الامتلاكية والغيرة لديهم.

استقلالية تلك الدوافع التزاوجية الثلاثة تسبِّب لنا الاضطرابات في لحظات من حياتنا. المعدلات العالية في الزنا والطلاق، انتشار حالات المطاردات وضرب الأزواج، والانتشار الواسع لحالات القتل بدوافع الحب، والانتحار، والاكتئاب المرضي، جميعها ليست إلا التداعيات الناجمة عن اندفاعنا للحب ثم الحب من جديد.

ولكن مع تلك الدموع ونوبات الغضب الناجمة عن خيبات الأمل في الحب، يتعافى معظمنا ويعاود الحب من جديد. فالحب منح الجنس البشري بهجةً هائلة. وساهم بالكثير في المجتمع بوجه عام. فكرة وصورة الزوج، الزوجة، الأب، ونواة الأسرة، عاداتنا وتقاليدنا في التودد والزواج؛ المشاهد العظمى في الأوبرا، الروايات، المسرحيات، الأفلام، الأغاني، والقصائد؛ لوحاتنا التشكيلية وقطعنا النحتية؛ العديد من تقاليدنا، وحتى بعض إجازاتنا، بلايين من جذور وأصول صناعاتنا الثقافية إنما هي، بشكل جزئي، نابعة من الدافع القديم للحب.

على أننا ما زلنا لا نعرف إلا القليل جدًّا عن هذا الجنون، جنون الآلهة. على سبيل المثال، بعض عمليات المخ، ما زالت غير محددة، يجب أن تُنتج الإحساس بالانصهار مع الحبيب مما يشعر به المحب. بدأ العلماء في تحديد مناطق المخ التي تصبح نشطة حينما يشعر العاشق بالانصهار ﺑ «طاقة عالية»، مثل الرب.٣٦ ربما تكون المنطقة المخية تلك متورطة أيضًا في الحب. نحن لا نعرف ما الذي يخلق لدى العاشق التوق للجنس حصريًّا مع الحبيب. لا بد أن هذا مرتبط أيضًا بتشريح المخ ووظائفه.

كما أن الأبحاث المجراة على دوائر المخ الكهربية المسئولة عن الحب الرومانتيكي خلقت تساؤلات أوسع. هل يجب على الأطباء مداواة حالات المطاردة والعنف الزوجي بالعقاقير التي تُغير وظائف المخ؟ هل على المحامين والقضاة ورجال القانون أن ينظروا بعين الاعتبار لأولئك الذين يرتكبون جرائم العشق نتيجة الخلل الكيميائي؟ هل قوانين الطلاق بوسعها أن تتكيَّف مع ميلنا لأن نتخلص من الوشائج غير السعيدة؟ كلما عرفنا أكثر عن بيولوجيا الرومانسية (وعن الشبق وعن الاتصال)، كلما زاد اعتقادي بأننا سوف نقدِّر دور الثقافة والخبرة في توجيه سلوك الإنسان، وأننا بحاجة أكثر إلى تعريف تلك الأمور وغيرها الكثير من الموضوعات المعقدة عن الأخلاقيات والمسئولية.

على أنني واثقة من أمر واحد: مهما رسم لنا العلماء على نحو جيد خريطة المخ، وكشفوا لنا بيولوجية الحب الرومانسي، إلا أنهم لن يستطيعوا أبدًا أن يدمروا أسطورة النشوة التي تُولدها تلك العاطفة والبهجة الناجمة. أقول هذا من واقع تجربتي الشخصية.

يسألني الناس كيف أثَّرَت معرفتي بالحب الرومانتيكي على حياتي الشخصية. حسنًا، أصبحتُ على دراية أكبر. ولسبب لا أقدر أن أُعلنَه، أصبحتُ أكثرَ أمنًا. عرفتُ أكثر «لماذا» تتباين مشاعري كما أفعل. بوسعي أن أتوقع ببعض التصرفات من الناس المحيطين بي. وأصبح لديَّ بعض الأدوات التي أتعامل بها مع نفسي ومع الآخرين. ولكن فهمي لهذا الموضوع لم يغير «كيف» أشعر على الإطلاق. بوسعك أن تعرف كل نغمة موسيقية في سيمفونية بيتهوفن التاسعة، ولكنه ستظل تتمايل طربًا معها كلما سمعتها. وبوسعك أن تعرف كيف كان رمبرانت يخلط ألوانه ويرسم لوحته، ولكن انظر إلى واحدة من بورتريهاته ودع نفسك تُغمر بالنشوة مع كل هذا التناغم الإنساني الآسر. بغضِّ النظر عن ماذا يعرف المرء عن هذا الموضوع، جميعنا نشعر بهذا السحر.

البشريةُ تُكمل الدائرة الكاملة، راسمة أشكال الرومانسية والزواج التي عبَّر عنها أسلافنا منذ ملايين السنين. افتتان الطفولة، سلسلة رومانتيكيات المراهقة، الزواج في سن العشرينيات، وأحيانًا علاقة حب أخرى أو زواج آخر في منتصف العمر، والرومانسية في سنوات الإنسان الذهبية. الحب الرومانتيكي مضفور في أرواحنا البشرية. إذا عاشت البشرية فوق هذا الكوكب مليون مليون آخر من السنين، ستظل قوة التزاوج تلك حيةً لا تموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤