الباب الثامن

فصل

حين أعلن الرسل قرب وصول موكب القائد العام إلى القاهرة، هلل — لقدوم الموكب — من جمعهم الشيخ خليل البكري، وعدد من التجار وأرباب الحرف وأرباب الصنائع. دخلت الكتائب — من باب النصر — دخول الظافرين. نثر في طريقها سعف النخل. زينت المحال بالشقق والحرير والزردخان والتفاصيل الهندسية. أوقدت المصابيح والشموع ومنارات المساجد. عملت المغاني والمزامير في العديد من الجهات. حملت مواكب الصوفية البيارق والخرق والطبول والزمور. عرضت في ميدان الأزبكية ما حصلت عليه الكتائب من غنائم. شق الموكب المدينة، حتى بلغ قلعة الجبل. ضربت المدافع من الأبراج تحية له، وهو يصعد إلى أعلى القلعة. اكتفى أهل القاهرة بالرؤية الصامتة وهم وقوف على جانبَي الطريق.

أهدى البكري بونابرت جوادًا عربيًّا، سرجه مزين بخيوط الذهب واللآلئ والفيروز، وأمسك بمقوده مملوك البكري الشاب روستان. أهداه البكري هو أيضًا إلى بونابرت، وأهدى القائد العام جيادًا أخرى، عليها سروج فاخرة، وجمالًا، وسيوفًا مرصعة بالجواهر، وسجاجيد، وشالات من الكشمير، وعباءات، وزجاجات عطر، ومجامر بخور.

أُلقيت خطب الترحيب، والفرحة للانتصار. ما قاله بونابرت أمام قلعة عكا: أفل نجم حظي السعيد، نقله الضابط برتيه إلى ضباط الحملة في الشام، نقلوه إلى ضباط الحملة في القاهرة، نقلوه إلى معارفهم من المشايخ. عرف خليل البكري أن نابليون هُزم في سورية. ربط حياته بمصير الرجل، فلا سبيل إلى التراجع.

كان الأميرال نلسن قد عاد إلى الإسكندرية في أول أغسطس. واجه أسطول الفرنسيين في معركة أبو قير، وتحطم أسطول نابليون تمامًا. حوصر جنود الفرنسيين في مصر، فانقطعت صلة الفرنسيين ببلادهم. لم تَعُد المملكة الشرقية في حوزة اليد، ولا هي التي يسهل إنشاؤها، ولم يَعُد أمام بونابرت إلا أن يوسِّع دوائر سيطرته، فيمتلك سورية. أزمع أن يستولي على سورية، ويقضي على دولة الخلافة العثمانية، ثم يعود إلى أوروبا بطريق بر الأناضول. جمع الديوان. تحدث إلى أعضائه عما يأمله من الحملة. أهم المزايا تنمية التجارة. حدد مدتها بما لا يزيد عن الشهر.

قال: عليكم ضبط البلد والرعية مدة غيابنا، ونبهوا مشايخ الأخطاط والحارات. كل كبير يضبط طائفته فلا تحدث فتن مع العسكر.

أصدر ساري عسكر أوامره إلى دوجا حاكم القاهرة، بأن يطلق النيران من كل القلاع، إذا حدث شغب. يحرق المدينة بلا تردد!

بدأت الحملة على سورية، قوامها اثنا عشر ألف ضابط وجندي، عانوا نقص الكثير من المعدات والذخيرة والمؤن، حتى الأدوية والأحذية والملابس والنقود، أشياء كثيرة كانت الحملة في حاجة إليها. وعانوا حرارة الجو، وندرة الماء، قرصات البعوض، والحمى، والخوف من المجهول.

استولت الحملة على قلاع العريش وغزة والرملة ويافا. كان السيد عمر مكرم قد ارتحل عن القاهرة بقدوم الفرنسيين إليها. صارح أقاربه وأصدقاءه ومريديه أنه لن يعود إلا على جهاد. ظل في العريش شهورًا، حتى قدِم إليها بونابرت على رأس جنوده في ١٧ فبراير ١٧٩٩م. لجأ عمر مكرم إلى يافا. اقتحم الفرنسيون المدينة. أعملوا السيف في كل من له وجه إنسان. ظلوا يقتلون، ويذبحون، يومًا كاملًا. بلغ عدد من ماتوا — ضحى اليوم التالي — أكثر من ألفي طفل وامرأة ورجل، بالإضافة إلى هتك الأعراض والسلب والنهب والإحراق والتدمير. سبقت عودة القائد العام أنباء قتل الأسرى. أكثر من ألفين وخمسمائة عسكري وافق على قتلهم بالحراب للنقص في طلقات الرصاص. ارتفع في ساحة القتال هرم مرعب من القتلى، ومن المشرفين على الموت.

كان نابليون حريصًا — ربما للتخويف — أن تصل أنباء ما حدث إلى القاهرة. أضاف إليه بيانًا — بالعربية — يبلغ فيه سكان المدينة أنه لم يترك في عكا حجرًا فوق الآخر، وأنه يمكن للمرء أن يسأل عن المدينة التي كانت في هذا المكان؟!

لحق القائد العام السيد عمر مكرم في المدينة. أرسل في مقابلته. كانت المدة التي قضاها بونابرت في الحياة المصرية قد وضعت يده على قيم الرجال ومكانتهم. وجد نابليون في عودة عمر مكرم إلى القاهرة ما يطمئن به قلوب المصريين، ويكسب ودهم. هو يعود من المنفى الذي لم يفرض عليه، فهو يطمئن إلى حكم الفرنسيين، فيطمئن كذلك أهل البلاد.

أمر نابليون بإرجاع عمر مكرم إلى مصر محاطًا بالاحترام.

أمضى في دمياط ثلاثة أشهر قبل أن يتركها إلى القاهرة. بلغها في الثالث من صفر ١٢١٤ه، الموافق السابع من يوليو ١٧٩٩م.

حاصرت قوات الفرنسيين قلعة عكا. نصبت من حولها المتاريس والطوابي، وحفرت الخنادق، وبدأت في ضربها بالمدافع والقنابل. بعث القائد العام الكثير من الكتب، تشيد بانتصاراته، وبترحيب أهالي البلاد التي وصل إليها بقوات الفرنسيين. وقال في أحد كتبه: «عند وصول كتابنا هذا إليكم نكون قد ظفرنا بقلعة عكا. وأما إقليم الشام، وما يلي عكا من البلاد، فإنهم لنا طائعون، وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون، يأتوننا بكل خير عظيم، ويحضرون إلينا أفواجًا بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم. وهذا من فضل الله علينا، ومن شدة بغضهم للجزار باشا، ونخبركم أن الجنرال يونون انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام، خيالة ومشاة، فقابلهم بثلاثمائة عسكري بيادة من عسكرنا، وانتصر عليهم، وأوقع منهم نحو ستمائة نفس.»

ما فعله نابليون بقتل ثلاثة آلاف جندي أسرى من الشوام والأتراك، أحدث رد فعل لم يتوقعه، حين أمر بالفعل الشرير. اعتزم من احتموا بقلعة عكا أن يواصلوا الدفاع، لا يلقوا السلاح حتى لا يواجهوا مصير الأسرى الشهداء.

تولى أحمد باشا الجزار نفسه تجهيز جنوده داخل القلعة، وتزويدهم بما يحتاجون إليه من الذخائر وآلات الحرب والمئونة.

قال نابليون لأحد ضباطه: لو استطعت أن أستولي على عكا، فسأنصب نفسي إمبراطورًا على الشرق، وأعود إلى باريس عن طريق القسطنطينية!

حمل جند نابليون — عشرات المرات — على القلعة، وأبراجها، وأسوارها، ووضعوا السلالم عليها. لكنهم دحروا بعد أن أبيد غالبيتهم. وحين أفلح بعض جند الفرنسين في التسلل — تحت جنح الظلام — إلى المتاريس والطوابي خارج القلعة، ونفذوا إلى الداخل. واجههم جنود المسلمين بنيران المدفعية، وبالسيوف، وفجروا لغمين كبيرين كانوا قد أعدوهما، فتحولت الأرض من حول الفرنسيين إلى جحيم.

أضاف الأسطول الإنجليزي إلى إضعاف الحصار على قلعة عكا، حين أغرق — في مينائَي عكا وحيفا — ما تبقى من سفن الأسطول التي أفلتت من النيران، وظلت بعض السفن الإنجليزية راسية في مينائَي عكا وحيفا. استمر حصار عكا أربعة وستين يومًا. عرض بونابرت الهدنة لسحب قتلاه، وتبادل الأسرى. لكن الجزار باشا طرد مبعوثي بونابرت، وأمر بمواصلة القتال. تكررت محاولات التسلل، وتكرر إخفاق الفرنسيين، وبلغ عدد قتلاهم ألفًا ومائتي جندي، وجزَّت رءوس القادة والضباط، ومات بالطاعون حوالي الألف، بثور ودمامل تحت الإبط، أو في الجزء الأملس من البطن، بقع قرمزية اللون، أو جمرات حمراء على الساقين. تنفجر الدمامل. يخرج منها كميات هائلة من القيح، ثم يأتي الموت.

حمل الأطباء تعليمات بأن يشخصوا الطاعون على أنه حمَّى مصحوبة بدمامل، فمن السهل شفاؤها. من تُسول له نفسه أن ينشر الخوف في نفوس الجنود بتسمية الطاعون، لا يستحق أن يكون مواطنًا فرنسيًّا، ويحق عليه العقاب.

بلغ عدد المرضى والجرحى بحالات خطرة حوالي الألفين والثلاثمائة جندي. لم يَعُد أمامهم إلا تفجير ما تبقى في حوزتهم من ذخائر، والتخلص من أمتعتهم، ودفنوا في الرمال ما عجزوا عن حمله. ثم لاذوا بالفرار إلى غزة، ومنها إلى مصر.

أجبرت الخسائر قوات الفرنسيين على العودة إلى مصر في العشرين من مايو ١٧٩٩م. أمام عكا تبدلت الأمور. أضاف إلى المأساة ما قاله «دوجا» نائب القائد العام في رسالة من القاهرة: «إننا نفتقر هنا إلى المال، والمال، والمال، وإلى الرجال والذخيرة والخشب والسلاح وصداقة السكان.» تحولت حياة بونابرت إلى ما قبل، وما بعد. تسللت الأكاذيب حتى في أوامره إلى جنوده: «والآن وقد وطدنا أقدامنا في قلب سوريا ثلاثة أشهر بحفنة من الرجال لا أكثر، وبعد أن هدمنا حصون غزة ويافا وحيفا وعكا، سنعود إلى مصر، وقد اتخذت قرار العودة مضطرًا لتوقعي إقدام العدو على إنزال قوات هناك.» أردف قراره بالانسحاب، قرارًا غير معلن بأن يجعل هزيمته انتصارًا دعائيًّا.

امتطى القائد العام جواد البكري المهدى إليه. مضى الموكب إلى مقر إقامة بونابرت في قصر الألفي، من حوله أتباع البكري والتجار والحرفيون، وطلقات المدفعية تطلق قذائف الفرحة في سماء القاهرة.

استقبل بونابرت أعضاء الديوان. ابتدرهم بقوله: بلغني شائعات الأعداء بأنني مت. حدِّقوا فيَّ جيدًا. هل أنا بونابرت أو لا؟

وأخلى وجهه لتكشيرة: لا بد أن نضع حدًّا للفتن التي يحاول بعض المشايخ في الجوامع إثارتها.

وسدد إليهم نظرة من اتخذ قرارًا: أريد من الأزهر أن يصدر فتوى تلزم الناس أن يقسموا يمين الطاعة لي.

تبادلوا النظرات في حرج. تمعن الشيخ الشرقاوي في وجهه، يتبين ما إذا كان يعني ما قاله: أن تطلب رعاية رسول الله الذي يحبك، وتريد من المسلمين أن يعيشوا تحت رايتك. وكما قلت فأنت لست مشركًا ولا وثنيًّا. لماذا إذَن لا تعتنق الإسلام؟

قال بونابرت: علامَ تبني عدم إسلامي؟

وأشار إلى البكري والسادات: هذان الشيخان يشهدان بإسلامي.

أردف في لهجة غاضبة: أشم رائحة تآمر لإبعادي عن دين الإسلام!

•••

ذهب السيد عمر مكرم إلى قصر الألفي. امتد غيابه عن القاهرة ثمانية أشهر، شهدت انهيار دولة إبراهيم ومراد، وتحطم أسطول الفرنسيين في أبو قير، وثورة القاهرة الأولى، وأحداث أخرى كثيرة، توالت فأخطأها العد.

لم يجد في لقائه بالقائد العام ما يصنع انفراجة باب بين المصريين والفرنسيين.

عاد إلى داره بنية الاعتكاف. لا يتصل بالفرنسيين، ولا بالمتصلين بهم من المشايخ أعضاء الديوان. اعتذر عن المشاركة — بأية صورة — في حكم البلاد. معنى المشاركة إقرار حكم الفرنسيين وتأييده. لم يدخل الديوان، ولا حاول استعادة المنصب الذي سلبه البكري منه في نقابة الأشراف. حين تولى نقابة الأشراف، لم يُظهر البكري الغضب، ولا مال إلى المعارضة من أي نوع. بدا كأنه امتثل للأمر، وإن كتم الحقد في نفسه أعوامًا، حتى قدِم الفرنسيون. أعادوا له ما يزعمه لنفسه من منصب ومكانة.

لم يحاول حتى تولي نظارة الأوقاف التي استمر حكمه لها سنوات. ولما أعاد له بونابرت بعض ما صادره من أملاكه، تعفف من أن يطالب القائد العام برد كل تلك الأملاك.

فصل

لن يتكرر ما حدث في أبو قير، ولا في الشام.

تلقَّى القائد العام أنباء الإنزال العثماني في أبو قير، وهزيمة الكتيبة الفرنسية ذات الثلاثمائة جندي، والدفاعات الضعيفة.

فاجأه ما لم يتوقعه. شمله القلق، وإن أخفاه بأوامر سريعة، بصوت هادئ، وتوقيعات غير مهتزة. إعادة تجميع الكتائب الفرنسية، تأمين مؤخراتها، تهدئة المصريين — أو تخويفهم — فلا تنشأ من جانبهم تصرفات تضيف إلى متاعب كتائبه.

جعل بونابرت مقر قيادته في قرية بركة غطاس بالقرب من دمنهور. عشرة آلاف جندي من كتائبه، وألف من سلاح الفرسان. هاجم المماليك والجيش الهمايوني من اليسار، عند الزحف على الإسكندرية، ومن اليمين عند السير في اتجاه النهر. توالت هجمات جنود الفرنسيين كالأمواج العالية، تهبط موجة، فتلحقها أخرى. شكل توالي الأمواج مدًّا دفع أمامه قوات الجيش الهمايوني المبعثرة في اتجاه البحر. ابتلعت المياه آلاف الجنود من الأتراك، ربما عشرة آلاف جندي أو أكثر. أغرقت ناقلاتهم قبل أن ينزل إلى ساحل أبو قير. وطفت فوق المياه آلاف القطع من أزياء جنود المماليك والعثمانيين. انتصر ذكاء القائد العام لكتائب الفرنسيين، وحسن تدبيره، على قتال العثمانيين العشوائي، وغياب الإعداد والتخطيط عند فرسان المماليك. أعلنت قوات الجيش الهمايوني استسلامها، بعد أيام من بداية المعركة.

عوَّض النصر الفرنسي هزيمة عكا، محاها تمامًا. احتضن كليبر قائده — ولم يكن يخفي ضيقه من تصرفاته — وهتف: أيها الجنرال، اسمح لي أن أقبلك. أنت كبير مثل العالم! بل إن عظمة العالم ليست بالقدر الذي يساوي عظمتك!

حتى هزيمة الأسطول الفرنسي في المدينة نفسها — قبل سنة — شحبت، تلاشت، كأنها لم تكن.

دعا القائد العام أعضاء الديوان. حدَّثهم عن ذكر العلوم والفنون في القرآن الكريم. لامهم على تقاعسهم عن رد الشائعات التي نالت منه، ومن الجيش الفرنسي. قال إن أرصاده أبلغوه بدعواتهم المعلنة لأن يواجه الهزيمة.

طاف عليهم بنظرة جامدة: لو أن ما تمنيتموه قد تحقق؛ فإن دق أعناقكم هو المصير الذي كان ينتظركم!

وتقلصت راحته على مقبض السيف: هذا ما كنت قد أمرت به.

وعلا صوته متسائلًا: كيف شككتم في نصري؟ لقد أكدته لكم قبل رحيلي، وكان لا بد أن يكفيكم هذا. أعلم ما يدخره الله لي جيدًا، حتى إنني من عشرة آلاف رجل اصطحبتهم معي إلى أبو قير لم أستخدم سوى ثلاثة آلاف فقط، وكان فيهم الكفاية لهزيمة جميع الخونة وقتلهم.

أخذه الغضب، فراح يتكلم بلا توقف. تحشرج صوته. اختنقت الكلمات في حلقه. غمغم بما لم يفهمه هو نفسه.

كان الشيخ الشرقاوي على ثقة أن الفرنسيين يختلفون عن المماليك. يسمي المماليك أنفسهم «المصرلية». أما الفرنسيون فليسوا إلا محتلين. قاد تمردًا شعبيًّا ضد المماليك حتى اضطرهم إلى قبول السير في الناس سيرة حسنة، وانجلت الفتنة. هل يستطيع أن يقود التمرد نفسه ضد الفرنسيين؟ أليست المعاملة الشنيعة التي واجهتها ثورة القاهرة تحذيرًا، فلا يُقدِم على قيادة ثورة ثانية؟

قال الشيخ لنفسه: سيظل بونابرت غريبًا وكافرًا، ما لم يثبت اعتناقه الإسلام. قاطع القائد العام: سيدي الجنرال. لقد وعدتنا بأن تصبح مسلمًا؟

قال القائد العام: لم أعدكم بشيء. مع هذا فأنا مسلم. وربما كنت كذلك أكثر منكم … لكن إذا لم تغيروا من سلوككم هذا فسوف أعود للمسيحية عقابًا لكم!

ثم وهو يهز إصبعه: سوف أجعل ما قيل يمر هذه المرة … لكن تذكروا أنها الأخيرة.

يثق أن الكذب يتجاوز حديثه عن الإسلام إلى تأكيد الانتصار في أيامه الحالية، وفي المستقبل.

هزم محاولة إنزال العثمانيين في أبو قير، لكن القرار الصعب ظل لائحًا أمامه. ذوى حلم الدولة الشرقية. صار في قبضة المستحيل. حسم قراره حين تلقى من حكومة الإدارة في ٢٦ مايو ١٧٩٩م رسالة تقول: «عليك أيها المواطن الجنرال أن تنظر فيما إذا كان بوسعك أن تترك في مصر — باطمئنان — جزءًا من قواتك. في هذه الحالة، فإن حكومة الإدارة تخوِّلك أن تعهد بقيادتها إلى من تراه مناسبًا.»

فصل

نقل السقا حميدة أبو قطة إلى مختار الرمادي ما أشيع في الأسواق من وجود علامات بوصول قريب لجيوش عثمانية. أطال بونابرت زيارة إلى بيت شيخ السادات. نفى الشيخ ما أثاره بونابرت من وجود رسالة بعث بها العثمانيون. تجمَّع المئات من أهل القاهرة أمام بيت السادات. يظهرون انزعاجهم على الشيخ. تناثرت الأقوال، وإن تلاقت في أن القائد العام يخشى من تمرد المصريين، وأنه — خوفًا على حياته — سيعتنق دين الإسلام. وقال بيرم الغندور السقا بسوق الجمعة إن بونابرت طلب من الشيخ السادات تصريح أمان لمغادرة مصر. وحين تعالت الأصوات — فجأة — عند خروجه من البيت، سأل نابليون وهو يتجه إلى عربته. بدَّل المترجم تلاوة الناس للفاتحة، إلى أنهم يدعون للقائد العام.

فصل

التقيا في دار جمال الدين الذهبي كبير التجار بحارة خوش قدم. يطل على الفناء مقعد ذو عقدَين متكئَين على عمود من الرخام، ومن الجهة الشرقية تطل القاعة الكبري على إيوانَين تتوسطهما درقاعة مغطاة بقبة صغيرة من الخشب، يكسو أسفل جدران القاعة رخام ملون بديع الصنع. وثمة جزء على هيئة محراب.

ليظل الأمر في تكتم، صحبه إلى الإيوان البحري. في صدر القاعة مشربية مغلقة على الشارع، تعلوها شبابيك صغيرة من الجص، وقطع الزجاج الملون، وسقفا القاعة والمقعد مزينان بالدهان والذهب، وأرضية القاعة مغطاة بالرخام، وتتوسط فناء البيت نافورة من الرخام …

فاجأه بالقول: بونابرت عاد إلى بلاده.

– لعله رحل لأمر طارئ.

– مضى في الليل ولن يعود … أخبرَني بذلك ضابط فرنسي صديق.

أضاف — من رواية الضابط الفرنسي — أن بونابرت أدرك — بعد إخفاقه في حصار عكا — أنه لم يَعُد بإمكانه البقاء في مصر. تظاهر — حتى أمام ضباطه — أنه سيظل حاكمًا لمصر، وأنها ستظل نقطة الارتكاز في إمبراطوريته الشرقية.

عرَف نابليون في القاهرة أن جيش الفرنسيين يخوض معارك في أوروبا، فأزمع العودة — سرًّا — إلى فرنسا. أدهشه ما رواه الضابط من أن خدم نابليون فضُّوا رسالة تركها لكليبر — قبل عودته إلى بلاده — يدعوه للتفاوض مع الباب العالي في الجلاء عن مصر، إن لم يأتِه المدد خلال ستة أشهر. أمر بتعيين كليبر قائدًا عامًّا، وتعيين ديزيه قائدًا للصعيد.

فصل

قالت البلَّانة نعناعة وهي تدخل على زينب:

– عندي خبر سيئ.

ظلت ساكنة، وإن أومأت بأن تستكمل كلامها.

– الفرنسي عاد إلى بلاده.

– أي فرنسي؟

– القائد العام … نابليون بونابرت.

حاولت أن تتغلب على شعورها بالمفاجأة. منذ أيام، استضافه أبوها في بيت الأزبكية، في احتفاله بالمولد النبوي الشريف. زار أبوها الجودرية هذا الصباح. لم يشر إلى نية القائد العام في الرحيل. تكلم عن لقاءات أخرى قادمة.

– ما شأني إن سافر أو ظل في مصر؟!

– حسبت أن هذا الخبر يهمك.

وداخل صوتها ارتباك: تكلموا به في السوق.

همست زينب كأنها تكلم نفسها: لم نَعُد نلتقي منذ فترة طويلة.

هجرها القائد العام منذ رآها في الثوب الفرنسي. بولين نوريس هي التي حرضتها على إبدال ثوبها. المرأة خائطة، فحاكت بنفسها الثوب الذي ارتدته. أدركت المعنى حين قصر نابليون صداقته — فيما بعد — على بولين. حين عرض عليها الضابط أونوريه ديستان وده، غالبت التردد. بدت العلاقة مقبولة بين الشريفة والقائد العام، ثم عرفت الطريق إلى بيت الضابط.

قالت زينب: لا أحد يستطيع أن ينسب إلينا علاقة غير قائمة.

وارتعش أنفها بالارتباك: كل علاقة لها طرفان … فأين الطرف الآخر؟

فصل

استعصت الأمور على بونابرت في عكا، فعاد إلى مصر.

دخل جيش الباب العالي دمشق. انضم إلى إنكشارية الجيش العثماني أعداد من الأمراء والولاة وجنود الإقطاعيات، بلغوا خمسين ألف جندي، ثم واصل الصدر الأعظم سيره إلى مصر. استولى على العريش، وأسر نحو مائة وخمسين من قوات الفرنسيين، وقتل الباقين.

قال الشيخ المقدسي: لعله سافر لغزوات جديدة.

قال مختار الرمادي: ولماذا لا يكون قد أدرك استحالة البقاء في مصر؟

– ما أعرفه أن نابليون عهد بالأمر إلى الجنرال كليبر.

– كليبر!

عرف ممن اتصلوا به أنه يجيد الشئون الإدارية، ويميل إلى الانضباط، وأن هيبته يحترمها الضباط والجنود.

قال: يقال إنه لا يؤمن بجدوى الحملة!

قال المقدسي: ما يهمه هو المحافظة على أرواح المواطنين الفرنسيين، وليس التطلع إلى إعجاب التاريخ!

– لذلك رحل نابليون دون أن يتيح له مناقشة القرار.

وهرش ذقنه في حيرة: إنه حتى لم يلتقِ به قبل رحيله.

– فلنتوقع مفاوضات قريبة بينه وبين الإنجليز أو العثمانيين، أو كليهما، للرحيل عن مصر.

قال الرمادي: لو أننا واصلنا طرق الحديد وهو ساخن، فسيقترب يوم خروج الفرنسيين.

كانت سفن الإنجليز قد أبحرت من الإسكندرية في اتجاه قبرص. تسلل بونابرت إلى السفينة التي عادت به إلى بلاده في ظل خلو الميناء من أسطول الإنجليز. رافقه برتييه، ومورا، ولانس، ومارمون، وأوجين دي بوهارنيه، وبرتوليه، ومونج. ركبوا الفرقاطتين كارير ومويرون. أقلعتا — أول الليل — بعيدًا عن الإسكندرية. حتى بولين فورييه، لم يبلغها باعتزامه العودة إلى فرنسا.

فصل

شق موكب القائد العام كليبر — في هيبة — شوارع وسط البلد من الأزبكية إلى القلعة، يصحبه الكتبة والصيارف، يركبون الجنائب والبغال والرهوانات، ويتقدمه القواسة والمقدمون، بأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة، والنبابيت، وينادون في الناس: هذا هو السلطان القائد العام. انحنوا له أيها المسلمون!

صعد الموكب إلى القلعة. قدم كليبر تطميناته لأعضاء الديوان بأنه لا يحمل إلا الخير لكل المصريين.

أردف بصوته الأجش: إنني قلما أنزعج من الأشرار. أهل الخير سيراقبونهم ويعرفونني بهم. الشرير يجب أن يعاقب.

يقينه أن تعاون المشايخ مع الحملة ضرورة مؤقتة فرضتها الظروف. يذهب الفرنسيون — كما يتمنون ويتوقعون — فيعود كل شيء إلى حاله.

فصل

هاجم العثمانيون العريش، واستولوا عليها. فعلوا في الجنود الفرنسيين الأسرى ما فعله بونابرت في أسرى يافا من العرب والأتراك. قتلوهم جميعًا. واصل العثمانيون تقدمهم نحو القاهرة، تسبقهم تحريضات للمصريين بأن يعلنوا الجهاد.

قال كليبر لخاصة ضباطه: أعرف أن الأعوام الماضية كانت كابوسًا مزعجًا.

وداخل صوته تغير: تبددت كل الأحلام الوردية، ولم يَعُد أمامنا إلا الرد على التمرد اليومي للمصريين!

ثم في نبرة حاسمة: ما نملكه هو القتال فتهيئوا له!

تهامس الناس في الأسواق باقتراب الجيش العثماني من مصر. قال الشيخ المقدسي إن خروج الفرنسيين لملاقاة الجيش الهمايوني سيتبعه خلو الأماكن كلها منهم، فيسهل على المصريين توجيه ضربات قاصمة إليهم لا يقوون على ردها.

ترقب أهل مصر قدوم العثمانيين، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله، وأعدُّوا أنفسهم للانضمام إلى قوات الخلافة، وأقدموا على قتل من صادفوه داخل القاهرة من الفرنسيين، وأقاموا المتاريس على نواصي الطرقات، وفي التقاطعات والمفارق.

أحدثت أنباء قدوم الجيش العثماني إلى مصر ما أزعج الفرنسيين. توزع تفكيرهم بين دفع قوات الباب العالي، والتصدي لثورات المصريين. استدعى المسيو فورييه أعضاء الديوان. أبلغهم نبأ احتلال الجيش العثماني القادم من سورية مدينة العريش. تحدث عن ضرورات الحرب، تقضي باعتقال عدد من يؤثرون في الأحداث. أنهى كلامه بالإشارة لجنوده. اقتادوا المشايخ الأربعة: عبد الله الشرقاوي ومحمد المهدي ومصطفى الصاوي وسليمان الفيومي، مع علماء آخرين، إلى سجن القلعة. ظلوا فيه مائة يوم. لم يخرجوا إلا بعد توقيع الصلح بين قوات العثمانيين والفرنسيين على أن تخرج الثانية من مصر المحروسة، وتتجه إلى رشيد وأبو قير، قبل أن تترك البلاد كلها.

فصل

قال الكابتن جوزيف ماري ديزيه: لو أن المصريين سكتوا عن وجودنا، ربما أهمل نابليون العودة إلى فرنسا، وأقام هنا دولته المستقلة!

كان التصرف الصواب — في تقدير كليبر — هو الجلاء عن مصر. إذا لم يكن الجلاء ممكنًا في ظل الحصار الإنجليزي، العثماني، وثورات المصريين — فإن المفاوضات هي السبيل لقيام صلح يحفظ للجندي الفرنسي — في عملية الجلاء — كرامته. واجه ارتباكًا في إعداد قواته للسفر من مصر. قال إن بونابرت بدأ قبل رحيله مفاوضات مع الباب العالي. خاطب ضباطه بالقول: مضيت في تلك المفاوضات حتى الآن، والأمر الآن متروك لكم إن أردتم العودة إلى فرنسا، لكنني لا أستطيع قبول المقترحات المعروضة عليَّ. وأعتقد أنه لا يوجد جندي لن يفضل الموت على ترك أسلحته. فهل سيرغب في العودة إلى الوطن عاريًا، مجردًا من كل شيء، وكأنه متشرد طرد من بلد كان يُخشى يومًا جانبه فيها؟

أرسل إلى الأميرال الإنجليزي سميث يطلب وساطته في عقد اتفاق مع الدولة العثمانية لتنظيم جلاء قوات الفرنسيين. عقد اجتماع بين الصدر الأعظم والأميرال الإنجليزي وضباط فرنسيين. وقَّعوا اتفاقًا، يقضي بجلاء قوات الفرنسيين من مصر — بكل أسلحتها — على سفن إنجليزية.

قال كليبر لضباطه وجنوده: سترون الوطن بعد أربعة أشهر، وإن خدمتكم للوطن في الجيش الفرنسي ستكون أكثر فاعلية مما هي في مصر.

بدأ كليبر في سحب قواته من القاهرة إلى الإسكندرية. اقتربت قوات العثمانيين — من ناحية مقابلة — لاستلام مواقع في القاهرة. عرف القائد الأعلى للأسطول الإنجليزي في البحر المتوسط ما آلت إليه قوات الفرنسيين من ضعف. رفض اتفاق العريش، وأمر أن تبحر السفن الإنجليزية، وعليها قوات الفرنسيين — بعد إعلانها بالأسر — إلى إنجلترا بدلًا من فرنسا.

هاجم كليبر — بالمفاجأة — قوات العثمانيين الزاحفة إلى القاهرة. هزمها في المطرية وعين شمس. انتصر التنظيم الفرنسي على فوضى العثمانيين، وطارد القوات العثمانية إلى بلبيس، ثم إلى يافا.

حقق الفرنسيون انتصارًا أضعف من قوتهم. لا سلاح، ولا عتاد، ولا مؤن. اكتفى بونابرت بتحديد مهلة الإنقاذ. تواصل النزف من الجسد المثخن بالجراح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤