الباب الثاني

فصل

تأمل الشيخ بدر الدين المقدسي أسراب الطير وهي تحلق فوق وعاء الحبوب الذي يعلو مئذنة جامع أحمد بن طولون، فوق جبل يشكر، بالقرب من المقطم. يواظب خدم الجامع على ملئه طيلة أيام السنة. نصح مريديه بعدم التردد على الجامع. مبنًى من الطوب الأحمر. محاط من ثلاث جهات بثلاث زيادات. الصحن الأوسط المكشوف، مربع، تحيط به في جوانبه الأربعة طرقات تمتد فيها صفوف متوازية من الأعمدة، مائة وستون عمودًا، يحيط بها، وبالحوائط، شريط كتابي بالخط الكوفي، طوله كيلومترين، يضم سورتي البقرة وآل عمران. المنبر من خشب الساج والأبنوس، زخارفه نباتية، مورقة، المحراب القديم الأصلي معه خمسة محاريب أخرى. الميضأة قبة كبيرة، محمولة على أربعة عقود، رقبتها محلاة بشريط كتابي من خط النسخ المملوكي.

التشققات — الطولية والعرضية — واضحة في الأعمدة المصفوفة، تهدد الجامع بالانهيار. النشع غطى الجدران بأشكال وتكوينات.

– مسجد النقيب الذي بنيته بالحسينية هو أيضًا من بيوت الله.

من عائلة مقدسية، تنتمي إلى الأشراف. عرف بابن النقيب لأنه كان ابن النقيب السيد علي بن موسى الحسيني المقدسي، أجداده نقباء الأشراف في بيت المقدس. سموه المحدث، والمقدسي.

ارتبط بحي الحسينية، لأنه حي الزعر والحرافيش وعوام الناس. وكان يلقي دروسه في جامع الحسين. جمع حوله الكثير من المصلين والمريدين الذين وفدوا عليه لسماع عظاته بعد صلاة المغرب، وخطبته قبل صلاة الجمعة. تزايد المريدون والأتباع وطالِبو النصفة والمدد والصلات والعطايا والزكوات. تشرئب أعناقهم، وتتسع عيونهم، وينصتون إلى كلماته بالصمت والاهتمام. يدعوهم إلى رفض مستنكرات الشرع، والاقتصار على ما يقضي به الكتاب الكريم والسنة.

عُرف عنه أنه على علم بفقه الدين، وتفسير القرآن. يدرك باطن العلم وظاهره. لا يتكلم إلا عن قراءة ودراسة وفهم، ولا يرد أحدًا، ويفتح بيته لمن يقصده في حاجة، أو فتوى، أو مظلمة، أو شفاعة. لا يقصر زائريه على خواص، إنما هو يساوي في استقبال الجميع. لا شأن لذلك بمكانة علمية أو اجتماعية. يسير في الشوارع والأسواق. يجلس داخل المساجد والزوايا. يتردد على بيوت كبار التجار والوجهاء. من حوله الأعوان والمريدون وطالِبو الحاجة. يلجأ الناس إليه لقضاء الحاجات، ورفع المظالم، وحل المنازعات، يفزعون إليه في الملمات. ينصر الضعيف على القوي، ويتشفع للأهالي عند رجال الإدارة والمماليك. إذا حاصرته الظروف القاسية، استعان بعدِّية يس، يوالي ترديدها، حتى تنقشع الغمة، ويزول الخطر.

لم يكن يأذن لأحد في مجلسه أن يتكلم بغير أحاديث العلم والعقيدة وفقه الدين وسير الرسول وآل البيت والخلفاء والصحابة والتابعين والسلف الصالح. الصلوات الخمس هي الإيقاع ليومه: الصحو، والخروج إلى الأسواق والعمل، ومجالسة المريدين، والقراءة، والتأمل، والنوم. وبَّخ أحد مريديه لأنه أذاع عنه ارتفاع التكليف. وصل إلى مقام لا يحتاج معه إلى ممارسة شعائر من أي نوع.

اعتبره الناس قطبًا صوفيًّا. له عينان سوداوان حادتان. وجهه مشرب بحمرة. يرتدي عمامة وعباءة شديدة الأناقة، حوافها مذهَّبة، والحزام العريض حول الخصر موشًى بالذهب، ويركب جوادًا عربيًّا، أضاف إلى سَمته فروسية باهرة.

ازدادت أعداد المريدين — بتوالي الأيام — حتى ضاق بهم مسجد النقيب. قصده الناس من أطراف الأرض، طلبًا لعلمه وبركاته ومدده. قوافل من المشرق والمغرب، فيها رجال ونساء، يحملون الهدايا النفيسة. كان يشكر أصحابها، ويعتذر عن قبولها.

اشتهر بأنه يتجنب موائد الحكام، وأموالهم، ولا يطرق أبوابهم، ولم يكن يتردد في نقد أمراء المماليك وحكام العثمانيين، ولا يخشى غضب الأميرَين مراد وإبراهيم، ولا غضب المماليك. لجأ إليه الناس لإغاثتهم من ظلم الأمراء، وعسف أهل الحكم. أحاط بالأميرَين عصبة للشر، انشغلت بالسلب والنهب والمصادرة، وأهملت مصالح الناس. أجبر الأمراء على أن يسيروا في الناس سيرة حسنة، ويكفُّوا أتباعهم عن مد الأيدي إلى أموال الناس، وممتلكاتهم. صار له هيبة لا تقل عن هيبة الأمراء، ولا عن هيبة الباشا ممثل السلطان.

تحققت له مكانة عظيمة في قلوب الناس. لم يَعُد يتم أمر من أمور الناس، والتعبير عن سخطهم ضد المماليك، ثم الفرنسيين من بعدهم، إلا باطلاعه ومشورته.

شدد المقدسي عليهم، فلا بد أن ينبهوا الناس إلى الكتب التي فرقها الفرنسيون، زعموا فيها أنهم ليسوا نصارى؛ لأنهم يقولون إن الله واحد، وأنهم يعظمون محمدًا، ويحترمون القرآن، ويحبون العثمانلي، ولم يأتوا إلا لطرد المماليك الظلمة؛ لأنهم نهبوا أموالهم، وأموال تجارتهم، ولا يتعرضون للتجارة في شيء.

تحدث المريدون عن رؤية فرنسيين يدخلون الجامع. يكتبون في أوراق، ويرسمون ما يلاحظونه.

قال مختار الرمادي: حتى نعالهم لم يخلعوها.

في حوالي الخامسة والعشرين. يتنفس العافية. حلق شعر رأسه من الجنبين، وترك ما يشبه الخصلة تتدلى على جبهته. وجهه أسمر، تكسوه ابتسامة طفولية، وعيناه صاحيتان، وأسنانه مفلجة، وتنتهي ذقنه بلحية صغيرة، مدببة. في ظهر يده أثر حرق، أو كي بالنار. يرتدي جلبابًا أزرق بياقة مفتوحة. يبدو الصديري المخطط من فتحة الجلباب. فك الأزرار الكثيرة المتقاربة، ففزت غابة الشعر الكثيف. يضع على كتفيه شالًا مزين الأطراف.

لاحظ حيرة الحرفيين وأبناء الطوائف وعوام الناس. تشتتَت ولاءاتهم وانتماءاتهم إلى أمراء ومشايخ وعلماء ووجهاء وذوي نفوذ. أزمع أن يجمعهم في اتجاه التخلص من الفرنسيين. لا شأن لما يفعلون بشخص، مهما علا مركزه أو رتبته. التخلص من غزوة الفرنسيين، خطوة وحيدة، لا صلة لها بانتماءات تالية. خروج الفرنسيين مسئولية أهل مصر، يسبق ما عداه من انتماءات الدين والجماعة.

قال الشيخ المقدسي: دخولهم بالنعال تدنيس للجامع.

قال المعلم شيحة: لماذا يدخلون الجامع من أصله؟

ثم وهو يغتصب ضحكة: أعلن القائد العام للفرنسيين اعتناقه الإسلام.

قال الشيخ المقدسي: هل احتفظ باسمه المسيحي؟

قال المعلم شيحة: لا … هو الآن علي بونابرت.

قال الشيخ المقدسي: هل قاد حملة عسكرية إلى مصر ليعلن إسلامه؟!

قال مختار الرمادي: إذَن علينا توقع إمامته للمصلين في الجامع الأزهر.

قال طلبة أبو سليمان الكتبي بالصنادقية: لا تسخر من الرجل فهو — فيما أرى — صادق في إسلامه.

وأردف في نبرة واثقة: عرَفت أن القانون الذي جاء به من بلاده من فقه الإمام مالك.

قال التاجر عفيفي عبد المولى: أصدقك … رأيته بنفسي في اجتماعه بالمشايخ يكثر من نطق الشهادتين.

كان الرجل يعتز بمكانته بين تجار خان الخليلي من الأتراك والفرس، تقتصر تجارته على البن اليمني.

قال الشيخ المقدسي: المصيبة أننا لم نقلد الفرنسيين إلا في حلق الذقون!

تهيأ المعلم شيحة للقيام من موضعه: ربما لزمت الجامع العتيق في أيامي الأخيرة.

ورفع أعلى صدره: يطير الجامع بمصليه إلى الجنة.

أهمل نظرة الدهشة في عيني الشيخ المقدسي: هذه أمنيتي.

لم يَعُد المعلم شيحة يصبغ فوديه بالحناء. حتى شعر حاجبيه أهمل صبغه. أحاطت بوجهه دائرة من البياض. وكان يرتدي القفطان، يتدلى إلى كاحل القدمين، ويضع فوق رأسه طربوشًا أحمر، أحاطه بطيات من القماش الأبيض، تتحول إلى عمامة، ويدس قدميه في خفٍّ مغربي. حفظ الكثير من الأذكار والأوراد والأقوال الشريفة. تحدد يومه بمواعيد الصلاة. يصحو لصلاة الفجر، وينام عقب صلاة العشاء، ويقسِّم أوقات نهاره بين مواعيد الصلاة في الظهر والعصر والمغرب، ويتحدث عن أمنيته في أن يرحل — على قدميه — إلى الأراضي الحجازية. يؤدي فريضة الحج، ويزور قبر النبي، ومقابر آل البيت والصحابة والتابعين. وكان يتردد على سوق المسكة عقب صلاة الجمعة. يشتري ما يحتاجه البيت من الدجاج والأوز والحمام، ولحم الماعز والضأن.

فصل

تعاظم شر جند الفرنسيين وفسادهم. استولى الجنود على الكثير من المراكب التي تنقل البضائع في النيل. جعلوا من أخشابها وقودًا للتدفئة. وكانوا ينزلون على البلدة. يطلبون الأموال والغرامات العينية. يعطون موعدًا بالساعات. إذا انقضت دون أن يفِي أهل البلدة بما هو مطلوب، بادروا إلى إشعال الحرائق، وإلى النهب والسلب. قد يقبضون على شيخ البلدة، يضربونه، يسحبونه معهم في الجبال، يذيقونهم أنواع التعذيب.

استطالوا على أهل القاهرة، وعسفوا بهم. اعتاد الناس نزول الجند إلى الشوارع والطرقات والأسواق، ينهبون الدكاكين، ويخطفون عمائم المشايخ، وينالون المارة بالأذى والتنغيص، ويفتكون بمن حاول زجرهم أو مقاومتهم. أظهر الناس استياءهم من المسابقات التي يجريها الجنود الفرنسيين على ظهور الحمير. تقتحم بالرعب نفوس المارة والمقعدين.

شارك الجنود الفرنسيون الجعيدية والأوباش سلب بيوت الأمراء والوجهاء والأعيان ونهبها. أغلق التجار والحرفيون محالَّهم، ولاذ الناس بالبيوت. فتح الجنود — بالقوة — دكاكين سوق السلاح، واستولوا على معظم ما بها. بدا البحث عن الأسلحة المخبأة ذريعة لنهب بيوت المماليك وأولاد الناس. أخرجوا سكان قلعة الجبل من بيوتهم. أنزلوهم إلى المدينة، وسكنوا بدلًا منهم. طردوا أهل القاهرة من دورهم لحاجة الجنود إليها. أخذوا ما بحوزتهم من الجياد والجمال والحمير والدواب. حطموا الكثير من البيوت والوكائل والدكاكين، ونهبوا ما لا يدخل الحصر من البضائع والأمتعة والأموال. اقتحموا بيوت الأمراء. أخذوا ما استطاعوا حمله من الأثاث والمشغولات الذهبية والنفائس والمؤجرات والستائر والسجاجيد والنقود والثياب والأقمشة. تركوا الأبواب مفتوحة. دخل النهَّابة واللصوص والأوباش. أتَوا على البيوت تمامًا. صارت مثل الأرض المجدبة.

أمر بونابرت، فعلقت أعلام الفرنسيين على الكثير من الدور التي يخشى أصحابها الأذى، وعلقوا مكاتبات أمان على دور أخرى.

وطِئهم الفرنسيون، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والمصادرات. طلبوا من التجار سلفة مقدارها خمسمائة ألف ريال. أظهر التجار عجزهم عن دفع المبلغ. تدخل كبار المشايخ والأعيان بالشفاعة اللازمة. خفض الفرنسيون إتاوتهم إلى الضعف، وحددوا أيامًا — كمهلة — لدفع النصف الباقي. فرضوا المبالغ الطائلة على أهل الحرف وتجار الأسواق كقروض مؤجلة الدفع، وما لا قِبل لهم على احتماله من المكوس والضرائب. وضاعفوا الضرائب على الحمامات والخانات والوكائل والمعاصر والسيارج والحوانيت والأسواق، وعلى حالات نقل الحيازة، وجميع الأوراق الشرعية، مثل صكوك الزواج والوصايا. ألصقوا أوراقًا بهذا المعنى على المفارق والطرق ورءوس العطف وأبواب الجوامع. أرسلوا نسخًا منها للأعيان. ألزموا التجار بالحصول على رخص لقاء مبالغ مالية، واخترعت ضرائب للتسجيل وللممتلكات. عينوا المهندسين ومعهم أشخاصًا لتمييز الأعلى من الأدنى، وشرعوا في الضبط والإحصاء. لولا الخشية من غضب تغمض نتائجه، ما ترددوا في فرض الضرائب على الجوامع والتكايا والأضرحة.

تواترت المصادرات، وحل بالناس ما لا يوصف من المظالم. أنكروا أحكام المواريث. لا شيء يحصل عليه ورثة الميت، وإنما اعتبر الفرنسيون أنفسهم هم الوارث الوحيد، يصادرون الأرض والعقارات والأموال، فلا يبقى لورثة الميت إلا ما يقيم أوَدهم. أذلوا أغنياء الناس وفقيرهم بكل ما أسعفتهم به الحيل. زاد الفقراء فقرًا، ولم يَعُد الأغنياء يملكون قوت أيامهم. ارتاعت الخلائق، واستبد بهم الخوف والفزع. أسرفوا في وضع قواعد من الخبث، وأسس من الكفر، ودعامات من الظلم، وأركان من البدع السيئة. أقبل جنودهم على أنواع المأكولات مثل الكلاب المسعورة، فتضاعفت الأسعار. مسحوا أثر الغائط بأوراق المصاحف، وقذفوا بها ملطخة في الطريق والمراحيض.

أعدموا رجلين بتهمة التجسس لصالح المماليك، وطافوا برأسيهما وهم ينادون بالقول: هذا جزاء من يخدم المماليك!

فصل

ظلت الأسواق مغلقة، وتوقفت حركة البيع والشراء. ارتاعت الخلائق، واستبد بهم الخوف والفزع. عانوا من توقع الآتي.

جعل الفرنسيون القلعة لضباطهم وجنودهم. أحاطوا جوانبها بمدافع تتجه فوهاتها نحو القاهرة. هدموا جامع أبي هريرة بالجيزة، والجامع المجاور لقنطرة الدكة. وهدموا — بدعوى تحصين القاهرة — الكثير من الدور والبنايات الأثرية والأسوار والجدران والمساجد والزوايا والخانقاوات.

دمروا قصر يوسف صلاح الدين، وما خلفه الملوك والسلاطين. شوهوا قصر الملك الناصر محمد بن قلاوون. بدلوا معالم باب العزب بالرميلة، ومحَوا ما كان به من آثار السابقين، وسلبوا الأسلحة والورق والبلط والخوذات والحراب الهندية. أحاطوا القاهرة بالقلاع، فوق التلال والأماكن المرتفعة. أزالوا بنايات ومواضع كثيرة. أقاموا في مواضعها ما يسهل لهم حسن القيادة، والتصرف في الأمور، والمحافظة على أمن جنودهم.

هدموا البنايات المقابلة لبيت الألفي، فظهر ميدان متسع المساحة. هدموا بقية الدور، وقطعوا الأشجار، وأزالوا تلال الأتربة بما يمهد طريقًا من بيت القائد العام إلى قنطرة المغربي، ومنها إلى بولاق. وحفروا على كل جانب خندقًا. كما غرسوا شجر السيسبان بامتداد الطريق.

أفردوا في بيت حسن الكاشف جملة كبيرة من كتبهم، عليها مباشرون يحفظونها، ويأتون بها للطلبة، ومن يريدون المراجعة يجدون فيها مرادهم. يجتمع الطلبة منهم ساعتين بعد ظهر كل يوم. يجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب، على كراسي منصوبة، موازية لسبورة عريضة مستطيلة. من يريد المراجعة يطلب منها ما يشاء. يحضرها له الخازن. يتصفحون، ويراجعون، ويكتبون. حتى أسافلهم من العساكر، إذا أراد المصريون الفرجة لا يمنعونهم من الدخول. يتلقونهم بالبشاشة، وإظهار السرور. يحضرون لهم أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكورات البلاد والأقاليم.

فصل

أفلح الحاج أبو بكر باشا وأمراء المماليك وأتباعهم، وأعداد كبيرة من أهل مصر، في الانتقال من الصالحية — عبر صحراء سيناء — إلى غزة.

بدأ عبور باقي جند الفرنسيين من الجيزة إلى القاهرة. أسروا أعدادًا كبيرة من غلمان أمراء المماليك وجواريهم وزوجات بعض الكشاف وأتباعهم ممن لم يرافقوا المغادرين للقاهرة. تشفَّع كبار المشايخ والأعيان في الأسرى، فلا ذنب لهم ولا جريرة. أعتقهم بونابرت — مراعاة لخاطر من قصدوه — وشدد على جنده، فلا يقدموا على الأفعال القبيحة، ولا ما يضير النفس والمال.

فازت النساء بالحياة وحدها، دون أن يحصلن على ما يستر أجسادهن، أو يسكت صراخ بطونهن. تجمَّعن في صحن الأزهر، حاسرات الرءوس، حافيات، يسألن أهل الخير ما يحفظ عليهن الحياة.

فصل

واصلت قوات الفرنسيين سيرها — عبر الخانكة وأبي زعبل — إلى مديرية الشرقية. أرادت أن تمنع محاولات تجميع الأمراء الفارين لصفوف فرسانهم، بالإضافة إلى الاتفاق مع بدو الصحراء ضد العدو المشترك، واستولى الفرنسيون على بلبيس دون قتال، وواجه الفارون من لصوص البدو ما يخطر، وما لا يخطر، على البال من ألوان السرقة والنهب والاغتصاب. لما اشتكى المنهوبة أموالهم وأمتعتهم للقائد العام ما حدث لهم على أيدي لصوص البدو، قال لهم في لهجة مؤنبة: ولمَ رافقتم الأمراء إلى المنصورة؟

أمر، فأعيد الجميع إلى القاهرة — وكان من بينهم كبير التجار أحمد المحروقي — تحرسهم طائفة من فرسان الفرنسيين.

فصل

زار بونابرت — بصحبة عدد من أعوانه — جامع السلطان حسن.

تأمل القبة والمئذنتين والصحن الواسع والرخام والزخارف على الأرض والجدران، وأشغال الخشب والبرونز في الأبواب والأفاريز المعدنية، وتموُّج الألوان ما بين أزرق سماوي وأخضر وذهبي وأحمر، وأشكال الزهور والتكوينات التي تحاكي النبات، والمصابيح المتدلية من القبة. زار — في الأيام التالية ترافقه الدهشة — جوامع: الحسين والسيدة زينب والأزهر والسلطان حسن وشيخون والإمام الشافعي والمشهد الحسيني ومسجد كتخدا بالأزبكية ومسجد الملكة صفية ومسجد البرديني وجامع محمد أبو الذهب وكسوة الكعبة ومستشفى قلاوون والقلعة والأهرام وأبو الهول والجيزة والروضة والمقياس ومصر القديمة والأديرة.

أطل القائد العام على القاهرة من فوق القلعة. الوادي أمامه حتى أهرامات الجيزة. يمتد الأفق بعده — إلى نهايته — في الصحراء الليبية.

أقام الفرنسيون في الناصرية، دار الأمير شركس، مملوك محمد بك أبو الذهب. اتخذوا من القلعة موضعًا لنصب مدافعهم، وبثُّوا جنودهم في الحصون والأبراج والمزاغل، وأمروا سكانها بترك دورهم، والنزول إلى المدينة للسكنى بها. غيَّروا ملامح القلعة، وشوَّهوا معالمها، ومحَوا ما كان بها من آثار الحكام السابقين. شددوا في طلب الأسلحة، والبعد عما يسيء إلى عسكر الفرنسيين. كل من يقاوم القائد العام فهو مقاوم حدود الله، ولا بد من أن يدان. نادَوا بذلك في الميادين والأسواق، وألصقوا منشورات على جدران الجوامع ومفارق الطرق. ونُودي بوضع العلامات المعرفة بالوردة. دليل الطاعة والخضوع. ثمة من رفض، وثمة من وجد فيها ما لا يخل بالدين. الموافقة بالإكراه تدخل في إطار التقية، اتقاء الضرر والأذى بلا مقابل يناله المرء.

خلع بونابرت على مشايخ قبائل العربان فاخر الخلع، وأهداهم الجياد المسومة. قيض لكل منهم خرجًا يليق بمكانته، ويغري قبيلته بتقديم واجب الخضوع والاحترام.

وقع قانونًا يقضي بالقبض على جميع الناس الذين يسألون الناس في الطريق، ويطلبون الحسنة منهم، وإحضارهم أمام ضابط مصر، ثم ترحيلهم إلى سجن القلعة، ما لم يكونوا من أصحاب العاهات كالعميان والعرجان والعاجزين عن العمل. كما يقضي القانون بأن تعمل كل ملة من الإسلام والنصارى، أروام وقبط وشوام، ومن اليهود أيضًا، حانوتًا لقبول كافة العميان والعرجان والشحاذين العاجزين عن الشغل، يكون مُعدًّا لهم، وأن يلتزم كل رئيس ملة بلوازم حانوته، وكافة مصاريف الحانوت من نفقة الأكل والشرب وغيرها، وأن يجمع كل كبير ملة فقراء ملته، فيرضيهم، ويعطيهم لوازم الأكل والشرب والسكن، بما ينهي تدبير الحوانيت المذكورة، واستكمالها.

نظر أهل القاهرة بضيق إلى إقدام الفرنسيين على تدمير البوابات، وفتح الأحياء. أرادوا منع إغلاق الدروب، وإيقاف المواصلات. وجد الناس في ذلك انتهاكًا لما ألفوه من الجيرة المحددة والصداقة والتكافل.

قسمت القاهرة إلى ثمانية أقسام. ترأَّس كل قسم منها ضابط فرنسي، يُسمى القومندان، أو حاكم الخط. أوكل لمشايخ الحارات حفظ الأمن في مواقعهم.

أمر القائد العام، فأُنشئت لجنة لإدارة الشئون الصحية في القاهرة ومصر القديمة وبولاق، ووضعت لوائح لنظافة المدينة، فيداوم الأهالي على الكنس والرش وتنظيف الطرق من الأوساخ. ونفذت الأوامر بدوام تنظيف الشوارع، وإماطة الأذى عنها، وإزالة العوائق منها، وتحسينها، والإكثار من بيوت الخلاء العامة في الأحياء المختلفة، حتى لا تتلوث الأسواق والشوارع والميادين. حظر على الناس رفع الملابس المنشورة على حبال الغسيل قبل ثلاثة أيام من غسلها، وطالبهم بتطهير داخل البيوت وخارجها، وتبخيرها بالبخور الطارد لرائحة العفونة. أمر القائد بأن يدفن الأهالي موتاهم في المقابر البعيدة، وينشروا الثياب والأمتعة فوق الأسطح أيامًا متوالية، وتبخير البيوت بالمطهرات، فتتطهر من أذى الطاعون. عين لكل حارة امرأة ورجلين، يدخلون البيوت للكشف عن صحة نشر الثياب، فتذهب العفونة الموجبة للطاعون. بدأ القواسة من خدم الفرنسيين في هدم المراقد والمزارات في تربة الأزبكية. انطلق أهل الموتى كالجراد من حارات المدابغ وباب اللوق وكوم الشيخ سلامة والفوالة والمناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب. تجمعوا — بالضجيج والصياح — تحت بيت القائد العام. نزل إليهم التراجمة. اعتذروا بأن القائد العام لا علم له بما حدث، وأنه أمر بمنع الدفن فقط، فعادوا إلى بيوتهم مطمئنين.

فصل

ظل أهل الإسكندرية ليلهم فوق الأسطح وخارج البيوت. يتابعون أصداء المعركة في خليج أبي قير بين الفرنسيين والإنجليز. لم تهدأ أصوات دوي المدافع ولا الانفجارات إلا بعد ظهر اليوم التالي.

عندما لاح خليج أبو قير أمام الأسطول الإنجليزي، كان الأسطول الفرنسي راسيًّا بأكمله في الخليج، وكان نابليون بونابرت في القاهرة.

ارتفع دوي المدافع. حجب الدخان صفحة المساء ومرئيات البحر. تعالت النيران والصرخات والحشرجات. اختلطت السفن، فلم يفطن البحارة إن كان ما وجهت إليه مدافعهم من سفنهم أم من سفن الأعداء.

دمر أسطول الإنجليز كل ما كان يضمه أسطول الفرنسيين من سفن. غاص في أعماق البحر أربعة آلاف قتيل فرنسي، ودمر أسطول الحملة عن آخره. حتى السفن العشر التي سلمت من الغرق، رفعت الأعلام البيضاء مستسلمة. حتى الكنوز التي قدم بها الفرنسيون من مالطة، ابتلعتها المياه. وصل إلى الشاطئ أقل من ثلاثة آلاف بحار، من أصل ثمانية آلاف. قُتل الآخرون، أو أسِروا.

لم يَعُد بمقدور الفرنسيين أن يتحركوا خارج مصر خطوة واحدة. سدت السبل أمامهم تمامًا، حُوصر أفراد الجيش البري، فهم أشبه بالأسرى، أو المحاصَرين، في داخل مصر. قطعت جميع الاتصالات مع بلادهم: البريد والتموين والنجدات العسكرية والأموال. أُلغِيت كل احتمالات العودة. بدت العودة إلى فرنسا — أمام الضباط والجنود — احتمالًا واهيًا. لم يَعُد نابليون يملك توقعًا للحاضر، ولا خططًا للمستقبل.

قال لضباطه في نبرة مهونة: لم يَعُد لدينا أسطول؟ حسنًا. فلنمُت هنا، أو نخرج عظماء مثل السابقين. ما حدث سيدفعنا إلى فعل أشياء لم نُعدَّ أنفسنا لها!

ووشى صوته بانفعال: ما حدث يحرضنا على أعمال مهمة. حلم إمبراطوريتنا العظيمة قائم، وعلينا أن نقرِّب يوم تحقيقه. نحن لم نَعُد سادة البحر، ولم يَعُد البحر بالتالي يصلنا بالوطن. لكن البحر لا يفصلنا عن آسيا وأفريقيا، ولدينا من الرجال ما يشكل نواة جيش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤