الباب السابع

فصل

قدِم الشيخ المهدي إلى القاهرة، تسبقه دعوته وهزيمته للفرنسيين في أكثر من معركة.

كان للمهدي هيبة واضحة. يضع على رأسه عمامة ناصعة البياض، ويرتدي جبة من اللون نفسه. زُين حوافها بالذهب، وتدلت على الكتفين شراريب من الدمقس الأحمر، ويركب جوادًا عربيًّا يسر النظر. وكان طعامه يقتصر على لبن في قصعة، يغمس فيها أصابعه، ويمررها على شفتيه.

قيل إنه ليس من أهل مصر، وأن اسمه ليس المهدي. هو أحد أمراء المغرب الأقصى، واسمه مولاي محمد. قدِم إلى مصر، ضمن جماعة من أهل المغرب، للحض على الجهاد، ومحاربة الفرنسيين. دافعهم الغيرة الدينية. بثَّ أعوانه ومريديه في المدن والقرى، ينتظرون الإشارة لتلبيتها.

عُرف عنه الصلاح والورع وسعة العلم في أمور الدين، والعمل بأوامر الله ونواهيه. لجأ إليه الناس في قضاياهم وخصوماتهم وأنكحتهم. يقضي بينهم، ويُفتي في الدعاوى التي يضعونها بين يديه. وكان يتحرى أحوال الفقراء والمعوزين، وتطييب خواطرهم وإسعادهم. شمل الكثير من المحتاجين بعطفه وبره. وكان يصف للمرضى ما يهديه علمه من الأعشاب الجبلية، والمراهم التركيب، والعنبر الهندي.

أظهر الزهد عما في أيدي مريديه ومحبيه. تستغرقه رياضاته ومجاهداته، ويقبل على النوافل والسنن كأنها فرائض، ويتجنب المكروهات كأنها محرمات، ويحرص على الاجتماع بأتباعه ومريديه، والاتصال بسائر الناس، مهما تتفاوت ظروفهم ومكانتهم.

اعتقد الكثير من الناس في كراماته، وأحسن رؤساء الطوائف الظن بولايته. نفى ما أشيع عن قدرته على إجادة لغات الملائكة والجن والطير والوحوش والأسماك والحشرات والهوام، وتسخير الجان، وممارسة السحر، وكتابة الوصفات والأحجبة، وإن انتشر بين الناس أنه عمر وقته كله بالذكر، وترجل في مراتب الأسماء الإلهية. بدأ بالكشف، وإحصاء علوم الشريعة وعلوم الحقيقة، وانتهى بمرتبة التجليات الإلهية. لا يأكل ولا يشرب، ويحصل على قوته من السماء، وراجت الأقوال والروايات عن كراماته ومعجزاته وخوارقه؛ فالنظرة الرافضة إلى الفرنسيين تحيلهم ترابًا، وقذائف المدافع ترتد إلى من يطلقها، وطلقات الرصاص لا تخترق أجساد من يشملهم بدعواته وعنايته.

لم يَعُد من ملجأ إلا القوة والثورة.

التفَّ عليه أهل البلاد، وطائفة من المغاربة، وجماعة من الحجازيين. قتلوا — في دمنهور — ستين جنديًّا فرنسيًّا من الفيلق الملاحي. غنموا مدفعًا، وضعوه على مركبة تجرها الثيران، وتمكنوا — بواسطته — من إلحاق الخسائر الفادحة بالفرنسيين، حتى ردوهم إلى الرحمانية. انتقم الفرنسيون من أهل دمنهور لاتباعهم أوامر المهدي، وتمردهم على جند القائد العام. ألقى أعوان المهدي بأنفسهم أمام مدافع الفرنسيين. يقينهم أن إلقاء المهدي للتراب على قنابل الفرنسيين يبطل مفعولها. حصدت المدافع المئات، لكنهم — باليقين الذي سيطر عليهم — شكلوا ما يشبه الموجات. زاد عدد القتلى على الألف من مريدي المهدي وأعوانه. أخضع عسكر الفرنسيين المدينة للقتل والنهب والسلب والتدمير، حتى احترقت عن آخرها. اختفت من الوجود تمامًا. هي مجرد أطلال، وبقايا حرائق، وبشر ميتون. غاب الرجل في الصحراء، يتبعه عدد من مريديه، يرافقهم الإيمان بكرامات المهدي، وقدرته العجيبة على فعل ما يشبه السحر.

تخلى مختار الرمادي عن حذره. عرض أن يكون — ومن أقنعهم بالخروج على الفرنسيين — ضمن الرجال الذين يُعِدهم للثورة ضد الفرنسيين. عهد بهم الشيخ المهدي إلى معلم مغربي، تعلموا على يديه أساليب مراقبة الفرنسيين، ومتابعتهم، ونصب الكمائن، والإغارات، والانقضاض، والطعن بالمُدى، والسكاكين، والخنق.

عرض المعلم عيد حنكش التاجر بالغورية، أن يحصل أهل المناطق حول القلعة على ما يحتاجون إليه من قطع الحجارة. يقذفون بها قوات الفرنسيين. تشغلهم عن هجوم أهل القاهرة بالبنادق والطبنجات والسيوف والرماح والبلط والهراوات والعصي. عمله في المحجر خلف القلعة. يدق الحجارة البيضاء بالأزميل والقادوم، يحيل قطعها الهائلة إلى قطع مستطيلة، صغيرة، يصقلها، يُعِدها للبناء.

قال الشيخ المهدي: هل يضربوننا بالبمب والرصاص، فنرد عليهم بالحجارة؟

قال عيد حنكش: مجرد وسيلة لإلهائهم، فيتمكن الرجال من مهاجمتهم.

– إن كان هذا فلا بأس!

فصل

خرج مختار الرمادي — للمرة الأولى — وراء السيدَين المهدي وبدر المقدسي — مع فتوات الحسينية، وأعداد من المغاربة، وخلق من العامة، في نيتهم الجهاد ضد الفرنسيين. رددوا الهتاف: «نصر الله دين الإسلام، ولعن الكفرة اللئام.»

لم تكن المعركة — هذه المرة — بين المماليك، فيغلق الرمادي دكانه لأنها لا تعنيه. الأمر اختلف. لا مماليك في المعركة، ولا زعيم حقيقي لقيادة الثورة. ثمة أولاد ناس وتجار وزعر وحرافيش وجعيدية وأوباش، خرجوا للثورة ضد الفرنسيين. جاءت الأخبار بأن المماليك انكسروا على البر الغربي، وأن العثمانية هربوا على البر الشرقي. لم يصدق الناس أن المماليك والعثمانية يهزمون بهذه السهولة. غلبت الحيرة الناس لساعات. ثم تناثرت الهمسات بأنه على أهل القاهرة أن يحاربوا الفرنسيين، وإن لم يَعُد يرافقهم مماليك ولا عثمانية.

ابتدع الفرنسيون ديوانًا جديدًا، وشرعوا في وضع قانون جديد لأمور البيع والشراء والمعاملات والمواريث والزواج وغيرها من الأمور الشرعية والفقهية. توفروا على دراسة كيفية إدارة المقاطعات والأراضي والعقارات والبيوت والخانات والدكاكين والطواحين والوكالات والربط. طالبوا الناس بتقديم ما يثبت امتلاكهم لما بحوزتهم من دُورٍ وأراضٍ. فرضوا الضرائب على الدُّور والعقارات والدكاكين والخانات والربط. حتى الأضرحة والمقابر لم تسلم من الضرائب الباهظة. أوشكت الضرائب أن تشمل ترددات الأنفاس. سبق ذلك قرارات أخرى، مست الناس في صميم حياتهم: إزالة البوابات التي تفصل أحياء المدينة بعضها عن بعض، إلزام أصحاب الدكاكين بإضاءة مصابيح الشوارع — أمام دكاكينهم — طيلة الليل، هدم الكثير من البيوت ومسجد لتسهيل استحكامات القلعة، وضع المزيد من المدافع أعلى القلعة وتصويب اتجاهاتها نحو المدينة.

تحدَّث الناس عن خيانة أعضاء الديوان، وأنهم لا يستحقون المكانة التي خصهم الناس بها.

اشتد الأمر على أهل القاهرة مما وقَّع عليهم من ألوان الظلم والقهر والإذلال، جمعوا أمرهم على محاربة الفرنسيين. ضجَّ الناس لكثرة الضرائب والمكوس والأحكام التي يصعب قبولها. التقت أعداد منهم، وتناجَوا فيما آلت إليه الأحوال. وافقهم على ما ينتوون مشايخ المساجد والزوايا. انشغل الناس بتدبر ما يجري، وما يبين في الأفق من توقعات قاسية. نزل شيخ صغير السن من الأزهر. راح ينادي في الشوارع والعطوف والدروب المحيطة: كل مؤمن موحد بالله، عليه بجامع الأزهر، اليوم لا بد لنا من أن نغازي مع الكفار!

علت الصيحات: لقد آن أوان القيام على هؤلاء اللئام؛ فهذا وقت الانتصار للإسلام. دعا المؤذنون الناس — في أوقات الصلاة الخمس — إلى الثورة على الفرنسيين!

تجمع الناس في الطرقات والميادين، وعلى أبواب الجوامع والمساجد. التحم العلماء والمجاورين وأئمة المساجد والمؤذنين والصوفية والدراويش وأرباب الحرف والطوائف. شارك أوساط الناس وميسورو الحال. انضم إليهم الحرافيش والأوباش والجعيدية والزعر والغوغاء والهباشة. حملوا السيوف والمساوق والبيارق الخضراء والنبابيت وعصي الحديد. حمل بعض أفراد طوائف الحرفيين ما يتصل بحرفهم من أدوات: الفئوس والمطارق والبلط والمعاول والقواديم.

حضر السيد بدر المقدسي وصحبته فتوات الحسينية، وأهل العطوف البرانية ومغاربة الفحامين وباب الوزير والحطابة والحبَّالة والرميلة وعرب اليسار وابن طولون ووكالة قاضي البهار.

مضَوا إلى أحياء وسط البلد: البندقانيين وباب زويلة والحمزاوي وباب الشعرية وباب الفتوح وباب النصر والبرقية والرميلة. نصبوا الخيام، ولاذوا بالجوامع والمساجد والزوايا، وجمعوا النقود التي ينفقون منها على أمور حياتهم. أغلق أبواب دكاكينه تجار الطرابيش واللبد والأبسطة والأكلمة وقلوع المراكب وتطريز الحرير والجوخ والموسلين والأواني الزجاجية والأحذية وسروج الخيل وصناعة الحصر والقفف وتبييض النحاس والحدادة والخراطة وأعمال العاج والكهرمان، وأغلقت المقاهي أبوابها. اعتزموا الجهاد، وانطلقوا إليه متحزبين.

تفرقوا في معظم أخطاط القاهرة، من باب الفتوح وباب النصر والبرقية، إلى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما جاورها. وضعوا حصونًا خشبية ومتاريس على نواصي الشوارع وتقاطعاتها. حفروا الخنادق. كوَّموا أكياس التراب وقطع الحجارة فبدت كالجدران الصلدة. أقدموا على فك المصاطب أمام البيوت والدكاكين. جعلوا منها متاريس في مداخل الشوارع والحواري والأزقة، لإعاقة جند الفرنسيين عند تحريك مدافعهم في داخل المدينة.

وقف خلف كل متراس عدد من الرجال، يحملون كل ما استطاعوا تخزينه من السلاح وآلات الحرب. نبشوا الأرض، وطلعوا بمدافع مدفونة فيها. صنعوا المدافع في موضع أقامه عثمان كتخدا في بيت قائد أغا بخط الخرنفش، وصنعوا البنادق والمسدسات. خلعوا أسوار المساجد والجوامع. صهروها في المسابك، وأنشئُوا معامل للبارود. خلت القاهرة من كل صنف جديد. عُني أرباب الحرف بإقامة المتاريس، وصنع الحدادون القنابل، وعملوا على تشغيل المدافع. صنعوا من كل ما وصلت إليه أيديهم من قطع الحديد، خناجر وفئوس وبلط ومطارق وغدارات وسيوف ودبابيس وخناجر وقطع حديد وأحجار. ثبتوا الأرصاد في النوافذ، وأعلى الأسطح، وداخل الدكاكين والمقاهي، وفوق المآذن، وأعلى تلال الدراسة.

تهيئوا للمقاومة. انضم إليهم فتوات الحسينية والمئات من التجار وأرباب الحرف. اختلطت أصوات المؤذنين بهتافات الناس، تدعو إلى الجهاد. قدِم الأهالي من طريق الأهرام وبلبيس. نفَذوا من أبواب زويلة والفتوح والنصر والبرقية والقنطرة والفرج وسعادة والباب المحروق والباب الجديد وباب الشعرية. تزايدوا فبلغوا أكثر من خمسة عشر ألفًا، تجمعوا في داخل الأزهر، وفي المناطق المحيطة. تكوَّنت لجنة لإدارة الثورة، اتَّخذت الجامع الأزهر مقرًّا لها، واختارت من الشيخ السادات قائدًا للثورة.

دفع كبار المياسير والتجار نفقات الأكل والشرب. قدِمت جماعات من المغاربة والشوام بالسلاح والمؤن. تتقدَّمهم الصيحة: نصر الله دين الإسلام.

ساروا إلى بيوت وجهاء وقضاة وأعضاء في الديوان. رجموا الواجهات بالحجارة والطوب. هاجموا دار مصطفى الكاشف بالدرب الأحمر. كان يسكنها الجنرال المهندس كافارلي قائد الوحدة الهندسية، والبعثة العلمية الفرنسية. حطموا ما كان يستعمله من أدوات ومعدات وأجهزة علمية. نهبوا ما في الدار، وقتلوا المهندسين ترفينون ودوفال.

حاصروا بيت قاضي العسكر، ولم يُمكِّنوه من الهروب. خاف القاضي العاقبة، وأغلق أبواب البيت، وأوقف حجابه. انهال الرجال عليه بالحجارة والطوب حتى قضى. امتد الهرج والمرج إلى باب الفتوح وباب النصر والبرقية وباب زويلة وباب النصر والبندقانيين. اتجهت الجموع ناحية بيت القاضي. هو المكان الذي يلتقي فيه من يريدون التعبير عن أحوالهم، ويجأرون بمطالبهم. أجبروا القاضي على ركوب جواده ليسبقهم إلى مقر الأركان العامة. أشفق القاضي على نفسه من الزحام الشديد. همَّ بالعودة إلى بيته، لكن المتمردين أسقطوه عن الجواد، بعد أن ضربوه بالحجارة والعصي.

واصلوا السير إلى الأزهر والمشهد الحسيني. موضع آخر اعتادت المسيرات الغاضبة أن تلتقي فيه. علت الأصوات بتلاوة الفاتحة، وبالقَسم أن ينصر الله دين الإسلام.

قتل المتمردون من وقع في أيديهم من عملاء الفرنسيين، أو من عملوا في خدمتهم. هجم على بيت البكري بالأزبكية أعداد من أهل القاهرة. نهبوا البيت، وعرُّوا خليل البكري عن ثيابه، واقتادوه مكشوف الرأس، مع عياله، سائرين على الأقدام من الأزبكية إلى وكالة ذو الفقار بالجمالية. ثم وضعوا على رأسه طرطورًا من الورق، وأركبوه حمارًا بالمقلوب، وشيعوه بأغنيات التشنيع ومواويل الهجاء، ونادَوا في الشوارع والأسواق: هذا جزاء من يتعامل مع الفرنسيين.

رفض المعلم شيحة أمر مختار الرمادي بأن يجزَّ الرجال عنق الشيخ. مكانته الدينية تحميه من الإعدام. حين مثُل الشيخ في مجلس عثمان كتخدا، أظهر كتخدا انزعاجه، وقبِل شفاعة الوجهاء والعلماء، وأطلقه بعد أن أشرف على الهلاك. أخذه التاجر أحمد محرم إلى داره. أسكن روعه، وألبسه ثيابًا، وأكرمه، وألزم نفسه بتدبير ما يحتاجه.

أكد جودة نحنوح صمت الشيخ البكري عما كانت تفعله ابنته، وأنه رأى قرني الشيخ البكري في جانبي رأسه وهو فوق الحمار.

قال جودة نحنوح: لو كانت المرأة تطلب العز فأبوها غني … ولو كانت تطلب المتعة …

وأشار إلى صدره: نحن أولى بالمعروف!

اتجه الجنرال الفرنسي ديبوي على رأس عدد من جنوده إلى دار الشيخ الشرقاوي للاستفسار عما يجري. لم يجِد الشيخ في بيته. واصل سيره إلى بيت القاضي. التقى بالمتظاهرين في شارع الغورية. لم يحب القاهرة منذ لحظات لقائه الأولى بها. رأى فيها مدينة قذرة، وفقيرة، وسيئة البناء. بيوتها أشبه بأكواخ كريهة، يحيا فيها سكان بؤساء، والشوارع تتنفس الطاعون، والأغنياء وحدهم هم الذين يتمتعون ببعض أسباب الراحة. وكان لا يخفي شوقه للعودة إلى فرنسا.

لولا أن ديبوي أطلق — دون تدبر — رصاص طبنجته الكبيرة، ربما ما اشتعلت الثورة. خرج الناس لدعوة الديوان إلى إلغاء الضرائب، لم يوسعوا حدود التصور إلى أبعد من إظهار الغضب. لم يكتفِ ديبوي بما فعل. شهر سيفه، واندفع — مهددًا — ناحية المتظاهرين. دفعه شيخ بعصًا في صدره. مد فخري المطيعي حارس كنيسة مار جرجس يده. مزق سترة الجنرال ديبوي العسكرية. عضته امرأة من عطفة الفقوسة في ساعده. اتجهت إلى صدر الجنرال طعنة خنجر نافذة، فقتلته. تذوق العامة طعم الدماء. بادروا إلى جند الفرنسيين، ضربوهم، اختلط رجم الحجارة وضرب العصي والسيوف ورشق السهام والطعن بالسكاكين. قتلوا غالب الطائفة، أو أثخنوا جراحاتهم.

في فجر اليوم التالي، كان معظم أبواب القاهرة في أيدي الثوار. فتحوها لأهالي الضواحي والمدن والقرى القريبة والبعيدة. دخلوا المدينة يحملون البنادق والرماح والعصي. أقام الثائرون الحواجز في مفارق الطرق المؤدية إلى جامع الأزهر. تسلحوا وراءها بالبنادق والبلط والهراوات والسيوف والرماح. امتدت سيطرة المصريين إلى كل أحياء القاهرة، فيما عدا القلعة، وميدان الأزبكية، وثكنات الكتائب الفرنسية، ومباني المجمع العلمي، كل منها يبعد — بمسافة — عن المواضع الأخرى.

امتد الهياج إلى رشيد والمنزلة وأسوان ومدن أخرى. وترددت أسماء عمر مكرم والشرقاوي والمحروقي والخضري والبشتيلي والصاوي ومحرم والفيومي والعريشي والأمير السرسي. ظلت أحياء القاهرة الخارجية — وحدها — على هدوئها.

انضم مختار الرمادي والذين معه إلى المتمردين دون أن يعنوا بالسؤال عن الرئيس الذي يخطط، والقائد الذي يأمر إذا كان السيد عمر مكرم، أم السيد بدر المقدسي، أم شخصية أخرى لا يعرفونها. ذابوا في جموع البشر من أولاد الناس وطوائف الحِرف والزعر والحرافيش. غاب التدبير والتنسيق. أظهرت العفوية ملامحها، لكنها بدت عكس ذلك تمامًا. تساءل الفرنسيون عن القائد والمدبر لكل ما يحدث.

قدِمت أعداد هائلة من عسكر الفرنسيين، فاضطرتها آلات الحرب في أيدي المصريين إلى التراجع.

قال الكابتن جوزيف ماري مواريه: يبدو أن مصر كلها تحارب ضدنا!

اتخذ الفرنسيون أوضاع الاستعداد للقتال. عزلوا أحياء القاهرة، كل حي عن بقية الأحياء. أزالوا أبواب الشوارع والحارات، كيلا يتحصن بها المتمردون. وضعوا على النواصي متاريس وجندًا يمنعون الدخول والخروج إلا بإذن. نصبوا المدافع والقنابر والبمبات على تلال البرقية والقلعة. وفي القلاع والأبراج، وعلى نواصي الطرقات. اتجهت فوهاتها إلى الأحياء الثائرة، وانتظروا أمر قائدهم العام.

في العصر، أصدر بونابرت أمره. انطلقت قذائف المدفعية والبنادق من القلعة وأبراجها ومغازلها على المدينة في أسفل، تصيب البشر والدور بلا تدقيق. يثق القائد العام أن نجاح الثورة كان بداية اشتعال النيران في كل المدن المصرية. بدا العنف وسيلة وحيدة، صارمة، لدرء الأخطار المحتملة.

تتابع الرمي من الجانبين: آلات الفرنسيين من فوق تلال البرقية والقلعة، المدافع والقنابير والبمبات. ومن الجهة الثانية قطع الحجارة والطوب.

لاذ الناس بالجامع الأزهر، يدعون الله ليدرأ الخطر عن القاهرة.

انهالت القنابر والبمبات على الجماعات والبيوت والحارات. لم تميز القذائف بين الجوامع والدور والأسواق. اشتد الضرب — كأعنف ما يكون — ضد جامع الأزهر وما جاوره من أماكن المحاربين كالغورية وسوق الفحامين والصنادقية والحمزاوي ودرب المبيضة وزقاق المسك. التصق الفزع بأجساد العامة من هذه الحرب التي لم يرَوا مثلها من قبل. رأوا ما لم يروه في حياتهم، فنادَوا: يا سلام من هذه الآلام … يا خفي الألطاف نجِّنا مما نخاف!

اشتد الرجف والزلزال، وتزعزعت الأركان، وأصمَّت البنايات الآذان بصوتها الهائل، وهدمت جدران البيوت والوكائل. انتظر الناس توقف القذائف، أو الموت.

لما طال الضرب، خشيت الأم على دجاجاتها. صعدت إلى السطح بطبق الذرة. أعادها إلى السلم صوت انفجار بدا كأنه هدم البيت القريب.

كان الشيخ المقدسي يتنقل بين المصابين في المعارك، في يده كتاب الله، يقرأ منه عليهم، ويتلو الأدعية، ويواسيهم، ويصف لهم من الطب النبوي ما يواجهون به ما يعالج جراحهم.

حاول المشايخ البكري والسرسي والمهدي — يرافقهم جنود — أن يقنعوا المتمردين بالعودة من حيث أتوا، لكن الناس واجهوهم بالصياح والتسخيف والشتائم، ورفعوا ما بأيديهم يريدون تأديبهم.

لاذ المشايخ بمسجد إسكندر باشا القريب.

أمر القائد العام بقطع رءوس من يسقطون في الأسر وبأيديهم أسلحة، وإلقاء جثثهم في النيل، ما لا يقل عن ثلاثين مصريًّا في كل ليلة، وبحرق البيوت التي تُلقَى منها الحجارة. وأمر بأن يدخل الجنود الأزهر تحت حماية المدافع. يقتلوا كل من يجدوه داخل الجامع، ويحرقوا الدور التي تُلقَى منها الحجارة على جنوده.

دخل الفرنسيون المدينة كالسيل. توزعوا في الشوارع والعطوف والدروب والأزقة، كأنهم الشياطين أو جند إبليس. هدموا ما وضعه أهل البلد من المتاريس، واخترقت جماعة منهم باب البرقية إلى الغورية، ثم اقتحموا الجامع الأزهر مشاة، وعلى ظهور الخيل. تفرقوا بصحنه ومقصوراته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا المصابيح والقناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزائن، ودشتوا الكتب والمصاحف، وطرحوها على الأرض، وداسوها بأرجلهم ونعالهم، وأحدثوا فيه، وتغوطوا، وبالوا، وتمخطوا، وشربوا الشراب، وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه وجوانبه، وكل من صادفوه به عروه، وأخرجوه من ثيابه. وأصبح يوم الثلاثاء، فاصطف منهم عدد أمام باب الجامع. كل من حضر إلى الصلاة يراهم، فيعود. تفرقت جماعات الجند في أرجاء المكان. اتخذوا السعي والطواف به منهاجًا، وأحاطوا به إحاطة السوار، ونهبوا بعض البيوت بدعوى التفتيش على المسروقات والأسلحة وأدوات الضرب. وخرج سكان الناحية، من بيوتهم، ولاذوا بالفرار إلى غير مكان.

صمتت الثورة.

استشهد من المصريين بضعة آلاف، وقتل من قوات الفرنسيين نحو ثلاثمائة جندي. انتهكت ساحة الأزهر بعد أن كانت أشرف البقاع التي يرغب الناس في سكناها، ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الفقد، ولم يكن الفرنسيون يمرون بها إلا في النادر، ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر، ثم تغيرت الأحوال. اقتحموا الأسواق، ووقفوا صفوفًا متتالية؛ فإن مر بهم أحد فتشوه، وأخذوا ما معه، وربما قتلوه، ورفعوا القتلى والجرحى من الإفرنج والمسلمين، ووقف جماعة من الفرنسيين، ونظفوا مراكز المتاريس، وأزالوا ما بها من الأتربة والأحجار المتراكمة، ووضعوها في ناحية لإفساح الطريق. وتوجه إلى القائد العام جماعة من نصارى الشام، وجماعة من الأروام الذين انتهت بيوتهم بالحارة الجوانية. شكَوا إليه ما لحقهم من الأذى. وأرسل القائد العام برطلمين للعسس على من حمل السلاح أو نهب، وبث أعوانه في الطرقات، يفتشون المارة. يلقون القبض على من يشكون فيه، أو يقتلونه.

أمر القائد العام بالقبض على رءوس الفتنة. شدد على إهمال المكانة. ألقى القبض — في اليوم نفسه — على الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، والشيخ أبو شعير، والشيخ عبد القاسم. حبسوهم في بيت البكري، ثم نقِلوا إلى قلعة الجبل. أودع الفرنسيون جماعات أخرى من المحبوسين في بيت البكري. ظلوا بها حتى أخذهم الجنود إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز، ثم إلى قلعة الجبل. قتلوهم، وألقوا جثثهم خلف أسوار الجامعة. تردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين، فغولطوا. اتهم الفرنسيون إبراهيم أفندي كاتب البهار بإيواء جماعة من المماليك في داره، وإعطائهم الكثير من الأسلحة والمساوق والعصي. قُبض عليه، وسُجن في بيت الأغا، ثم نُقل — مع آخرين — إلى سجن قلعة الجبل. لم تُقبل فيهم شفاعة. قُتلوا، وأُغرقت جثثهم في النيل، أو دُفنوا بمعرفة الفرنسيين حتى لا يُعرف لهم مكان. نالوا من الشيخ سليمان الشواربي، قتلوه، ونقلوه إلى قليوب. دُفن في مقابر عائلته. انتشرت الأخبار بأن عمر مكرم والمحروقي فرَّا — مع الجيش العثماني — إلى بلاد الشام.

سحب القائد العام ريشته، وعدل عن التوقيع على قرار تقديم الشيخ محمد أبو الأنوار، شيخ السادات، للمحاكمة. هو يعلم، يثِق، أنه المتزعم لثورة أهل القاهرة. لكن المحاكمة تجعل الرجل في موضع الشهادة أمام المصريين. تولى خلافة آل السادات ومشيخة سجادتهم في عهد علي بك الكبير. جمع بين العلم وشرف النسب. لما قدِم الفرنسيون إلى مصر لم يتعرضوا له، ولا حاولوا مضايقته أو أذيته، واعتبروه شخصًا عالي المقام. زاره القائد العام، وقبِل شفاعته.

قال الجنرال كليبر: كيف لا نقضي بإعدامه وهو زعيم الثورة؟

أدرك القائد العام أن منزلة الشيخ بين المصريين دافعه لرفع راية الرفض ضد وجود الفرنسيين.

قال نابليون: إن إعدام مثل هذا الشيخ لا يفيد الفرنسيين، بل يؤدي إلى عواقب وخيمة.

سحب جنود الفرنسيين المئات من أهل البلد موثوقين بالحبال في أيديهم، ومضَوا بهم إلى السجون. طالبوهم بالمنهوبات، وسألوهم عن السلاح وآلات الحرب، وقرروهم بالعقاب والضرب. وكان المسجون — من شدة الألم — يدل على غيره حتى لو لم يكن فعل شيئًا، ولا خرج فيما حدث. وذبح الكثير من الناس، وألقوا بهم في النيل، ومات في يومين أعداد لا تُحصى، وطال بالكفرة بَغيهم وعنادهم، ونالوا من المسلمين فوق ما أرادوا. وفي يوم الأربعاء ركب المشايخ والعلماء جيادهم، وذهبوا إلى بيت القائد العام. خاطبوه في العفو، والتمسوا منه أمانًا كافيًا وعفوًا ينادى به باللغتين العربية والفرنسية لتطمئن قلوب الناس.

انتهرهم بونابرت، ووبخهم، وعنفهم على تأخرهم، واتهمهم بالتقصير. لم يَعُد يطمئن إلى تصرفاتهم الدمثة، وعباراتهم المتوددة. أذهله تحوُّل المصريين من الهدوء إلى العنف في معارك الطرقات. إنهم خاضعون في العلن، وأبعد ما يكونون — في الحقيقة — عن الخضوع.

قال: يُهمني أن أعرف من وقف وراء إثارة العوام.

قال الشيخ البكري للمترجم: هي فورة وليدة وقتها.

نقل نابليون نظرته بين البكري والمترجم: نحن نعرفهم بالواحد.

قال الشيخ الصاوي: الناس ترجو إخراج الجند من داخل الأزهر.

اختلجت شفتاه: لا تعوزكم الوقاحة أيها الأوغاد الجبناء!

وشب بصدره إلى الوراء: إن المتهمين في إثارة الفتنة لا بد أن يُحاسَبوا.

وغلبه الانفعال، فعَلا صوته: لا بد من إرشادنا عن المتهمين الذين أضرموا نار هذه الفتنة.

قال الشيخ الشرقاوي: إن عفوتم فلا تسألوا عما فات.

قال بونابرت في انفعاله: إن لم تذكروهم لي الساعة فإني لا أعفو عنهم أبدًا.

واتجه إليهم بعينَين تومضان بالغضب: اعلموا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل منكم، لأنني أعرف أحوال الشخص، وما انطوى عليه بمجرد رؤيتي له، وإن كنت لا أتكلم عما يضمره.

ثم في نبرة متوعدة: سيأتي وقت يظهر لكم فيه — بالمعاينة — أن كل ما فعلته، وحكمت به، هو حكم إلهي لا يرد!

قال الشيخ الشرقاوي ليخرج القائد العام من غضبته: هل تأمرون بإخراج العسكر من الجامع؟

وهو يشيح بيده: فليخرجوا!

أمر القائد العام، فأعلن عن منح الأمان للأهالي. كفَّ الجند عن الضرب، لكن أهالي الحسينية والعطوف أصروا على القتال، لا يستهدفون مجرد الدفاع عن أنفسهم ولا ذويهم، وإنما يستهدفون دحر الفرنسيين إلى خارج البلاد. ظل السيد بدر المقدسي وأهل الحسينية وراء المتاريس، يواصلون إطلاق الرصاص حتى فرغ البارود، فكفُّوا عن القتال.

دانت الغلبة للفرنساوية. هجموا بقضِّهم وقضيضهم. استخدموا كل ما بحوزتهم من أسلحة، وأعملوا القتل والنهب.

لم يَعُد إلا بنايات محترقة، ودُور قوضها التدمير. مات الآلاف من سكان الأحياء القريبة من الأزهر تحت الأنقاض، وامتلأت الشوارع والدروب والعطوف بالأوصال المقطعة، والرءوس المجتثة، والدماء المتناثرة.

قال الشيخ عبد الله الشرقاوي: نهب الفرنسيون من الجامع الأزهر أموالًا كثيرة. ظن أهل البلد أن العسكر لا يدخلونه، فحولوا فيه أمتعة بيوتهم!

أصدر المشايخ بيانًا يدعو أهل القاهرة للهدوء، ويعتبر الثورة من فعل الجعيدية وأشرار الناس.

هل لأن المصريين أرادوا خروج الفرنسيين، أصبحوا — في زعم المشايخ — من الأشرار؟ وهل وصفوا القائد العام بأنه رجل كامل، عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة للفقراء والمساكين؛ لأنهم يتمنون البقاء في وظائفهم، وأن يظلوا في عضوية الديوان؟

حتى الدين، استثمروه بالقول إن الله تعالى يؤتي ملكه من يشاء، ويحكم بمن يريد، وعلى أهل البلاد أن يحفظوا أوطانهم، ويطمئنوا على عيالهم وأديانهم!

فرض الحذر نفسه. كل جانب يخشى الجانب الآخر، ويتوقع أذاه. لم يَعُد جنود الفرنسيين يتركون أسلحتهم. يعطون انتباههم لكل تصرف مهما يبدو عفويًّا، أو بريئًا. غاب الناس عن الأسواق — من أنفسهم — بين غروب الشمس وشروقها. لم تُفلح حيلة الفرنسيين حين عاودوا التظاهر باللطف والمودة. أيقن الأهالي أن الأفعى لا يمكن أن تبثَّ إلا سمًّا. نظر الأهالي للفرنسيين بعين الاحتقار. أنزلوهم عن درجة الاعتبار. كشفوا عن نقاب الحياء معهم بالكلية. تطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية. لم يتركوا معهم للصلح مكانًا، حتى فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال، ويمشون بهم فِرقًا وطوائف حسبة، وهم يجهرون، ويقولون كلامًا مقفًى بأعلى أصواتهم، كقولهم: الله ينصر السلطان، ويهلك فرط الرمان!

أرَّخ أهل القاهرة لأيامهم التالية بما جرى في ذلك اليوم. ما قبل وما بعد. حكايات البلد، والناس، والحكايات الشخصية.

فصل

صدر أمر القائد العام بتعويض الشيخ خليل البكري عما سلبه النهابون. أصدر أوامره بحظر خروج أهل البلد من دورهم، وتطلب من التجار أن يغلقوا الدكاكين، وتهدد كل من يخالف بالإعدام أو السجن. طافت دوريات عساكر الفرنسيين شوارع القاهرة، ولزمت الوقوف على النواصي، يمتطون الجياد أو مترجلين. اعتاد الناس صوت إطلاق الرصاص في الليل والنهار، والمتاريس يقف وراءها — للتفتيش — جند الفرنسيين.

في يوم الأحد، توجه المشايخ إلى بيت القائد العام. تشفعوا عنده في المحبوسين ببيت البكري والأغا والقلعة.

نقل المترجم قوله: وسعوا بالكم ولا تتعجلوا.

وانصرف المشايخ.

رفض القائد العام كل الشفاعات التي رفعت إليه لإطلاق سراح من أودعوا بيت البكري. أمر بقتلهم، وإغراق جثثهم في النيل، في المسافة ما بين بولاق ومصر القديمة.

نودي في الأسواق بالأمان، ولا أحد يشوش على أحد، وإن ظلت أعداد هائلة من أهل البلد والشطار والزعر في داخل السجون. واستمر إلقاء القبض على المشتبه فيهم.

فصل

لم ينعكس ما فعله الفرنسيون من اقتحامهم ساحة الأزهر، ودخولهم الجامع على جيادهم، ووطء أرضيته الطاهرة بالأحذية وسنابك الخيل. وربط الخيل في القبلة، وكسر دواليب الكتب، وطرح ما بداخلها من المصاحف ونفائس الكتب والمخطوطات … لم ينعكس ذلك كله على ملامح المعلم شيحة بالغضب، ولا حتى مجرد الحزن.

قال في نبرة هادئة: الجامع من بيوت الله، وعلى من دنَّسه أن يتحمل مغبَّة ما فعل!

ثم بتعمد لفصل الحروف: كل ما علينا أن نصلي صلاة استخارة لنعرف ماذا يأمرنا الله!

قال مختار الرمادي كالمنتبه: لم أرَ السيد بدر المقدسي بعد ما حدث.

قال المعلم شيحة: قيل إنه سافر إلى جهة الشام.

وتراقص على شفتيه ظل ابتسامة: يبدو أنه أشفق على نفسه من مصير قتلى القلعة.

أردف في نبرة مهونة: كلٌّ يبذل قدر استعداده!

فصل

توالت الطَّرقات على باب البيت. بمجرد أن أدارت تغريد المزلاج، تدافع جنود فرنسيون شهروا أسلحتهم. أهملوا صرخة تغريد الخائفة. جاوزوها إلى داخل البيت. المعلم شيحة يتربع على الأريكة، والأم على باب حجرة نومها، فزعة من الطَّرقات.

أسكت المعلم شيحة صرخة تغريد بشخطة غاضبة. ظل الخوف في عينَيها وهما تتابعان حركة الجنود داخل الدار. تناثروا في القاعة. صعدوا إلى الحجرات العلوية والسطح. هبطوا إلى البدروم. وقفوا على الباب الرئيسي، وفي أيديهم البنادق.

لم يظهر المعلم شيحة الضيق، ولا التأثر، حتى لعمليات التفتيش التي شملت البيت بكامله. اعتاد — في داخل البيت — سماع وقع سنابك الخيل، أو أقدام الجنود. يحدس أن الحملات تفتش عن الحرافيش الذين يتصدون لجند الفرنسيين بالسلاح. يتوقع طرقاتهم على باب البيت، أو اقتحامهم له.

كان يتصدر صحن الدار. يستند براحة يده على عصًا من خشب السنط. يتأمل حركة الجنود بعين صاحية، ساكنة. يعلو صوته بنداء، أو ملاحظة.

همست تغريد: هل يفتشون عن مختار؟

لكزها بقبضة يده في كتفها: لماذا يفتشون عنه؟

ورماها بنظرة ساخطة: لا أحد سيؤذي مختار إلا لسانك الذي سأقطعه … اخرسي!

تدرك ما يفعله مختار من قبل ترددها على بيت البكري بالجودرية. تناديه من وقفتها وراء الباب في الطابق العلوي. قد يكون منشغلًا بالحديث مع ضيوفه في القاعة التحتانية — ألِفت وجوههم — فلا ينتبه لندائها، ويواصل كلامه. يتأخر بعد موعد إغلاق الورشة، لا يلزمها بانتظاره. تُعِد له العشاء، وتصعد إلى حجرتهما. تروح في النوم، لا تشعر به وهو يتمدد على السرير بجوارها. طلب منها مختار أن تتردد على بيت البكري، وتخبره — وحده — بما تراه. جاوزت الحدس إلى التيقن من أن جلسات الطابق الأرضي تُعِد شيئًا ضد الفرنسيين.

قالت الأم: ما له مختار؟

قال المعلم شيحة: لا شيء!

وأشاح بيده: فليبحثوا عما يريدون، ويذهبوا إلى حال سبيلهم!

آخر ما تبينوا وجوده، قبو تحت الأرض ناحية درب المزينين في جامع الأزهر. يتجه بتعرجات إلى تلال الدراسة. سدوا القبو من بدايته، ومن نهايته. شقه الجنود بهدف القبض على الفاعلين. اكتشفوا مسالك أخرى فرعية، مضى فيها العامة إلى حيث لا يدري أحد.

تحدث الناس في قعداتهم داخل البيوت، وعلى المقاهي، ومصاطب الدكاكين، عن حكايات الشطار مع جيش الفرنسيين. تبارَوا في رواية ما بلغهم من أفعال الشطار وخفاياهم. تحدثوا عن الشاب ذي القدرة على الحياة في الخفاء والستر، داخل الأقبية والمغارات والكهوف والحجرات المغلقة. إجادته تسلق الأسوار والجدران كأنه العنكبوت. وعرف عنه إتقانه لفنون الحيلة وأحابيل الخداع.

أبدى رواة السيرة وعازفو الربابة عجبهم لإصرار رواد المقاهي على أن تستعاد حكايات علي الزيبق، وما فعله ضد الكلبي ودليلة المحتالة. يهملون تدخين القنب، واحتساء الشربات والقهوة، ولعب الضامة والشطرنج والمنجلة، ومشاهدة خيال الظل، والثرثرة. يهللون لرؤية شاعر الربابة، يتوقعون الحكايات والسيَر التي تطرد السأم المتنامي داخل النفوس.

قاطعوا الراوي في قهوة بحبح بالمناصرة. طالبوه بأن يستبدل حكاية علي الزيبق بسيرة الهلاليين.

لم يتحدث الجنود عن بواعث التفتيش. ظلوا صامتين، وشاهرين لأسلحتهم. توزَّعوا بين الحجرات، في الطابقين الأرضي والعلوي، وفي دورة المياه والحمام والمطبخ. حتى الباب المفضي إلى الخرابة الخلفية، عالجوه حتى انفتح.

فتشوا في الخزائن المفتوحة، وتحت الكنبات، والأريكة التي يجلس المعلم شيحة فوقها. بعثروا ما في الخزائن والثياب المعلقة على المسامير المثبتة في الجدران. قذفوا بالقدور النحاسية والمغارف والمواعين. كسروا جرار الزيت. حطموا آنية الفخار. دسُّوا سيفًا في جوال الدقيق بحثًا عن السلاح بداخله. لم يشغلهم انسكاب الدقيق على الأرض.

قال ضابط نحيل الجسد وهو يشير إلى صندوق لصق الجدار: أين المفتاح؟

تلفت المعلم شيحة يغالب مخاوف لا يدري كنهها. اختلطت التصورات في رأسه وتشوشت. دسَّ يده في جيب الجلباب. أخرج منديلًا، مسح به حبات العرق النابتة في جبهته.

أخرجت الأم مفتاحًا من سيالة العباءة الواسعة السوداء. عالج به الضابط قفل الصندوق حتى انفتح. كانت الأم تحتفظ في داخله بأحجبة وعقود وسلاسل من الذهب والفضة، ومناديل حريرية، وقصاصات ورق، ومفاتيح.

فصل

عمليات التمرد أربكت القائد العام. تجاوزت القاهرة إلى الكثير من المدن المصرية: تحوَّلت دمنهور إلى مركز للمقاومة. تصيد الفلاحون الرسام جولي من رحلة لأعضاء اللجنة العلمية في الدلتا. لم يستطع الفرار، فقُتل. قاد الشيخ حسن طوبار مئات المقاتلين في المنطقة بين دمياط والمنزلة والمنصورة. شنوا الهجمات على السفن الفرنسية التي استقلها الجنود في النيل، وأبادوا حراس المخافر، وتعددت المعارك بينهم وبين قوات الفرنسيين. كان الشيخ طوبار ملتزمًا لكل عمليات الصيد في بحيرة المنزلة. يمتلك أسطولًا كبيرًا من مراكب الصيد، قوامه خمسة آلاف مركب، وعددًا من مصانع نسج القطن، ومن المتاجر. وكانت له عقارات كثيرة، وأراضٍ مترامية المساحة. اقتحم الفرنسيون المنزلة، واستولَوا عليها. سيطروا على منطقة البحيرة بأكملها. لجأ طوبار — وأسرته — إلى غزة. تصدى الأهالي في المنصورة لكتيبة من ١٢٠ جنديًّا. قتلوا ثلاثة، وطاردوا الباقين في الخلاء، فلم يفلت منهم إلا العدد الأقل. اعتصم شيخ العرب سليمان الشواربي في الجبل الغربي. ظل يناوئ عساكر الفرنسيين، وينصب لهم الكمائن. قتل أهالي قرية علقام ستة عشر جنديًّا فرنسيًّا في كمين. أمر القائد العام بحرقها، ومصادرة ما فيها من ماشية وغلال، واقتياد العديد من أعيانها إلى السجن. وقع الجنرال مينو في كمين، نصبه له أهل قرية شباس عمير، فأحرقها — انتقامًا — عن آخرها. لقي الجنرال لانوس مقاومة شديدة من أهالي سلامون وسرسنا، لكنهم أفلحوا في قتل الشيخ أبي شعير، ونهبوا داره ومتاعه وبهائمه، وقتلوا عائلته وأسرته، عدا ولد صغير جعلوه شيخًا بدلًا من أبيه. تمكن العربان في المنصورة من إبادة الحامية الفرنسية. أكثر من مائة وثلاثين جنديًّا.

امتدت ثورات العربان إلى سنباط وميت غمر ودنديط وميت الفرماوي. خرج أهل قريتَي تلا وغمرين التابعتَين لمركز منوف. قتلت قوات الفرنسيين خمسمائة رجل وامرأة قبل أن تدخل غمرين. قتل أهالي عزبة البرج كل من تصادف وجوده في بلدتهم من القوات الغازية. بالبنادق والعصي، رد أهالي أبو زعبل قوات الفرنسيين إلى الخانكة، وقتلوا كل من حاول المقاومة. انسحب من بقي من الفرنسيين إلى المطرية والمرج، وانتهى فرارهم في القاهرة. قتل أهل بردين في الشرقية خمسة من جنود الفرنسيين، وجرحوا غيرهم، بينما لاذ الآخرون بالفرار. اقتحمت قوات الفرنسيين القرية. أحرقوها، وقتلوا من الأهالي ما يزيد على الثلاثمائة. في «سدمنت» تواجه الفرنسيون من ناحية، وأهل القاهرة والمماليك من ناحية ثانية. طلقات الرصاص والمدافع قابلتها الهراوات والبلطات والمسدسات والغدارات. قتل من المماليك والمصريين ما يصل إلى أربعمائة، بينما قتل من الفرنسيين ثلاثين قتيلًا.

رفع الشيخ الكيلاني — من مجاوري مكة والمدينة — راية الجهاد ضد امتلاك الفرنسيين أمور مصر. تبعه خلق كثيرون. انضم إليهم في الطريق من الحجاز إلى الصعيد أعداد من أهل الصعيد، ومن الترك والمغاربة. زحفوا على جرجا. لاقوا هناك قوات الفرنسيين، ودارت معارك متتالية. وعاقب القائد العام أهل قرية السالمية — على ضفة النيل — لقتلهم ثمانية فرنسيين، كانوا يحملون رسائل من كليبر إلى القائد العام. تعرضت للهجوم سفينة للفرنسيين تقطع المسافة بين رشيد والقاهرة. تعددت أحكام الإعدام ضد الثائرين في رشيد. بدَّل الرواة وشعراء الربابة من السير والحكايات. أضافوا وحذفوا. عكسوا ما يجري في المدن والقرى، وعلى ضفاف النهر، وفي الخلاء والصحراء وداخل الزراعات، وفي ميادين القاهرة وشوارعها ودروبها وعطوفها وأزقتها.

لم يكن ذلك ما خطط له بونابرت، ولا توقعه. تباعدت المسافة بين ما سُجل على الأوراق والواقع. لم يتصور أن حكومة الإدارة ستهمل إغاثته بعد تدمير الأسطول الفرنسي في أبو قير. توقع المدد من الرجال والمؤن والسلاح. تفاقمت المشكلات بما لم يكن يتصوره. حصار الإنجليز للسواحل المصرية، انتشار تمرد المصريين في المدن والقرى، لا يهدأ تمرد، حتى ينشب آخر. مناوشات مماليك مراد بك في مصر العليا، تقلص أعداد الجنود والعتاد فلا يستطيع أن يضيف إليها أو يدعمها على أي نحو، نفاد الطعام من المعسكرات، تبليغات الأعين بخيانة جوزفين، الأنباء السيئة المتوالية، عن تدهور الأوضاع الإدارية في باريس، هزائم حكومة الإدارة المتوالية حتى حاصر التهديد كل حدود فرنسا.

صدرت أوامر القائد العام بمنع الناس من الكلام في أمور الحكم، ومن التعبير عن الفرحة أو الشماتة، إذا شاهدوا جندًا من الفرنسيين جرحى أو فارين.

قال الكابتن جوزيف ماري مواريه: لو لم يتحطم الأسطول في أبو قير، كنا قد أبحرنا عائدين إلى الوطن.

أضاف من بين أسنانه: صورت لنا الحملة على مصر فاصلًا ترفيهيًّا. لم يخطر في أذهاننا ما نعانيه.

كتب القائد العام، في مذكرة يرد بها على الاستقالات التي رفعها إليه الكثير من ضباط الحملة: «ليس في نيتي أن أحتفظ في الجيش برجال لا يقدرون شرف زمالتي في السلاح. فليذهبوا، وسأيسر رحيلهم، لكنني لا أريدهم أن يُخفوا دوافع رفضهم مشاركتنا الجهود والأخطار بدعوى الإصابة بأمراض شتى. نحن — في المقابل — لن نخاطر بإشراكهم في أمجادنا الحالية والمقبلة.» وأملى على سكرتيره لإدارة باريس: «كل شيء هنا يجري على ما يرام، والبلاد كلها تحت سيطرتنا، والشعب أخذ يألفنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤