مختصر الأناجيل أو تلخيصها

إن هذا السِّفر يتضمن أربعة أمور:
  • (١)

    إيضاح شئون حياتي الشخصية وإظهار أفكاري التي قادتني إلى الاعتقاد بأن تعاليم المسيح تتضمن حقائق صحيحة.

  • (٢)

    إن الشروح التي علَّقتها الكنيسة على تعاليم المسيح وشروح الرسل، مع الإضافات التي أدخلها عليها آباء الكنيسة في المجامع كلها هذيان وبهتان وكذب محض واختلاق ظاهر.

  • (٣)

    وجوب البحث في تعاليم المسيح بما وصل إلينا منها في الأناجيل الأربعة مما هو منسوب إليه فقط، ثم وجوب رفض رسائل الرسل وتفاسير الكنيسة وإضافاتها المُختلَقة على تعليم المسيح.

  • (٤)

    إيراد الأدلة القاطعة على أن الكنيسة أفسدت جوهر تعليم المسيح، ثم البحث في نفس تلك التعاليم، مع إيجاد النتيجة التي نجمت عن كرازة المسيح وتبشيره الناس.

ثم إني بعد إمعان الفكر الطويل وإجهاد القريحة وسهر الليالي الطوال في البحث والتنقيب، قد استطعت أن ألخص الأناجيل الأربعة في اثني عشر فصلًا مرتبطة ببعضها ارتباط حلقات السلسلة، ضمنتها جميع تعاليم المسيح وروح كلامه.

ويمكننا أن نورد بالإيجاز مضمون التعاليم المسيحية ونذكرها بعدة بنود، وإليك البيان:
  • (١)

    إن الإنسان هو ابن الأزلي الذي لا بداية له ولا نهاية، أو بعبارة أخرى: هو ابن الله بالروح وليس بالجسد.

  • (٢)

    ولذلك يتحتَّم على الإنسان أن يخدم ذلك الأزلي بالروح فقط.

  • (٣)

    أصل حياة جميع البشر صادر من عند الله؛ ولذلك فإن هذه الحياة مقدسة طاهرة.

  • (٤)

    إرادة أب البشر تنحصر في أنه ينبغي على الإنسان أن يخدم جميع الناس؛ لأن حياته وحياتهم مأخوذة من أصل واحد.

  • (٥)

    إذا أتم الإنسان إرادة ذلك الآب وخدم الناس خدمة حقيقية فإن حياته إذ ذاك تكون حياة مقدسة.

  • (٦)

    ولذلك فلا ينبغي على الإنسان أن يهتم كثيرًا بإرادته الخاصة والسير على هواها؛ لأن ذلك يُناقض مطالب الحياة الحقيقية المقدسة.

  • (٧)

    إن الحياة الوقتية أو بتعبير آخر الحياة الجسدية، ما هي إلا طعام للحياة الروحية أو مواد مادية لها.

  • (٨)

    الحياة الحقيقية غير مقيدة بزمان، بل هي حياة في الزمن الحاضر فقط.

  • (٩)

    إن مشاغب وملاهي الحياة الماضية والآمال الكاذبة في الحياة المستقبلة تقودان الناس إلى الضلال، وتسدلان على عيونهم حِجابًا كثيفًا يحول بينهم وبين القيام بمطالب الحياة الحاضرة المقدسة.

  • (١٠)

    يتحتم على الإنسان أن يُحارب غش الحياة الماضية والمستقبلة، ويهدم كل صروح تلك الآمال والأفكار الكاذبة.

  • (١١)

    إن حياة الإنسان الحقيقية الحاضرة ليست خاصة بشخصه وحده، بل هي في الحقيقة ونفس الأمر مرتبطة بحياة الهيئة الاجتماعية ارتباطًا متينًا.

  • (١٢)

    ولذلك عندما يُكرِّس الإنسان حياته الحقيقية الحاضرة لخدمة البيئة الاجتماعية المرتبط معها والعائش في وسطها، حينئذٍ فقط يتحد مع الآب الذي هو أصل هذه الحياة.

إن هذه البنود الاثني عشر ملخص الاثني عشر فصلًا التي لخَّصتُ بها الأناجيل، ثم أضفتُ إلى ذلك الصلاة التي علَّمها المسيح لتلاميذه.

ولما انتهيتُ من عملي وجدت أن هذه الصلاة مركبة من اثنتي عشرة مادة، يُطابق معنى كل واحدة منها مضمون فصل من الفصول التي لخَّصتُ بها الأناجيل، فأدهشني ذلك ووقع من نفسي الاستحسان والسرور، وإليك البيان:

(١) أبانا. الإنسان هو ابن الله.
(٢) الذي في السموات. الله هو أصل الحياة الروحية ولا بداية له ولا نهاية.
(٣) ليتقدَّس اسمك. ليتقدَّس أصل هذه الحياة.
(٤) ليأتي ملكوتك. فلينتشر سلطانه بين جميع الناس.
(٥) لتكن مشيئتك كما في السماء. فلتتم إرادة ذلك الأزلي أصل الحياة، كما يتمها هو ويريد.
(٦) كذلك على الأرض. وبالجسد أيضًا.
(٧) أعطنا خبزنا الجوهري. الحياة الوقتية هي طعام للحياة الحقيقية.
(٨) اليوم. الحياة الحقيقية في الزمن الحاضر فقط.
(٩) واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه. فلا تسدل غلطات وضلال الحياة الماضية حجابًا على عيوننا، حتى لا نرى الحياة الحاضرة الحقيقية.
(١٠) ولا تدخلنا في التجربة. ولا تقودنا إلى الضلال والانخداع.
(١١) لكن نجِّنا من الشرير. وإذ ذاك فلا يكون أثر للشر.
(١٢) لأن لك الملك والقوة والمجد. بل يكون سلطانك وقوتك وكلمتك.

ثم إني أزيد القارئ إيضاحًا، وهو أني وضعت كتابًا طويلًا في عدة مجلدات، بحثت فيه عن تعليم الإنجيل بحثًا مفصلًا، وهو لم يزل بين يديَّ لعدم إمكان طبعه في روسيا، وأما في هذا الكتاب المختصر فلم أستطع التفصيل الوافي لضيق المقام؛ ولذلك لم أبحث كثيرًا في المواضيع الآتية: الحبَل بيوحنا المعمدان وولادته وسجنه وموته، وولادة المسيح ونسبه وهربه مع والدته إلى مصر، وعجائبه في مدينة قانا الجليل التي حوَّل فيها الماء إلى خمر، ثم عجائبه في كفر ناحوم وطرد الشياطين، ومسيره على الماء، وتيبيس التينة، وشفائه المرضى، وإقامته الأموات، ثم قيامة المسيح. كما أني ضربت صفحًا عن نبوات الأنبياء التي طبقتها الكنيسة على حياة المسيح وأعماله، وقد أضربت عن ذكرها؛ لأنها لا تحتوي على شيء من التعليم ولا فائدة من ذكرها لعدم أهميتها؛ لأنه بقطع النظر عن صدقها أو كذبها، فإنها لا تخالف التعليم ولا تؤيده، وإنما الكنيسة توردها كبراهين ساطعة للدلالة على ألوهية المسيح مع أنها ليست في شيء من ذلك، وأن أعظم برهان يدل على حقيقة التعليم هو توحيد التعليم ووضوحه وبساطته وكماله وموافقته لحواس الإنسان الذي يطلب الحقيقة، ثم أوجِّه التفات القارئ بأن لا يأخذ علي من تكراري ذكر تعليم المسيح أني أعتبر الأناجيل الأربعة كتبًا مقدسة؛ فإن ذلك وهم وضلال مبين، وليعلم القارئ أيضًا: أن يسوع المسيح لم يكتب مدة حياته كتابًا كبلاتون وفيلون أو مارك إفريلي حتى، ولا كان كسقراط الذي كان يُلقي تعاليمه على تلاميذه المُتنوِّرين ذوي المدارك السامية، كلا كلا، فإن المسيح كان يُعلِّم البسطاء الجهلاء الذين كان يُصادفهم في حياته وأهل الوسط الذي كان عائشًا فيه، وإنما بعد وفاته بزمن طويل أخذ بعض الناس يذكرون أقواله ووجَّهوا إليها التفاتهم، وجعلوا يتناقلونها، وبعد مائة عام كتبوا ما سمعوه عنه، وليعلم القارئ أيضًا أن ما كُتِب بهذا الصدد كان لا يُحصى له عدد، فُقِد منها جزء كبير، وما بقي عنها كان في غاية الركاكة، ومما لا يصح الركون إليه والوثوق بصحته، ثم إن المسيحيين جمعوا تلك الكتابات واختاروا منها الأنسب لأذواقهم ومآربهم.

ثم فليعلم القارئ أيضًا: أن تعليم المسيح الحقيقي هو مقدس فقط، وأما كثرة الآيات والأسطر والحروف فليست مقدسة، ولا ينبغي أن نعتقد بها لمجرد قول الناس بقداستها.

وليعلم القارئ أيضًا: أن الأناجيل التي بين أيدينا الآن ما هي إلا ثمرة أنضجها الزمان بواسطة النقل والإملاء، واشتغال عقول ألوف من البشر بها، وتلاعب أيدي الكثيرين، وليست هي وحي من الروح القدُس أوحاه للإنجيليين كما تعتقد الكنيسة.

ثم فليعلم القارئ أيضًا: أن الأناجيل لعبت بها أيدي التحريف والنقل والزيادة والنقصان، والأناجيل التي وصلت إلينا في الجيل الرابع كانت مكتوبة بخط سقيم لا ضابط لها يضبط صحَّتها، وكانت تُقرَأ في الجيل الخامس على طُرق مختلفة، كل طريقة منها تُخالف الأخرى، حتى أحصى بعضهم أن عدد الأناجيل المختلفة في طُرق القراءة بلغ الخمسين ألفًا.

ثم إني أرجو مُطالِع كتابي هذا أن يعلم بأني لا أنظر إلى الأناجيل ككتب مقدسة مُنزَّلة علينا من السماء بواسطة وحي الروح القدُس، كما أني لا أنظر إليها كتاريخ يتضمن آداب الدين، وكذلك أوجه التفات القارئ ألا ينظر إليها كما تنظرها الكنيسة ورجال العصر المتنورون الذين يعتبرونها بمثابة تاريخ ديني ليس إلا، وإني لا أعتقد بالديانة المسيحية أنها وحي إلهي، ولا بأنها تاريخ، كلا كلا، بل أعتقد بأنها تعليم يكشف للبشر عن ماهية الحياة ومعناها، والأمر الذي قادني إلى اتباع تعليم المسيح هو أني لما بلغت الخمسين سنة سألت فلاسفة الوسط المُقيم به أن يرشدوني إلى ماهية حياتي، ومن أنا؛ فأجابوني: إنك شخص مركب من أعضاء عديدة ولا يوجد معنًى لوجودك وحياتك، وإن الحياة كلها مملوءة شرًّا، فوقع جوابهم على رأسي كالصاعقة سقطت على أثره في حضيض اليأس وعزمت على الانتحار، ولكني ثُبتُ إلى الرشد عندما تذكرت أني لما كنت غلامًا مؤمنًا كنت أشعر بمعنى الحياة، ثم تذكرت أن السواد الأعظم من الناس البسطاء الذين لم تُفسد أخلاقهم الثروة مؤمنين، وأنهم عائشون عيشة حقيقية؛ فشككت في صحة جواب الفلاسفة، وأخذت أبحث عن الجواب الذي تجيب به الديانة المسيحية المؤمنين العائشين في ظلها، وللوقوف على ذلك شرعت بدرس الديانة المسيحية درسًا مُدقَّقًا، فأخذتُ أُطالع بإمعان وروية الأناجيل الأربعة، وما تضمنته من التعاليم، فوقفت فيها على إيضاح المعنى الذي يرشد المؤمنين إلى الحياة الحقيقية، غير أني في أثناء استقائي من ذلك الينبوع العذب وجدتُ فيه أقذارًا كثيرة عكَّرت صفاء مائه، ووجدتُ إلى جانب تلك التعاليم تعاليم أخرى غير مطابقة له، بل هي تُخالفه على خط مستقيم، وأريد بها التعاليم الكنائسية والعبرانية، فكنتُ في بحثي كذلك الرجل الذي وجد كيسًا مملوءًا بالأقذار المُنتنة، ولكنه بعد التعب والمشقة وجد في ذلك الكيس عددًا وافرًا من الحجارة الكريمة، فبعد أن وجَّه جميع عبارات السفه لأولئك الذين ملئوا الكيس بالأقذار، عاد يُثني عليهم ويشكرهم؛ لأنهم أخفوا تلك الجواهر وسط الأقذار، وكذلك فإني لبثتُ رازحًا تحت عبء الاضطراب والتفكير حتى أدركت أنه في الإمكان تطهير تلك الجواهر من الأقذار التي علقت بها وشوَّهت محاسنها.

إني لم أكن أعرف النور، وكنت أزعم ألا حقيقة في هذه الحياة، ولكنني تحقَّقت أن الناس عائشون في النور، فطفقتُ أبحث عن ينبوعه؛ فوجدته في الأناجيل الأربعة بقطع النظر عن تفاسير الكنيسة الكاذبة، ولما بلغت الينبوع غشت بصري ظلمة حالكة، وإنما عثرت على ضالتي المنشودة، فوجدت الجواب الذي كنتُ أسأله؛ فعرفت معنى حياتي وحياة الناس.

إن أبحاثي كانت مقتصرة على ماهية الحياة، ولم تتعدَّاها إلى المسائل الإلهية والتاريخية؛ ولذلك كان لا فرق عندي؛ سواء كان المسيح إلهًا أم إنسانًا، وكذلك لم أهتم بمسألة انبثاق الروح القُدُس ولا بمن كتب الأناجيل، وهل الأمثال الواردة فيها منسوبة للمسيح حقيقة أم لا، وإنما كان يهمني ذلك النور الذي أنار البشر مدة ١٨٠٠ سنة كما ينيرها وينيرني الآن.

ثم أخذت أتفرَّس في ذلك النور وأقاوم كل شيء يحاول إخفاءه، وكلما توغَّلت في المسير على ذلك الطريق كانت تزول الريبة من نفسي وتظهر لي الحقيقة بحذافيرها، حتى استطعت أخيرًا أن أُفرِّق بين الصحيح والفاسد.

ثم إنه ينبغي علينا لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه، هو أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الطويلة الكاذبة التي شوَّهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام، ويرجع بحثنا إلى أيام بولص الرسول الذي لم يفهم تعليم المسيح، بل حمله على محمل آخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيِّين وتعاليم العهد القديم.

وبولص كما لا يخفى كان رسولًا للأمم أو رسول الجدال والمنازعات الدينية، وكان يميل إلى المظاهرات الخارجية الدينية كالخِتان وغيره، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي؛ فأفسد جوهره.

ومن عهد بولص ظهر التلمود المسيحي المعروف بتعاليم الكنائس، وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها منذ ابتداء العالم وآخرها في عصرنا الحالي المتمسكة بها جميع الكنائس.

إن أولئك الشُّرَّاح والمُفسِّرين يدَّعون يسوع إلهًا دون أن يُقيموا على ذلك الحُجة، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار؛ موسى، والزبور، وأعمال الرسل، ورسائلهم، وتآليف آباء الكنيسة، مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل دلالة على أن المسيح هو الله.

كل الرجال الذين ظهروا بعد المسيح وشرحوا تعاليمه وألَّفوا فيها التآليف الكثيرة كانوا يُؤيِّدون للناس بأنهم يكتبون بإلهام الروح القُدُس، كبولص الرسول ورجال المجامع الذين عند عقدهم المجامع كانوا يفتتحونها دائمًا بالصلاة إلى الله ليسكب عليهم نعمة الروح القُدُس، ومثل ذلك تراتيب البابوات والمجامع المقدسة والأريوسييين وجميع المُفسِّرين الكَذَبة الذين يُجاهرون على رءوس الملأ بأن الروح القدُس يتكلم بأفواههم؛ ليُعزِّزوا أقوالهم ويثبتوا للناس حقيقتها، ويدَّعون أن مطابقتهم التعاليم لبعضها ليست من مبتكرات بنات أفكارهم، بل هي صادرة عن الروح القدُس.

إن تعاليم الإله الذي نزل إلى الأرض لا يمكن أن تكون متناقضة، فإذا كان الإله نزل إلى الأرض ليُظهر الحقيقة للناس، فأقل شيء يُطلَب منه عند كشفه تلك الحقيقة أن تكون مفهومة لدى الجميع، فإذا لم يستطع ذلك فإنه ليس إله، فإذا كانت التعاليم الإلهية على شكل لا يستطيع الله نفسه أن يجعلها مفهومة، فالناس مهما أُوتوا من الحكمة والذكاء فإنهم يعجزون عن إيضاحها وتفسير غامضها.

وأما إذا لم يكن المسيح إلهًا؛ بل إنسانًا عظيمًا، فإن تعاليمه لا تتولد منها أيضًا الأباطيل؛ لأن أقوال الرجل العظيم تُعرَف ببساطتها وقُرب مأخذها.

ولم تظهر الطوائف والشِّيَع في الديانة المسيحية ابتداء من أريوس فصاعدًا إلا من كثرة البحث في تعاليم المسيح، وتفسيرها تفسيرًا يُطابق هوى المفسر أو الشارح التي لم تُطابق عقائد الآخرين.

والقول بإن هذه العقيدة إلهية صادرة من الروح القدُس قول بلغ أقصى درجات الكِبْر والحماقة؛ لأنه أي كبرياء يتَّصف بها الإنسان أعظم من ادِّعائه بأن الله يتكلم بفمه ولسانه؟! وهل توجد في العالم حماقة أعظم من هذه؟! فما هذا الغش والضلال؟! ألا يجوز لكل إنسان أن يضع كتابًا دينيًّا ثم يدَّعي أنه مُنزَّل من السماء؛ لأن الله أوحى به له حيث تكلم بفمه ولسانه؟! ومن هذا القبيل جميع تآليف المجامع الكنائسية وعقائدها ودستور إيمانها؛ ولذلك دخلت على الكنائس ما يُسمونه بالهرطقات التي زعزعت أركان الدين المسيحي وهدمت معالم حقيقته.

والغريب أن مبتدعي تلك التعاليم يدَّعون أنهم يكتبون بإلهام الروح القدُس الذي حلَّ على الرسل، ولا يزال يحلُّ على مفسري الكتاب الكَذَبة، ومع تماديهم في الادِّعاء فإنهم لا يستطيعون إقامة برهان واحد على صِحَّة دعواهم يوضِّحون لنا ماهية الوحي، ويكشفون لنا النقاب عمَّن هو الروح القدُس، بل ما زالوا يُغرِّرون بالناس ويدعون أنفسهم كواكب الكنيسة المسيحية، والأنكى من ذلك أن حيلتهم انطلت على البشر مُدة عشرين جيلًا.

إن المسيحيين واليهود والمسلمين يعتقدون جميعهم بالوحي الإلهي، فالمسلمون يعتقدون بنبوة موسى وعيسى، ولكنهم يعتقدون كما أعتقد بأنه دخل التحريف والتشويه على كتب الديانة النصرانية، وهم يعتقدون بأن محمدًا خاتمة الأنبياء، وأنه قد أوضح في قرآنه تعاليم موسى وعيسى الحقيقية كما قالاها دون زيادة ولا نقص، وأن كل مسلم أمامه كتاب القرآن يقرأه ويتمسَّك به ويسير بموجب أحكامه ولا يعترف بغيره من الكتب مهما اشتهر واضعوها بالتقوى والصلاح، ويُسمِّي المسلمون ديانتهم بالمحمدية لأن محمدًا وضعها بخلاف الكنيسة المسيحية التي تسير الآن بموجب تآليف الآباء الذين يدَّعون بأن ما كتبوه هو من الروح القدُس، فكان الأحرى بالمسيحيين أن يُسمُّوا كنيستهم الروحية القدسية أولى من تسميتها بالمسيحية.

إن أصحاب البدع الروح القدسية يعتبرون كلام بولص وسائر الرسل والبابوات والبطاركة ولوثيروس وفيلاريت آخر كلام أُنزل على الكنيسة من الروح القدُس، فكان يجب على كل طائفة أن تُسمِّي نفسها باسم ذاك الذي تتبع أقواله ولا تُسمِّي نفسها مسيحية؛ لأنها تُخالف تعاليم المسيح التي لا تهتم بها، بل فضَّلت عليها أقوال الآباء والمجامع والأساقفة؛ لأنهم يعلمون الناس بأن المسيح قال في كرازته: إنه نزل إلى الأرض ليفتدي الجنس البشري من الخطيئة التي تسلسلت إليه من آدم جَدِّ البشر الأول، وإن الروح القدس حلَّ على الرسل، ثم يحلُّ على الكهنوت بواسطة وضع الأيدي، وإنه لأجل الخلاص يتحتَّم على الناس تتميم سبعة أسرار الكنيسة، ويدَّعون أن هذه الأمور علَّمها المسيح للناس وألقاها على تلاميذه، مع أن المسيح براء منها، ولم يُشِر إلى شيء منها أقل إشارة.

هذه إيضاحات وافية أوضحتها لقُرِّاء كتابي الذين ربما تضطرب أفكارهم لدى مطالعتها، ويحزنون على الزمن الذي أضاعوه باتِّباع الأضاليل والتُّرَّهات، وما على المقتنع بصحة أقوالي إلا أن يتوب توبة خالصة، ويرفض تلك التعاليم الكاذبة التي رسخت في ذهنه، ولا يلتفت للاضطهاد الذي تضطهده به الكنيسة ورجالها.

وإذا لم يقتنع قُرَّاء كتابي بأقوالي فما عليهم إلا أن يضطهدوني؛ لأني شوَّشت أفكارهم، وإني أحتمل بفرح وسرور جميع ما يتوقَّع لي منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤