الباب العاشر

فصل

مختار الرمادي …

التفت ناحية الصوت. تبين رامي خشبة، التاجر بالحمزاوي. يُعرف صلته بالفرنسيين. أدرك أنه يواجه مأزقًا. دلهم الرجل — لا بد — على موضعه. لاحظ تردده على سكة المناصرة. لاحقه بالمتابعة قبل أن يبلِّغ جيش الفرنسيين عن وجوده في المناصرة، في هذه اللحظة. قدِم إليها لشراء أدوات لدكانه..

عاود التلفت — في اللحظة التالية — إلى المكان من حوله. كان يستبدل بالميادين والشوارع الواسعة، طرقًا جانبية، ضيقة، مزدحمة. الزحام يهب الفرصة للاختباء، في تلاصق الأجساد ورائحة البشر والدواب. شعر — بخلو الشارع — أنه عار. لم تكن الاحتمالات تخيفه، ولا تخيفه الحياة في الخطر. داهمه خوف من المجهول لم يشعر به من قبل، ولا تصور أنه سيعانيه. ربما منذ حدثته تغريد عن القيء الذي عاودها ثلاثة صباحات. لن تنذر النذور، وتطوف على كتاب الأحجبة وقارئي الفنجان، وعلى الأضرحة والمقامات. تدفعها أمها إلى ما كانت تجد فيه تعجيلًا بالحمل. تستكين لما تعرف أن أمها ستفعله: الشراب الممزوج بخنافس مسحوقة، تفتح صدرها فتلقى فيه الأم ضفدعة ذكرًا، لكي تحمل ويأتي المولود ذكرًا، تخطو — وهي ميتة من الخوف — فوق ثعبان يتلوى على أرضية الحجرة. تمسك الأم بالمصحف وهي واقفة، يجري لسانها بأدعية ورقًى، بينما تمر تغريد من تحت المصحف المرفوع سبع مرات، وسخونة البخور في المبخرة — من تحت — تشوي ساقيها.

أشفق عليها لما قالت من بين شفتين متقززتين: إذا خيرت بين الموت وما أتعاطاه، أختار الموت!

قال مختار: اختيارنا هو الطفل الذي يجعلني أبًا.

رفضت أم تغريد ما عرضته أمه، لما أخفق ما لجأت إليه من أفعال في وضع البذرة داخل أحشائها. ضرب لها الرمل مُنجم في ناحية الصنادقية. طالبها بنذور لأهل العوالم السفلية، وتحدث عن الاستعانة بالسحر لتحقيق الأمنية المشتهاة.

هل يسلب الخوف من المجهول شجاعته؟ هل أخطأ بإهمال عمله وبيته؟ أو أنه أخطأ بالزواج؟

خروجه إلى الفرنسيين جاء تاليًا لنزوله في بيت المعلم شيحة. لو أن الأمور لحقها تقديم أو تأخير، ربما مضت إلى وجهة مختلفة. ربما ظل عزبًا، مسئولًا عن نفسه وحدها. يترصد للفرنسيين، يقاتلهم، يأكل ما يقدَّم إليه، وينام حيث يلحقه التعب، يهمل الاختفاء والاستتار عن أعين الفرنسيين وبصاصيهم.

اندفع إلى باب جانبي، موارب. صعد السلمات الحجرية. قفز من فوق النظرات المتسائلة، والخائفة، والصرخات. دفع باب السطح. ارتبك لرؤية المرأة تثبت الغسيل بالمشابك على المناشر. نطَّ من جانبها إلى السطح المجاور، ثم إلى أسطح أخرى، متلاصقة. اصطدم بنساء وأطفال ومناشر غسيل وقطع أخشاب ودجاجات. هبط إلى طوابق تحتية، وصعد إلى طوابق عالية.

حين طالَعه ميدان الرميلة في أسفل، فطن إلى أنه اقترب من البيت. توقف ليسترد أنفاسه. قفز إلى السطح الملاصق. هبط السلالم إلى شقته في الطابق الثاني. تنهد لرؤية تغريد تفتح الباب. دسَّ جسده بجوارها تحت الغطاء، التصق بها. أشفقت من الرعشة في صدره، فطوقته بذراعها.

فصل

كان القائد العام، ينصرف من دار الجنرال داماس رئيس أركان الحرب. تناول الغداء مع قيادات جيشه. مال — والمهندس المعماري بروتان — إلى الرواق الطويل، تظلله تكعيبة عنب. يفضي إلى دار القيادة. فاجأهما الشاب. في حوالي الثلاثين. جسده أميل إلى الضمور، وجهه شاحب، مسحوب إلى أسفل، ووجنتاه بارزتان، وأنفه مدبب حاد، ونظراته ساهمة.

أظهر الشاب ذو الزي الأزهري أنه صاحب حاجة يستغيث. أفلت من الحراس، تقدم نحو القائد العام.

أدرك الجنرال أن الشاب يتسوَّل. ما أكثر الذين يستوقفونه لصدقة. قبل أن يجاوز الشاب، مد الشاب إليه يده بمظلمة. مد كليبر يده. قبض عليها، ووجه باليد الأخرى ثلاث طعنات. صرخ كليبر في تألم وهو يقبض على ساعد المهندس المعماري. كانت طعنة الخنجر قد نفذت إلى الصدر.

هتف: إليَّ أيها الحراس.

وسقط على الأرض.

جرى الشاب. جرى وراءه بروتان حتى أدركه. لم يكن تهيأ لعراك. لحقه الشاب بست طعنات، فقتله في الحال.

عاد الشاب إلى كليبر الغارق في دمه. طعنه — للتأكد من موته — ثلاث طعنات. لكن الطعنة الأولى كانت قد انتزعت السر الإلهي.

صرخة كليبر وهتافه نبَّها العسكر. ارتفع صوت النفير، وحدثت فوضى. قدِم مئات الجند من ميدان الأزبكية، يتنادون بالثأر للقائد القتيل. هاجموا — بتأثير ما حدث — كل من صادفهم في الطرقات من المصريين. لم يفرقوا بين ذكر وأنثى، ولا بين طفل وشيخ. حركهم الدافع إلى الانتقام. قال القائد العام مينو لكبار المشايخ والوجهاء: لا بد من عقاب كل من تسبب في هذه الجريمة، وإلا فسنقتل أهل مصر عن آخرهم!

واصل الجند التفتيش في الطرق الخالية، وبين الدكاكين، والبيوت المغلقة. لم يكن القاتل قد ترك موضع اختبائه في الحديقة، فعثر عليه الجنود، وقد غطت الدماء ثوبه. اقتادوه إلى بيت أركان الحرب. عثروا على الخنجر في الموضع نفسه.

نُقل جثمان كليبر إلى حديقة قصر العيني. دلي التابوت المغطى بعلم الفرنسيين في حفرة وسط الحديقة. لا يظل فيها، وإنما يعودون به إلى فرنسا. استجوب الجنرال مينو القاتل. واجهه المعماري بروتان. توالت الأسئلة: اسمه؟ دينه؟ ماذا أتى به إلى مصر؟ من حرَّضه؟ من أسر إليهم من أهل مصر بما كان يُعِد لارتكابه؟

ذكرت روايات عن ترصد القاتل للقائد الفرنسي منذ أيام. وقف على باب مقر القائد الفرنسي في الجيزة، بيده عريضة يريد تسليمها. رفض بيروس — سكرتير الجنرال — دخوله. أمر الجند، فطردوه إلى خارج المقر. رآه الياوران ديفوج — صباح يوم الجريمة — وسط جماعة من الخدم. يعرفهم الياوران جيدًا. خمن أنه من العمال الذين يعملون في عمارة السراي، فطرده إلى الحديقة. لم ينكر الشاب فعلته، ولم يعتذر عنها. زاد فأدان أبناء العرب والإسلام على تخاذلهم، وحمد الله على توفيقه في قتل القائد العام كليبر.

هو سليمان. طالب علم من حلب. أبوه تاجر اسمه أمين. مسلم من حلب التابعة لبلاد الشام. عمله طلب العلم والكتابة. لم تكن هذه هي زيارته الأولى لمصر المحروسة. أتى إليها في السابق، وله فيها هذه المرة خمسة أشهر.

نفى أن يكون ما فعله بتحريض من أحد. واصل رؤساء الفرنسيين استجوابه. أعادوا الأسئلة نفسها، وضيقوا على الشاب الحلبي بملاحظات، ثم اتبع معه الرومي بارتملي — يسميه العوام فرط الرمان — طريقة التعذيب. باح بكل ما كان يخفيه، وبواعث ارتكاب جريمته. حرضه على قتل الجنرال ضابطان تركيان، وأرسله أغا الإنكشارية لعملية القتل. قدِم من غزة قبل شهر، وتنقل في أكثر من مكان. أفشى الخطة السر لثلاثة من أهل مصر. جاء الجند بالرجال الثلاثة. أخضِعوا للأسئلة المتوالية والتعذيب، فاعترفوا. أضافوا قولهم إنهم لم يتصوروا إقدام الحلبي على تنفيذ ما انتوى فعله.

سليمان الحلبي …

استعاد مختار الاسم. ربما التقى به في رواق الشام بالأزهر، أو وكالة التجار السوريين بالطوفة.

قال مختار: أقدم الحلبي على ما عجزنا عن فعله.

قال الشيخ المقدسي: لا تجلد نفسك … لعله وجد الفرصة التي لم نجدها.

وانزلقت حبات المسبحة بين أصابعه: هو طالب بالأزهر، واجبه الديني يدفعه لنصرة الإسلام.

فصل

طبَّقوا العدالة على طريقتهم.

مثُل الشاب الحلبي أمام المحكمة العسكرية. مقيدًا بالأصفاد، ويحيط به جنود. بدأت المحكمة أعمالها بالاطلاع على تقريرَي الطبيب الشرعي للقتيلَين كليبر والمهندس بروتان.

– اسمك؟

في نبرة واثقة: سليمان الحلبي.

– ديانتك؟

– مسلم.

– مصري؟

– من أهل حلب.

– ماذا تعمل؟

– صنعتي طلب العلم والكتابة.

– متى جئت إلى مصر؟

– منذ خمسة أشهر.

– لماذا؟

– ليست هذه أولى زياراتي إلى القاهرة.

– من أرسلك؟

– لم يبعثني ولا حرضني أحد … جئت بأمر من نفسي.

– من يعرف سرك من أهل مصر؟

– لا أحد … لم أكاشف أحدًا بسرِّي.

– أنت تنكر ما اعترفت به من قبل.

وأشار إلى الجنود الفرنسيين المحيطين بالحلبي: استدعوا له ذاكرته!

والى الجنود ضربه. شكلوا عليه أنواع التعذيب. استخدموا من الوسائل ما لا قِبل لبشر على احتماله. أجبره التعذيب — الذي لا يطاق — على الاعتراف بكل ما اعترف به، وأنكره.

طلب رئيس المحكمة من الشاب أن يروي الجريمة من بداياتها.

أنكر الشاب ما حدث، وأنكر صلته بالخنجر، وأن الجنود صادفوه خارج الحديقة. أمر قائد الجند مينو بضربه حكم عوائد البلاد. حالًا انضرب، فطلب العفو، ووعد أنه يقر بالصحيح.

أحضر الفرنسيون الشيخ الشرقاوي، ومعه قاضي مصر الشيخ أحمد العريشي. أودعوهما سجن القلعة إلى منتصف الليل، ثم ألزموهما البحث عن الأزهريين الأربعة الذين ذكر الحلبي أسماءهم في اعترافه. استجوب المشايخ الذين ائتمنهم على سر قتله. كرر عليهم الضرب، فاعترفوا.

قال القائد العام مينو: ما نوع الإعدام عند المصريين؟

قال الشيخ البكري: إنها أنواع (وعد بأصابعه) قطع الرأس وتعليقها على رمح في موكب يمر بالأسواق … التوسيط من أسفل السرة … ينقسم الجسد إلى نصفين … غرس خازوق بالأرض، يرفع المذنب على قمته …

قاطعه مينو: هذا هو العقاب الأنسب لقاتل القائد كليبر.

لم يكن ثمة من يدافع عن المتهمين في مواجهة الادعاء. عيَّنت المحكمة الترجمان لوماكا للدفاع عنهم. صدرت الأحكام — في النهاية — بحرق اليد اليمنى للحلبي، ثم وضعه على الخازوق حتى الموت، وتترك جثته ليأكلها الطير.

أما الشبان الأربعة الذين كتموا السر: محمد الغزي وأحمد الوالي وعبد الله الغزي، والهارب عبد القادر الغزي، فتقطع رءوسهم.

نفذت الأحكام فوق تل العقارب بالقاهرة في ١٧ يونيو ١٨٠٠م. قطعت رءوس المشايخ الثلاثة أولًا. ظل الحلبي في لحظات إعدامه هادئًا، يردد الشهادتين، ويتلو آيات من القرآن. بينما كان الجلاد بارتملي يحرق يده اليمنى، أخذ عليه أنه حرق كوعه بالفحم، وهي عقوبة غير مشروعة.

وضع الحلبي فوق الخازوق. تعذب لبضع ساعات، دون أن تصدر عنه آهة تألُّم. ناوله جندي فرنسي كأسًا من الماء، اختصر عذاباته.

فصل

دعا شيخ الصوفية مريديه وأتباعه لقراءة الفاتحة على روح سليمان الحلبي. نال الشهادة دفاعًا عن دين الإسلام. لم يغفر علماء الأزهر للفرنسيين ما عاناه الشيخ السادات على أيديهم من صنوف القهر والإذلال. ضربوه، وصادروا أمواله، ودفعوه إلى بيع أملاكه، وفاء لما فرضوه عليه من غرامات. هو شيخ عظيم المقام، ومن الإساءة للإسلام، وللمسلمين، أن يتعرض للإيذاء. أذِن العلماء للحلبي بالإقامة ثلاثين يومًا داخل الأزهر، وسكتوا عن نيته المعلنة في قتل كليبر.

فصل

لم يجد المصريون في اعتناق مينو للإسلام تصرفًا صادقًا. هو أقرب إلى النفاق، ربما لأن زبيدة استهوته، فلم تهبه نفسها دون زواج، أو لأنه أراد استمالة المصريين، فلا تناله مقاومتهم. هي ابنة أسرة شريفة النسب، من رشيد، أبوها السيد علي الرشيدي، ومطلقة من سليم أغا. أظهر حالة العقد الإسلام، ونطق بالشهادتين، لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها. إيمانه أن فرنسا قدِمت إلى مصر لتستقر فيها. يختلف مع كليبر الذي أعلن عدم اقتناعه — منذ الأيام الأولى لوصول الفرنسيين — بجدوى بقائهم في مصر.

أعاد مينو تكوين الديوان من تسعة مشايخ: الشرقاوي والفيومي والأمير والمهدي والبكري والسرسي والجبرتي والرشيد. عني بإشراك أهل مصر في إدارة بلدهم. شارك في الاجتماعات مشايخ الحارات ومشايخ الطوائف وأشخاص من العامة. أجرى تعديلات في تعيين القضاة، وتغييرات في أساليب القضاء. ظل الديوان يعقد اجتماعاته، رغم احتجاز عدد من أعضائه في القلعة.

كان كليبر قد أفرج عن شيخ السادات، بعد أن جرده من معظم ممتلكاته، وضيق عليه الاشتغال بالأمور العامة.

شدد على مراد بك أن يظل هادئًا في الأقاليم التي منحت له، ولا يتراسل مع سورية، أو يقيم علاقة تخابر مع الجيش الهمايوني. لمح باشتباهه في أن مراد يُعِد لمخططات شريرة.

أقام البكري مأدبة باذخة لمينو وكبار قادته، بمناسبة المولد النبوي. حضرها بعض الموظفين العموميين وكبراء البلد. أضاء بيته في الأزبكية بالقناديل، وعلق على واجهته الأشاير والأعلام، وارتفعت البيارق، ذات اللونين الأحمر والأخضر، وعلت مدائح المتصوفة من مريدي الطريقة البكرية، وانطلقت الشهب والألعاب النارية والصواريخ والمفرقعات.

أما الضباط فقد أقلعوا عن تزيين بيوتهم، وعن إقامة الحفلات والمآدب، والتردد على قاعات العروض المسرحية، والتعامل بمنطق البقاء في مصر بلا انتهاء.

أصبح الانسحاب في مدى الأفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤