الاتجاه والرؤيا

الاتجاهات والميول والغايات هي عادات كامنة تكيِّف عواطفنا، وتوجه نشاطنا، وتثير اهتماماتنا، وكثير من النجاح أو الخيبة يُعزى إلى الاتجاه والغاية؛ لأن النفس تبقى راكدة ليس لها اهتمام، فإذا تعيَّنت لها غاية، يهدف إليها النشاط، نشطت، كذلك الاتجاه يعيِّن الأسلوب الذي نعيش فيه.

اعتبر صبيًّا أو طالبًا يتجه نحو الأولوية في المدرسة، وينصِّبها غاية، فهو يكد ويتعب ويثابر كي يحقق هذه الغاية، ويعود هذا الاتجاه أسلوبه في الدراسة؛ بحيث إنه يبتئس كثيرًا إذا زحزحه آخر عن مركزه الأول. فهنا اتجاه قد صار عادة كامنة تُكيِّف العاطفة، وتوجه النشاط، وتثير الاهتمام، وليس من الضروري أن يكون هذا التلميذ أذكى من غيره من المتخلفين عنه، وإنما هو يمتاز منهم بالاتجاه والغاية، وامتيازه هذا عليهم عاطفي وليس ذكائيًّا؛ لأن الاتجاه يحرك العاطفة، وهذه تحرك النشاط الجسمي أو الذهني.

اعتبر كلبًا جائعًا، وآخر شبعان؛ فالأول يتحرك بعاطفة الجوع، ويمشي وأنفه للأرض يبحث عن الطعام، وهو في هذه الحركة الجسمية متحرك العاطفة بالجوع، متحرك العقل بالتفتيش، وأنفه يرشد عقله كما ترشد عيوننا عقولنا، ولكن اعتبر الآخر الشبعان، فإنه قاعد راكد أو نائم.

فالعواطف هي المواطر التي تحركنا، والاتجاهات والميول والغايات إنما هي عواطفنا التي نتحرك بها إلى الدراسة والجد وغير ذلك، وهي كما تحرك أجسامنا تحرك أيضًا أذهاننا، فننتبه بعد الغفلة، وننشط بعد الفتور.

والتفاؤل والتشاؤم، وكذلك الطموح والركود اتجاهات، ولكل منها خارطة روحية أو ذهنية أو نفسية يرتسم بها العالم، ويحدد ما فيه من قيم وأوزان اجتماعية أو بشرية، وبهذا جميعًا يتجه نحو غاية، أو يرى رؤيا ويتخذ أسلوبًا؛ فالمتفائل يتحمس ويتحرك ويجد لذة العيش، والمتشائم يتبلد ويركد ويجد الحياة ماسخة لا يتطعمها. ومن هنا — مثلًا — قيمة الدين عند المؤمن؛ فإنه يجد فيه الرؤيا كما يجد الأسلوب، فيكون الدين له بمثابة الصابورة التي تتزن بها حياته، ولا تتقلقل إذا ضربتها الزعازع والكوارث.

والرؤيا هي ثمرة التفاؤل؛ لأن المتشائم لا يرى رؤيا، فلا يمكن — مثلًا — أن تكون اشتراكيًّا تؤمِّل المساواة والإخاء بين البشر إلا إذا كنت متفائلًا، والعكس صحيح؛ لأن الرجعي المحافظ يؤمن بأن الشر غالب على الطبيعة البشرية التي لا تتغير ولا يمكن معالجتها، فهو لذلك متشائم بلا رؤيا؛ ولذلك يكافح الأول ويركد الثاني.

وقس على هذا، فإن الرؤى والمثليات، كلتاهما تُكسبنا روح الكفاح، وهذا الروح يحمِلنا على الدراسة والرقي؛ فنجد لذة الحياة في الكفاح كما نرتقي به.

الكفاح ضد الاستعمار والإمبريالية، والكفاح ضد التعصب الديني واللوني، والكفاح ضد المرض والجهل والفقر والظلم، كل هذا تتحرك به عواطفنا وتنشط، بل كدت أقول: تتذكى عقولنا. ونحن بهذه الأنواع من الكفاح لا نخدم أمتنا فقط، بل نخدم أنفسنا بترقية شخصيتنا، ونجعل حياتنا حافلة بشئون ومشكلات اجتماعية وبشرية تجعلنا نتعمق ونتوسع في الحياة.

وربما كان أعظم الاتجاهات اتجاه الحب باعتباره أسلوبًا للعيش؛ لأن الحب يزيد الفهم؛ أي إننا نفهم أكثر عندما نحب، ونفهم أقل، أو أحيانًا لا نفهم، عندما نكره. ألا ترى أن الأم تفهم الشيء الكثير من إيماءة طفلها أو أي طفل آخر إذا كانت تتجه وجهة الحب، في حين غيرها الجامد أو غير المبالي أو الكاره لا يفهم شيئًا؟!

وهناك من يقول: إن الحب يُعمي، ولكن الحقيقة أن الحب يُبصر ويفتِّق الذهن للفهم والمعرفة، ولكن الكراهة والحقد والبغض والنفور، كل هذه تُعمي وتُغشي على عيوننا وعقولنا، فلا نبصر ولا نفهم.

والرجل الذي يحب الحياة الفنية، ويحب الإنسان والطبيعة، ويحب الثقافة، يجد أنه بقدر السعة في حبه يزداد فهمه وتعمقه ورغبته التي لا تنقطع في الاستزادة من الفهم والدرس والاستطلاع، ثم هو بهذا الحب يجد الرؤيا التي يهدف إليها في إصلاح منشود، أو ظلم يُرفع، أو اختراع يحقَّق، فيعيش سعيدًا بهذه الأفكار، ويشعُّ ضياء على كل ما يمسه؛ كأن ذهنه مفسفر يضيء على ما حوله.

ومثل هذا الرجل يدين بدين مقدس، ولا عبرة بأنه يخالف التقاليد؛ لأن الدين هو نقطة التبلور في اختباراتنا وثقافتنا، والرجل الذي يُختبر كثيرًا، ويدرس كثيرًا، ويتجه وجهة الحب، لا بد أن يصل إلى هذه النقطة، وأن يرى رؤيا الدين. ومن هنا كفاحه وإنسانيته؛ لأنه في جميع كفاحه الماضي إنما كان يحاول أن يكون إنسانًا إنسانيًّا، وأن يحمل البشر على أن يكونوا إنسانيين.

وإذا كان رجل التقاليد ينبذه بأنه ملحد أو كافر لأنه يضل في اشتباكاته الثقافية، فإن غيره من المتعمقين يعرف إيمانه. هذا الإيمان الذي وُصف به فولتير في كفاحه للمتعصبين والمستبدين إزاء رجال التقاليد من كهنة رجال الدين المسيحي في فرنسا. ونحن الآن نعرف أن الدين، بل القداسة كانت في قلب فولتير، وأن الكفر كان في قلوب أولئك الكهنة.

وخلاصة القول: إن فن الحياة يقتضينا أن تكون لنا اتجاهات وميول تنتهي إلى رؤيا، فنكسب منها المذهب البشري، بل الدين، ونجهد ونخدم في تفاؤل وحب؛ نحب الإنسان والشرف والمجد والصحة والخير، ونحب الحيوان والنبات والجبال والأنهار والرسوم الفنية والمدن التاريخية، وبذلك لا نركد، بل نبقى على نشاط دائم مكافحين محبين للخير، كارهين للشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤