الفصل الرابع عشر

فسطاط عمرو

امتطى أركاديوس جواده وسار قاصدًا الإسكندرية في غير طريق الجند، وقد امتلأ بالفوز على العرب والأخذ بالثأر، وكلما تخيل ذلك انتعشت آماله، وآثر أن يرى أرمانوسة وقد كلله الظفر، على أن يفر بها خلسة إلى حيث لا يعلم.

أما مرقس فيمم معسكر العرب بالقرب من بابل، في المكان الذي فيه جامع عمرو الآن، فرأى الأرض مقفرة ليس فيها إلا بقايا الأطناب وما تركه الجند من الألبسة والأسلاب، ورأى فسطاط عمرو لا يزال منصوبًا في مكانه لا يخفره أحد، فعجب لذلك ومشى حتى دنا منه فإذا هو خالٍ ليس فيه إلا بعض اليمام المعشش في سقفه أو في بعض ثنايا الجدران، فوقف ينظر يمنة ويسرة، فرأى عبدًا يقترب منه عرف أنه من عبيد العرب الذين يقومون بخدمة الجند من احتطاب وسقاية ونحو ذلك، وقبل أن يصل العبد صاح في مرقس أن يخرج من الفسطاط على عجل، فعجب لذلك وخرج ينتظر وصوله، فلما وصل سأله بالعربية، وكان قد حفظ بعضها: «ما أمر هذه الطيور وهذا الفسطاط؟»

قال: «إن مولانا الأمير أمر ببقاء الفسطاط منصوبًا محافظة على حياة هذه الطيور لأنها كانت معششة فيه يوم عزمنا على الرحيل، فلم يشأ الأمير عمرو تقويض هذه الخيمة رفقًا بصغارها، وبعد أن أقلع الجند وساروا، خاف أن يعتدي أحد المارة على هذا الفسطاط لجهله سبب بقائه، فأمرني بالرجوع والإقامة هنا ريثما يعود هو من الإسكندرية ظافرًا حامدًا إن شاء الله.»

فأعجب مرقس بالمسلمين وازداد ميلًا إلى الرضوخ لسلطانهم، ثم سأل العبد عن مسير الجند فقال: «إنهم سائرون على رأي المقوقس.» قال: «وهل سار المقوقس معهم؟» قال: «إنه في مقدمتهم، بل هو يتقدمهم عدة أميال يهيئ لهم وسائل النقل والطعام، ويمهد لهم الطريق، وينشئ الجسور وغير ذلك مما يحتاج إليه الجند في مسيرهم.» قال: «ومتى أقلع المقوقس؟» قال: «بعث أهله في الصباح باكرًا، ثم أقلع الجند في الضحى وهو معهم ولكنه تقدمهم كما أخبرتك.»

قال: «ألا تعلم أين سار أهله؟» قال: «لا أدري، وما يهمك من أهله؟» قال: «أنا من أهل قصره.» قال: «إذا أسرعت أدركت المقوقس والجند لأنهم سائرون ببطء.»

فودعه وسار مسرعًا على جواده، فأدرك العرب قبل أن تغرب الشمس وقد حطوا رحالهم للمبيت، فوجه انتباهه نحو خيمة سيده فلم يرها، فسأل عنه فقيل له إنه على بضعة أميال في المقدمة، فأسرع حتى بلغ مضربه، وقد خيَّم الغسق، فلم يرَ أحدًا غير الحاشية، فسأل عن المقوقس وأهله فأجابوه بأنه تحول إلى بعض القرى يخابر شيوخها ليعدوا الرجال لخدمة العرب فيما يحتاجون إليه في أثناء مسيرهم؛ لأن رجاله وحدهم لا يكفون، وقد أرسل بعضهم إلى شيوخ القرى في بعض المهام.

فقال: «وأين السيدة أرمانوسة؟» قالوا: «أرسلها وخادمتها في سفينة إلى بلدة في ضواحي الإسكندرية تقيم مع بعض أهلها ريثما تنتهي الحرب.»

قال: «ما اسم تلك البلدة؟» قالوا: «مريوط.»

فعرفها وأراد الخروج توًّا قبل أن يأتي المقوقس ويستبقيه معه، ولكن الظلام منعه، فتنحى للمبيت في قرية قريبة يعرف فيها صديقًا، فبات عنده وبكَّر قاصدًا مريوط.

أما أرمانوسة فكان أبوها قد أرسلها إلى مريوط وقاية لها من غوائل الحرب فسارت في مياه النيل المبارك، وقد أعد لها الملاحون سفينتها وجهزوها بكل ما تحتاج إليه من أسباب الراحة، فجلست في صدر السفينة وبربارة بين يديها، ثم تذكرت حالها وأخت تفكر في أركاديوس وما قد يبدو منه بعد علمه بسفرها، وتوقعت أن يأتيها مرقس بالخبر، وكانت تخاف أن يكون مكدرًا، وكلما فكرت فيه تقلب شعورها بين الخوف والاضطراب والارتياح والبغتة، وما زالوا سائرين يرسون ليلًا ويقلعون نهارًا حتى أدركوا مريوط بعد بضعة أيام، وكان مرقس قد سبقهم، ووقف في انتظارهم عند مرسى السفن، فرأى أهل المدينة يتأهبون لاستقبال ابنة حاكمهم، وقد وقفوا عند الضفة فوقف معهم.

•••

فلما رسا القارب تقدم بعض النسوة من أعيان البلدة، فاستقبلن أرمانوسة، وبربارة تصحبها، واشتغل الرجال بنقل الأمتعة، وأرمانوسة تسلم سلامًا رقيقًا، والكل ينظرون إليها ويعجبون بهيئتها وجمالها. أما مرقس فلم يرد الظهور أمامها حينئذ لئلَّا يضرها الاضطراب أو البغتة، وكانوا قد أعدوا لها مركبة ذهبت فيها إلى منزل شيخ البلد، فسار مرقس في أثرها حتى إذا دخلت استأذن عليها فأذنت له، واستقبلته بربارة أولًا وسألته، فقص الخبر عليها فدخلت به إلى أرمانوسة، فحالما رأته خفق قلبها واستطلعته الخبر فطمأنها، وروى لها ما تم عليه الاتفاق مع أركاديوس، ففكرت قليلًا ثم قالت: «أذهب أركاديوس إلى الإسكندرية للحرب ثانية؟»

قال مرقس: «نعم يا مولاتي، ولكنه حريص على حياته، والله حارس له.»

فنظرت إلى بربارة وقالت لها: «ألم يقسم لي أنه لن يشهد حربًا؟»

فقال مرقس: «العفو يا سيدتي، وما الذي يفعله وقد رأى نفسه وحيدًا وأنت مع سيدي المقوقس؟»

فقالت والدمع يكاد يتناثر من عينيها: «نعم إن الذنب ذنبي. نعم أنا تركته وهو لم يتركني.» وحولت وجهها فأدرك مرقس أنها تريد الاختلاء ببربارة فخرج من الغرفة، فما كاد يخرج حتى أطلقت سراح دموعها وقالت: «لقد ارتكبت ذنبًا كبيرًا، ولكن ما العمل؟! آه ماذا أفعل؟ أكنت أترك أبي وأهجر بيته، وقد رباني وكفلني وأحبني وترك كل شيء من أجلي؟ آه! آه …» وأجهشت في البكاء ثم قالت: «ولكن أركاديوس. أركاديوس حبيبي …» وكانت بربارة مطرقة تفكر صامتة، فلما قالت أرمانوسة: «حبيبي» رفعت رأسها وقالت: «بل هو الآن أقرب حبيب.» فأدركت أنها تذكرها باقترانهما، وأنه أصبح زوجها، فقالت: «نعم إنه أقرب من الحبيب وألصق من الأخ وأعز من الروح.»

فقالت بربارة بصوت منخفض: «بل هو أقرب من الأب، تذكري قول الكتاب المقدس.» فعلمت أنها تذكرها بأمر الكتاب القائل: «يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته.» فقالت لها: «ولكنك لا تجهلين يا بربارة أن إكرام الوالدين من وصايا الله العشر.» فأُفحمت بربارة وصمتت، ثم قالت: «هلم يا سيدتي إلى الاغتسال وتبديل الثياب والاستراحة من وعثاء السفر، وأنا أضمن لك الراحة، وهي لا تكون إلا بالوفاق بين والدك وعريسك، وعلى الله التوفيق.» فلما سمعت أرمانوسة قولها أشرق وجهها، ولكنها استبعدت ذلك الوفاق وظلت صامتة، ثم تحولت إلى حجرتها وخدم المنزل ينتظرون أوامرها.

أما مرقس فظل في حديقة المنزل ينتظر إشارة أرمانوسة حتى خرجت بربارة وأوصته بأن يذهب إلى الإسكندرية ويحتال في الدخول على أركاديوس ويطمئنه على أرمانوسة ثم يعود فيطمئنها عليه.

فاستراح بقية ذلك اليوم، وأصبح في اليوم التالي فلبس لباس الروم وحمل بيده علمًا أحمر كان أركاديوس قد أوصاه بحمله ليعرفه به عن بعد فيدعوه إليه، فلما أطل على أسوار الإسكندرية وقف على مرتفع فأشرف على المدينة وقصورها، ووراءها بحر الروم يرغي ويزبد، وقد علا هديره، ووقف الجند على الأسوار في مراميهم وأبراجهم، وخفقت الأعلام فوق رءوسهم، فهاله منظرهم، وخاف أن يرميه أحدهم بنبل أو سهم، فسار مبتعدًا على حذر حتى أتى الموضع الذي عينه له أركاديوس، ولم يكد يقف هناك هنيهة حتى رأى رجلًا خارجًا من المدينة يناديه، فأسرع إليه فإذا هو رسول أركاديوس في انتظاره ليأتي به إليه فدخلا المدينة، ولم تكن هذه أول مرة دخل فيها الإسكندرية، ولكنه رأى فيها هذه المرة غير ما عهده، فقد تزاحمت الأقدام، لما تقاطر إليها من جالية الروم من سكان وادي النيل بعد فتح الحصن، فازدحمت أسواقها بهم ولا سيما سوق المأكولات والمشروبات، ومشى يتأمل المساكن وحال الناس من الاضطراب، فوصل إلى منزل عرف أنه منزل يحيى النحوي وكان قد سمع حديثه من زياد العربي، فأحب أن يراه لأنه على رأي المقوقس فسأل رفيقه قائلًا: «أليس هذا بيت يحيى النحوي؟»

قال: «بلى، هذا هو بعينه، ولكنه ليس هنا الآن، فقد هجر الإسكندرية منذ اضطهده القوم أكثر من ذي قبل.» فقال: «وإلى أين ذهب؟» قال: «لا أدري، لعله يقيم في بعض الأديار أو بعض المكتبات.»

ثم مل مرقس السير فقال: «إلى أين نحن ذاهبان؟» قال: «نذهب إلى القائد أركاديوس.»

قال: «وأين هو؟» قال: «هو في الملعب مع سائر القواد يلعبون بالأكر ترويضًا لأجسامهم، وكذلك يفعلون في كل صباح.»

قال: «وما أدراك أني آتٍ إليه؟» قال: «علمك الأحمر؛ لأن مولاي القائد أركاديوس أوقفني عند باب الحصن، وقال: إذا رأيت رجلًا حاملًا علمًا أحمر مارًّا بجانب السور فجئني به، وقد أوصاني ألا أكلمك أثناء الطريق، وهذا شأننا في مثل هذه الحال، فالأولى السكوت لئلَّا يرانا أحد فيشي بنا فأعاقب.»

فسكتا وسارا حتى أتيا الملعب في أطراف المدينة من جهة البحر، فدخل الرسول أولًا، ثم دخل مرقس إلى ساحة كبيرة، فرأى أركاديوس قادمًا نحوه، وقد ترك رفاقه القواد جلوسًا على كراسيهم وعلى دكة من الرخام قائمة على أعمدة منقوشة، وفيهم بطريق كبير على كرسي ضخم مموه بالذهب الخالص، فلما التقى بأركاديوس همَّ بتقبيل يده، فدعاه أركاديوس إلى السير معه، حتى دخلا غرفة من غرف الملعب، وسأله عن أرمانوسة، فقص عليه خبرها وخبر الجند، فقال أركاديوس: «الذي أعلمه أن العرب حاربوا جندنا في مريوط.»

قال مرقس: «تلك مدينة، وهذه قرية، والاسمان متشابهان.»

فسُرَّ لوجودها في مكان أمين بعيدًا عن المعسكر، وأوصاه أن يعود إليها بالتحية ويطمئنها.

وكان البطريق وقواده قد علموا بقدوم مرقس جاسوس أركاديوس، وأنه أتاه بأخبار العرب وحركاتهم، فلما خرج أنصتوا لسماع ما سيقصه عليهم أركاديوس، فأطلعهم على ما علمه وزاد فيه وهذب.

فقال البطريق: «يلوح لي أن جاسوسك عالم بدخائلهم.»

قال: «إنه يا مولاي واحد منهم، وهو أقرب القبط إلى المقوقس، ولكنه لا يرى رأيه في خيانة الدولة، وسيأتينا بالأخبار ويبين عدد جند العرب وكل حركاتهم ومقاصدهم.»

فضحك البطريق ضحكة ارتج لها بطنه وأجفل سامعوه وقال: «ما عسى أن يكون أمر هؤلاء البدو الحفاة؟! ألمثل هؤلاء أقمنا المتاريس ونصبنا المجانيق وأعددنا الرجال؟!» قال ذلك وأغرق في الضحك، وفي ضحكه معنًى لم يدركه من الحضور غير أركاديوس، فاستشاط غيظًا لعلمه أنه يوبخه لخروج الحصن من أيديهم إلى تلك الشرذمة من العرب الحفاة، وكان البطريق قد وبخ أباه الأعيرج عند عودته من الحصن، وهدده ولامه على انكساره وفراره بمن معه من الرجال، وأرسله إلى القسطنطينية ليرى الإمبراطور هرقل رأيه فيه، وكان أركاديوس عند وصوله إلى الإسكندرية، وإظهاره العذر الذي تم الاتفاق عليه مع مرقس لم يؤانس ارتياحًا من البطريق؛ لأن هذا لا يريد أن يكون لغيره يد في قهر ذلك العدو، ولم يصرح بذلك، لكن عبارته نمَّت على ما في ضميره.

أما أركاديوس فلم يكن يجهل شيئًا من سِرِّ البطريق، ولكنه تجاهل التماسًا لنيل بغيته.

وبعد بضعة أيام جاء العرب وعسكروا عند أسوار الإسكندرية وحاصروها، ومرقس يتردد سرًّا بين أركاديوس وأرمانوسة.

واستمر الحصار وأركاديوس لا يدري ما الذي يصيبه من عواقب تلك الحرب، فإن كانت الغلبة للروم، وهذا ما يتمناه قلبه، خاف أن ينتقم الروم من المقوقس، فيفتكوا به وبأهله، فيصيب أرمانوسة سوء لا يستطيع دفعه، وإذا كانت الغلبة للعرب وتصور دخولهم الإسكندرية واستيلاءهم على قصورها وخزائنها وأسواقها وخيراتها اسودت الدنيا في عينيه، ولكنه كان يرى من خلال تلك الظلمات سلامة أرمانوسة تشرق كالقبس في الديجور، فلبث ينتظر ما يجيء به القضاء.

وطال الحصار أشهرًا، ومل العرب الانتظار فأجمعوا على الهجوم وتسلق الأسوار، وجاء من أبلغ أرمانوسة الخبر فخافت على أركاديوس، فأرسلت من جاءها بمرقس فقالت له: «هل أتاك خبر العرب؟»

قال: «قد علمت، ثم ماذا؟»

قالت: «ماذا علينا أن نعمل وأركاديوس في المدينة في خطر القتل؟»

قال: «أيحتاج مرقس إلى تنبيه وقد وقف حياته وسخر عواطفه وقواه وجوارحه لخدمتك؟! إني محتاط محاذر، فألقي عنك القلق واتكلي على الله.» ثم ودَّعها وقصد إلى معسكر العرب وتفهَّم خططهم، فعلم أنهم مهاجمون المدينة في الصباح الباكر من جانبها الغربي، ففتقت له وسيلة ينقذ بها أركاديوس من الخطر، فذهب إلى الإسكندرية على عادته، ووقع ذلك في عيد مريم العذراء، فلقيه أركاديوس وسأله: «ما خبرك؟»

قال: «كانت سيدتي قد نذرت يوم حصار الحصن أن تجعلك توقد شموعًا للعذراء مريم بيدك لكي ينقذك الله من الخطر فنجوت، وشُغلتم بالأسفار والنذر باقٍ لم يوفَّ، وقد رأت سيدتي بالأمس مريم العذراء كما يرى النائم، فعتبت عليها هذا الإهمال، فأفاقت مذعورة للإخلاف في وفاء النذر وأنت في خطر، ولما كانت ذكرى سيدتنا مريم تقع غدًا فأستحلفك بمحبتها أن تأتي معي إلى كنيسة العذراء في الصباح لتفي بالنذر.»

قال: «وأين الكنيسة؟ وكيف أفارق حصني؟»

قال: «أما الكنيسة ففي طرف المدينة بالقرب من الرابية التي كانت المكتبة عليها قبل احتراقها، فلنذهب معًا، ونعود قبل الضحى، أما حصنك فقد مضى أشهر والعرب ساكنون لا يُبدون حراكًا، فهل يتفق أن يهجموا اليوم وأنت غائب؟ فهب أنك لا تزال نائمًا.» فأذعن أركاديوس. وفي فجر الغد أيقظه مرقس واخترقا المدينة حتى انتهيا إلى كنيسة العذراء، فقرع مرقس الباب وطلب القسيس، فاستغرب هذا لأن الكنيسة للأقباط اليعاقبة، والذين أرسلوا يدعونه من الروم الملكيين، ففتح الباب بمفتاح ضخم ويداه ترتجفان ضعفًا وخوفًا، ودخلا من باب ضيق، فكلمه مرقس بالقبطية وطمأنه، فرحب بهما، فأفهمه مرقس أنهما آتيان لوفاء نذر للعذراء والصلاة وإضاءة الشموع، وأوعز إليه أن يطيل الصلاة إجابة لرغبة الطالب، فوقفا وأركاديوس قلق على معقله، وخاف أن يراه أحد من الروم هناك فيشي به إلى البطريق، وكان مرقس يحتال في أثناء الصلاة فيخرج من الكنيسة ويتسلق الأكمة فوق أنقاض المكتبة فيشرف على الأسوار، فعلم من حركات الجند هناك أن العرب قد هاجموا المدينة باكرًا جدًا، ولم يأذن بانتهاء القداس حتى انقضى الهجوم ورجع العرب عن الأسوار، فما كاد القسيس يفرغ من صلاته حتى خرج أركاديوس مسرعًا يلتمس السور، وكان الوقت ضحى، ومرقس معه فما وصلا إلى الطرق العامة حتى رأيا الناس في هرج يهرعون إلى قصر الحكومة فبُغت أركاديوس واستفهم، فأخبروه الخبر، فأسرع يلتمس معقله، ومرقس في أثره فمرَّا بدار البطريق فرأيا الناس يتزاحمون بالمناكب رجالًا ونساءً كأنهم يتطلعون إلى شيء غريب هناك، فسأل مرقس عن السبب فعلم أن ثلاثة من العرب دخلوا المدينة فقبضوا عليهم وسيقوا إلى الحاكم.

فقال أركاديوس: «وهل دخل العرب الإسكندرية؟»

قالوا: «كلا، ولكن هؤلاء الثلاثة دخلوها من ثغرة في السور، ثم أُقفلت الثغرة فظلوا أسرى، وتقهقر رفاقهم وانتهى الهجوم.»

•••

نظر أركاديوس إلى مرقس نظرة استفهام، ولسان حاله يقول: «ما قولك في هذا الاتفاق الغريب؟»

فقال مرقس: «هلم بنا يا سيدي ندخل الدار لعلنا نعرف أحدًا منهم.»

فقال أركاديوس: «كيف أدخل؟» قد يراني البطريق، وعهده بي أني مقيم في حصني؟ لا أقول هذا خوفًا منه، ولكني لا أريد أن يظن بي الجبن أو الخيانة.»

فقال مرقس: «إن الهجوم لم يكن من جانب حصنك، وما أنت بمقصر فضلًا عن أن الواقعة انقضت، ورجع العرب إلى معسكرهم، وانظر إلى قوادكم كيف تجمعوا في الدار لمشاهدة الأسرى. ألست واحدًا منهم؟ فاجعل أنك جئت فيمن جاء منهم، وثق يا مولاي أن صلاتنا في هذا الصباح هي التي ساعدت على رد العرب وحفظ أسوار المدينة، فإن للسيدة العذراء كرامة.»

فسكت أركاديوس وتحول إلى الباب المعد لكبار الضباط فوسَّعوا له، فدخل ودخل مرقس معه، فرأيا صحن الدار غاصًّا بالناس من الأعيان والوجهاء والقواد، فانخرطا في سلكهم وتطلعا فرأيا ثلاثة من العرب في لباس متشابه جيء بهم إلى القاعة التي فيها البطريق، وتفرَّس مرقس فيهم عن بعد فلم يرَ غير أقفيتهم، فلما وصل الناس إلى باب القاعة لم يأذن الحجاب لغير كبار القواد، فدخل أركاديوس، ودخل مرقس معه، وجلس الجميع على كراسيهم بين يدي البطريق، وأوقفوا الأسرى في الوسط، وكان مقعد البطريق على دكة في الصدر، ومجالس القواد على كراسيهم إلى يمينه ويساره، وأرض القاعة مرصوفة بالرخام الملون، والجدران مزينة بالرسوم الجميلة على أبدع ما رسم الرسامون.

وما كاد نظر مرقس يقع على الأسرى حتى عرف أنهم عمرو بن العاص، ووردان، ومسلمة بن مخلد. فنظر أركاديوس فرآه يرنو إليه كأنه يستقدمه فتقدم، فهمس في أذنه: «أليس هذا هو الأمير عمرو ابن العاص؟» قال: «بلى.»

فسُرَّ أركاديوس بأسره، ثم ذكر يوم رآه للمرة الأولى في بلبيس، وما كان من حمايته أرمانوسة وتأمينها، وكيف أرسلها إلى أبيها سليمة آمنة، فلبث صامتًا يترقب.

أما عمرو فكان ينظر إلى البطريق، ويلتفت يمنة ويسرة لا يعبأ بما يبرق أمامه من السيوف، وما يتلألأ على رءوس الجماعة من القلنسوات المزخرفة، أو الخوذ اللامعة، أو الثياب الموشَّاة بالألوان الزاهية، ووقف رابط الجأش ورفيقاه إلى جانبيه، وتطلَّع بهدوء وسكينة في وجوه الجالسين، فعرف مرقس، وتأمل وجه أركاديوس فخُيِّل إليه أنه يعرفه، ولكنه لم يذكر أين رآه، ولم يعجب من لقاء مرقس هناك لأنه كثيرًا ما سمع بخروجه إلى الإسكندرية ليتجسس للمقوقس.

فصاح البطريق يطلب الترجمان قائلًا: «أين الترجمان؟ أين زياد العربي؟»

فدخل زياد، فعرفه عمرو، وكان قد عاد إلى مولاه يحيى النحوي بإيعاز من عمرو بعد فتح الحصن، ليكون عينًا له عند الحاجة، فوجد الروم قد زادوا في اضطهاد يحيى حتى لم يعد يستطيع الظهور، فاختبأ، والروم يعتقدون أنه فر من الإسكندرية، فتظاهر زياد بنصرة الروم، وكانوا في حاجة لمعرفة اللسان العربي، فصار في جملة المترجمين، ونظر زياد في الجالسين فرأى أركاديوس ومرقس، فتذكر ما مر بهم جميعًا أمام حصون بلبيس، وأن عمرًا أحسن إليهم جميعًا.

وخاطب البطريق الأسرى بلسان زياد قائلًا: «ها أنتم أولاء أسرى في أيدينا، فقولوا: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا وحملكم على قتالنا؟»

فأجابه عمرو بقلب لا يهاب الموت: «أتينا ندعوكم إلى الإسلام فيكون لكم ما لنا، أو أن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فلا مفر عن قتالكم، فإن الله يأمرنا بجهاد عدونا إلا إذا أجبتمونا إلى أحد الأمرين.»

فلما فهم البطريق قوله عجب لأنفته وشهامته، وقد كان يتوقع أن يراه يتذلل ويستعطف، فارتاب في أمره، والتفت إلى أعضاء مجلسه، فإذا هم في مثل حاله، فقال لهم باليونانية: «يظهر من أنفة هذا الرجل وكبر نفسه أنه من وجوه العرب، وقد يكون من كبار قوادهم، فلا بد لنا من قتله.» ودار الحديث بين القواد في مثل هذا المعنى، فخاف مرقس أن يُقتل عمرو فيفشل جند العرب ويتغلب الروم، فتعود العائدة على المقوقس وأرمانوسة، فمال إلى إنقاذ عمرو. أما أركاديوس فقد همَّ بأن يصرح بما يعلمه عن عمرو. غير أن مرقس تقدم إليه وقال: «أذكر يا مولاي أنه لولا هذا الرجل لكانت سيدتي أرمانوسة ترابًا أو في قبضة يوقنا الخائن، فلولاه لقبض عليها وسافر بها إلى القسطنطينية غنيمة باردة، فأنقذها منه وحفظ حياتها، وأنا كنت الوسيط في ذلك كما تعلم، فهي مدينة له. أفيليق بنا أن نساعد على قتله؟ وهبْ أنهم قتلوه، فعند العرب كثيرون غيره.» فسكت أركاديوس، ولكنه لم يستطع البقاء في القاعة، فخرج، وظل مرقس وفي قلبه وجل على حياة عمرو. وأما زياد فكان ينظر إلى عمرو بطرف خفي كأنه يلومه على مجازفته، وكان وردان يعلم اليونانية فلما فهم ما قاله البطريق أحب أن يُفهمه عمرًا فلم يرَ خيرًا من أن يلكمه منتهرًا، فلكمه وصاح فيه: «ما بالك تهذي يا رجل؟ ومن أنت حتى تنسب إلى سادتك ما قد نسبت؟ ومن أقامك متكلمًا عنهم؟ وما أدراك بأغراضهم؟ ولست إلا من صعاليكهم.»

فسأل البطريق زيادًا عما يقول وردان، فترجمه للبطريق وفخَّمه وزاد فيه ما يرفع الشبهة عن عمرو، فازداد البطريق تعجبًا لصدور تلك الجرأة من صعلوك، فقال لوردان: «وما غرضكم الآن؟»

قال: «اعلم يا سيدي أن أميرنا أعزه الله أقرب الناس إلى المسالمة، ولكنه يود قبل النكوص أن يعقد مجلسًا من كبار الجيشين يتفقون على شروط الهدنة، فإذا أذنت برجوعنا إليه أخبرناه بما لقينا من حسن الوفادة وكرم الأخلاق.»

فضحك البطريق وقال: «شروط الهدنة؟ أي شروط تريدون؟ سوف نعيدكم على أعقابكم القهقرى. قولوا لأميركم أن حامية الإسكندرية ليس فيها أحد من القبط، وإنما هي كلها من أبطال الروم، وليعلم أنه لولا خيانة المقوقس ما استطاع البقاء في وادي النيل يومًا واحدًا، وسيلقى ذلك الخائن منا ما يشيب لهوله الأطفال، ووالله ومريم العذراء لأجعلن لحمه ولحم أهله طعامًا للأسماك. عودوا إلى أميركم بذلك.»

فهاج غضب عمرو لتلك اللهجة، ولكن زيادًا ووردان ومرقس كانوا ينظرون إليه خلسة يخففون عليه مخافة أن يصيبه الأذى، فصمت ولم يُجب، وأشار البطريق أن يُخرجوهم، فعادوا بهم إلى باب المدينة وأطلقوا سراحهم، فنجوا.

أما أركاديوس فقال لمرقس بعد خروج عمرو: «لقد ارتكبت عارًا كبيرًا يا مرقس لأني كنت أستطيع قتل أمير العرب ولم أفعل.»

فقال مرقس: «كيف تقتله وكنت أسيرًا عنده ولم يقتلك؟» قال: «ولكنه لم يطلق سراحي.»

قال: «ألم يطلق سراح سيدتي أرمانوسة؟! ألم ينقذها من خيانة يوقنا اللعين؟! ألم يكن مجيء العرب إلى هذه البلاد سببًا لنجاتها من قسطنطين بن هرقل؟! لا تندم يا سيدي على خير فعلته جزاءً لخير نلته، وزد على ذلك أن مثلك يفتخر بقتل الأمراء في ساحة الوغى وليس في أغلال الحديد.»

فأُفحم أركاديوس وسكت، ثم تحول مرقس إلى زياد فسلَّم عليه وأطنب في حسن ترجمته، ثم ودع وانصرف، ولم يكن أركاديوس قد رأى زيادًا في الإسكندرية منذ رجوعه إليها، فلما لقيه دعاه إليه وقال له: «عهدتك في جند العرب، فما الذي جاء بك؟» قال: «عدت إلى بلدي، فقد كنت في جند العرب لمهمة ورجعت.» فلم يشأ أركاديوس أن يطيل الحديث لعلمه باطلاع زياد على كثير من سرائره في حب أرمانوسة.

وخرج عمرو من السور ومعه رفيقاه وكأنه في حلم لا يكاد يصدق أنهم نجوا ثم التفت إلى وردان وقال له: «ألم ترَ يا وردان رجلًا قبطيًّا كنت أعهده في خدمة المقوقس، وأخالني رأيته مرارًا؟»

فقال رودان: «نعم رأيته وعرفته فهو مرقس الذي جاءنا مع زياد العربي يوم وصلنا الفرما. ورأيت زيادًا وهو يترجم كلامك للبطريق، لقد سررت والله بترجمته، لأني رأيته يترجم ويفسر على هوانا، ولكنني رأيت رجلًا بالقرب من مرقس لا أظنك عرفته، أما أنا فأراني عرفته من قبل، ولعله الرجل الذي قبضنا عليه خارج بلبيس ولم نعرف حقيقته، ثم فر منا أثناء الهجوم، ويلوح لي أنه من كبار القواد، ويستدل على كبر نفسه من كتمانه أمرك، ولا ريب في أنه عرف أنك الأمير، وتلك مروءة أهل الوفاء.» ووصلوا إلى المعسكر والجند يبحث عنهم، فسُرُّوا بقدومهم، فجلسوا يقصون الخبر عليهم وهم فرحون.

•••

وكان بعض أهالي الإسكندرية قد ملُّوا الحصار، فأخذوا في الفرار بالسفن والزوارق، ولم يكن أركاديوس غافلًا عن حال الإسكندريين وضعفهم وخوفهم وهجرتهم، ولكنه بقي ثابت الجأش صابرًا على أداء واجبه، مع علمه بأنه لا يستطيع فرارًا، ولا هو يبغيه؛ لأن قلبه عالق بمصر، فقضى الشهر الأخير من الحصار في قلق شديد، ظل ليلته ساهرًا يفكر في حاله وحال الإسكندرية، فإذا خُيِّل إليه أن العرب فتحوها تحير في أمره وعز عليه أن يقابل أرمانوسة مغلوبًا على أمره، كما يعز عليه أن يرى أباها وهو الذي خانهم ونصر عدوهم، وفي ليلة من الليالي المقمرة طال الليل على أركاديوس، وعز نومه، فخرج إلى السور، واتجه إلى الشاطئ يصرف هواجسه باستنشاق نسائمه لعل النعاس يأتيه، فمر في الأسواق، وأهلها نيام، لم يسمع غير نداء الحراس ينبه بعضهم بعضًا بشعار الليل، حتى انتهى إلى الشاطئ فأحس برودة الهواء، وتنسَّم رائحة البحر، والتفَّ بعباءته وجلس على صخرة ناتئة، ونظر إلى البر ونور القمر ينعكس على سطحه فينكسر بتحرك الأمواج وينتقل بريقه من موجة إلى أخرى، وحركة الموج تبدأ ضعيفة خافتة فإذا دنت من الشاطئ تعاظم صوتها وأزبدت وتصاعدت منها فقاعات صغيرة تزداد بها رائحة البحر حرافة، فإذا لطمت الصخور وعادت متقهقرة وقد تحول إرعادها إلى دمدمة، كجيش ضعيف هاجم جيشًا قويًّا، فلما دنا منه أطلق قنابله وكر راجعًا وعدوه ثابت لا يكترث به، وقد سرى هذا عنه برهة ثم عادت إليه همومه، وظل يفكر في أمره وفي الحرب وأرمانوسة حتى شعر بالبرد القارس وبالنعاس فنهض وعاد يلتمس حجرته فوق السور.

فلما وصل إلى الحجرة وقف له الحراس فسلَّم وهمَّ بالدخول، فاقترب منه أحدهم فعلم أنه يبغي أمرًا فوقف مصغيًا، فقال الحارس: «إن رجلًا أظنه من أعيان الإسكندرية افتقدك، وهو في انتظارك.»

قال: «وأين هو؟» قال: «هو في غرفة الحراس.» قال: «ادعه.»

ودخل حجرته وقد أضاءها بالشمع، ولم يكد ينزع القباء والخوذة حتى عاد الحارس ومعه رجل قصير الهامة نحيل الجسم متجعد الوجه طويل شعر اللحية عريضها وقد وخطها الشيب، غائر العينين، وعلى رأسه قلنسوة العلماء وفي وجهه ملامح الرومانيين، تدل قيافته على الزهد والتقشف، فلما دخل تهيَّبه أركاديوس فوقف وتلقاه بالتحية ورحب به، وأجلسه، وتأمل في وجهه فلم يعرفه، فعجب لقدومه إليه في الليل، واشتدت رغبته في استطلاع حقيقة أمره، ولبث برهة والرجل يردد أنفاسه يلتمس الراحة من تعب الطريق، ويتهيأ للكلام، ثم نظر إلى وجه أركاديوس وقال: «أأنت أركاديوس بن الأعيرج؟» قال: «نعم، ومن أنت؟» قال: «سوف تعلم، ولكنني أستحلفك بشرفك وبمن تحب أن تسمع حديثي إلى آخره، فإذا لم ترَ العمل به أطلقت سراحي فأعود من حيث أتيت، فهل تعدني بذلك؟» قال أركاديوس: «فمن أنت؟» قال: «لا شك أنك إذا عرفتني استغربت جرأتي في القدوم إليك، ولكنني جئت ناصحًا، فإذا لم تنتصح عدت وما عليَّ بأس.»

فقال أركاديوس: «قل ما تريد، ولكن ما اسمك؟» قال: «قلت لك يا ولدي أني سأطلعك على اسمي، وغاية ما أرجوه منك أن تجيبني عن بعض الأسئلة قبل أن أبوح لك باسمي، وأنا على الحالين بين يديك.» قال: «اسأل.»

فتنحنح الشيخ ومسح وجهه بيده إلى أسفل لحيته، وهو يتفرس في أركاديوس ويبتسم ابتسامًا مقرونًا بالحزن، وقال: «ألست القائد أركاديوس بن الأعيرج قائد حامية الروم في مصر؟» قال: «قلت لك إني هو.» قال: «ولماذا؟»

قال: «لا أدري، ولعله ذهب إليها ليسأل عن سبب سقوط الحصن في أيدي العرب وهو قائد حاميته.»

قال: «وما ظنك بالإسكندرية؟»

فأطرق أركاديوس برهة يفكر، وهو يحاذر أن يبوح بضعف أمله لئلَّا يكون الرجل جاسوسًا، ثم قال: «لو اجتمعت قلوب القواد واتحدت كلمتهم وثبتت أقدامهم فإنها تمتنع عن جند العرب، ولو كانوا ألوف الألوف.»

قال: «ذلك ما نشكو منه، ولكنني أسألك عن رأيك؟ هل تقوى على دفع العرب؟» فقال: «أظنها تقوى.»

فقال الشيخ: «وما دليلك على ذلك وأنت ترى الناس يهجرونها؟ وقد تفرقت كلمتهم وضعف أمرهم، وما ضعفهم إلا من اختلال حكومتهم وانقسام حكامهم.»

قال وقد تجاهل حقيقة الواقع: «وأي انقسام تعني؟»

قال: «أعني الانقسام الذي وقع بعد وفاة الإمبراطور هرقل في هذه الأثناء وكثرة من ادعوا الحق في الملك وقاموا يطالبون به، فأفضى الأمر إلى قسطنطين بن هرقل، فقتلوه بالسم بعد مائة يوم، سقته إياه مارتين امرأة أبيه.»

فلما سمع أركاديوس اسم قسطنطين، وأنه مات، تذكر أنه مناظره القديم على أرمانوسة، وأتم الشيخ كلامه قائلًا: «وعقد الملك بعده لهرقلينة ابنة مارتين هذه، ولم تمضِ مدة حتى نُصِّب قسطان بن قسطنطين، وهم مع ذلك في نزاع دائم؛ فقد تولى كرسي القسطنطينية ثلاثة أباطرة في وقت واحد. أليس ذلك مضعفًا للعزيمة موهنا للقوى؟! ما الذي ترجوه من جند هذه حال دولته؟ كيف يثبت في ساحة القتال؟ وكيف يقاوم العدة والرجال؟ إن الخلل تمكَّن من هذه الدولة حتى كاد يذهب بها. أقول ذلك والأسى ملء فؤادي لأني وُلدت رومانيًّا، والدم الروماني في عروقي، والحميَّة الرومانية في كل جوارحي، ولكنني أرى المستقبل أمامي رأي العين، وهذا شأن الدول منذ أول العمران وهب أن الإسكندرية دافعت العرب ولم يفتحوها، فهل يستطيعون إخراجهم من مصر والأقباط عون لهم؟»

وكان أركاديوس مطرقًا يسمع حديث الشيخ ولا يرى ما يدفع به حجته، فلما وصل إلى ذكر القبط خفق قلبه لتذكره أرمانوسة فقال: «لا تذكر القبط، فإني لا أحب ذكرهم؛ لأنهم هم الذين أخرجوا البلاد من أيدينا إلى أيدي العرب، وهم الذين باعوا دولتهم ووطنهم للغرباء، ولولا ذلك ما استطاع العرب سبيلًا إلى وادي النيل. تبًّا لك يا مرقس.» قال ذلك وحرق أسنانه.

فتبسم الشيخ والتفت إلى أركاديوس كأنه يستمهله إتمام حديثه ثم قال: «نعم يا ولدي، إن المقوقس خان دولته وسلَّم البلاد لعدوها، ولكنك لو أنصفته لالتمست له عذرًا.»

فقال: «وأي عذر ألتمسه وقد خان البلاد خيانة صريحة؟!»

قال: «إنه خان البلاد ولكنه لم يبعها بثمن، إن المقوقس خان دولة الروم مضطرًّا، وهو رومي الأصل مثلنا، فما الذي حمله على الخيانة؟ أطمع في مال أو سلطان؟! أم رغبة في التقرب من عظيم أو زعيم؟! كلا، إن المقوقس خان الروم فرارًا من الظلم وتخلصًا من جور دولتنا واستبداد حكامنا، ما الذي ترجوه من حاكم يسمع كلامهم في تحقيره بأذنه، ويرى قومه يُهانون وتُهضم حقوقهم أمام عينيه، ويرى كنائسه تُقفل وأيقوناتها تُكسر وبطاركتها يُنفون ويُقتلون، وكهنتها يُزَجُّون في السجون؟ وما الذي ترجوه من طائفة ذاقت عذاب الموت وقاست الذل والخسف قرونًا متوالية؟ أترجو منها الإخلاص والطاعة؟ أم تخاف عصيانها وتمردها؟ فالقبط إذا ابتاعوا حريتهم وراحتهم بتسهيل الفتح على الفاتحين، ونحن لا ننكر خيانتهم وإنما أعقل الناس من عذر الناس. هب أن القبط حاربوا مع الروم فهل كنت تتوقع الفوز؟!»

فرفع أركاديوس رأسه وقال: «نعم كنت أرجوه ولا أشك فيه.»

قال: «أراك مخطئًا، وقد رأيت ما حلَّ بالشام وفلسطين والعراق من قبل. إن هؤلاء العرب تألَّفوا يدًا واحدة على عمل ففازوا وفتحوا البلاد، وأخرجوا الروم من الشام، والفرس من العراق، ولا ريب أنها دولة أرسلها الله لاكتساح بقايا الدول الفاسدة من الروم والفرس، فلا بد من فوزها إن عاجلًا أو آجلًا، فلا يلام القبط على استبدالهم بنير الرومانيين نير العرب، وقد وقع إليَّ أن جندكم لما دخلوا الحصن لحمايته ووصلوا إلى كنيسة المعلقة أخرجوا راهباتها مهانات وهن مسيحيات وكسروا الأيقونات والكنيسة مسيحية مثل كنيستهم.»

فخجل أركاديوس لأن رجاله هم الذين فعلوا ذلك، ولكنه تجاهل وظل صامتًا، فأتم الشيخ كلامه فقال: «أتدري ما فعل العرب عند دخولهم الحصن وقد فتحوه وحلَّ لهم نهبه؟»

قال: «ماذا فعلوا؟»

قال: «دخلوا الكنيسة دخولهم معبدًا من معابدهم، فطمأنوا الراهبات وخففوا عنهن، وأقروهن في ديرهن، وكن قد أُخرجن منه يوم دخولكم، وزد على ذلك أنكم نفيتم بنيامين بطريرك القبط، أما العرب فبعثوا يستقدمونه مكرمًا معززًا، وإن عجبت لشيء فاعجب لأنهم يرفقون بالحيوان فلا يمسونه بسوء، فقد ترك أميرهم عمرو فسطاطه منصوبًا بقرب الحصن لأن تقويضه يقضي على يمامٍ عشش فيه، فهل يلام المقوقس لنفوره من الروم وميله إلى العرب؟! ما الذي يرجوه من هؤلاء الفاتحين لنفسه؟! إنه لا يرجو مالًا ولا متاعًا ولا جاهًا ولا شيئًا آخر، ولكنه سيق إلى ذلك مكرهًا. قد يعد عمله خيانة، ولكن فاعله لا يعد خائنًا بل منتقمًا.»

وكان الشيخ يتكلم وشفتاه ترتجفان، ولحيته تنتفض، وأنامله ترتعش، وقد أخذ منه الغضب كل مأخذ، وأركاديوس مطرق يصغي يفكر في أمر هذا الرجل، على أنه أنزله من نفسه منزلة رفيعة لما سمعه من حديثه، وعظم عليه حال الروم لعلمه أن كلام الشيخ حق لا ريب فيه، فنهض وأخذ يمشي في أرض الحجرة ذهابًا وإيابًا صامتًا يفكر، والشيخ جالس كأنه ينتظر ما يبدو من أركاديوس، فوقف أركاديوس وقال: «وما العمل يا مولاي؟»

قال الشيخ: «العمل ألا تلقي بنفسك إلى التهلكة بعد أن علمت ما علمته من ضعف الروم وفرارهم، أما أنت فكلنا يعرف فيك من عزة النفس والبسالة ما يجعلك بمنأى عن إساءة الظن بك، فأنت لا تفر من ساحة الحرب ولا تُسلم للعدو سلاحك، ولكن الرأي قبل شجاعة الشجعان.»

قال: «وماذا أفعل إذن؟» قال: «أرى أن تتنحى عن الحرب إلى مكان تأمن فيه على نفسك، فإذا وضعت أوزارها بعث أمير العرب يستقدمك إليه معززًا مكرمًا، فالإسكندرية مفتوحة لا محالة، ولا يمضي يومان حتى تكون في قبضة العرب عَنْوَة.» قال ذلك وتأوه، ثم عاد إلى الحديث فقال: «تصوَّر يا بني أن الإسكندرية أم العلوم ومحور التجارة ومثال العمران بما فيها من المدارس العالية والمكتبات الشهيرة والكنائس العظيمة والطرق العامرة والأحياء الآهلة والقصور الفخمة والحمامات الكثيرة والمصارف والحوانيت وغير ذلك. تصور أنها ستصير كلها إلى أيدي هؤلاء البدو الخارجين من بلاد قاحلة ليست بذي زرع.»

فقال أركاديوس: «معاذ الله أن تصير إليهم.» فقال الشيخ: «هب أنها لم تصر إليهم الآن فستصير إليهم غدًا، وعندها لا يتيسر لك الفرار والاختباء.»

فابتدره أركاديوس قائلًا: «ولماذا التستر؟! وما الفائدة من الحياة بعد الذل؟! إن ذلك عار على الرجال.» فتبسم الشيخ وقال: «إنك لا تزال في إبَّان الشباب، ويلوح لي أنك لا أهل لك ولا زوج يهمك أمرها، وهب أنك وحيد في العالم لا تحب أحدًا ولا يحبك أحد، فإني لا أرى في اجتنابك هذه الحرب عارًا، إنما العار أن تُلقي بنفسك إلى الموت، وفي الدنيا من يموت لموتك ويعيش لأجلك. عمن تدافع؟! وماذا ترجو؟! وقد قلت لك وأنا شيخ عركني الدهر وعركته إن دولة الروم لم يبقَ لها ظِلٌّ على مصر والشام، فقد خرجت البلدان من حوزتها لفسادها وانقسام رؤسائها فيما بينهم على خزعبلات دينية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكن هذا رأيي اليوم فقط بل هو قول قلته منذ أعوام، فغضب عليَّ حكامنا واضطهدوني ونفوني.»

فاشتاق أركاديوس إلى معرفة الشيخ فقال: «ألم يأنِ لك أن تصرِّح لي باسمك؟» فوقف الشيخ وقال: «لقد عاهدتني عهدًا صادقًا ألا تُلحق بي سوءًا، والوعد على الحر دين، فهل أنت على وعدك؟»

قال: «قل ولا تخف، فإنك شيخ جليل، لا بأس عليك.»

قال: «إني يحيى النحوي.»

فعرفه لأنه كان معروفًا في الإسكندرية ومعدودًا من علمائها، وقد اضطهده الروم لأنه يعقوبي المذهب كالأقباط، فازداد احترام أركاديوس له وتقديره.

ونهض الشيخ وودع أركاديوس فأذن له، وأوصى بعض الحراس بأن يوصله إلى مأمنه، وعاد إلى حجرته وكلام الشيخ يقرع رأسه ويرنُّ في أذنيه، ولا سيما ما ذكره له عن حياته وأحبائه، فهاج به الغرام فأقفل بابه وجلس إلى نافذة تطل على ساحة وراء السور تنتهي إلى معسكر العرب، فأخذ يفكر في أمر دولة الروم وخروج مصر والإسكندرية من يدها وتقلص ظلها عن مصر والشام، وما هي فيه من الفوضى حتى حكم العقلاء بقرب انقضائها، فأسف أسفًا شديدًا واشتد به الأسى، ثم تذكر أرمانوسة وأنها زوجه، وأنه إذا أصابه سوء مسها هي الضر، فوقع في حيرة، وآثر أن يحافظ على حياته، لشعوره بعِظم التبعة التي ألقاها عليه زواجه بها، ولكنه استصعب ترك الإسكندرية والتقاعد عن الدفاع فقضى بقية ليله مترددًا لا يقر له قرار، وفي مساء اليوم التالي جاء مرقس، فحالما رآه خفق قلبه وتذكر مجيئه إليه في حصار الحصن، فتوقع أن يسمع منه خبرًا، فلما دخل وحيَّاه. قال أركاديوس: «ما وراءك؟» قال: «ما ورائي إلا الخير.» وسكت.

قال: «ما بالك لا تتكلم؟ قل ما وراءك؟ إني أراك قلقًا.» قال: «ليس ما يوجب القلق يا سيدي.»

قال: «وهل من بأس على أرمانوسة؟» قال: «لا بأس عليها، ولكني آنست منها اليوم شوقًا عظيمًا إليك، وقد مضى الصوم الكبير، ونحن في أسبوع الآلام، وهي تصلي وتتضرع إلى الله أن يحرسك، فلما أصبحت اليوم — وهو يوم خميس العهد — أفاقت مذعورة وفي نفسها شوق شديد لرؤيتك وتود أن تؤديا فريضة الصلاة غدًا معًا في الكنيسة لأنه يوم الجمعة الكبيرة.»

فابتدره أركاديوس قائلًا: «وأي كنيسة؟» قال: «كنيسة القديس بولس.» قال: «وأين هي؟» قال: «في مريوط.»

قال مغضبًا: «أتريد مني يا مرقس أن أخرج من السور كما فعلت بي يوم حصار الحصن؟ ذلك لا يكون أبدًا.»

فأجفل مرقس لما رأى من غضب أركاديوس ولم يبدِ جوابًا.

فأخذ أركاديوس يذرع الحجرة ذهابًا وإيابًا والاستياء بادٍ عليه، ومرقس واقف، وبعد برهة قال مرقس: «أيأذن لي مولاي في كلمة أقولها؟»

فوقف أركاديوس وقال: «قل يا مرقس، واذكر أني ارتكبت في خروجي من حصن بابل عارًا لا أريد أن أرتكبه هنا.»

قال: «حاشَ لك يا مولاي أن ترتكب عارًا، ولكنني أذكِّرك بشخص عاهدت الله أن تحبه وتحافظ على حياته، فإذا تذكرته فافعل ما يبدو لك.»

فلما سمع أركاديوس ذلك التعنيف اللطيف أطرق برهة ثم قال: «تظنني ناسيًا أرمانوسة أو أنني أتخلى عنها، ولكن الشرف والمروءة يا مرقس … ولا أظن أرمانوسة نفسها ترضى أن يكون زوجها جبانًا يفر من ساحة الوغى.»

قال: «كيف يكون حالها إذا أصاب الإسكندرية سوء؟ ولا أُخفي عليك أننا نتوقع سقوطها قريبًا، لأن العرب يتهيئون للهجوم عليها، والروم يفرون منها، ولا أنكر على سيدي البطل أن الشهامة تقتضيه الثبات إلى آخر نسمة من حياته، ولكن أرمانوسة، اذكر أرمانوسة وما يحلُّ بها.»

فضاق أركاديوس ذرعًا بالتردد ورفس الأرض وعاد يذهب ويجيء ومرقس يتضرع إلى الله أن يغير ما بقلبه ويلهمه أن يأتي معه.

فعاد أركاديوس وأشار إلى سيفه وقال: «أتريد يا مرقس أن أفر من الحصن ولا أستحيي من حسامي هذا؟ كيف لا أخجل؟! بل كيف لا أذوب خجلًا إذا قيل إني فعلت ذلك وأنا أركاديوس بن الأعيرج زوج أرمانوسة؟! فاعلم أني إذا خرجت من هذا الحصن وسقطت الإسكندرية في أثناء غيابي فأنا مائت لا محالة، فدعني أدافع عن دولتي ووطني وشرفي، فإذا عشت عشت شريفًا، وإذا قُتلت متُّ شريفًا وفاخرت أرمانوسة بأن زوجها كان شهمًا مات في سبيل الدفاع عن وطنه وشرفه. ذلك خير لها من الخجل كلما ذكرت الإسكندرية أو دولة الروم.»

فترقرقت الدموع في عيني مرقس لعلمه بقرب الخطر، وبأن العرب يهاجمون المدينة في صباح الغد، فلما رآه أركاديوس يبكي رق لغيرته وحنانه، وتقدم منه فأمسكه بيده وقال: «لماذا تبكي يا مرقس؟ هل خفت على أركاديوس من الموت؟ ليس الموت يا صاحبي بالأمر الذي يخافه العاقل، وإنما خوف العاقل من العار، وإني وأيم الله شاكر شعورك ومحبتك وغيرتك عليَّ وعلى أرمانوسة، وإن ذلك لما يطمئن له قلبي فتكون لأرمانوسة نعم العون إذا مسني سوء.» قال ذلك وشرق بدموعه، ثم تجلد ونأى بوجهه عن مرقس إلى النافذة فأطل منها على معسكر العرب، وكان البدر قد طلع فأرسل أشعته على تلك الغياض، وأكثرها من النخيل إلا سهلًا رحبًا عسكر العرب فيه، فوقف أركاديوس برهة ينظر إلى تلك الضاحية وهو لا يرى شيئًا لعظم قلقه واضطرابه ومرقس واقف يجهش في البكاء، فانتبه أركاديوس لصوت بكائه والتفت إليه وقال: «إنك يا مرقس شديد الغيرة صادق الود، وما أنا بناسٍ مودتك ما عشت، وإذا متَّ فاذهب إلى أرمانوسة وخفف عنها، واذكر لها أن أركاديوس أبى أن يكون جبانًا لئلَّا يقال إنه ليس أهلًا لها. قم يا مرقس واذهب إليها الآن، واحتفظ بها، وما أنت في حاجة إلى من يوصيك بأرمانوسة، وأرجو أن أراكم ظافرًا وإلا …» وسكت وأمال وجهه، ومرقس لا يزال يبكي، ثم مسح مرقس دموعه وتجلد وقال: «كيف أخرج من عندك وأنا أرى الخطر قريبًا؟! أسأل الله أن يبعده عنك.»

قال: «إن الأعمار بيد الله، فرُبَّ رجل يموت في إبَّان نعيمه وراحته، وآخر يخوض المعامع ويستقبل النبال والرماح بصدره ويُعمَّر طويلًا، والعمر يا مرقس طال أم قصُر لا بد من انقضائه، وأما العار فإنه باقٍ لا يُمحى، وأرى الآن أن تذهب إلى أرمانوسة، وكن أنت معها في ساعة الرهبة، وساعداني بالصلاة، وقل لها إن صليبها في عنقي، وهو يدفع عني كل شر.»

فعلم مرقس انه لا مناص من رجوعه، فتقدم من أركاديوس وهو يمسح دموعه وقال: «أما وقد أصررت على البقاء فإني أبوح لك بأن العرب سيهاجمون الإسكندرية غدًا في الصباح الباكر فكن على حذر.» قال ذلك وودعه وخرج كاسف البال حزينًا لا يدري كيف يقابل أرمانوسة.

وكانت أرمانوسة قد مكثت يومًا كاملًا بعد ذهاب مرقس وهي تنتظر عودته، فلما انقضى بعض الليل ولم يأتِ قلقت، وكانت بربارة أشد قلقًا منها لعلمها بعزم العرب على الهجوم في صباح اليوم التالي كما أنبأها مرقس، فانتهزت فرصة وخرجت من الغرفة إلى الحديقة لعلها ترى مرقس قادمًا، وما لبثت أن رأت شبحًا عن بعد، أخذ يقترب منها حتى تبينت أنه هو مرقس فسارعت إليه، وخفق قلبها حين استقبلها باكيًا، وسألته: «ما الخبر؟»

فأنبأها بما كان من أمره مع أركاديوس، وإصرار هذا على البقاء في الإسكندرية، فدقَّت يدًا بيد، وقالت: «الأفضل ألا تدخل على أرمانوسة الآن، وألا تطلعها على شيء من هذا حتى لا يقتلها الحزن.»

ولم تشرق الشمس حتى كان العرب قد اقتحموا أسوار الإسكندرية، وجاءت رسل المقوقس إلى أرمانوسة يبشرونها بذلك، وليمكثوا عندها لحراستها حتى يلحق بهم إليها، فاشتد بها الجزع على أركاديوس، وأخذت في البكاء والنحيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤