مقدمة

حقًّا، ما أحلى الكلمة الحلوة والحكمة الغالية والقول الرصين والفكر السديد …! وما أحلى أن ينشغل بها العقل والرأس، وتبحث عنها كلُّ عين واعية، وتقتفي أثرَها كلُّ أنف ساعية، وتسترق السمعَ إليها كلُّ أذن صاغية، ويَعيها كلُّ قلبٍ طاهر عظيم …!

ولقد شُغلتُ بالحكمة منذ أمد طويل حتى امتلأ بها قلبي وفؤادي، وملكتْ عليَّ حسي ووِجداني، وحوت كل كياني وجناني، ورحت أبحث عنها أينما كانت وتواجدت …

وأول ما شد انتباهي ذلك الفيضُ الهائل الغزير من حِكم الأولين، أو بالأصح كنوز الأقدمين … وتبلور ارتكازي، وتمركز اهتمامي على كل لفظٍ ورد على لسان الكلاسيكيين؛ من أدباءَ وفلاسفةٍ وشعراء؛ رومانيين كانوا أم يونانيين أغارقة …

والكتاب الذي بين يديك، أيها القارئ العزيز، نتاج قراءات كثيفة دسمة دامت واستمرت زُهاءَ أربعين عامًا ونيِّف، قمت خلالها بجمع تراث اليونان والرومان بلا توقف وبلا تأفف، بلا ضجر وبلا إحجام أو تراجع … بل كنت كلما أوغلت في القراءة ازدادت الفكرة حلاوة، وراح الكتاب يكبر ويتضخم؛ حتى اتخذ الشكل المعقول والحجم السليم الجميل لهذا العمل المفيد الناجح الذي لم يكتمل لأحد غيري من قبلُ بهذا الشكل المستفيض الكامل المتكامل؛ مما شجعني على أن أطلق على هذا السِّفر «متحف الفكر اليوناني والروماني»؛ ذلك لإحساسي الصادق بأن الكتاب فريد من نوعه في عصرنا الحديث، عامرٌ بكل مفيد جديد على مفاهيمنا.

وعشَّاق الحكمة كثيرون، وقرَّاؤها بالملايين في مصر والعالم العربي؛ لذلك أعتبر أن هذا الكتاب الثمين سوف يُسعدهم ويُثلج صدورهم كثيرًا. هذا فضلًا عن حقيقة أنه سوف يسد فراغًا ضخمًا في المكتبة العربية، وإني لعلى يقين مبين.

وقال أعرابي: «من عُرف بالحكمة لاحظته العيون بالهيبة.» وقال آخر: «خذ الحكمة ممن تسمعها منه؛ فرُب رمية من غير رامٍ، وحكمةٍ من غير حكيم.»

سأل الإسكندر يومًا جماعة من حكمائه، وكان قد عزم على سفر، فقال: «أوضِحوا إليَّ سبيلًا من الحكمة أُحكم فيه أعمالي، وأُتقن به أشغالي، فقال كبير الحكماء: أيها الملك لا تُدخلْ قلبك محبة شيء ولا بغضتَه؛ لأن القلب خاصيته كاسْمِه، وإنما سُمي قلبًا لتقلُّبه، وأعمِل الفكر واتخذْه وزيرًا، واجعل العقل صاحبًا ومشيرًا، واجتهد أن تكون في ليلك متيقظًا، ولا تشرع في أمر بغير مشورة، وتجنَّب الميل والمحاباة في وقت العدل والإنصاف. فإذا فعلت ذلك جرت الأمور على إيثارك، وتصرفت باختيارك.»

وقال السيد المسيح: «لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه يُنتفع به.»

قيل لحاتم الأصم: بمَ رُزقتَ الحكمة؟ قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل.

سأل يهودي النبيَّ مسألةً فمكث عليه السلام ساعةً ثم أجابه عنها. فقال اليهودي: ولِم توقفت فيما علمت؟ قال: توقيرًا للحكمة.

وليس الحكيم الذي يلقِّنك الحكمة تلقينًا، إنما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدي به. ومن أمارة الحكيم التروي في الجواب بعد استيعاب الفهم.

قيل لشقران: «مَن الحكيم؟» قال: الذي لا يتعرض للعذاب الأليم. قيل: وما العذاب الأليم؟ قال: البعد عن الرب الكريم.

وقال أبو الحسن الأبردي: «مَن أكثر استماع الحكمة أوشك أن يتكلم بها.»

وقال السيد الجرجاني: «الحكمة في اللغة العلم مع العمل.» وقال أيضًا: «الحكمة يستفاد منها ما هو الحق في نفس الأمر بحسب طاقة الإنسان.» وقال أيضًا: «كل كلام وافق الحق فهو حكمة.»

قال حبيش الطبيب: «من كرمت نفسه، لم يكن إلا بالحكمة أنسه.»

وقال الحسن القطَّان المروزي: «أم الفضائل النفسانية الحكمة، وظئرها المزاح المعقول، وأبوها الاستعداد الكامل، وابنها السعادة العظمى.»

وقال محمد الخوارزمي: «الحكمة طعام أغذى وأمرأ على الشِّبع …»

وقال الفارابي: «ينبغي لمن أراد الشروع في علم الحكمة أن يكون شابًّا، صحيح المزاج، متأدبًا بآداب الأخيار، قد تعلم القرآن واللغة وعلم الشرع أولًا، ويكون صيِّنًا عفيفًا متحرجًا صدوقًا، مُعرِضًا عن الفسق والفجور والغدر والخيانة والمكر والحيلة، ويكون فارغ البال عن مصالح معاشه، ويكون مقبلًا على أداء الوظائف الشرعية، غير مخلٍّ بركن من أركان الشريعة، بل غير مخلٍّ بأدب من آداب السنة، ويكون معظِّمًا للعلم والعلماء ولا يكون لشيء عنده قدر إلا للعلم وأهله، ولا يتخذ علمَه من جملة الحرف والمكاسب وآلةً لكسب الأموال، ومن كان بخلاف ذلك فهو حكيمُ زورٍ وتبهرُج، فكما أن الزور لا يُعَد من الكلام الرصين، ولا التبهرج من النقود، فكذلك من كانت أخلاقه خلاف ما ذكرنا لا يُعدُّ من جملة الحكماء.»

وقال العنتري أبو المؤيد: «الحكمة سراج النفس، فمتى عدِمتها عميت النفسُ عن الحق.» وقال أيضًا: «بُني، إن الحكمة العقلية تريك العالم يقادون بأزمة الجهل، إلى الخطأ والصواب.» كما قال — لا فُضَّ فوه: «الحكمة غذاء النفس وجمالها، والمال غذاء الجسد وجماله، فمتى اجتمعا للمرء زال نقصه، وتمَّ كماله ونعِم باله.»

وقال سليمان الملك: «في كثرة الحكمة كثرة الغم … والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا.»

قال أبو عبد الله: «مكتوب في الحكمة: يا بني، لتكن كلمتك طيبة، ووجهك بسطًا (أي: متبسطًا منطلقًا)، تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.»

قال الحسن: «لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مَجرى السفهاء.» قال أشعيا: «ويل للحكماء في أعين أنفسهم، وللفُهماء عند ذواتهم.»

قال بهمن يار: «كل حكيم طلب زيادة في حاجته من المال، فإنه علم الحكمة وليس له ذوقها.»

قال سبارجون: «إن عتبة باب معبد الحكمة هي معرفة الإنسان لجهله.»

وقال تيودور روزفلت: «إن تسعة أعشار الحكمة، تكمن في أن تكون الحكمة في وقتها.»

وقال إتيان راي: «الحكمة تدير ظهرها للناس … ولذلك تتلقى ركلات الأرجل.»

وقال هنري فريدريك إميل: «الحكمة مستودع الأدب وثمرة الحياة الناضجة.»

وقال حكيم من الهند: «الحكمة مصدر التعقل، والتعقلُ يدفع الإنسان إلى المناصب الرفيعة، والمناصب مناهل الثروة، والثروة تثمر برًّا، والبر سلامًا.»

وقال طاليس: «ابحث عن الحكمة واختر الجوهريَّ منها؛ فإنك بذلك تسدُّ أفواه المفترين والنمامين.»

وقال جوته: «الحكمة في الحق.»

وقال هوراس: «امزِجْ حكمتك بقليل من الجهل.»

وقال بيكنسفيلد: «إن كثيرين من الناس يظنون أنهم مبتكِرون وهم في الحقيقة يعيدون نشر حكمة الذين سلفوهم.»

قال بتيسن: «إن الحكمة ليست في اجتناب المجتمع الإنساني دفعةً واحدة، بل في التردد عليه باعتدال.»

وقال ونج فيلدستار تفورد: «إن الاتضاع هو باب الحكمة في السياسة.»

وقال سنيكا: «الحكمة هي الفهم الصحيح، هي قوة تميز بين الخير وبين الشر، بين ما يجب اختياره وبين ما يتحتم رفضه. هي سداد في الرأي قائمٌ على قيمة الأشياء لا على الرأي العام. هي تقيم حارسًا على ألفاظنا وأعمالنا فتجعلنا في حِرز منيع. وغرضها البحث في الأمور الماضية وفي الأمور المستقبلة، في الأمور الزائلة وفي الأمور الخالدة. هي تفحص كل ظروف الزمان وتحلل خواص العقل وحركاته، وهي للفلسفة كالبخيل للمال؛ الواحد يرغب والآخر مرغوب فيه.»

وقال فيلسوف: «من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحلَّ بها في سره وجهره، فهي في المثل كرجل رُزق ثوبًا فأخذ بطرفه فلم يلبسه!

وقال المتوكل: «لما كانت الحكمة ضالة المؤمن حرَص بعضهم على سؤال لقمان الحكيم عن حكمته، فقال لقمان: «لا أسأل عما كُفيت ولا أتكلف ما لا يَعنيني.»

وقال ابن عباس: لا تحقرن كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر، فإنما مثله كما قال الأولون: «رب رمية من غير رامٍ.» كن أكثر حكمة من الآخرين إذا استطعت ولكن لا تقل لهم ذلك.

وقال معاوية بن أبي سفيان: «لو أن بيني وبين الناس شعرةً ما انقطعت أبدًا.»

وقال برناردشو: «لا نستفيد الحكمة بذكريات الماضي بل بما نتوقعه من تبعات المستقبل.»

ومن أقوال الهيتوباديا: «الحكمة كالعين المبصرة؛ من حازها ليس بأعمى.»

وقال أعرابي: «الحكمة سراج النفس، فمتى عدِمتَها عَميت النفس عن الحق.»

وقال الشاعر بول إنجل: «الحكمة أن تعرف متى يمكنك ألا تكون حكيمًا.»

وقال وليم رايت: «رأس الحكمة في الحديث أن تتجنب الكلام عن نفسك وحدها.»

وقال سقراط: «الرجل الحكيم عليه أن يصادق الشباب ويستمع إليهم ويفهمهم؛ لأنهم طلائع المستقبل وحكماؤه.»

وقال ﻫ. هنريتش: «الحكيم القديم الذي صاغ المثَل القائل «اعرف نفسك» كان ينبغي أن يضيف إليه: «ولا تخبرْ أحدًا».»

كتب أحد الفلاسفة يقول: في العالم حكيمان؛ الحكيم الأول هو الذي يعرف الله، والحكيم الثاني هو الذي لا يعرف الله ولكنه يسعى لمعرفته.»

وقال محمد زكي عبد القادر: «الحكيم هو الذي يضع أمام عينيه المستقبل كما يضع الحاضر والماضي؛ فإن الحياة ليست واحدًا منها، بل هي جميعًا.»

وقال حفني ناصف:

إذا ورَّث الجهالُ أبناءهم غنًى
وجاهًا فما أشقى بني الحكماء

وقال بسكال: «الحكماء نوعان: المؤمنون بالله من قلوبهم لأنهم يعرفونه، والذين يبحثون عن الله في قلوبهم لأنهم لا يعرفونه.»

وقال أحدهم: لازِموا أبواب الحكماء تصيروا حكماء … وقال ياباني: «لن تصادف الإنسان الحكيم إلا بعد انصراف خمسمائة عام، ولن تحصل على عاقل إلا بعد ألف عام.»

وقال أعرابي: «الحكيم هو من علَّمته التجارب.»

وقال آخر: «أحب أن أرى الحكمة في العقول، والحبَّ في القلوب، وانجذاب النحل إلى الزهور.»

وقال أبقراط: «من اتخذ الحكمة لجامًا اتخذه الناس إمامًا.»

وقال حكيم: «الحكمة تعتمد على الإلهام والاستعداد الشخصي لاجتذاب المعنى العميق من الأحداث السطحية؛ لاستخراج حبة الذهب من تل الرمل، واللؤلؤةِ الثمينة من أكوام الصَّدَف.»

ومن الأمثال الصينية: «للذهب ثمن، ولا ثمن للحكمة.» ومن حِكم أهل الصين قولهم: «قطرةٌ فوق قطرةٍ بحر، وحكمةٌ فوق حكمةٍ علم.»

وقال فيلسوف: «الحكمة هي نظرات خاطفة لامعة من هنا وهناك.» وقال آخر: «إن عصر أقطاب الحكمة في عهد سقراط وأفلاطون وأرسطو لا يضارع في الحكمة العالية وفي قدرة الخيال الخصب على الخلق والإبداع.»

ومن أقوال العرب «الحكمة سراج النفس، فمتى عدمتها عميت النفس عن الحق.»

وقال حكيم: «الحكمة لا تتأتى للإنسان إلا بالتأمل والتذكر، والتأمل لا يصل إليه الإنسان إلا إذا كان على مستوًى كبير من الذكاء.»

وقال آخر: «أبعدوني عن الحكمة التي لا تُبكي، وعن الفلسفة التي لا تُضحِك، وعن العظمة التي لا تحني رأسها أمام الأطفال.»

•••

والكلام عن الحكمة والحكماء قد يطول، وليس منا من يكره الحكمة الهادفة السامية الراقية الشافية … ولولا الحكمة التي أنزلها الله على عبيده وعباده، وجعلها تتدفق من أفواه المصطفين من خلائقه البلغاء؛ لانتفت المدنية وتقاعست البشرية، ولانعدمت الأخلاق، ولعمَّ الجهل أركانَ المعمورة، ولحل الظلام العقلي، ليطمس معالم النهار المُشرق الذي خلقه الله ليكون مرتعًا خصيبًا لبزوغ الحكمة على ألسنة الكتَّاب والأدباء والشعراء والفلاسفة والمتدينين والمتصوفين والمصطفين من عباده المؤمنين بحكمة الخالق في كل ما خلق.

•••

ويسعدني، وأنا أُخرج على العالم العربي هذا الكتاب الذي يضم زبدة ما توصلت إليه من خيرِ ما زخرت به كنوز التراث اليوناني والروماني … يسعدني أن أكون أيضًا قد بذلت قصارى جهدي في ترجمة معظم الأقوال الحكيمة — التي يزخر بها هذا الكتاب — عن متونها الأصلية؛ سواءٌ كانت يونانية أو لاتينية … ولقد تراءى لي — ونعم الشيء — أن أرتب لك هذا المتحف الفكري ترتيبًا أبجديًّا يساعد الباحث والقارئ على قضاء مآربه بسهولة ويُسرٍ بالغَين. ومعذرة لو أن الملحق الإعلامي المرفق بنهاية الكتاب جاء مختصرًا بعض الشيء، فما ذلك إلا لتقليل نفقات الكتاب … في وقت يعز فيه طبع الكتاب، فما بالكم لو أعلمتكم أني أقوم بطبع هذا الكتاب على نفقتي الخاصة، بعد أن أصبح التعامل مع الناشرين المصريين عملية ميئوسًا منها غير مضمونة الجوانب والحقوق بالمرة …

•••

أمَا وقد يبدو لك أنني أطلت كلامي في تقديمي لهذا الكتاب النافع، فأرجو من القارئ الكريم أن يفهم ويدرك أنني لست راضيًا عن هذه المقدمة كلَّ الرضا؛ لأنني في الحقيقة أوجزت فيها واختصرت، وكان يمكنني أن أضيف إليها الشيء الكثير، فبحر الحكمة واسع عميق الغور لا يمكن أن يقطعه إلا السباح الماهر المتمكن، القادر على قهر أمواج الحكمة العاتية الكاسرة …

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإني لأدعو أن يوفقني الله إلى خدمة العالم العربي عامة والقارئ المصري خاصة، والله ولي التوفيق.

أمين سلامة
٣١  /  ١٢  /  ٨٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤