الباب الأول

قدِمت الأنباء على يد السعاة من ثغر الإسكندرية، بأن الفرنجة نزلوا الشواطئ الشمالية للبلاد يوم الإثنين الثامن عشر من المحرم سنة ١٢١٣من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق الثالث عشر من يوليو ١٧٩٨من الميلاد. نزل إلى البر — من قارب صغير — عشرة رجال. طلبوا مقابلة كبار المدينة. قالوا إنهم إنجليز جاءوا للتفتيش على الفرنسيين؛ لأن الفرنسيين خرجوا بعمارة كبيرة، وربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم.

رفض السيد محمد كريم — رئيس القوم — هذا القول. حدس أنها مكيدة، وضغط على الكلمات: نحن أحق بالدفاع عن أنفسنا.

قالت رسل الإنجليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر، محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه.

قال السيد محمد كريم: هذه بلاد السلطان، وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبيل، فاذهبوا عنا.

وردت المكاتبات — في اليوم الثالث — أن مراكب الإنجليز عادت من حيث أتت؛ فاطمأن الناس، وسكن القيل والقال.

حين لاحت سفن الأسطول الفرنسي في الأفق، اضطرب أهل الإسكندرية، وتوقعوا الشر. هيئُوا السلاح، رمَّموا الحصون القديمة، تكوَّنت أعداد من المتطوعين وقبائل البدو. توالت المكاتبات إلى القاهرة، من الثغر، ومن رشيد ودمنهور، بأن مراكب وعمارات كثيرة للفرنسيين، وصلت إلى الإسكندرية. وصف السيد محمد كريم محافظ الإسكندرية سفن الفرنسيين بأنها مثل الجبال، بأعداد غطت مياه البحر. قال إن على المماليك أن يدفعوا المقابل لعيشة الترف والأبهة التي استلبوا بها حياة آلاف المصريين وأمنهم. ضاق بمكاتبات أمراء المماليك ردًّا على مكاتباته. طالبهم بالتنبه إلى الخطر، والدفاع عن البلاد ضد هجمات المغيرين. لم يكن في الإسكندرية أكثر من ستة آلاف نسمة، بعد أن قتل الطاعون آلافًا أخرى في أواخر القرن الثامن عشر.

أظهر الأمراء غرورهم واستكبارهم. زعموا أنهم القوة القاهرة، والغلبة التي طبقت شهرتها الآفاق في جهات العالم الست، وأن سائر دول أوروبا — وليست فرنسا وحدها — إذا حاولت منازلتهم، ولم يأتهم المدد من الباب العالي، فليس في ذلك ما يستوجب الخوف ولا القلق. رءوسهم تحصدها السيوف، وأجسادهم تدوسها سنابك الخيل.

بدأ الجيش الفرنسي رحلته من طولون — وهو ميناء فرنسي — قاصدًا الإسكندرية. استولى على جزيرة مالطة في الثاني عشر من يونيو ١٧٩٨م، ثم ظهر أمام سواحل الإسكندرية في أول يوليو من العام نفسه. غزو مالطة أتاح لنابليون مددًا، ربما لم يكن يصِل إلى مصر لو لم يحصل عليه، مدافع وبنادق وبراميل بارود وسفن حربية، بالإضافة إلى كنوز ذهبية خلَّفها الرهبان وزخارف ذهبية من الكنائس، حُولت إلى سبائك، حول نصف قيمتها إلى باريس لتجاوز بها حكومة الإدارة أزمتها المالية، وأبقى النصف الأخر لتدير منه الإدارة المحلية أمور الجزيرة.

لو أن مراد بك أنصت إلى نصيحة المسيو روزيتي قنصل النمسا! أدرك الرجل أن احتلال مالطة هو أولى الخطوات نحو الإسكندرية. قال: مصر هي المقصودة بحملة الفرنسيين.

رفع مراد بك كتفيه، وأظهر السخرية: لا شيء يدعونا للخوف من الفرنسيين، خاصة إذا كانوا كهؤلاء التجار الموجودين عندنا. عندما يصل منهم مائة ألف، يكفي أن أرسل للقائهم التلاميذ المماليك الشبان، يقطعون رءوسهم بحد ركاب سروج جيادهم!

ثم وهو يتأمل — في المرآة المقابلة — القامة الفارعة الممتلئة، والوجه الشركسي الشاحب المستدير، والعينَين الممتلئتَين القاسيتَين، يعلوهما حاجبان كثيفان، والندبة الطويلة على خده الأيمن، والعمامة المزركشة، والعباءة الحريرية الفضفاضة، والسيف المتدلي من الجنب، يضوي بالبريق: إذا فرضنا وصولهم إلى أرضنا؛ فإن مماليك الخزنة وحدهم يكفوننا المئونة ويقطعون دابرهم.

يثق في قدرة جنوده على تحطيم جيش الفرنسيين بسنابك الخيل، وحصد رءوس جنوده ببوارق السيوف.

قال روزيتي: سيدي …

قاطعه مراد بك بإشارة من يده: إنهم فستق خُلق للأكل لا للحرب!

هل يفيد قنطارا البارود اللذان أمر مراد بك بإرسالهما — تحت إلحاح روزيتي — إلى الإسكندرية؟

كان مراد بك أقرب — في طبعه — إلى الخوف وإيثار السلامة، وإن غلَّف ذلك بكلمات تبين عن الشجاعة والاندفاع. لم يأخذ شيخ البلد ولا الأمراء كلماته مأخذ الجِد حين أقسم أن يقيم من جماجم الفرنسيين منارات في ميادين القاهرة. كان أسلوبه العسكري يعتمد على الكر والفر؛ فهو يهاجم إذا لاحت ثغرة، وينسحب إذا تأزمت الأمور. وكان أهم ما يعتز به؛ امتلاك أعداد من أجمل المسدسات الدمشقية والغدارات والمسدسات والأحجار الكريمة والتحف والملابس الموشاة.

فصل

الأنباء الأولى مفرحة.

هاجم إنكشارية المماليك طليعة جيش الفرنسيين. قتلوا قائدها، وقطعوا رأسه. طافوا بها شوارع الإسكندرية. لم يفطنوا إلى أن من هاجموهم هم الطليعة، وأن المدينة بلا حصون ولا جيش للمدافعة.

في يوم الإثنين الثامن عشر من محرم، نزلت جماعة من رجال الفرنسيين ناحية العجمي، يرافقهم الجنود والأسلحة. دعَوا العديد من رجالات المدينة إلى السفن الواقفة بالقرب من الساحل. بادروا بإلقاء القبض عليهم فور صعودهم، وانطلقوا — ومعهم آلات الحرب — ناحية ميناء العجمي. أسقط الأهالي مشاعر الفرحة. بعث السيد محمد كريم إلى مراد بك يستعجل النجدة.

قال مراد بك للوالي العثماني بكر باشا: إن هؤلاء الفرنسيين ما دخلوا البلاد إلا بإذن الدولة العثمانية، ولا بد أن الوزير عنده علم بتلك النية.

قال بكر باشا: يجب ألا تتكلم بهذه اللغة؛ فلا يمكن لدولة بني عثمان أن تسمح بدخول الفرنسيين بلدًا إسلاميًّا.

وأشاح بيده: دع عنك هذا الكلام، واستعدوا للقتال!

•••

قال مراد بك للمسيو روزيتي: اكتب للفرنسيين إنذارًا ليخرجوا من الإسكندرية.

قال روزيتي: إنهم لم يأتوا إلى مصر لكي يرحلوا عند أول إنذار.

قال مراد بك في صوت متلكئ: عليك أن تطالبهم بالرحيل.

افترَّت شفتا روزيتي عن بسمة باهتة: هم لم يحضروا بإذني فيخرجوا منها بإذني.

حدجه بنظرة مرتبكة: ما الذي يريده هؤلاء الموتى من الجوع؟

ثم وهو يغالب شعوره بالقلق: إن كان ولا بد فأرسل إليهم مع المكتوب خمسين ألف فرنك ليرتحلوا.

سكت روزيتي، ثم قال: أخشى أن عليكم الاستعداد للدفاع!

•••

نجدة مراد بك مستعصية. ثلاثة عشر رسولًا، وصلوا القاهرة في ليلة واحدة. الفرنسيون على الأبواب، ولا حل إلا أن يدافع أهل الإسكندرية عن مدينتهم. حصنوا أبواب المدينة، وزودوا القلاع بالمدافع والذخيرة، ووزعوا البنادق على الأهالي.

طالعت الإسكندرية حملة نابليون في نهاية الأفق: البيوت القليلة المتناثرة، والتلال الرملية، وعمود السواري، وقلعة قايتباي، وقلاع المراكب المتباعدة.

صعد القائد العام إلى قاعدة الجرانيت الأحمر التي ينتصب فوقها عمود السواري. أطل على الأمكنة المحيطة، والممتدة في الآفاق، المسلات البطلمية، والمآذن، والأسوار القديمة، وبقايا القلاع. في داخلها، وأعلى السور الهائل ذي الفجوات الواسعة، رجال ونساء، تسلحوا بالبنادق والرماح. امتزج التصور — في داخله — بمشاعر التوقع والتحدي. هو في المدينة نفسها التي بناها الإسكندر، رافقته سيرة المقدوني منذ بدأ الإعداد للحملة. صحب الإسكندر فلاسفة وعلماء وفنيين في حملته على مصر وفارس والهند. حرص هو على الفعل نفسه. الإسكندر قدوته ومثَله الذي يَحتذي خطاه في حملته المشرقية. حمل الجيش معه مكتبة هائلة تضم ٥٥٠ مصدرًا ومرجعًا، ومواد للطباعة باللغات الثلاث: العربية والفرنسية واليونانية، ومعملًا كيميائيًّا، ومكتبة فيزياء، ومكتبة تاريخ طبيعي، ومرصدًا، وتجهيزات كاملة لصناعة المناطيد وقيادتها. ضم نابليون إلى حملته رسامين وكتابًا ومساحين وفلكيين وعلماء حيوان ونبات ومهندسين معماريين ومهندسين مدنيين وأطباء وصيادلة وطباعين ومؤلفي موسيقى ومترجمين وعلماء آثار ومستشرقين. يهمه أن يستند إلى العلماء والفنانين والمؤرخين إلى جانب اعتماده على العساكر. المدينة التي يبشِّر بها لا تلجأ إلى البندقية وحدها، لكنها تلجأ أيضًا إلى العلوم والفنون والآداب. هؤلاء هم صُناع إمبراطورية الحلم. أضاف إلى من رافقوه إداريين يُعِدون الترتيبات. قال: لقد نقلتُ باريس إلى مصر. أهمل الإشارة — في خطبه ومذكراته وبياناته — إلى الإمبراطورية التي يحلم بها، إلى المساحة الجغرافية في المنطقة المحملة بالخير، وإمكانية السيطرة، ووعد المكانة.

قدم بالتصور أن مصر ليست ملكًا للعثمانيين، وليست ملكًا لأحد. إذا لم تحتلها فرنسا؛ فإن إنجلترا لن تفلت الفرصة. عليه أن يضع الخطط لطرد الإنجليز من جميع الممتلكات الشرقية التي يستولي عليها، يحتل خليج السويس، يضمن الملكية المطلقة على امتداد البحر الأحمر، يحافظ — في أثناء ذلك — على علاقة جيدة مع السلطان العثماني. في باله رسالة ليبنتز إلى لويس الرابع عشر، عن تحقيق ما سعى إليه الإسكندر قديمًا؛ السيطرة على إمبراطورية البر والبحر من خلال السيطرة على مصر. معزولة في الصحارى الواسعة، بحر من الرمال لم تطأه قدم منذ حملة الإسكندر. من المستحيل أن تصلها نجدات برية، وإن كان اتصالها متاحًا بمناطق الشرق. عشرة أيام تفصل بين القاهرة والقسطنطينية، لا تقتصر السيادة الفرنسية على البحر المتوسط، وإنما تمتد إلى بحر الأدرياتيك. تتحول مصر إلى مستعمرة حقيقية لفرنسا في هذه المنطقة.

درس كل ما يتصل بمصر في كتابات الرحالة الفرنسيين: الديانة التي تعتنقها، الشرق الذي تنتمي إليه، جغرافية المنطقة، العادات، التقاليد. قرأ كتاب دي ماريني «تاريخ العرب» بأجزائه الأربعة، وكتاب فولني «الرحلة في مصر وسورية» وكتاب سافاري «رسائل عن مصر». اكتفى بالحديث عن الحضارة الغائبة عن المنطقة منذ عصور الفراعنة، وصل ما كان بما أصبحت عليه المدنية الأوروبية: ربط تجارة الهند بأسواق فرنسا، وإلحاق خسائر مؤكدة بالتجارة البريطانية المنافسة، تسويق المنتجات الفرنسية في إفريقية وجزيرة العرب. وضع حواجز في مضيق السويس تفصل بين مصر وسورية؛ فيأمن المخاطر القادمة من الشرق، فتح المجال لتبادل حر بين البحر المتوسط والبحر الأحمر وبين فرنسا والهند، تحول مصر إلى مستودع للبضائع الواردة من أوروبا وآسيا، زرع الريف على الطريقة الفرنسية بتنظيف قنوات الري وبحيرة موسى، استنبات الأشجار المعمرة ليفيد ظلها في تلطيف حرارة الجو، إعادة دور مصر مخزنًا للغلال كما كانت في أيام الرومان، كشف المستور من التاريخ المصري القديم.

أحاطت فرق الفرنسيين بالمدينة من ثلاث جهات؛ من الغرب، ومن باب رشيد، ومن باب سدرة. تولى جماعة من الفرسان مقاتلة طلائع الفرنسيين قبل اقترابها. حاولوا، ومن انضم إليهم من العربان، أن يصدوا المغيرين. لكن الدائرة دارت عليهم. اقتحم أعداد من جنود الفرنسيين أبواب المدينة. تسلق الأسوار أعداد أخرى. ظل آخرون خارج المدينة. دخل الفرنسيون الإسكندرية في الثالث من يوليو. غابت الرءوس المدبرة باعتقال رءوس البلد ووجهائها، وزاد عويل النساء، وصياح الأطفال، من انتشار الفوضى، وعدم إحكام التدبير. طلبوا الأمان من الفرنسيين.

الغزو الجديد مخالف لما اعتادته مصر من غزوات. هو يختلف عن محاولات البدو للإغارة على مدن الحدود وقراها، فيسهل على الأمراء صدهم وطردهم إلى ما بعد الحدود. أيقنوا أن القوات المهاجمة ستمتلك الإسكندرية دون مقاومة. لاذ جنود الأمراء بالفرار، وظل شعب المدينة بلا حول ولا قوة، ولا سلاح يدافع به عن نفسه، وخلت الأبراج من آلات الحرب والبارود.

بدا أن المدينة استسلمت. لكن رصاص البنادق انهمر من طاقات المساجد ونوافذها.

لم يكفَّ المقاتلون من أهل الإسكندرية عن القتال. دارت المعارك في الشوارع والحارات والخلاء. انهالت طلقات الرصاص من النوافذ والشرفات والأسطح، ومن خلف الأبواب والمتاريس. أصيب الجنرال كليبر بطلق ناري لامس جبهته، وأصيب الجنرال مينو بضربة حجر، وقتل وأصيب ضباط آخرون.

بدت المذبحة وشيكة، لا يقتصر خطرها على المصريين وحدهم، فهي تشمل الفرنسيين أيضًا. مثلت حاجتهم للجوع والعطش حافزًا إضافيًّا للاقتحام، واستكمال الغزو. أعملوا القتل في كل من يصادفهم. لم يفرقوا بين رجل وامرأة وطفل. لم يأبهوا باستغاثات الرحمة، وإن تركوا — في النهاية — من لا يؤبه لهم. فقد المصريون سبعمائة غالبيتهم من النساء والأطفال، بينما فقد الفرنسيون ثلاثمائة ضابط وجندي.

بلغَت بونابرت تعليقات الجنود، ما بين الهمسات والآراء المعلنة: لا بد أن الجنون هو الذي جاء بهذه الحملة، أيُّ تهور قادنا إلى هذا البلد؟ نحن ندفع ثمن طموح الجنرال. وعدَهم قبل أن تنطلق الحملة من طولون بأنه — عند العودة إلى فرنسا — سيكون مع كل جندي وضابط ما يتيح له شراء ستة أفدنة من الأرض. انطلقت الأخيلة بلا حد: السماء الصافية، البخور ذو الأريج العبق، الراقصات الشرقيات، والجواري، والغموض، والسحر، والمتعة بلا انتهاء.

وقَّع القائد العام منشورًا يُطمئن فيه أهل المدينة بأنه قدم لمحاربة المماليك: «بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه. من طرف الشعب الفرنسي المبني على أساس الحرية والتسوية، الصاري عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنسية بونابرت، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد والصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق أبناء الملة الفرنسية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي؛ فحضرَت الآن ساعة عقوبتهم. وا حسرتاه. من مدة عصور طويلة هذه الزمرة من المماليك المجلوبين من بلاد الأبازا والكردستان يفسدون في الإقليم الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها. إن رب العالمين القادر على كل شيء قد حتَّم عليَّ انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون، قد يقولون لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه، وأحترم نبيه والقرآن العظيم. أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنسيين هم أيضًا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى، وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحثُّ النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا، وطردوا منها الكواللرية، الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك فإن الفرنسيين كل وقت من الأوقات، كانوا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه.»

قال نابليون لهنري برتران؛ مرافقه وصديقه وموضع سره: أعرف ما تريد أن تقوله؛ هذا المنشور قطعة من الدجل.

وابتسمت عيناه الواسعتان: لكن، ألا توافقني على أنه دجل مقنع؟

وأشاح بيده في عدم اكتراث: على المرء أن يصطنع الدجل — أحيانًا — ليحقق ما يستعصي عليه من الأمنيات!

وهز رأسه مؤمِّنًا: المرء في هذه الدنيا يجب أن يبدو صديقًا للناس، وأن يبذل وعودًا كثيرة، ولا يفي بشيء منها!

اختلط في ذهنه — بعد أن وقَّع البيان — ما قرأه، أو استمع إليه، عن مصر: الأهرامات، المسلات، أطلال المعابد الكريمة، آثار البطالمة والرومان، أسر لويس التاسع، البنايات العربية، سحر الشرق، وغموضه، وأسراره …

سبقت أحلامه الشخصية قواته المتجهة إلى القاهرة، تريد ما بحوزة المماليك من أسلحة وكنوز، تعين الحملة على مغالبة ظروفها القاسية. قطع الجنود الصحراء. عانوا الجفاف، وحرارة الجو، وارتداء الزي العسكري الشتوي، وعانوا مطاردة البدو واعتداءاتهم.

هنري برتران مرافقُه منذ كان نقيبًا في سلاح الهندسة، وصديقه المقرب، وموضع سره. سألَه: ما الفترة التي تتوقع أن تقضيها في مصر؟

قال بونابرت: بضعة شهور أو ست سنوات، الأمر كله يتوقف على تطور الأحداث، سأحاول الإفادة منها، كما أحاول الإفادة من وجودنا في مصر، ومن العلماء والفنيين الذين أتوقع أن يضيفوا إلى الحلم.

وعدَ جنوده بالغنائم والأسلاب والمكافآت المادية، وإن لم يخبرهم بالمكان الذي يتجهون إليه. أربعون ضابطًا فقط هم الذين كانوا يعرفون إلى أين تمضي الحملة. شدد عليهم، فلا يبلغون الجنود بالجهة التي تقصدها الحملة. ربما حكم العالم من الإسكندرية، وليس من باريس ولا روما ولا لندن ولا الآستانة، ومن يد مصر لا بد أن تصل المدنية إلى أعماق القارة الإفريقية. في باله موقع مصر، وما تحمله أرضها من ثروات. ثمة الكثير يمكن عمله في هذا البلد. ربما لا يعينه الوقت، ولا عودته المحتملة إلى فرنسا، على إنهاء كل شيء، لكن الانطلاق يمضي إلى آفاق بلا نهاية. وضع نظام تعليمي جديد، تعويد أعيان مصر على أفكار المجالس النيابية والحكم، تحسين وسائل الزراعة، استنبات محاصيل لم يسبق زراعتها، تكاثر مشروعات الري من السدود والقناطر والترع والقنوات، التحكم بفيضان النيل فلا تُهدر مياهه. ألف بوابة تضبط الفيضان وتحسن توزيع المياه، المياه المهدرة في البحر تتحول إلى منخفضات الصحراء، ربط البحرين المتوسط والأحمر، الوقاية من الأوبئة والأمراض المتوطنة، قدوم آلاف الوافدين من فرنسا وإيطاليا واليونان وبلاد الشام وداخل إفريقية. يتضاعف سكان البلاد أربع مرات، تعتدل الكفة المقابلة لكفة أهل القاهرة والفلاحين والمماليك.

فصل

وافق المقاتلون من أهل الإسكندرية — مرغمين — على أن يسلم السيد محمد كريم — حاكم المدينة — قلاعها وأسوارها ومرافئها.

نادى الفرنسيون — عند استقرار الأمور — بالأمان، ورفع أعلامهم على بنايات المدينة، وطالبوا الأعيان والوجهاء وأصحاب العمامة بجمع السلاح، ووضع شعار الفرنسيين على صدورهم، وألَّف بونابرت مجلسًا لحكم المدينة.

قال بونابرت للسيد محمد كريم: لقد أخذتك والسلاح في يدك. وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير، لكنك استبسلت في الدفاع والشجاعة متلازمة مع الشرف. لذلك أعيد إليك سلاحك، وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة.

•••

وصلت أنباء ما حدث إلى القاهرة. أبلغ بها ثلاثة عشر رسولًا أوفدهم محمد كريم إلى مراد بك.

عقد شيخ البلد إبراهيم بك اجتماعًا في قصر العيني، حضره الباشا أبو بكر والي مصر، والأمراء الموجودون في القاهرة، والقاضي، والمشايخ: عبد الله الشرقاوي، وخليل البكري، ومحمد المهدي، وسليمان الفيومي، ومصطفى الصاوي، وأحمد العريشي ومحمد الأمير ونقيب الأشراف عمر مكرم، وشيخ السادات، وعدد من صغار العلماء.

تحدثوا في أمر الواقعة الفاجعة.

قال مراد بك: لم يحضر الفرنجة إلى هذه البلاد إلا بإذن من الدولة العلية.

وأشار بإصبعه إلى الباشا: لا بد أنك تعلم بحقيقة الأمر.

قال الباشا: لا يصح أن تخاطبني بهذه اللهجة، ولا أن توجه هذا الاتهام. الدولة العلية لن توافق على أي اعتداء ضد بلاد الإسلام.

اتجه شيخ السادات بنظرِه ناحية أمراء المماليك: إن كل هذا من سوء أفعالكم وظلمكم، وآخر أمرنا معكم أنكم ملكتمونا للإفرنج.

وأومأ إلى مراد بك بقوله: وخصوصًا بأفعالك وتعديك أنت وأمراؤك على متاجر المصريين وأخذ بضائعهم.

كتم مراد بك الغضب في نفسه. الموقف لا يحتمل حتى مجرد إبداء الغضب، وما يترتب على الفعل من ردود أفعال.

قال مراد بك: سأحطم هؤلاء الفرنجة تحت سنابك خيلي.

قال الباشا: دعكم من توجيه الاتهامات، وانصرفوا إلى أخذ العُدة تحسبًا للخطر الماثل.

فصل

هل يكفِّر الأمراء عما عاناه أبناء البلاد على أيديهم من ألوان العسف والظلم؟

ألَّف الأميران إبراهيم بك ومراد بك جيشَين. قاد أحدهما إبراهيم بك ناحية شرق النيل عند بولاق، ومضى الآخر بقيادة مراد بك ناحية الغرب، لصدِّ الجيش الغازي قبل أن يبلغ القاهرة. أبلغه مماليكه أن قوات الفرنسيين يتألف معظمها من المشاة. لم يكن زيُّهم يناسب الجو الحار. البذلة العسكرية من نسيج دقيق الخيوط وجلد البقر، ويحيط بسيقانهم حذاء برقبة عالية. لم يعتادوا على حرب الصحراء، يعانون صعوبة السير فوق الرمال، على ظهورهم عتاد يهد الحيل. اقتصر طعامهم — عبر الصحراء والقرى — على البطيخ، يروون به ظمأهم، وإن ظلوا في حاجة إلى طعام حقيقي، يعينهم على المواصلة. سقط بعضهم صرعى في الطريق، وانتحر البعض بإطلاق الرصاص على أنفسهم، أو ارتموا في النيل.

أهمل مراد اقتراح التسوية الذي نقله إليه روزيتي. يحصل على مصر العليا من جرجا إلى الشلال الأول، شريطة أن يعترف بالتبعية للفرنسيين، ودفع إتاوة لهم. وجد في مجرد عرض الاقتراح ما يشي بضعف الفرنسيين.

رفض نابليون الزحف على القاهرة على امتداد فرع دمياط. قدَّر احتمال عودة القائد الإنجليزي نيلسون، فيضطر إلى الارتداد لفرع رشيد. فضَّل اجتياز طريق الصحراء عبر دمنهور، لتجنب دفاعات المماليك، ولتقليل مسافة الطريق.

أهمل القائد العام ما نقله إليه الأرصاد من حصول جنود الحملة على طعامهم بالسطو والنهب والعنف، واقتتال الجنود على الماء. يدرك أن غالبية جنود الحملة لم ينضموا إليها إلا لضمان الوجبة التالية. آخر رواتبهم تسلموه منذ فترة بعيدة، وثيابهم رثة. تحوَّلت أعداد منهم إلى النهب والسلب في القرى لإسكات صراخ بطونهم. أبلغه الأرصاد بما كتبه الملازم نورمان إلى أسرته «العطش وحده هو الذي دفع جنودنا للاستيلاء على الإسكندرية. كنا أمام خيارين: العثور على الماء، أو الموت.» وقال الملازم فرتري: كان يكفي أن يزود كل جندي بزمزمية صغيرة يحمل فيها الماء، لكن القائد الأعلى نسي هذا الأمر، وسيطر الارتجال على كل شيء. القائد الأعلى هو من يجب أن نلومه. أهمل ضيق الضباط باقتصار الطعام على البقسماط ولحم الجمال وحفنة الأرز. أهمل حتى اكتفاء كل جندي بثلاث قطع من البقسماط. يدرك الظروف التي جاءوا بها. تواصلت حياتهم بالمعاناة نفسها. قدِمت الحملة بنية الحصول على احتياجاتها من البلد الذي تهبط فيه. لما عاب الضابط فوجاني على جنوده طعامهم المسروق، دافع الجنود — بجرأة لم يتوقعها — عن نهر العسل والنبيذ الذي بدا سرابًا في صحراء مجدبة. آلمته حكايات الجنود الذين ألقَوا بستراتهم وقمصانهم. لم يعودوا يتحملون ارتداءها، حتى الجرايات ألقوا بها. ومن أسقطهم الجوع والعطش وضربة الشمس، ومن دفعهم اليأس إلى قتل أنفسهم. أطلقوا الرصاص على رءوسهم، وألقى عدد من الجنود بأنفسهم في النيل، ووجد قائد المدفعية الجنرال ميرو ميتًا في الصحراء. كانت الرصاصة قد اخترقت رأسه، ومسدسه في يده، وجنديين تعانقا، وألقيا بنفسيهما في النيل. أعلن بعض الضباط السخط، ورفض الفهم لبواعث قدومهم إلى مصر.

لم يكن ذلك ما يتوقعه. استعاد قوله حين لمح أشرعة إنجليزية في مدى الأفق: أيها الحظ، أتتخلى عني؟ أمهلني خمسة أيام فقط! لم يدرِ ما إذا كان يعني ما يقوله للجنود، أم أنه لم يكن يقصد سوى حثهم على التجلُّد: اصبروا بضعة أيام أخرى، ثم تجدون — في عاصمة مصر — وفرة في كل شيء؛ الخبز الأبيض واللحم الطيب والنبيذ الفاخر والسكر والقهوة التركي.

التقت قوات الفرنسيين وقوات المماليك في شبراخيت، في الرابع عشر من يوليو. تغلبت على ما عداها — حتى على رغبة الفرنسيين في الانتصار — رغبة الاستحواذ على ما بأيدي فرسان المماليك من الثياب الزاهية، والعمائم ذات الريش، والخوذات المذهَّبة، والسيوف، والرماح، والحراب، والبنادق، والبلط، والخناجر، بالإضافة إلى الطبنجات الثلاث المتدلية من جانب كل فارس. غنائم، لو أنهم فازوا بها ربما تغيرت حياتهم.

قال فرنري: أصبحت أقدامنا المتعبة مشققة كالأرض التي ندوس عليها!

لم تكن الأيام الأربعة التالية لمعركة شبراخيت أقل قسوة. مات بعض الجنود من شدة الحر، واعترضت قنوات الري الجافة طريق عربات المدافع، وانهمك جنود سلاح المهندسين في تسوية ضفاف الترع لإتاحة المرور من فوقها، وأُذِن الضباط والجنود بالاستيلاء على كل ما يصادفهم من مؤن، حتى لو دمرت القرى التي تقاوم عن آخرها. وأُحرقت قرية على الطريق بالفعل، بعد أن سُلب كل ما فيها، وذبح ٩٠٠ ما بين رجل وامرأة وطفل.

فصل

حلت الهزيمة بالأمراء، وفروا عائدين إلى القاهرة.

لاحقَ اليقين مراد بك أنه يواجه ما لم يعهده من قبل، وأنه لن يفلح — كما ادعى — في تحطيم العدو تحت سنابك خيله. فضَّل الفرار، والتخلي عن موافقته لنابليون — بواسطة روزيتي — أن يضع نفسه ومماليكه في خدمة الفرنسيين، لقاء التنازل له عن ممتلكاته في مدن البلاد وقراها.

جاءت الأنباء بأن دولة الأمراء الظالمة لم تستطع الصمود أمام غزو الفرنجة. لم يستطع جنود الأمراء أن يصمدوا، ولا حاولوا حماية المدينة من الجيش الأجنبي. ساد القلق حياة المصريين. أغلِقت أبواب البيوت على سكانها، وأغلَق الكثير من التجار وأرباب الحرف محالَّهم، ولجئُوا إلى القرى. خلت الطرق إلا لضرورة السير، وتمطى الخوف. نقل الأمراء ما بحوزتهم من تحف ومنقولات ثمينة من بيوتهم وقصورهم إلى بيوت صغيرة بعيدة، في أماكن بعيدة، فلا تصل إليها الأيدي، وإن تسللت أعداد من أهل القاهرة إلى قصور مراد وإبراهيم. سلبوا ما فيها، وما في قصور الأمراء، ثم أحرقوها فدُمرت تمامًا.

لإدخال الطمأنينة في قلوب أهل البلاد. أمر والي مصر وشيخ البلد والأغا بفتح الأسواق، وتعليق القناديل على الدور والدكاكين.

فصل

استولى جيش الفرنسيين على فوة والرحمانية في ٢٨ المحرم سنة ١٢١٣ﻫ. ثم بدأ زحفه لملاقاة مراد بك. انجلت المناوشات بين طلائع الجيش الفرنساوي وقوات المماليك، عن فرار القوات المدافعة، مدفوعة بالخوف والفزع. ولَّوا الأدبار، ومضَوا في موازاة ضفة النيل، تاركين أسلحتهم ومدافعهم في أرض المعركة. أحرق الراهب الفرنسي سيكار كومات من المخطوطات القديمة المودعة في خزانة كبيرة برودان. قال إنها كتب سحر. تراجع مراد بك — بجنده المهزومين — إلى إمبابة، على الجانب الغربي من النيل، بمحاذاة قصبة بولاق، وبدأ في عمل متراس من ساحل النيل إلى قرية بشتيل. ثم شرع الجند في حفر خندق.

فصل

اشتبكت طلائع قوات الفرنسيين مع قوات مراد بك بالقرب من قرية بشتيل. زاد الفرنسيون من شدة نيرانهم؛ فلم يتيحوا للمماليك تدبر استخلاص العبرة، وتنظيم صفوفهم. دار القتال كأشرس ما يكون. اختلطت أصوات المدافع والرصاص والصيحات والصراخ والحشرجات. أحاط جند الفرنسيين بعساكر المماليك من كل ناحية. حاول المماليك — بتأثير الارتباك — أن يطلقوا مدافعهم وبنادقهم، فأخطأت التمييز بين قوات المسلمين وقوات الكفار. ماتت أعداد من جنود مراد بك، وألقت أعداد أخرى بنفسها في النيل، وتبع من تبقى مراد بك في تقهقره نحو الجيزة.

دانت الضفة الغربية لنهر النيل لسيطرة الفرنسيين، فوجهوا نيران مدافعهم إلى البر الشرقي. كان جنود والي مصر وإبراهيم بك قد تابعوا ما حل بجند مراد بك من هزيمة قاسية. سرت فيهم روح التشرذم والفرقة، وعاد غالبية المُدافعين إلى القاهرة، يعروهم الفزع والحيرة.

فصل

خرج الفقراء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور والأعلام والكاسات، واختار بعض العلماء زاوية علي بك ببولاق، يتلون القرآن، ويقرءون البخاري والأذكار، ويدعون إلى الله — في جنباتها — بنصرة الإسلام، ودحر أعدائه.

وقف المماليك، أو امتطوا جيادهم، في السابع عشر من يوليو ١٧٩٨م على الضفة المقابلة للنيل في إمبابة. يرتدي كل واحد خوذة حديدية، ودرعًا، وثوبًا حريريًّا زاهي الألوان، ذي خيوط مذهَّبة، وعمامة هائلة، وتسلح بمسدسَين وغدارة لامعة، والبنادق والبلط والرماح والصوالج والحراب والخناجر، والسيوف المعقوفة، المرصعة بالأحجار الكريمة، تضوي بالألق المنعكس من أشعة الشمس. وراية الحرب رفعت فوق ذيول الجياد، والطبول والأبواق تمهد للمعركة المتوقعة. إلى اليمين الأهرامات الثلاثة وأبو الهول، وإلى اليسار — في الناحية المقابلة من النيل — تعلو المآذن والقباب وأسوار قلعة الجبل.

لم يكن إبراهيم بك على ثقة بالنصر. أنطقه الخوف في نفسه بما لا يصدر عن رجل: إن هؤلاء الكفار القادمين لقتالكم، لهم أظافر طولها قدم، وأفواه ضخمة، وعيون ضارية. إنهم متوحشون يسكن الشيطان أجسادهم، وهم يمضون إلى المعركة تربطهم السلاسل بعضهم ببعض.

ظل إبراهيم بك على الضفة الشرقية للنهر، مراكبه محمَّلة بالصناديق المملوءة بالذهب والأمتعة. في نيته الفرار إلى الشام، مع أول بادرة هزيمة.

فصل

ضيق الفرنسيون الحصار على قوات المماليك والفلاحين. عرضوا عليهم الاستسلام كأسرى، لكنهم فضلوا القتال حتى الموت. وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمع بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين؛ فليس من رأى كمن سمع.

لاحق جنود الجنرال ديزيه القوات المنسحبة. واجهوا القوات الخلفية لمراد بك، بالقرب من جيزة مصر.

«من نجا برأسه فقد ربح.»

مقولة، حاول أن يفرَّ شيخ البلد والوالي — في ظلها عن طريق الصالحية — من العادلية إلى غزة. صار الفالح هو الذي يسبق رفيقه. ولَّوا الأدبار كأمواج في مد وجزر متلاحقين. أما مراد بك، فقد مضى بصحبة زوجته وجنوده المهزومين ناحية الصعيد. بلغ أسيوط مع مماليكه. جمَّد الملاحة في النهر، وهدد تموين القاهرة. وصل إبراهيم بك إلى بلبيس ومعه حريمه وكنوزه. لم يَعُد من ثمانية عشر ألفًا، هم مماليك مراد بك، سوى ثلاثة آلاف فارس، تبعوه في اتجاه الجنوب، خلَّفوا وراءهم أربعمائة جمل، والكثير من الجياد والعَتاد والذخيرة والنفائس والطعام — المطمح الأهم للجنود الفرنسيين! — والمدافع التي لم تنطلق منها قذيفة واحدة. انشغل جنود الفرنسيين بانتشال جثث قتلى المماليك، وسلب السيوف والثياب، وما بها من حلى وأحجار كريمة وقطع ذهبية ونفائس، ثم معاودة إلقاء الجثث — عارية — في النيل.

تشوش نظام جند المماليك. اختلط حابلهم بنابلهم، وانشغل كل واحد بتخليص نفسه، لا يشغله حتى القائد الذي يصدر الأوامر، أو الأمير ولي النعم. استدعت التصورات ما رُوي عن يوم نفخ الصور. قال الجنرال بارتييه: لم تُثبت الخطط العسكرية الأوروبية قط، مثلما أثبتت اليوم تفوقها على الشجاعة الشرقية غير المنظمة.

لم يجد الفرنسيون عناءً في الاستيلاء على الجيزة وبولاق. شرعوا في التدمير والنهب والسلب والإحراق. تعالى الصراخ والبكاء من مواضع كثيرة.

ترامت رائحة الفرنسيين إلى ناس القاهرة. تعالى النداء من فوق المآذن قبل صلاة الفجر: أيها الناس، استيقظوا، سنقاتل الفرنسيين. بدا الخطر في انعطافة الطريق، أو في مدى البصر. اختلقت الشائعات ما لم يحدث، ولا يمكن تصديقه. قيل إن الغزاة أعدُّوا للمدينة من أسباب الحرق والتدمير ما يُلغيها من الوجود.

ضجَّ الناس بالصياح والصراخ والعويل. احتشدت طوائف العامة. حضر الوالي وشيخ السادات ونقيب الأشراف وشيخ البلد إبراهيم بك وأتباعه من أمراء المماليك والكشاف وأرباب العمامة والوجهاء وقادة الفرق العسكرية والعامة إلى قصبة بولاق، للتشاور في صد الفرنسيين. استقر الرأي على أن ينقسموا في دفاعاتهم ما بين الضفة الشرقية للنيل، والضفة الغربية التي يتولى مراد بك أمر قيادة دفاعاتها. عمل مراد بك المتاريس من بولاق إلى شبرا، ونصب المدافع في المواضع المؤثرة، واستعان بعربان الشرقية والغربية.

نودي بالنفير العام …

خرج أهل القاهرة من طائفة العسكر والمدنيين — فيما عدا العجائز والنساء والأطفال — إلى المتاريس للجهاد في سبيل الله، والمدافعة عن البلاد ضد هجمات الغزاة. لم يبخل أحد بشيء يملكه. تقاطرت الطرق الصوفية، وارتفعت أصوات الطبول والدفوف، وعلت الأعلام والبيارق والشارات فوق الرءوس، والتفَّ المشايخ والمجاورون في حلقات، داخل الجامع الأزهر، ومعهم مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرها من الطوائف وأرباب الأشاير وأطفال المكاتب، يذكرون الاسم اللطيف وغيره من أسماء الله الحسنى، ويقرءون البخاري، والكثير من التلاوات والأدعية والابتهالات الدينية، وحمل الزعر والحرافيش والجعيدية النبابيت والعصي، يرافقهم التهليل والتكبير، وأصوات الطبول والمزامير.

خلت الشوارع من المارة. أمر قائد الشرطة — لتجنب أعمال السلب والنهب، ولرفع الخوف عن أهل القاهرة — بفتح المقاهي نهارًا وليلًا، وتعليق القناديل على البيوت والدكاكين. ازدحمت الجوامع والمساجد والزوايا بالعلماء وأتباع الطرق الصوفية وأطفال المكاتب وعامة الناس. يتلون القرآن، ويقرءون البخاري، ويرددون الأدعية والابتهالات.

تكرر النداء في الأيام التالية. بذل أبناء القاهرة وسعهم، وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وخزائنهم من أموال. لم يبخَل أحد بما يملكه. أغلقت الأسواق والدكاكين، واتجه المئات إلى بر بولاق. رفعت الأعلام في أيدي المتصوفة والحرافيش، وتعالت الطبول والزمور والطاسات، تختلط بالأذكار والنداءات والصيحات. صعد نقيب الأشراف السيد عمر مكرم إلى القلعة. أنزل منها البيرق النبوي. نشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وسط زحمة خانقة، ألوف من أهل القاهرة، يحملون العصي والشوم والنبابيت، تقاطروا من سوق السلاح، وسوق الرميلة، ترافقهم التهليلات والتكبيرات، وإيقاعات الطبول والزمور. لم يَعُد في القاهرة سوى من لا طاقة له على حمل السلاح من الشيوخ والنساء والأطفال.

راع الناس ما لجأ إليه الأمراء من نقل أموالهم وأمتعتهم ونفائسهم إلى مناطق بعيدة. ركب القادرون دوابهم، وحمَّلوها ما يمكن أن تحمله من المتاع، وتضاعفت أسعار الدواب في سوق الرميلة. حتى الحيوانات الجريحة والمريضة وجدت من يدفع فيها الأثمان الباهظة. وثمة من جعل رأسه، أو كتفيه، وظهره، ركوبة لأبنائه، يفرُّ بهم خارج القاهرة، وأخفى النساء حليهن ومصاغهن، بعيدًا عن خزائن البيوت، ووافق الكثير من الأسر الكريمة على اقتران فتياتها بمن رفصنه من قبل، كي يصحبن أزواجهن إلى مناطق آمنة. تعددت نواحي اللجوء ما بين قرى الصعيد وقرى الشرقية، ومضت أعداد إلى مدينة الخانكة؛ حيث لاذ بها والي مصر وشيخ البلد. لكن لصوص العربان خرجوا على جميع المهاجرين في المطرية، في طريقهم إلى الخانكة. أعملوا فيهم القتل والسلب، وهتكوا أعراض النساء. عاد من فازوا بالنجاة إلى القاهرة، وهم لا يسترون أبدانهم، ولا يملكون ما يقيم الأوَد.

داخل أهل القاهرة من تلك التصرفات خوف. خرج الناس إلى الشرق، أو إلى جهة الصعيد. توزعت الطرق، واختلطت، وتشابكت. أخذ كل إنسان ما يستطيع حمله من مال ومتاع، لا يدري أيَّ الطرق يقصد. لاذ بالأزهر الشريف مشايخ فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية، وغيرهم من طوائف الفقراء وأرباب الأشاير، يقرءون البخاري والأذكار، ويتلون الأدعية والابتهالات، والاستغاثة بخفي الألطاف لينجي الناس مما يخيف.

معظم البنايات أغلقت أبوابها ونوافذها بالمزاليج، تشي بأن سكانها تركوها لغياب قد يطول. أغلق التجار حوانيتهم. خلت الأسواق من المارة. توقفت عمليات البيع والشراء. زادت الأسعار بما لا يقوى عليه غير القادرين. تفشَّت مظاهر الفاقة والجوع وعدم الحصول على ما يقيم الأوَد. ترصد عربان البادية واللصوص الفرصة. تسللوا إلى بيوت الأهالي، واقتحموها. أخذوا ما فيها من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما يصعب حصره، وأقدموا على أفعال شنيعة من القتل والنهب والتدمير، وفجروا بمن عجز عن الفرار من حرائر الأُسَر. فتحت أبواب الدور عن آخرها، وتناثر الكثير من البضائع والأمتعة في الطرقات. لم يَعُد في القاهرة — بعد أن هجرها معظم بنيها — سوى النساء والأطفال والعجائز الذين لا يقوون على الحركة، يمتثلون للقضاء، ويتوقعون المكروه.

فصل

داهمت قوات الفرنسيين بيت السيدة نفيسة خاتون بنت عبد الله، زوجة مراد بك. كانت — قبل اقترانه بها — أرملة لسيدِه على بك الكبير. تعلمت العربية قراءة وكتابة. عُنيت بالقراءة والاطلاع ومجالسة العلماء من وراء حجاب. احترمها الخواصُّ وأمراء المماليك. اجتذبت قلوب الناس بما عُرف عنها من البر والإحسان ورفع الظلم وحماية الغلابة والمنكسرين. ساعدت مراد بجزء مما ورثته عن زوجها، وأضفت على مكانته هيبة. بحث الفرنسيون عن أسلحة ووثائق سرية وأموال. دافع عنها المشايخ وأمير الحج وقاضي القاهرة. فرض الفرنسيون عليها إتاوات قاسية، وغرامات لا سبب لها.

فصل

تبين لأهل القاهرة أنه كان من الأوفق لهم أن يظلوا في مدينتهم. ارتكب البدو من الشرور ما لا يتصور أن الفرنسيين يقدمون عليه. هتكوا الأعراض، وقتلوا الأنفس، وسفكوا الدماء، بلا دافع إلا النيات الشريرة في الأذى والتدمير.

جاءت الأنباء بأن الفرنسيين لم يعبروا إلى الضفة الشرقية للنيل؛ فالفرصة قائمة إذَن لانتزاع السلامة من أيدي الفرنسيين. قرر العلماء والوجهاء — حرصًا على أهل القاهرة — تسليم القاهرة إلى قادة الفرنسيين. حمَّلوا مبعوثَين — أحدهما مغربي — باسم أهل القاهرة إلى القائد العام للفرنسيين في معسكره بالجيزة. لاطفهما بونابرت، وأظهر لهما الود. أعادهما إلى القاهرة برسالة يقول فيها إنه لم يحضر إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنسيين بالذل والاحتقار، وأخذوا مال التجار، ومال السلطان. وطمأن المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية على أرواحهم وممتلكاتهم.

قرأ المشايخ رسالة بونابرت، فاستقرت الطمأنينة في النفوس، وزايلتها الوحشة.

سار إلى الجيزة جماعة من المشايخ، يتقدمهم الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي. استقبلهم القائد العام — في مقره — بالحفاوة والترحيب. ظلوا صامتين أمام القامة القصيرة، والبشرة الشاحبة، والنظرة الهادئة، الباردة، من العينَين الرماديتَين.

ابتدرهم بالقول: من هو الحاكم الحقيقي للبلاد؟ أين هو؟

قال الشيخ مصطفى الصاوي: الحكام ولَّت، والرعية ذلَّت. وقد أتينا من قبل علماء البلد والأعيان نطلب لهم الأمان.

قال القائد العام في صوت أملس: نحن قدَّمنا ضمانات، ولا خصوم لنا سوى المماليك.

ثم وهو يتصنع الود: نحن نؤكد ضمانات الأمن للأشخاص والبيوت والممتلكات، ولا سيما لدين النبي الذي أحبه!

أردف في ودِّه: إنني راض عن مسلككم. أحسنتم عملًا بالامتناع عن الوقوف ضدي. لقد جئت للقضاء على جنس المماليك، ولحماية التجارة وأهل البلد.

سكت كالمتأمل، وأضاف: إنني أريد إعادة مملكة العرب … من يعارضني في ذلك؟

حدس من ارتجاف الشفاه، أنهم يريدون الكلام، فيعجزهم النطق.

اتجه إليهم بنظرة تُومض بما صعب تبينه: لقد دمرتُ المماليك، وقضيتُ على مظالمهم. يبقى أن يدرك شعب مصر ما نريده له من خير. ساعتها لا بد أن يتعلق بنا بإخلاص!

وعلا صوته بلهجة متحمسة: نحن سنعيد زمن مجد الفاطميين!

أردف في حماسته: لماذا تخضع الأمة العربية للأتراك؟ لماذا تبسط سيطرتها على مصر الخصيبة، وشبه الجزيرة العربية المقدسة، شعوب قدِمت من القوقاز؟ وإذا ما عاد الرسول محمد إلى الأرض: إلى أين سيذهب؟ هل إلى القسطنطينية؟ إنها مدينة دنيوية، بها من الكفار أكثر مما بها من المؤمنين، ووجوده في القسطنطينية يعني أنه يضع نفسه وسط أعدائه. كلا، إنه سيفضل مياه النيل المباركة. وسيأتي للإقامة في الجامع الأزهر، أول الطريق إلى الكعبة.

تهللت وجوه المشايخ: هذا صحيح تمامًا!

واجههم بنظرته الملتمعة: أنتم المشايخ الكبار. لماذا تأخرتم حتى الآن؟

قال الشيخ مصطفى الصاوي: لسنا المشايخ الكبار. كما قلنا فإن المشايخ الكبار خافوا وهربوا.

قال بونابرت: ما الذي أخافهم؟ من الذي أخافهم؟

وأشار إلى ضباطه: أكتبوا لهم بالحضور الآن.

أمر، فأُرسلت كتب بالأمان إلى كبار المشايخ والعلماء والأعيان، ممن فرُّوا خارج القاهرة. آثروا السلامة، وطلبوا العافية، وآمنوا أنه إذا كان لكل أجل كتاب فإن المرء يجب ألا يلقى بنفسه إلى التهلكة.

عاد — بالطمأنينة — كل من وصلت إليه كتب الأمان: شيخ السادات والشيخ عبد الله الشرقاوي ومعظم الأهالي. صدعوا بأمر القائد العام، وأبرزوا الطاعة والانقياد. عادوا إلى الصلاة في المساجد، وفتحت الدكاكين أبوابها، وذهب الحرفيون والتجار إلى أعمالهم، وتلقَّى التلاميذ الدروس في الكتاتيب. عمر أفندي مكرم نقيب الأشراف والروزنامجي أفندي — وحدهما — لم يعودا إلى المحروسة. لحِقا بشيخ البلد في بلبيس، يرافقه أعداد من أبناء الناس والعامة.

أزمع عمر مكرم ألا يعود إلى القاهرة إلا على جهاد، أو يعِد المستقبل بخير تبهت ملامحه. لم ينظر إلى المعاناة التي تتهدده، ولا إلى النفي الذي سيعيش في إساره. ما شغله خلاصَ مصر من المماليك، وباشا العثمانيين، والفرنسيين الغزاة.

فصل

عبرت أعداد من الفرنسيين النيل — في اليوم التالي للقاء بونابرت والعلماء — إلى الضفة الشرقية. ظلت أعداد أخرى على الضفة الغربية من النهر. تابع أهل القاهرة — بأعين الحزن والخوف والفضول — سير موكب القائد العام من الجيزة إلى قصر محمد بك الألفي وسط ساحة الأزبكية؛ حيث نزل فيه. لحق الألفي بسيده مراد بك إلى الجنوب.

كان القصر حديث البناء. أنفق عليه الألفي أموالًا طائلة. من حوله حديقة واسعة، تظللها أشجار السرو والبرتقال، وتتناثر فيها النافورات المنبثقة في تكوينات، السلالم رخامية، متداخلة بالمرمر والجرانيت الأسواني، والأرضيات من الفسيفساء، والأسقف والجدران مزخرفة بالنقوش الإسلامية. ونافورة رائعة تتوسط قاعة الاستقبال، وفي القاعات والحجرات ينتظم فاخر الأثاث والرياش. والحمامات متناثرة في كل طابق. كان الخلاء الترابي يمتد أمام القصر، وإلى يسار الواجهة شجرة جميز هائلة، لم يمنع القائد العام عامة المصريين مما ألِفوه من الجلوس في ظلها.

أقام قادة الفرنسيين فيما أعجبهم من دور الوجهاء والأعيان. أما الجنود، فقد ظل غالبيتهم في معسكراتهم بالجيزة. لم يحاولوا العبور إلى الضفة الأخرى للنهر، حتى لا يثيروا الفزع في نفوس الأهالي.

فصل

هل المصادفة هي التي حددت موعد لقاء القائد العام والعلماء، أو أن بونابرت اختار يوم إعدام السيد محمد كريم للقائه بهم؟

أمر القائد العام بإبقاء السيد محمد كريم محافظًا للمدينة. حين عرف أن الرجل على صلة بالأهالي الذين يقاومون الفرنسيين، اتهمه بالخيانة، وإن تردد في إدانته بما يعرضه للعقاب. حدثه أعوانه عن حب الإسكندرية للرجل، وشهرته التي امتدت إلى القاهرة والمدن الأخرى. ثم تحدثت تبليغات الأرصاد عما يمتلكه الرجل من أموال هائلة لا يعرف موضعها سواه، فقرن العفو عنه بفدية تنجيه من الإعدام. طالبه بأن يدفع غرامة ثلاثمائة ألف فرنك، يسددها في اثنتَي عشرة ساعة، أو تفصل رأسه.

لم يكن في حوزة المحافظ قيمة الغرامة، ولا أقل منها. تعددت التماساته إلى الأعيان والوجهاء: اشتروني يا مسلمين! لم يبذل أحد من ماله لكي ينقذه، أو أنه لم يكن بحوزتهم ما يفتدونه به، فتركوه لمصيره. شفع فيه أصحاب العمامة، فلم تُقبل لهم شفاعة. أعدم في الخامس من سبتمبر ١٧٩٨م، واحتزت رأسه. طاف جنود الفرنسيين بها شوارع المدينة ينادون: هذا جزاء الخائن!

استقبل بونابرت — في اليوم نفسه، ثاني أيام إقامته بقصر محمد الألفي — حمَلة العمامة والأقلام والوجهاء. كان يرتدي معطفًا أسود، أضاف إلى نحوله.

لم يدعُهم إلى الجلوس. ظلوا وقوفًا. واجههم بنظرة تفرض المهابة، وملامح تخلو من الود، وتملي الإرادة، وتملي الملاحظات والأسئلة.

قال في صوت باهت: لقد فضلتكم أيها العلماء ورجال الشرع؛ لأنكم قادة طبيعيون. أنتم أيضًا حمَلة القرآن الكريم ومفسروه، وأصحاب أخلاق حميدة، ومحبون للعدالة، ولا اتجاهات عندكم لقيادة الحركات المسلحة.

وافتعل ابتسامة: لقد أصلحنا الأمور بعد فسادها، وفرضنا النظام في كل الحارات.

ثم وهو يسند يده على خصره: إنما جئنا إلى مصر لتحريرها وإعادة الازدهار إليها.

قال الشيخ البكري: لقد جئتم لتخليصنا بمشيئة الله الرحمن الرحيم.

زال ما بالنفوس من قلق ورهبة، عندما بالغ القائد العام في إكرام المشايخ، والحدب بهم، وفرد لهم الأسمطة، وهيأ لهم أفخر الموائد، وخلع عليهم ما ألهج ألسنتهم بالشكر والثناء.

جاء اختياره للعلماء لأنهم أغنياء، ولا يعرفون ركوب الخيل، ولا المناورة العسكرية، ولا يجيدون القيام بثورة مسلحة.

أعلن القائد العام عن تكوين ديوان لتدارس أمور البلاد، وعرض ما يجب عرضه على القائد العام. قال: يجب ألا تختاروا لمعاونتكم أي كبير من المماليك!

قال الشيخ البكري: سوقة مصر لا يخافون إلا من جنس المملوك، ولا يحكمهم سواهم.

فكر بونابرت قليلًا، ثم قال: ماذا ترون؟

قال الشيخ عبد الله الشرقاوي: لا بأس من اختيار المماليك الثلاثة الذين يتوقف على وظائفهم حفظ النظام؛ الوالي علي أغا الشعراوي، والمحتسب حسن أغا محرم، وأغا الإنكشارية محمد أغا المسلماني.

– لا أعرفهم. لكنني أثق في سلامة اختياركم.

أصدر القائد العام أمره بإنشاء الديوان: عشرة من العلماء والقاضي وكتخدا والي مصر مصطفى أغا. وعيَّن أغا مستحفظان، ووالي الشرطة، وأمين الاحتساب، وكتخداوية بونابرت، وكتخدا مستحفظان. جعل من دار قائد أغا في الأزبكية مقرًّا له. حدد نشاطه بصفة الاستشارة. يقوم بالوساطة بين المصريين والسلطات الفرنسية، يبحث ما يفرضه القائد العام من ضرائب على التجار وأصحاب الأراضي والعقارات، يرفع التماسات المماليك لإعادة بعض ما صادره الفرنسيون من ممتلكاتهم وأموالهم.

تأتي مواكب الأعضاء إلى مقر الديوان، في ساحة الأزبكية. يركبون البغال المسرَّجة، مِن حولهم الخدم والقواسة. خصص القائد العام حرسًا من الفرنسيين للترحيب بهم، وإكرام وفادتهم. يرافقونهم إلى القاعات؛ فيستقبلهم المساعدون بالحفاوة نفسها. تُقدم لهم المشروبات الباردة والقهوة. يدخل القائد العام. يختار الجلوس على أريكة تتوسط المكان، وتبدأ المناقشات.

نزع القائد العام نقابة الأشراف من السيد عمر مكرم. قلَّدها إلى خليل البكري. وافق على رواية البكري بأن النقابة كانت لآل البكري، وأنها اغتُصبت منه. ألبس الشيخ فروة، وتقلَّد نقابة الأشراف. هو وحده الذي أخذ السجل بالمنحدرين من نسل الرسول. صار من حقه التنعم بوقفها وعائداتها. نودي في القاهرة بأن كل من له دعوى على شريف، فليرفعها إلى النقيب.

نهض بونابرت من مجلسه. رفع بيده طيلسانات ملونة. أراد وضع الطيلسان المثلث الألوان على كتف الشيخ عبد الله الشرقاوي. تراجع الشيخ، فسقط الطيلسان على الأرض. لاحظ بونابرت تغير سحنة الشيخ. قال للترجمان كلمات بلغة بلاده، وأومأ برأسه.

قال الترجمان: يا مشايخ، أنتم صرتم أحباب القائد العام، وهو قصده تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإنكم إذا تميزتم بذلك، عظمتكم الناس والعساكر، وصار لكم منزلة في قلوبهم.

استطرد الشيخ الشرقاوي: لكن قدرنا ينحط عند الله، وعند إخواننا من المسلمين!

أخلى القائد العام وجهه للغضب، وتحدث إلى الترجمان — بلغة الفرنسيين — ما نقله الترجمان للمشايخ: هذا الشيخ لا يصلح للرئاسة، ونحو ذلك.

لاطف بقية المشايخ القائد العام واستعفوه من تلك الشالات.

قال بونابرت: إن لم يكن هذا، فلازم وضعكم الكوكارد في صدوركم، وهي العلامة التي يقال لها الوردة.

قال الشيخ الشرقاوي: أمهلونا حتى نتروى في ذلك.

نقل المترجم عن القائد العام قوله إنه من الأجدى للعلماء أن يؤلفوا ما ينفع الناس، وليس الاكتفاء بالفرائض الدينية.

أدرك الشيخ أن بونابرت يخفي نزوعه إلى الشر وراء قناع من المودة الظاهرة والابتسام والعبارات اللطيفة. تأمل القبعة العريضة — تبدو غير مناسبة — على رأسه، والحذاء الواسع على القدمَين.

قال نابليون، ليزيل ما ران على الجلسة من توتر: بعد أن دحرنا مقاتلي مراد … ماذا ينتظرنا من معارك؟

قال الشيخ البكري: إن سوقة مصر لا يخافون إلا من جنس المملوك!

– نحن انتصرنا على المماليك … من بقي لنحاربه؟

– لا يوجد سوى بعض شيوخ الأزهر يقرءون البخاري.

أظهر نابليون القلق: ما البخاري؟ هل هو مدفع بعيد المدى؟ وهل داناته ثقيلة؟ وما المخزون الذي يوجد منه عند المصريين؟

قال البكري: إنه كتاب دين يلجئُون إليه في أوقات الخطر.

ارتسمت الراحة على ملامح بونابرت: على القوات إذَن أن تواصل التقدم!

عبر جنود الفرنسيين في اليوم الثالث إلى القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤