الباب الرابع

فصل

– اجلسي.

فاجأتها دعوته. اعتادت الوقوف عند الباب، حتى يتناول مختار طعامه. عيناها مثبتتان على عينيه تحاول التقاط ما ينوي طلبه، لتبادر بإحضاره. لا تجلس لتناول طعامها قبل أن تدلق ماء الإبريق على يديه فوق الطست، ويجففهما بالفوطة. ربما يظهر عطفه لأن أباها يقاسمه الطعام.

لم يَعُد مختار — منذ انتقاله إلى بيت المعلم شيحة — زوجًا لتغريد فقط. هو الابن الأكبر للعجوز، والرأي الذي يلي ما يقضي به العجوز. لا تقتصر ملاحظاته على الحجرة المطلة على حارة الزير المعلق، لكنه يتحرك في مساحة البيت، يلاحظ، ويطلب، ويلتقي الضيوف.

جلست. تنقَّلت نظراتها بينهما، وإن أطالت تأمل مختار ببشرته السمراء، وابتسامته الطفولية، وأسنانه المفلجة، ولحيته القصيرة المدببة، والقميص ذي التيل الأزرق، والكمَّين الطويلَين.

قال مختار: هل تعرفين بيت الشيخ البكري؟

– له بيوت كثيرة … بيت البارودي بباب الخلق … بيت عبد الرحمن كتخدا القازدوغلي بحارة عابدين …

قاطعها: بيت الجودرية.

– الذي تقيم فيه أم زينب؟

– زينب هي التي تهمني.

في دهشة: ما شأنك بها؟ هل أزمعت العين أن تعلو على الحاجب؟

– أيُّ عين وأيُّ حاجب يا تعيسة. البنت على صلة بالفرنسيين.

بصقت في عبِّها: يا لهوي!

– ضعي لسانك في فمك، ولا تقولي هذا الكلام لنفسك.

– ماذا يعنينا إن كانت تعرف الفرنسيين أو لا تعرفهم؟

في نفاد صبر: وماذا يعنيك من أي شيء؟!

ثم في لهجة باترة: أريد أن تترددي على بيت الجودرية ولو كدلَّالة … انقلي كل شيء إلى عينيك وعودي به.

– لمن؟

– لي طبعًا.

– إذا كانت تعرف الفرنسيين … ماذا تفعلون لها؟

– ما نفعله مع أصدقاء الكفرة.

تدخل أبوها لأول مرة: نفذي ما يطلبه زوجك يا تغريد.

كشف انفراج شفتيه عن خلو فمه من الأسنان، ما عدا سنتين في مقدمة الفم.

ظل أبوها في أيامها، حتى بعد أن تزوجت. سبقها إخوة — ثلاثة ذكور، وثلاث إناث — إلى بيوت مستقلة. لما أنقذه مختار الرمادي من طعنة خنجر غادرة، زوَّجه تغريد، وأخلى لهما الطابق الثاني. تصعد وتهبط بين طابقَي البيت. لا تبدي الضيق، ولا تتذمر. تكنس، وتمسح، وتطهو الطعام، وتغسل الثياب، وتُمرِّض أباها، وتساعده على تناول طعامه، وتبديل ملابسه.

كانت تناقش زوجها فيما يطلبه، لكنها لا تقوى على مناقشة أبيها. الأخذ والرد وإبداء الملاحظات. ما يقرره لا تستطيع أن تبدي فيه رأيها. قوله أمر لا تملك إلا تلبيته. إذا اتجه بعينَيه ناحية تغريد، أدركت أنه يطلب فنجان القهوة السادة. لا يحصي — ولا تحصي — ما يرتشفه من فناجين القهوة السادة.

لم تكن تغريد تكلمه قبل أن يبادرها بالكلام. أملى احترامه على الجميع. مختار وحده، كان يقوى على مناقشته. لا أحد يرد له أمرًا. ما يعترض عليه لا يُطرح ثانية، وما يقضي به ينفذه الجميع دون مناقشة، أو حتى السؤال عما يشوب المعنى من غموض. يتقبَّلون انبساطه في الكلام بحذر. ربما غلبه الانفعال. فنسي ما أخذ به نفسه من الهدوء.

الباب الخارجي يفضي إلى المندرة الواسعة، تشي بالقدم. في وسطها فسقية مياه لا تعمل. من حولها أرائك خشبية عريضة، تهرأ فرشها. يجلس فيها أبوها ومختار إلى زوارهما. السلم الجانبي المفضي إلى الطابق العلوي تآكلت أحجاره، وفي أسفله خزانة خشبية وصندوق. النشع يشكل تكوينات على السقف والجدران. النافذة الوحيدة، المطلة على المنور، تصدر ضوءًا شاحبًا.

اعتادت — وهي ترقب ما يدور في الحجرة المطلة على الخرابة الخلفية — إنصات الرجال إلى ملاحظات مختار. يلبون مطالبه بلا مناقشة. هي أوامر لا بد من تنفيذها. حتى أبوها يرفض أن يناقش الرجال أوامر مختار. من حقكم أن تختلفوا معه، ومن واجبكم أن تُخضعوا أفعالكم لتصوُّره.

أحست أن الموضوع خطير، ولا يحتمل نقاشًا. سكتت، واستعدت للمغامرة.

فصل

دخلت تغريد بيت الجودرية.

نزعت الملاءة والبرقع الشبيكة ذي القصبة الذهبية اللون. بدا أثره على أرنبة الأنف واضحًا.

رسَّاها مختار على ما يجب أن تفعله.

فضلت أن تدخل البيت تابعة، فلا تواجه سوء الظن. عرضت على حسنية الدلَّالة بضاعة تسوَّقها لها مختار من أسواق العصر وخان الخليلي والأزهر والحمزاوي وتحت الربع. وافقت حسنية أن ترافقها — صبية لا دلَّالة — إلى بيت البكري.

دخلت زينب.

تأملَتها: القامة الطويلة، الممشوقة، والشعر الفاحم، ضفرته في جديلة عقدتها فوق رأسها، والعينين الصافيتين، الواسعتين، المكحولتين، يعلوهما حاجبان خفيفان، والشفتين الرقيقتين، المكتنزتين، والبشرة المضخمة بالطيب. ترتدي قميص نوم واسعًا من القطن الأبيض، أزراره مقفولة حتى الرقبة، وتدس قدميها في مداس مغربي أصفر فاقع اللون.

وضعت البقجة الصغيرة على الأرض. قلبت زينب ما تناثر على المفرش: عقود من الزجاج، مناديل حريرية، خِمارات، أثواب، سراويل، مشغولات من الذهب والفضة، آنية فخار، صناديق مطعمة بالصدف.

– هذه أشياء من أسواق القاهرة.

– لا أقبل إلا ما يخصني به التجار.

وهي تومئ برأسها: إن كان عندك بضاعة من خارج البلاد هاتها لي.

قارنت بين ما ارتسم في ذهنها عن الحياة في بيت البكري، وما شاهدته. الستائر القطيفة تغطي النوافذ المطلة على الباحة الداخلية، والأبسطة والسجاجيد الأرمنية تكسو الأرض، وجلود الحيوان من أعماق أفريقيا، وحوامل القرآن من خشب الساج الهندي، والمرآة الهائلة تشغل معظم مساحة الجدار، والأرائك المزينة بالصدف، والخزائن، والصناديق المطعمة بالعاج، والدمقس الدمشقي، والحشايا اليمنية، والمساند، والموسلين الموصلي. وثمة سيدات البيت، والجواري، والخصيان، والخدم، وألوان الأطعمة والمشارب والعباءات البغدادية، وأقمشة الفسطاط، والأقمشة المطرزة بالقصب، والتحف والجواهر، واللآلئ الخليجية، وآلات الذهب والفضة.

قالت لأمها: لبِّس البوصة تبقى عروسة.

ومصمصت شفتيها: جمالهن بأدوات الزينة والملابس الأبهة.

قالت الأم: قولي هذا أمام أبيك فيقطع رقبتك!

استطردت دون أن تلتفت إلى ملاحظة أمها: لكن الست زينب — يشهد الله — جميلة ولا جميل إلا سيدنا النبي.

أعادت الحوار — بين زينب وبينها — على مختار الرمادي.

كان أبوها في جلسته على الكنبة، ينصت، ويكتفي بهز رأسه.

قال مختار: تريد أن تزغلل عين القائد العام ببضائع أجنبية.

قالت تغريد: هل هي على صلة بالقائد العام؟

– مصيبتك كثرة الأسئلة.

تدخل أبوها: نفذي كلام زوجك!

فصل

أعفاها مختار من انتقاء ما ترضى به زينب. عاد من أسواق القاهرة ببضائع مجلوبة من دمشق وحلب وطرابلس وبيروت وكريت ورودس وأزمير والبندقية ولشبونة وتريستا. اشترى لها أقمشة حريرية من سوق المغاربة وسوق الموسكي وخان الحمزاوي. حتى البقجة التي وضع فيها البضاعة اختارها مغايرة لما تحمله الدلَّالات.

عرضت على زينب بضائع راقية، تناسب ذوقها ومكانتها. اقتناها مختار من الموسكي. منسوجات قطنية وحريرية وكتانية وشيلان وجوخ. فردت بيديها أنواعًا نادرة من الحرير والموسلين والمخمل والعباءات المرصعة بالترتر والحلي، وقوارير العطور النادرة، والأحقاق المطعمة بالصدف والعاج والأحجار الكريمة، وبضائع أخرى من الهند الشرقية وأوروبا والقسطنطينية. عرضت أمامها بضائع لم تُحسن ترديد أسمائها بعد نطق مختار: جوخ دوفينيه، حرائر ليون، منسوجات بروفانس.

فصل

قالت تغريد: تستطيع أن تدخل بيت البكري.

قال مختار الرمادي: أنا؟

ورمقها بنظرة متوجسة: كيف؟

– أوصت الست الكبيرة على صندوق لحاجياتها.

– هل ترضى بصناعتنا؟

ربتت صدره بيدها: أنت معلم قد الدنيا.

– السادة يريدون خشب الأرز، وبضاعتنا تختلف.

– من يعرف؟

– العين الخبيرة تتبين نوع قطعة الخشب إذا كانت في حجم عقلة الصباع.

عرَف عنه أنه يجيد التفرقة بين خشب الزان والأبنوس والسنط والنبق والنخيل واللبخ والجميز والتوت والكافور والساج. مجرد تقليبه قطعة خشب صغيرة، تدله على نوع الشجرة التي اقتطعت منها. كان يصنع الأسرَّة والخزائن والصناديق. ثم فرغ لصنع الصناديق، مزينة بالفضة والصدف لحفظ الملابس والمجوهرات والأشياء الثمانية. دكانه تحت الربع. يلاصق الدكان نجارون وصنادقية. ربما صنع قباقيب الحمام من الخشب الثمين المنقوش بالصدف، المحلى بالفضة. يبيعها لتجار خان الخليلي.

أنست إليها زينب.

لم تَعُد تفاصلها، ولا تحاسبها. تدفع لها أكثر مما تطلبه. تأتي لها بما تشتريه من الثياب والأقمشة والعطور وأدوات الزينة. لا تلحظ — أو تهمل الملاحظة — أن الأشياء الجميلة يشتريها مختار من أسواق القاهرة.

أطالت التفكير. اختلطت في داخلها مشاعر التوقع والقلق والخوف والإشفاق.

نفضت رأسها من السؤال: هل ينوي مختار أذية زينب البكرية؟

فصل

مضى مختار الرمادي من طولون على ظهر حماره. سار في سكة المصلى، من قنطرة السباع إلى يمين بركة الفيل، حتى ميدان الرميلة.

قبل أن يمضي إلى البرادعي في شارع تحت الربع، المتفرع من ميدان باب الخلق، لمح المكاري خليل نفادي أمام باب العزب، أسفل قلعة الجبل. جعل الباعة الجائلون من الصخور — وسط الميدان — دعامات لعرباتهم. يبيعون التبغ وقصب السكر والحديد الخردة.

قال المكاري خليل: لولا العباءة التي تغطي بها وجهك لظننتك خليل الرمادي!

ثم وهو يفسح الطريق لحمار يواصل صاحبه لكزه بساقيه: جئت لاقتناء ركوبة من سوق الحمير.

واتجه إليه بنظرة متسائلة: هل تبحث عن بردعة لحمارك؟

لاذا بظل القلعة.

قال خليل: أقايضك … حمارك بحماري … وتدفع الفرق.

– من يدفع الفرق؟

استطرد دون أن ينتظر إجابة منه: حمارك يعاني الهزال، بينما حماري صحته جيدة.

– لماذا تريد الاستغناء عنه؟

في تصعب: ضعفت حركته.

– لماذا لا تجعله حمار جر؟

– أنت المكاري لا أنا.

– لن يقوى على جر العربة إذا كانت الحمولة ثقيلة.

– المشاوير لا تنتهي منذ قدوم الفرنسيين داخل البلد وخارجها.

وأومأ برأسه ناحية ثلاثة جنود فرنسيين على ناصية الميدان: إنهم يزاحموننا على ركوب الحمير.

واغتصب ضحكة: يركبون الحمير لغير سبب إلا الجري بها في الشوارع.

قال مختار الرمادي: تأخذ ثلاثمائة بارة.

أردف لنظرة الاستياء في عيني المكاري: أن تبيعني حمارك بالثمن الذي ترضاه أفضل من أن تبيعه بالثمن الذي يعرض عليك، أو لا تحصل على شيء بالمرة!

ثم بلهجة محرضة: الفرنسيون ينزلون الناس من على حميرهم، ويبيعونها في الأسواق!

استجاب معظم المكارية لنداءات الفرنسيين. كل من كان عنده بغلة يذهب بها إلى قائم مقام ببركة الفيل، ويأخذ ثمنها. رافق النداءات تخويف من أن الذي يتقاعس عن تسليم دابته، تؤخذ منه غصبًا، يزيد عليها ثلاثمائة ريال فرنسي، ولا يحصل على شيء بالمرة.

استطرد الرمادي بنبرة فاهمة: إنهم لا يكتفون بالنزهة. ينقلون بريدهم على ظهورها.

قال المكاري: يضاعفون الأجر … والبطر حرام.

قال مختار: نحن في حاجة إلى ما تسميه بطرًا. نريد وقتك.

– خيرًا.

مال برأسه ناحيته، وتحدث بكلمات هامسة.

وعلا صوته: يهمنا ألا يخذلك الحمار في المواقف الصعبة.

أعاد العبارة: المواقف الصعبة؟

غمز بعينه: ألا تواجه — أحيانًا — مواقف صعبة؟

تناول خليل نفادي من جيب السيالة علبة صفيح مثلثة. فتحها، وأخذ منها قطعة سوداء صغيرة. وضعها بين أضراسه، وأغلق فمه.

قال المعلم شيحة: لو أن صحتي تطاوعني، ما تركت هؤلاء الكلاب يؤذون الناس.

أزمع — في اللحظة التالية — أن يفعل ما يمليه حبه للمعلم، وواجبه نحو الغلابة والمنكسرين. تضايقه وجوههم التي تطالعه في كل الأماكن. حتى الأسواق علت فيها أصواتهم باللغة التي لا يعرفها. حتى المقاهي جلسوا فوقها يرتشفون القهوة. صار الرمادي — بذكائه وشخصيته — معلمًا لزملائه، ينصتون إلى أوامره، لا يوافقونه، ولا يخالفونه، أو يعترضونه. يقومون على إنفاذ ما يلقيه إليهم من الخطط، الأوامر كما يطلبها، ويبدون الحب والموافقة وعدم المخالفة. يوزعهم، يحدد لكل منهم المكان الذي يقف — أو يختبئ — فيه. يترصدون لجنود الفرنسيين، ومن يناصرهم، في الدروب والعطوف والخلاء. تعددت عملياتهم. تهاجم مخافر الجيش الفرنسي، وتقتل جنوده، وتدمر البيوت التي يقطن فيها قادته، وبيوت المتعاونين من المصريين والمماليك.

فكر في أن يتردد على خان أبو طاقية. يشتري لتغريد حلية ذهبية: قلادة، أو خلخال، أو سلسلة. له صداقات مع صاغة الخان. تذكَّر موعدًا في جامع محمد بك أبو الذهب، فاتجه إليه.

صعد السلم — مستندًا على درابزين الخرط — إلى الجامع، من الناحية المقابلة لجامع الأزهر. المئذنة ذات الطوابق الثلاثة، والشكل المربع، يعلوها خمسة رءوس تشبه الزلعة.

مضى إلى داخل الصحن المربع ذي الشبابيك الجصية، والمصنوعة من النحاس المتشابك، والزجاج الملون، والقبة المزينة بنقوش مذهبة، والمحراب المكسو بالرخام الملون والفسيفساء، والخردة المطعمة بالصدف، والقباب المحمولة على دعامات الحجر، والقبة الهائلة بنوافذها الحجرية، والأروقة المغطاة بالقباب الصغيرة، وأعمدة الرخام، والجدران المكسوة بالقيشاني المزخرف، وبلاطات الرخام والخزف.

كانوا عشرة يرتدون زي المجاورين. صنعوا ما يشبه الحدوة. تلاغطت أصواتهم بتلاوة القرآن. تبينوا مختار الرمادي. ردوا السلام، وعادوا إلى التلاوة.

تلفت — بتلقائية — فيما حوله. ثم سأل عن أبو المجد الهواري.

قال الشيخ المعتز بالله: إذا أردت أن تجده فهو في الكتبية.

وضم أطراف عباءته: إنه دودة كتب … معظم وقته يقضيه في القراءة.

قال مختار: نحن في حاجة إلى قوة العقل مثلما نحتاج إلى القوة الجسدية.

ولاح في عينيه أمل: أثق أنه سيدلُّنا على ما لم نفطن إليه.

وقال في تنبه: هل نلتقي في الأزهر؟

قال الشيخ: أنت هنا كأنك في الأزهر تمامًا. بُني المسجد ليستوعب ما يزيد عن استيعاب مساحة الأزهر من المصلين.

سار بجوار الأزهر. خلَّف وراءه جامع محمد أبو الذهب والوكالات التجارية والدكاكين الصغيرة المتلاصقة؛ غالبيتها لنساخين وباعة مخطوطات. مال من اليسار إلى شارع الأزهر. مضى من ناحية شارع البيطار، وبيت جمال الدين الذهبي، وحوض السلطان قايتباي، إلى وكالة قايتباي. بناية هائلة، مقامة حول فناء واسع مربع، في وسطه حوض ماء، ومن حوله مخازن مسقوفة بالحجر، فلا تتعرض للحريق. الشبابيك والمشربيات من الخشب المخروط تغطي الواجهة. مساقط الهواء موزعة على الفناء والزوايا والأركان. في الطوابق العليا يمضي التجار أوقاتًا من أيامهم، أو يستضيفون الغرباء والوافدين.

تطلع من النفق الضخم أسفل الوكالة إلى المئذنة القصيرة الصاعدة من أعلى الأزهر، ثم عبر مسافة الشارع إلى داخل الجامع.

اختلط بمجاوري الأزهر من السوريين والأكراد والفرس وعرب الحجاز واليمن والهنود والقادمين من إفريقية. شاركهم تناول جراياتهم. تردد على أروقة الحرمين، الدكارنة، الشوام، الجازة، السليمانية، المغاربة، السنارية، الأتراك، البرقية، الجبرتية، اليمنية، الأكراد، الهنود، البغدادية، البرابرة. حتى رواق العميان تردد عليه، وكون صداقات مع مجاوريه. يستند إلى الأعمدة. يطيل المكوث في رواق الصعايدة. عرف عنهم غلبة التعاطف والتكافل والمعاندة، وميلهم إلى الثأر، ورفض الذل والمهانة. إذا أدركه التعب، تمدد لصق الجدار، أو تحت أحد الأعمدة الهائلة في أركان الصحن، يضع البلغة تحت رأسه، وينام. يتفيأ ظلال الأنوار المبهرة، المتدلية من الأسقف، والمبثوثة في الأركان.

صار دائم التردد على سوق السلاح. تعددت زياراته للخلاء والصحراء، ولقاءاته بأرباب سيف وعمامة وحرفيين. وطد صلاته بالأغَوات الطواشية الذين استبقاهم الضباط الفرنسيون في خدمتهم. ينقلون له ما تراه أعينهم، وما يتناهى إلى أسماعهم. لا يفلتون شاردة ولا واردة، قد تفيده في رسم التصور الذي يبني عليه توقعاته، ويخطط لما ينبغي عمله.

كان يلجأ إلى الظلام والعطوف والأزقة. يتجه بنظره إلى الأمام لا يتلفت حتى لا يثير الريبة، يمشي لصق الجدران، يتجنب الشوارع الواسعة والميادين، يتوقع العين الراصدة والمطاردة والأذى. يتوقف عند أية وسوسة. ينصت لوقع أقدام تتبعه. يدرك أن الأعين تراقب الأماكن التي يتردد عليها. ليس كل المصريين المعلم شيحة، وليسوا كلهم خليل البكري.

•••

طالَعه السقا حميدة أبو قطة أمام سبيل أبو الذهب، عند وكالة الغوري. اتجه ناحيته بما لا يشي أنه يعرفه. همس بكلمات قليلة، ثم واصل السير.

خاف الناس على ما يملكون من الحمير. أخفوها داخل الدور. فضل السقاءون أن يحملوا الماء على ظهورهم، بدلًا من أن تنقلها الحمير، فلا يصادرها جنود الفرنسيين.

السقا له دوره فيما يفعل. يتجول بالقربة المحمولة على ظهره في الشوارع التي لا تستطيع الجمال دخولها، أو السير فيها. ينقل الأخبار من جولاته في البيوت، ويوزع التعليمات على المتعاملين مع جماعة الرمادي. يخبره الرمادي بنَص ما يردده في آذان الناس، يهمس به كأنه الدعاء، أو التمتمة. يمضي في داخل العطوف والدروب والشوارع الضيقة. تبطئ خطواته في المواضع التي يشتد فيها الزحام. يقترب من الناس، أو يقتربون منه. يتلقون منه الرسالة، ويعدون أنفسهم للحدث المرتقب. لم يكن ما يخطه بالطباشير على جدران البيوت — كما يبدو — بعدد المرات التي حمل فيها قرب الماء إلى كل بيت. كان يحدد ساعة اللقاء، أو موعد الخروج لعمليةٍ ما. ربما جعل من دابته علامة التهيؤ لما سيجري. رنين جرس يضعه في عنق الدابة. يقترب الناس منه، أو ينادون عليه بما يبدو كأنه العفوية. يكتفون بملء الأزيار، ما يقتصر على الشبر الواحد، أو أقل، أو يتظاهرون بطلب الشرب في كوب أو كوز. يكتفي السقا بذكر مكان اللقاء المرتقب، وموعده، ويمضي مخترقًا الأسواق والشوارع والأزقة.

فصل

قالت تغريد: زينب لا تذهب إلى بونابرت بمفردها. تصحبها امرأة فرنسية من حمام يلتقيان فيه.

قال مختار: ما اسمه؟ في القاهرة خمسة وأربعون حمامًا.

قال المعلم شيحة: حمامات الوجهاء قليلة.

قالت تغريد: لعل اسمه رزاق، أو عبد الرازق.

قال مختار: أظن أنه حمام مرزوق … حمام يقتصر على نساء الأغنياء.

وهي تهز إصبعها: هو ذاك.

فصل

لمح خليل البكري إمارات الفزع في عينيها: ماذا حدث؟

وهي تنفخ بفمها: أف! البيوت بقع في مساحات الخلاء … لكن الشوارع ضيقة، فلا تفي بمجرد مرور عربة يجرها جواد.

وهزت أصابعها في الفراغ: معظم الشوارع خصصت لسير البشر والبهائم … لا تكاد توجد شوارع لعربات تجرها الجياد.

روت لأمها — في الليلة نفسها — عن الرجال الذين اعترضوا العربة أمام جامع بيبرس الخياط، القريب من البيت.

العربة مغطاة بالستائر الداكنة اللون. لا يرى المارة من بداخلها، وإن استطاع من بالداخل رؤية الطريق من زيق الستارة.

أطل شاب يحيط رأسه بتلفيعة من الصوف. لا تبين إلا عن عينين أيقنت أنها رأتهما من قبل.

واجه خوفها بلهجة صارمة: كما ترين … نستطيع أن نعيد العربة إلى أبيك فارغة أو بها جثة.

قرب الخنجر من وجهها: لولا أنك امرأة لما ترددت في قتلك.

وأعاد الخنجر إلى غمده: سيكون القتل هو المتاح الوحيد لو أنك واصلت غيَّك!

أردف كالمتذكر: قولي لأبيك إنه ليس بريئًا من أفعالك.

ثم وهو يضغط على أسنانه: لا أحد في بيت الجودرية سيضمن حياته.

قالت الأم في فزعها: هل رأيت الرجل من قبل؟

– لم أرَ إلا عينيه. كأني رأيتهما من قبل.

– لماذا لم تخبري أباك؟ الخطر يهدده هو أيضًا … يهددنا كلنا.

– لو قلت له فسيطلب أن ألزم البيت … وهو ما لا أقوى عليه.

– لماذا؟

هزت كتفيها: لا أطيق حبسة البيت!

ألِفت الحياة خارج بيت الجودرية، يتبعها ثلاثة أو أربعة من الطواشين. لم تتصور أن آخرين يتبعونها. يعرفون متى تخرج، وإلى أين.

ظلت الأم حبيسة هواجسها. حديث جلسة العشاء أمس، ما حدث للتاجر بشر العجيلي. هجم الحرافيش على داره، ونهبوها. أخذوا ما في الدار من النقود وحلي النساء والأشياء الثمينة. قيدوا الرجل، وحملوه بعيدًا عن الدار.

ظهرت جثته — بعد أربعة أيام — في النيل، بالقرب من روض الفرج، منتفخة، ومتغيرة اللون، فهي أقرب إلى الخضرة. أما الملامح فقد تشوهت تمامًا.

سرت شائعات بأن الرجل دفع حياته ثمنًا للتعاون مع الفرنسيين. وتحدثت البلَّانة شفاعات عن رجل فاجأ صبري فكيه مزملاتي سبيل الست بنبة ببركة الفيل، وهو يمضي في ظلمة قبو قرمز. نخَّه إلى الأرض كما ينخ الجمل. جرى على رقبته بخنجر، فانبثق الدم، وعلت حشرجة الموت. قالت إنه كان يتخفى وراء عمله ليتجسس على المصريين، على ما يعده أهل القاهرة من تدبيرات وأفعال لمقاومة الفرنسيين؛ لتنغيص عيشتهم، ودفعهم للعودة إلى بلادهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤