الباب الحادي عشر

فصل

قال القائد العام: إذا كنا قد نجحنا في إخضاع المصريين، فكيف نُخضع الطاعون؟

وتهدج صوته بالانفعال: يبدو أن القوى الغيبية تناصر هؤلاء الناس!

قال الكابتن جوزيف ماري مواريه: ألا تلاحظ أن جنودنا لم يُلقوا السلاح طيلة أعوام الاحتلال؟!

ونمَّت لهجته عن استياء: أربعون في المائة من الضباط والجنود سقطوا بين قتيل ومفقود.

هز مينو رأسه مؤمِّنًا: ما أثق فيه أن محصلة الحملة خسارة مؤكدة!

تفشَّى الطاعون في مصر كلها. أفلت الساحل من الإصابة، بينما أكل الوباء القاهرة، وسقط ثلث سكان مصر العليا ضحايا للمرض اللعين. انتشر كما لم يحدث من قبل. الفئران والدم والموت. لم يستطع الأطباء إيقاف الكارثة. خرج العدد عن حد الكثرة. مات به ما لا يُحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء. تزايدت أعداد الوفيات في اليوم الواحد ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة مصري في اليوم الواحد. لم يَعُد للناس إلا ذكر الموت وبواعثه ومواعظه. ولم يَعُد من وقت أمام المغسلين يريحون فيه أبدانهم. أصيب بالعدوى نصف جنود الحملة. ارتفع عدد ضحايا الطاعون وجرحى المعارك إلى ألفين، وقتل أكثر من خمسمائة، وفقد نظره بالرمد ألف جندي.

لم يخلُ شارع ولا حارة ولا بيت من النحيب والبكاء والعويل والصوات. تعددت مشاهد الجنازات، وارتماء النسوة في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، ينخرطن في النحيب والصراخ. أهمل الناس مراعاة قواعد الجنائز. هلك من الخلق أكثر من عشرة آلاف شخص في شهر واحد.

فصل

طالب القائد العام بإبطال رفع الأذان في غير مواقيت الصلاة. الأذان في غير موعد، إشارة التنفيذ لعمليات ضد جنود الفرنسيين.

كانت الحياة تغيب عن المدينة من العشاء حتى مطلع الفجر. الخروج من الدور مغامرة. يترامى — من خلف الأبواب المغلقة — إيقاع خطوات الجند. يبحثون عن مخابئ سرية وسراديب وأنفاق، يُخفي فيها الثوار الأسلحة، ينتقلون من موضع إلى آخر، يلوذون بالفرار من القاهرة إلى تلال الدراسة، أو متعرجات المقطم.

تحددت الأيام في التوقع والانتظار ودوي القنابل والرصاص.

سأل البكري في اجتماع الديوان عن أصوات المدافع في القاهرة. ترامت إليه في بيت الجودرية. هل هي من جانب الفرنسيين، أو من جهة أخرى؟

قال الشيخ العريشي: تقاربت الجيوش فلا نستطيع تبين الجهة التي تطلق نيران المدافع.

قال البكري: أنا أثق في قدرة الجيش الفرنسي على الدفاع عن القاهرة.

ثم في صوت هامس يقطر توجسًا: الحذر من الخيانة هو ما نطلبه الآن. على مشايخ الأحياء وعساكر الجندرمة أن يبلغوا عن المفسدين.

•••

أظهر المعلم شيحة تخوُّفه من محاولة اقتحام الحسينية. أقام الفرنسيون حصنين هائلين على جانبي الحي من الخارج، فيصعب الدخول إليه.

قال مختار الرمادي في تأكيد: سنستعيد الحسينية من الفرنسيين.

وهز قبضته: أعرف أن الكثيرين سيستشهدون … لكن دخول الحسينية يستحق دماءنا.

فصل

بدأت قوات العثمانيين وقوات الإنجليز — عقب رحيل نابليون — في مناوشة قوات الفرنسيين. ظلت المعارك متواصلة، متقطعة، وثورات المصريين قائمة في الداخل.

أوصدت في وجوه جنود الفرنسيين كل الطرق المؤدية إلى الإسكندرية. صارت حامية الإسكندرية مفصولة عن حامية القاهرة. وقع من ركبوا القوارب في أسر سفن الإنجليز والعثمانيين، وفتك الأهالي بمن صادفوهم في الطريق، أو قيدوهم أسرى. لم يبلغ الإسكندرية إلا العدد القليل من جنود الفرنسيين. ترامت الأنباء باستيلاء قوات العثمانيين على رشيد والرحمانية، وتقدُّمها نحو القاهرة، تؤازرها قوات الإنجليز. وأنزل الأسطول الإنجليزي عشرة آلاف جندي في أبو قير.

واصلت القوات العثمانية زحفها — ترافقها قوات الإنجليز — نحو الإسكندرية. هزمت فيها قوات الفرنسيين. توالت الهزائم وأعداد القتلى. بلغت خسارة قواته أربعة آلاف، بين قتيل وجريح وأسير، في يوم واحد. زاد نقص المياه، وتفشى الطاعون. طلب القائد العام هدنة، يُعِد قواته خلالها للجلاء عن مصر. تخلَّى — بتواصل معاناة الجيش الفرنسي — عن أحلامه بالبقاء الأبدي للفرنسيين في مصر.

قال مينو: أنا أشد الفرنسيين إيمانًا بضرورة بقائنا في هذا البلد.

استطرد في نبرة تسليم: مع ذلك، فإني أبدأ قيادتي للحملة بالتفاوض على الخروج من مصر.

اختلف مع كليبر — منذ البداية — في النظرة إلى معنى الحملة وجدواها. لم يجد كليبر فائدة في فتح مصر. بينما تحمس هو للأمر. مصر هي البديل لمستعمرات جزر الأنتيل الضائعة. تصبح فرنسا سيدة تجارة إفريقيا والهند بما ستنتجه مصر من البن والسكر والقطن والنيلة وغيرها.

كتم الضباط والجنود الضيق في نفوسهم للقب عبد الله الذي أردف به الجنرال مينو اسمه. تغيير دينهم جعله أقل شعبية بين الجنود. أضافوا إلى استيائهم إطلاق اسم سليمان على وليده من زبيدة، وهو اسم قاتل كليبر. اعتبروه مرتدًا عن دينه، وتشككوا في قدراته العسكرية والإدارية. لم يكن يمتلك هيبة بونابرت، ولا هيبة كليبر. ميزته الوحيدة أنه الأكبر سنًا بين الجنرالات. وسيلته إلى قلوب الجنود هي دفع مرتباتهم، وتلبية احتياجاتهم، من ميزانية تعاني الجدب بصورة واضحة. لم يكن كذلك يمتلك الكفاءة ولا الشجاعة ولا الخيال المنطلق مما ميَّز سلفَيه بونابرت وكليبر. واجهه أحد ضباطه بالقول: إن الموقع الذي يجدر بك الوقوف فيه هو المطابخ وليس قيادة الجيش!

قال الكابتن جوزيف ماري مواريه: ربط الرجل مصيره وعواطفه بامرأة من هذا البلد، فهل يفكر في التخلي عن أسرته الجديدة ليعود إلى فرنسا، حيث يواجه السخرية؟

فصل

ظهر مراد بك بعد طول احتجاب.

أقام معسكرًا على الضفة الغربية في نيل القاهرة، بينما كانت الكتائب الفرنسية قد تجمعت في مدخل الحي الأوروبي، غربي القاهرة، بين القاهرة والنيل. نشطت المراسلات بين مراد بك وبين الفرنسيين، عبر الست نفيسة والمسيو روزيتي. ظل إبراهيم بك على تردده. اعتزم الانضمام إلى الفرنسيين بشروط مشابهة لشروط مراد بك. ثم تخلَّى — في آخر لحظة — عما اعتزمه.

انتقل مينو إلى الإسكندرية، وتولى بليار قيادة الجيش الفرنسي في القاهرة. لكي يضمن بليار السكينة، اعتقل في القلعة شيخ السادات وأعضاء الديوان: الشرقاوي والمهدي والصاوي والفيومي، وعددًا من المشايخ والوجهاء والتجار. تزايدت الاعتقالات بتهم شتى: التفوه بأقوال معادية للفرنسيين، حيازة أسلحة، التجسس. ونفذت إعدامات في القلعة.

ضاق الخناق على قوات الفرنسيين. اتفق الفرنسيون وممثل الباب العالي على أن يخلي الفرنسيون مدينة القاهرة، وينسحب الجند بأسلحتهم وعتادهم ومدفعيتهم وذخائرهم إلى رشيد عن طريق البر، بحذاء شاطئ النيل الغربي. إذا انتهوا إلى رشيد، حملتهم السفن العثمانية والإنجليزية إلى مواني فرنسا على البحر المتوسط.

طالب الفرنسيون بثلاثة آلاف كيس من الأموال، تعويضًا عما سيخلفونه من سلاح ومال. رفض ممثلو الباب العالي ما طلبه الفرنسيون. قالوا: إن ما ستتركونه وتسمونه مال الجمهورية، وكل ما في أيديكم، سوف نحصل عليه، فلا تماطلوا ولا تضيعوا الوقت.

قال المعلم شيحة: إن التاجر أحمد المحروقي جمع من أهل القاهرة خمسة عشر ألف مديني لسد المبالغ التي طالب بها الفرنسيون.

قال مختار: أخشى أن يسلبنا الأتراك والإنجليز ثمرة جهادنا.

وارتفعت نبرات صوته، فبدت خطابية: لولا ثوراتنا المستمرة، ما شغلهم حتى مجرد التفكير في طرد الفرنسيين.

قال الشيخ مدين الهمشري خادم مسجد السيدة فاطمة النبوية: مطلبنا هو إجلاء الفرنسيين عن بلادنا … النتيجة لا الوسيلة.

قال مختار: لتظل البلاد في أيدينا لا في أيدي العثمانية والإنجليز.

اربد وجه الشيخ: هل تساوي بين القوات المسلمة وقوات الكفار؟!

وأشاح بيده في إنهاء للمناقشة: قوات العثمانيين تمثل دولة الخلافة التي ندين لها بالولاء.

رمقه مختار بعينَين متأملتَين، كأنه يريد أن يعيد اكتشافه. ثم هز رأسه دون معنى محدد، وسكت.

تحدث المعلم شيحة عن السيد عمر مكرم. هو أشد العلماء ترقبًا لكشف الذين تعاونوا مع الفرنسيين. قامات طويلة وقفت موقف الذل والمسكنة. يشغله — في الوقت نفسه — استرداد منصب نقيب الأشراف. حصل عليه خليل البكري بلا حق، عليه أن يتركه بلا مماطلة.

لحق الطاعون مراد بك، فأزهق روحه، لم يهنأ بإمارته على إقليم الصعيد، واستولى مماليكه على كل ما خلفه من أموال وأمتعة وأراضٍ.

فصل

لما طال غياب مختار عن البيت، قال المعلم شيحة في لهجة واثقة: لا تخشوا على مختار فهو في أمان.

أدرك العجوز أن مختار مضى وراء الفرنسيين، يتابعهم ومئات العامة وأبناء البلد. لا يهبون ثقتهم حتى لانطلاق الجنود العثمانيين والإنجليز وراء الفرنسيين. واصل الجيش العثماني زحفه نحو القاهرة من ناحية الشرق، وزحف الجيش الإنجليزي من رشيد، وتكاثرت عمليات المصريين في داخل البلاد.

في منتصف يونيو ١٨٠١م كانت قوات الإنجليز والعثمانيين قد وصلت بالقرب من القاهرة. كتب بلياز إلى مينو: ما عاد من الجائز أن ننخدع فيما يتعلق بوضعنا. أعتقد أن انتظار وصول عون هو من قبيل التعلل بالأوهام.

صدر بيان يعلن أنه قد تم عقد الصلح بين جيش الفرنسيين من ناحية، والجيش الهمايوني والإنجليز من ناحية ثانية.

فصل

توقع المعلم شيحة أن يفتش جنود الفرنسيين البيت — كعادتهم — وينصرفوا. فاجأه سؤال الضابط: أين مختار الرمادي؟

كتم المعلم شيحة ارتباكه. ظل على صمته وهو يرمق الضابط بنظرة محايدة.

أعاد الضابط القول: أين زوج ابنتك؟

قال المعلم: ما دمتَ لم تجده فهو ليس هنا.

– أسألك أين هو؟

– لا أعرف!

عرف الفرنسيون بأمر مختار الرمادي. وشى به أرصادهم، فضيقوا عليه الخناق. تعددت الكمائن التي نصبت للإيقاع به. عرفوا «مختار» دون بقية الاسم. لم يعرفوا ملامحه، ولا مهنته، ولا أين يسكن. هو مختار فقط. تصدر أفعال عوام المصريين بأفكاره وتخطيطه.

فصل

تلكأت قوات الفرنسيين في الجلاء عن الإسكندرية. ظهر أنهم ينتظرون وصول إمدادات من فرنسا. دار قتال عشرة أيام، خرج فيه الفرنسيون من الطوابي على ضفتي بحر مريوط وطابية العجمي. قتلت أعداد كبيرة في داخلها. قدَّم القائد العام طلبًا بالهدنة ثلاثة أيام، يتفاوض في أثنائها لتسليم الإسكندرية.

سلَّمت الإسكندرية قلاعها وحصونها وبناياتها وكل ما يقع في دائرة المدينة في مدى عشرة أيام. ركب عساكر الفرنسيين سفنًا أُعدت لنقلهم إلى فرنسا.

أصر الرمادي على أن يتحرى أحوال جيش الفرنسيين برؤية العين إلى بلوغه رشيد، ثم تحملهم السفن إلى المواني التي بدأ منها غزوهم قبل ثلاث سنوات. تدافع الأولاد بين أرجل الكبار، يتطلعون إلى الجيش المنسحب.

انضم المعلم يعقوب — وعدد من أعوانه — إلى الفرنسيين في انسحابهم. ركبوا الفرقاطة الإنجليزية «بالاس» مع قوات الفرنسيين. أبحرت ناحية قبرص وساحل شبه جزيرة آسيا الصغرى.

كان يدبر الأمور لهم، ويُعِد أنواع المكر والخدع، ويطلعهم على الأموال والنفائس المخبوءة، ويبرر أفعالهم. وافق نابليون على أن يرافق ديزيه في حملته لمطاردة مراد بك، وإخضاع الصعيد. جهز للحملة ما يلزمها: أمن طرق المواصلات، نظم الأمور المالية والإدارية، وفق بين ما كان معمولًا به في البلاد، وما أصدره الجنرال ديزيه من أوامر. عاد من حملة ديزيه فأوكل إليه القائد العام كليبر تنظيم مالية البلاد، وتحصيل ما يفرضه الفرنسيون من ضرائب وغرامات على التجار والوجهاء وعامة الناس. أهمل نصيحة بطريرك الأقباط بالعدول عن غيه، ومراعاة صالح مواطنيه من المصريين. شارك بنفسه — أحيانًا — في المعارك ضد العثمانيين والمماليك. أشد ما غاظ الناس من تصرفاته، حين هدم الأماكن المجاورة لبيته في حارة النصارى، خلف الجامع الأحمر. أحاط البيت بسور عظيم، أقام من ورائه أبراجًا ومدافع وحراسًا مسلحين.

وصلت الأنباء — بعد أيام من الرحيل — بموته. تعددت الروايات، وما إذا قتله الخمر، أو مات مسمومًا، أو قتله الفرنسيون. أغلب الروايات أن المعلم يعقوب أصيب بالحمى، بعد يومين من ركوب البحر. طلب — وهو يلفظ أنفاسه — أن يدفن مع صديقه الجنرال ديزيه في قبر واحد. احتفظ قائد الفرقاطة بجثمان المتوفى حتى بلغت مرسيليا، فدُفن في مقبرة المدينة.

ما حدث تناقلته النسوة على أعتاب البيوت، وعبر النوافذ والمشربيات، وتناقله الرجال على المقاهي، وفي الجوامع والزوايا والخلاء. حتى عمليات البيع في الأسواق، تخللتها أنباء وملاحظات وتعقيبات، وأنشد رواة السيرة سيرة المصطفى، وسيرة الهلاليين، وعنترة، والظاهر بيبرس، وحكايات علي الزيبق.

أزال أهل القاهرة من أولاد الناس والحرافيش والسوقة وأهل الحرف السافلة، ما أقامه الفرنسيون حول القاهرة، وفي شوارعها وميادينها من متاريس وحصون واستحكامات، وما حفروه من خنادق واسعة، وعميقة. ارتفع العلم العثماني على قلعة الظاهر بيبرس. رحل الجنود الفرنسيون في أثناء الليل، وتدفق العثمانيون على القاهرة. انطلقت الزغاريد من الطيقان، وفي الأسواق، وعلت صيحات الفرحة، وتكوَّنت الحلقات — تلقائية — تدور بالرقصات المنتشية.

ترك الناس للمعلم شيحة بَركة رفع المزاليج من أبواب الأزهر. ظلت مغلقة منذ ثورة القاهرة الأولى حتى جاء أوان فتحها. دعوه إلى صدارة المشهد. لمس المزاليج بيده، قبل أن ترفعها أيديهم في صخب من الفرحة.

أصبح التعرف على القاهرة أمرًا صعبًا. الدروب الضيقة تلتف حول البيوت المتهدمة والخرابات. هدم الفرنسيون أغلب المباني والمدارس التي كانت القاهرة عامرة بها. تحوَّلت إلى خرائب، القصور الفخمة والمستشفيات والمساجد والمدارس والمباني التي كانت القاهرة عامرة بها. لم تَعُد سوى مبانٍ متهدمة، وحطام ما كان يومًا — ذات يوم — أسوارًا قوية، وأبوابًا رائعة تحمي القاهرة ضد عدوان المغِيرين، وبلغت الحياة حدًّا من التعاسة والفقر والبؤس، يتنافى مع حياة البشر في أي مكان. امتلأت الشوارع والأزقة وأسطح المنازل بأجساد الضحايا، كما تسببت المجاعات في أن يهم الناس بأن يأكل بعضهم بعضًا، وانتشرت الأوبئة.

كان الفرنسيون قد أحالوا بعض المساجد إلى حانات يحتسون فيها الخمر، ويعبثون بالنساء. أفاد التلاميذ من مواضع الخرائب في تلقي العلم. في محاولات الفرنسيين إحالة القاهرة إلى معسكر كبير، هدموا قباب المدائن قرب المقطم، ونبشوا القبور، لجأ عدد كبير من أهالي القاهرة إلى دفن موتاهم في البيوت، أو فيما تبقى من مساجد ومدارس.

ألصقت على واجهات الجوامع، وعلى النواصي، فرمانات تقضي بعدم التعرض بالأذية للنصارى واليهود وأهل الذمة، والاعتذار عنهم بأن الحال لهم على تداخلهم مع الفرنسيين صيانة أعراضهم وأموالهم.

قال المعلم شيحة: أعطى إسماعيل كاشف زوجته «هوى» الأمان لتعود إليه من الفرنسيين، ثم قتلها أهل القاهرة.

قال مختار: هذا الصباح، خرج آخر جند الفرنسيين.

فصل

ظلال الغروب تعلو الأسطح وأعلى البيوت. سكتت حركة الطريق. حتى الطيور فوق أشجار الجودرية لاذت بالصمت، وإن تناهت — كالصدى — جلبة السوق القريبة.

لزم بيته في أول الجودرية، حين أبلغه مريدوه أن أهل البلد أقاموا المتاريس في مفارق الطرق وعلى ناصية الشوارع. يرفضون السماح بالمرور لرجال الديوان وكبار المشايخ ورجال الشريعة إلا لمن يثبت أنه لم يبِع نفسه. أُوقدت الشموع على الدكاكين، وعلِّقت القناديل في الثريات، وعلت الطبول والدفوف والزمور والأبواق والصنوج والمغاني في شوارع القاهرة وأسواقها، وارتفعت العصي بالتحطيب والرقص، وأطل النسوة من الشرفات والنوافذ والطيقان والأسطح، ووقفن على أبواب البيوت. علت أصواتهن بالأهازيج والأغنيات والزغاريد، وتصايح الرجال. ذاعت القصص والحكايات والألغاز والنكات والملح والنوادر والأزجال والمواويل. تلا القرَّاء آيات القرآن الكريم، وأنشدوا الابتهالات الدينية. نُحرت الذبائح، ووُزعت الصدقات على الفقراء والمساكين، ووزعت المقاهي أكواب الشربات، وازدحمت الحلقات حول شعراء الربابة والمداحين والمغنين. اختار المعلم شيحة — للتعبير عن فرحته — توسط حلقة ذكر أمام ساحة جامع شيخون. خرج إلى الطرقات أرباب المناصب والأكابر والأعيان والعلماء والفقهاء والمفتون بالشريعة المحمدية والخواص والعوام من أهل مصر المحروسة.

ألف وقع أقدام جند الفرنسيين أسفل البيت. يمضون في الدروب والعطوف المتشابكة. من قلعة الجبل وإليها. يميزها ارتطام الأحذية الثقيلة في أرض الطريق. أزال الفرنسيون — في مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية — كل ما أعاق الاتصال بين مركز بونابرت والإدارات الفرنسية الأخرى، وصولًا إلى القلعة.

قالت الأم في خوفها: لماذا لم نرحل مع الفرنسيين؟ معاهدة الجلاء أباحت لأي مصري أن يرافق الحملة في عودتها دون أن يتعرض لأذى.

عرف بخروج عملاء الفرنسيين مع القوات المنسحبة إلى الروضة والجيزة، بمتاعهم وحريمهم: المعلم يعقوب، ويوسف الحموي، وعبد العال الأغا قائد الإنكشارية الذي ذاق أهل القاهرة الكثير من قسوته وبطشه.

– وزينب … نحن لا نعرف أين هي؟

توقع أن ينقض عليه أهل القاهرة، وعلى أهل بيته. ترامت الأنباء بما حدث للشيخ أحمد المتيني. حمل زعر الحارات والدروب والعطوف ألوان السلاح وآلات الحرب، تقدمتهم الصيحات بنصرة دين الإسلام. صعدوا إلى بيت الشيخ. أرغموه على النزول، وعلى أن يمتطي جواده. اقتادوه بزفة إلى ميدان القلعة. امتلأ بالخلق والبيارق والأعلام والنداءات. أجبروه على الوقوف فوق الجواد متساندًا على رجلين من بين الحشود. ردد ما لقنوه إياه: هذا جزاء من صالحَ الفرنسيين!

ثار هياج في الغورية وخط الصنادقية والفحامين وبيت القاضي وباب زويلة. رجم أهل البلد أعضاء الديوان، ومن كانوا على صلة بالفرنسيين بالطوب والحجارة، فطلبوا الهرب. من وقع في أيديهم سحبوه بالضرب والنكال وطالبوه بالتوبة. هدموا مصاطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريس لمنع المرور إلا بإذن. وقف وراء كل متراس أعداد من أهل البلد والشطار والزعر، في أيديهم البنادق والشوم ووسائل الأذى.

بلغته الأنباء بأن الناس الغاضبة انقضت على بيوت الكثير ممن كانوا أصدقاء للفرنسيين، واستقبلوهم في بيوتهم، وبذلوا لهم الود والمساعدة. شملت عمليات الإعدام معظم أحياء القاهرة. هلل أهل القاهرة لإعدام الكلارجي مصطفى الطارتي — في ميدان باب الشعرية — بعد أن جعل نفسه في خدمة المعلم يعقوب، وتولى أمر اعتقال التجار وأولاد الناس، وحبسهم، وعقوبتهم، وضربهم.

أُدين مسلمون وأقباط بتهمة التعاون مع الفرنسيين، وبارتكاب المظالم وأعمال العنف. قُتلت نساء لإقامة علاقات محرمة مع الضباط والجنود والفرنسيين. وُضعن في زكائب، وأُلقي بهن في نهر النيل.

لم يجد حزبًا يستند عليه. تخلى عنه حتى من كان يعتبرهم خاصة أصدقائه وأتباعه وخدمه. لم يَعُد أمامه سوى الركون إلى التوقع، وما يُعِده له، ولآل بيته، هؤلاء الذين تابعوا ابنته بتهديداتهم، وطاردوه في المواضع التي كان يتنقل بينها.

– أين أنت يا زينب؟ وما المصير الذي ينتظرك، وينتظر أباك؟

اتجه إلى زوجته بملامح يائسة: وماذا نفعل في بلاد الفرنسيين؟

واغتصب ابتسامة مريرة: ليس عندهم أشراف فأكون نقيبًا لهم!

أحاط أعوان الرمادي بحديقة الأزبكية. خلت من الفرنسيين وأمراء المماليك وجنود الباشا. فتشوا البيوت بيتًا بيتًا، حتى وجدوا زينب مختبئة في بيت امرأة مشبوهة. تقدمتهم في الشوارع بجرسة من الأزبكية إلى الجودرية. اجتمع الناس في طريق الموكب، يتطلعون، ويسألون، ويتبادلون التعليقات. ثمة من يعرف الحكاية، وثمة من يسأل، وأعداد المحيطين بها للفرجة تتزايد حتى بلغ جامع بيبرس الخياط.

علا صوت خليل الرمادي، يأمر الجميع — ما عدا أعوانه — بالعودة.

اقترب وقع الأقدام المتلهفة في داخل البيت.

انفتح الباب عن زينب، يدفعها، ويحيط بها، جماعة من الرجال. شعثاء الشعر، حافية القدمين، ممزقة الثياب، وروحها مسحوبة من الخوف.

تنبه البكري على قول مختار الرمادي: نحن نمتن لك احتفاظك بنقابة الأشراف حتى عاد إليها السيد عمر مكرم.

ثم في نبرة ملمزة: عاد السيد عمر مكرم إلى نقابة الأشراف كما كان الحال قبل الفرنسيين.

تردد الشيخ، ثم قال: نصر من الله.

وداخلت كلماته رنة استعطاف: يعلم الله أني ما وضعت يدي في يد الفرنسيين إلا ليساعدوا أهل مصر على التخلص من ظلم المماليك.

قال محرم الدالي المجلداتي بسوق الوراقين: هل من مساعدة المصريين كل ما جرى من تدمير وإحراق وتقتيل واعتداء حتى على حرمات ديننا؟!

– ما يدريك أني لم أكن أعترض.

وهز قبضته: كنت أعترض.

أشار مختار إلى الفتاة: ماذا كانت تفعل الفتاة قبل أن يخرج الفرنسيون؟

هذا ما كان يتوقعه. تصور الأسئلة والأجوبة والملاحظات المعيبة. بدأت الأمور بما لم يُعَد له، وانتهت إلى ما لم يدُر في تصوره.

قال مختار: حتى احتفالات الفرنسيين التي اعتذرت أنت عن المشاركة فيها … أصرت ابنتك على حضورها.

ماذا يعرفون عن حياته أكثر مما يعرفه؟

الدعوة تأتيه، مثلما تأتي لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب. يظهر امتنانه للدعوة، وإن لزم البيت، فلا يخرج إلى الاحتفال. قهره الخوف من غضب أهل البلد منذ دخل عساكر الفرنسيين الجامع الأزهر. ركبوا الخيول، وبينهم المشاة، توزعوا في الصحن والمقصورة. قيدوا خيولهم بالقبلة. عاثوا بالأروقة والحارات. كسروا القناديل والسيارات. هشَّموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة. نهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع، والمخبآت بالدواليب والخزانات. دشتوا الكتب والمصاحف على الأرض. داسوها بأقدامهم. أحدثوا في الجامع، وتغوطوا، وبالوا، وتمخطوا، وشربوا الشراب، وكسروا الأواني، وألقوا بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه عروه، ومن ثيابه أخرجوه، ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش عن النهب وآلة السلاح والضرب، وخرج سكان الناحية يهرعون للنجاة بأنفسهم.

أزال الفرنسيون مراكز المتاريس، ونظفوها من الأتربة والأحجار المتراكمة، وأفسحوا الطريق للمرور. قضَوا على ما جرى في فتنة القاهرة، ودخلوا الأزهر، وأودعوا علماءه بيت البكري فزادوا في إحراجه. حتى النساء اللائي ألقي القبض عليهن، أودعن بيته.

قال مختار: هل تغاضيت عن علاقتها ببونابرت توهمًا أنك ستصبح حما السلطان الكبير؟

– هذا اتهام خطير!

– ابنتك كانت في بركة الأزبكية.

قال محرم الدالي: لعله كان مشغولًا باستعادة مملوكه الجميل!

وواجهه بعينَين مشتعلتَين: يا مولانا … أنت الذي حرضتها على ما فعلت.

وهو يربت صدره: أنا؟

قال هادي بشر الطالب بالأزهر: ذهبت ابنتك إلى الفرنسيين بعلمك.

قال محرم الدالي: وأنت أتحتَ لهم دخول بيتك.

– هل كنت أقدر أن أمنعهم؟

هل كان يستطيع أن ينقلب على الفرنسيين؟ هل يبادلهم الصنيع الجميل بالإساءة؟

قال هادي بشر: لم يطالبك بونابرت بأن تهديه غلامك المفضل.

– هو الذي طلبه.

– يا شيخنا … أنت تكذب.

ورفع كتفيه: نحن نعرف أن نابليون لم يكن في حاجة إلى هديتك!

واتجه إلى زينب بعينَين تفحان نارًا: ماذا كنت تفعلين في الأزبكية؟

قالت في خوفها: أنا تبت من ذلك.

قال للشيخ: ما تقول يا مولانا؟

الموافقة على قتلها هي ما يملكه خوفًا وتبرئة لنفسه من الشهرة التي لا يمكنه سترها، ولا يقبل عذره فيها، ولا التنصل منها. الرجال — إن رفض — ربما قتلوه هو أيضًا. أنقذه الخواجة أحمد بن محرم في أيام الفتنة، فمن ينقذه في غياب الفرنسيين؟

هجم العامة على بيته، ونهبوه، وهتكوا حريمه، وعروه من ثيابه، وسحبوه بينهم مكشوف الرأس من الأزبكية إلى وكالة ذو الفقار بالجمالية، وبها عثمان كتخدا الدولة. شفع فيه الحاضرون، وأطلقوه بعد أن أشرف على الهلاك. أخذه الخواجة أحمد بن محرم المحروقي — شهبندر التجار — إلى داره، بالقرب من الغوري. حظي المحروقي بتقريب الحكام له، والإنعام عليه. تحقق له من المكانة ما يضعه في منزلة شيخ البلد. أسكن روع البكري، وألبسه ثيابًا، وأكرمه، وبقي بداره إلى أن انقضت أيام الفتنة. عوضه الفرنسيون عما نُهب منه، ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم.

بعد رحيل قوات الفرنسيين، استعاد المشايخ — ممن شاركوه عضوية الديوان — هيبتهم. قدم الناس إلى بيوتهم، يطلبون المشورة والرأي، وانتظمت الصفوف من ورائهم لصلاة الجمعة في الأزهر والحسين والسلطان حسن والحاكم وابن طولون وغيرها. فتور العلاقات بين المشايخ والعثمانيين مضى كسحابة صيف عابرة. إسماعيل الخشاب — السكرتير السابق للديوان — هو الذي حرر بيانات العثمانيين عقب عودتهم إلى القاهرة. حتى الشيخ عبد الله الشرقاوي، أصبح — بعد أشهر قليلة من عودة العثمانيين — مستشارهم المسموع الكلمة. حتى المعلم يعقوب لم ينله الأذى، ولو لم يقبضه الموت لكان الآن في بلاد الفرنسيين، بعيدًا عن انتقام الحرافيش والغوغاء والزعر.

هو وحده عُزل من الوظائف التي كان يشغلها. عُزل من عمله نقيبًا للأشراف، ثم عُزل من مشيخة البكرية. لجأ — بعد رحيل الفرنسيين — إلى الاحتجاب، حتى ينساه الناس، ويُسقطوا ما يؤذي سمعته. حُوصر في البيت الذي اشتراه في شارع الجودرية، فلم يَعُد يستطيع — في مواجهة الكراهية — أن يتركه.

خشي مصير الموثوقين بالحبال، سحبهم رجال من أهل القاهرة أعلى قلعة الجبل، والخلاء، والمناطق البعيدة. استعاد ما كان يفعله الفرنسيون بأهل البلد. يوثقونهم بالحبال، ويودعونهم السجن. ربما اقتيدوا إلى محاكم، قضاتها من الفرنسيين، فتحكم بتبرئتهم أو إدانتهم. مضى الرجال بمن كانوا أصدقاء للفرنسيين إلى ميدان القلعة. أقروهم بالعقاب والضرب، اعترفوا بما ارتكبوا في حق ناسهم، وفي حق أنفسهم. عاودوا الضرب، لم يرفعوه إلا بعد أن صحت توبتهم، وتقبَّلها الناس.

قال في صوت متلكئ: إني بريء منها.

قالت الأم وهي تغالب النشيج: ماذا تفيدون من قتلها؟

اقترب مختار من الفتاة. حاولت أن تجري ناحية الباب. أدخل محرم الدالي وهادي بشر — على الباب — ذراعيها في ساعديهما. اقترب مختار حتى لامست أنفاسه وجهها. لحق تواصل صراخها بإحكام حصار راحتيه حول رقبتها. سكتت، وإن ظلت العينان جاحظتَين، والفم مفتوحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤