الحياة الفنية للمرأة

كل ما قلناه عن الرجل في الفصول السابقة ينطبق أيضًا على المرأة، وقد نبهنا عن ذلك في كلامنا عن العائلة والمجتمع، ولكنا نحتاج مع ذلك أن نعالج الحياة الفنية للزوجة؛ لأننا في مصر قد ورثنا من التقاليد أخطاء كثيرة ألغت المرأة من مجتمعنا، وغيَّبتها عن وجداننا، وقد كوفحت هذه التقاليد بتعميم حرية المرأة، وانتشار المدارس إلى حد بعيد، ولكن لا يزال لهذه التقاليد رواسب إذا لم ترتفع إلى وجداننا الذهني؛ فإنها لا تزال تصبغ عواطفنا، وتؤثر في حياة المرأة.

والحياة الفنية للمرأة تقتضي أن تعمل كالرجل؛ فتحترف حرفة ما ترفعها من الأنثوية إلى الإنسانية، وتربيها طوال العمر، وتحملها على النمو والإيناع النفسي، كما تقتضيها الاتصال بالرجال. ونحن الرجال لا نستطيع أن نتخيل أنفسنا منفصلين عن المجتمع، ومحرومين من الحرفة؛ لأننا نعرف أننا في هذه الحال نسقط سقوط اليأس الذي لا ننهض منه؛ ذلك لأن الحرفة والمجتمع يربياننا، وهما من أكبر الدوافع لارتقائنا الذهني والنفسي، بل والجسمي.

وقليل من المقارنة بين امرأة لزمت البيت وحرمت من المجتمع، وأخرى عملت في حرفة واختلطت بالمجتمع مدة عشر سنوات — مثلًا — يوضح لنا مقدار الفرق العظيم بينهما؛ فإن قيم الحياة إلى حد عظيم قد ألغيت عند الأولى، بينما هي قد روعيت عند الثانية؛ ولذلك بينما تركد الأولى وتسمن وتترهل لقلة حركتها، وتضيق آفاقها الذهنية والنفسية، تنشط الثانية في عملها، وتستبقي نحافتها وعضليتها، وتتسع آفاقها الذهنية والنفسية.

وليس لأحد منا أن يُؤمِّل في القريب أن تستوي المرأة بالرجل، فإنها لم تصل إلى هذه الحال في أوروبا وأمريكا إلى الآن، ومع أن قوانين الدول هناك تنص على المساواة؛ فإن قواعد المجتمع تأبى هذه المساواة. وفي مصر لا تزال الحرفة مكروهة عند المرأة، وكثيرًا ما تخرج منها عندما تلوح لها الفرصة، كما نرى في بعض المعلمات — مثلًا. ولذلك فإننا عندما نعالج مركز المرأة في مصر نتجه إلى البيت كأنه كل شيء، وهو، في وضعها الاجتماعي القائم عندنا، يكاد يكون كذلك، وإنما الذي ننساه هو أن البيت للمرأة، وليست المرأة للبيت؛ أي يجب أن يعدَّ البيت لراحتها ورقيِّها وسلامتها، ولا يُضحَّى بها من أجل الطبخ والكنس والغسل.

والبيت في مصر كثير الأعباء، مرهق التكاليف، كثيرًا ما يشبه الورشة في إرهاقه وتعدد واجباته الصغيرة، كما لا يزال المطبخ والمغسل ورشتين صغيرتين لا ينقطع العمل منهما طوال النهار وبعضًا من الليل. وربة البيت مضطرة إلى الإشراف عليهما إذا لم تباشر بنفسها العمل فيهما، وهي في كلتا الحالتين تقتطع من وقتها وفراغها ما كان أحرى أن تنفقه في ترقية شخصيتها بالدراسة والاختلاط والانتفاع المثمر بالفراغ.

وتستطيع المرأة المصرية أن تنتفع باختبارات المرأة الأوروبية هنا؛ فإن هذه تخص يومًا أو يومين للخروج مع زوجها وأولادها، والغداء أو العشاء في المطاعم، كما أنها تخص يومًا أو يومين في الأسبوع لتناول الأطعمة المعلبة التي تستغني بها عن الطبخ! والخروج إلى المطاعم يتيح الاختلاط، كما أن اقتناء العلب العديدة الوفيرة للأطعمة يتيح الفراغ الذي تستخدمه ربة البيت في تثقيف ذهنها، أو في أي استمتاع آخر.

ولذلك ارتقت بعض المطاعم في أوروبا حتى ليصح أن يقال إنها ليست لتزويد زائريها بالطعام فقط؛ إذ لا يخلو مطعم منها من جوقة موسيقية، كما أنها في ترتيب موائدها، واختيار آنيتها، وتزيين جدرانها، والتأنق في الطبخ تبلغ القمة. وتناول الطعام فيها ليس لتوخي الشبع المعدي، ولكنه قبل ذلك متعة فنية أنيقة. وكثيرًا ما تعود الزوجة من المطعم وقد درست درسًا نافعًا في طبخ أحد الألوان، أو ترتيب المائدة، وهذا إلى فوائد أخرى في الاختلاط بالأصدقاء أو الاستماع للموسيقى.

كما أن الأطعمة المعلبة تتنوع وتتعدد إلى حدٍّ لا نتخيله في مصر؛ حيث نكاد نقتصر من هذه الأطعمة على السردين؛ فإنهم في أوروبا وأمريكا يعلِّبون جميع اللحوم والخضراوات والأسماك، فتستطيع ربة البيت أن تحضر طعام اليوم كله دون أن تحتاج إلى طبخ، بل إن كيزان الذرة نفسها توضع في علب. وزيادة على هذا تباع الفراخ منظفة، فلا تحتاج إلى عناء الذبح والتنظيف في البيوت كما هي الحال عندنا؛ حيث نشتري الفراخ حية ونذبحها، ونحيل المطبخ بريشها وأحشائها إلى مزبلة.

وإذا شئنا الترفيه عن المرأة المصرية في البيت حتى تجد الفراغ الذي تحتاج إليه كي ترقِّي شخصيتها، وتنير ذهنها، وتوسع آفاقها، فإننا يجب أن نعاونها على ذلك بغشيان المطاعم، والاعتماد على الأطعمة المعلبة، وإحالة الغسل إلى المغاسل، كما نحيل الكي إلى المكاوي. وبهذا تخف أعباء البيت التي ترهق في الوقت الحاضر آلافًا من نساء الطبقة المتوسطة.

وبالطبع لا ننسى هنا كثرة الأولاد؛ أي الإسراف في التناسل الذي يرهق الأمهات، ويستنفد كل مجهودهن، بحيث لا يبقى لهن من القوة ما يتوفرن به على عمل آخر. وقد توافرت وسائل الضبط للتناسل، كما أصبحت مأمونة، ولا عذر للزوجين في إهمالها؛ لأن هذا الإهمال سينعكس أثره في الزوجين اللذين سوف تصدمهما حقائق الحاجات الاقتصادية، فيعجزان عن توفير الصحة والتربية للأولاد، بل أيضًا لهما؛ لأنهما هما أيضًا في حاجة إلى صحة وتربية.

وعلى ذلك نقول: إن الحياة الفنية للمرأة إذا لم تكن تعمل مستقلة؛ أي طبيبة أو معلمة أو ممرضة أو تاجرة، تحتاج إلى الاقتصاد في عمل البيت من ناحية، وفي عدد الأولاد من ناحية أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤