الفصل الثاني عشر

وصف إجراء خطير جدًّا اتخذه المستر بكوك، ولا يقل شأنًا في رواية حياته عنه في سياق هذا التاريخ.

***

لم تكن حجرات المستر بكوك في شارع «جوزول» — على محدود نطاقها — نهاية في النظافة، جامعة لأسباب الراحة فحسب، بل كانت أيضًا لائقة بنوع خاص لأن تكون مسكن رجل في مثل عبقريته، وقوة ملاحظاته، وكانت حجرة جلوسه في مقدمة الطابق الأول، وحجرة نومه في واجهة الطابق الثاني، وكانت الفرصة مواتية له — سواء جلس إلى مكتبه في حجرة الجلوس، أو وقف أمام المرآة في حجرة نومه — للتأمل والتفكير في الطبيعة البشرية من جميع مظاهرها ونواحيها المتعددة، في ذلك الحي الذي كان عظيم الشهرة بقدر ما كان كثير السكان. وكانت ربة البيت مسز باردل هي الوحيدة التي آل إليها ميراث موظف سابق في مصلحة الجمارك، وكانت امرأة لطيفة جمة النشاط، حسنة المظهر، أوتيت براعة طبيعية في طهو الطعام، ازدادت بفضل الممارسة الطويلة ومداومة الدرس، حتى استحالت إلى نبوغ فائق، وموهبة رفيعة، ولم يكن لها أطفال، ولا خدم، ولا دجاج، وكل من يساكنها في ذلك البيت رجل بدين، وغلام صغير، أولهما ساكن بأجر، والآخر نجيبها، وكان الساكن البدين يحضر دائمًا في تمام العاشرة ليلًا، فإذا جاء حَشَرَ نفسه حشرًا في نطاق سرير فرنسي قصير في الحجرة الخلفية، وكانت ألعاب «السيد باردل» الصغير وحركاته الرياضية ومراتعه، مقصورة على الأفاريز المجاورة والمزاريب والأفنية العامة، فكانت النظافة والسكينة تغمران البيت، وكانت رغبة المستر بكوك فيه قانونًا لا نقض فيه ولا إبرام …

وكان كل من يعرف هذه النواحي من التدبير المنزلي في ذلك البيت، ولا يخفى عليه شيء من عقلية المستر بكوك المنظمة الجديرة بالإعجاب، يبدو له أن مظهره وسلوكه في الصباح السابق لليوم المقرر لسفره إلى «إيتنزول» نهاية في الغموض والغرابة؛ فقد جعل يذرع الغرفة ذهابًا وجيئة بخطى مسرعة، ويُخرِج رأسه من النافذة على فترات، كل ثلاث دقائق أو نحوها، وينظر مرارًا إلى ساعته، ويبدي من مختلف أمارات القلق ما لم يكن من ديدنه، وكان من الجلي أنه كان يفكر في أمر كبير الأهمية، ولكن لم يكن أحد — ولا مسز باردل نفسها — مستطيعًا أن يكشف ما هو ذلك الأمر الذي يشغله.

وأخيرًا انثنى ينادي: «يا مسز باردل.» في اللحظة ذاتها التي كانت هذه المرأة اللطيفة توشك أن تنتهي من إزالة التراب من الحجرات.

وأجابت مسز باردل: «نعم يا سيدي!»

قال: «إن غلامك الصغير قد ذهب من وقت طويل جدًّا.»

وأجابت مسز باردل محتجة: «كيف ذلك؟ … إن الطريق إلى الضاحية طويل يا سيدي.»

وقال المستر بكوك «آه! إنه حقًّا كذلك.»

وعاد المستر بكوك إلى الصمت، وواصلت مسز باردل إزالة التراب والكنس.

ولم تمضِ بضع دقائق أخرى حتى عاد المستر بكوك ينادي: «يا مسز باردل.»

وأجابت قائلة: «نعم يا سيدي.»

قال: «هل تظنين أن الإنفاق على اثنين أكثر من النفقة على واحد بمفرده؟»

وأجابت مسز باردل، وقد امتقع لونها حتى وصل امتقاعه إلى طرف قلنسوتها؛ إذ خُيِّلَ إليها أنها قد رأت بريق رغبة في الزواج يشع من عيني الساكن عندها: «وي … يا مستر بكوك … وي يا مستر بكوك … يا له من سؤال!»

قال: «ولكن هل تظنين حقًّا … أن …»

قالت وهي تدني «المنفضة» من مرفق المستر بكوك المسند إلى المائدة: «إن هذا يتوقف كثيرًا على الشخص نفسه كما تعرف يا مستر بكوك، وهل هو شخص مدبِّر حريص على المال أو لا يا سيدي.»

قال: «هذا عين الصواب، ولكن الشخص الذي أمام عيني …» — وهنا أطال النظر إلى مسز باردل — «… أعتقد أنه قد أوتي هذه الصفات، إلى جانب علمه الواسع بالدنيا وأحوالها، ولديه قدر كبير من الذكاء، قد يكون ذا فائدة محسوسة لي يا مسز باردل …»

وقالت مسز باردل وقد اصطبغ وجهها بلون الأرجوان مرة أخرى، وبلغت حمرته طرف قلنسوتها: «وي يا مستر بكوك!»

ومضى المستر بكوك يقول وقد ازداد حماسه كشأنه إذا تكلم عن موضوع يهمه: «إني جاد حقًّا فيما أقوله، ولا أخفي عنك يا مسز باردل أنني قد اعتزمت التنفيذ.»

فصاحت مسز باردل قائلة: «ويحي يا سيدي!»

وقال المستر بكوك وهو يرسل نظرة لطيفة إلى رفيقته: «سترين الآن إنه كان غريبًا مني كل الغرابة أنني لم أستشِرْكِ مطلقًا في هذا الأمر، ولم أذكره إطلاقًا حتى أرسلت غلامك الصغير في هذا الصباح، آه!»

فلم تستطع مسز باردل أن تجيب بأكثر من نظرة، فقد طالما عبدت المستر بكوك عبادة من بعيد، ولكن ها هي ذي فجأة تُرفَع إلى مكانة مرموقة لم تصل إليها في يوم من الأيام ذروة أمانيها، ولا بلغها أوج ما كان يداعب خاطرها من غرائب الآمال والتعلات. لقد اعتزم المستر بكوك أن يفاتحها في أمر الزواج بها، ورسم الخطة لذلك، فأرسل ابنها الصغير إلى الضاحية؛ ليخلو الجو لهما، يا له من مفكر حكيم! ويا له من بصير عليم بالأمور!

وقال المستر بكوك: «هيه ما رأيك؟»

وأجابت مسز باردل، وهي راعشة من فرط الاضطراب: «أوه! يا مستر بكوك إنك لكريم يا سيدي!»

قال: «سأعفيك من كثير من التعب، أليس كذلك؟»

وأجابت مسز باردل: «ما فكرت يومًا في مسألة التعب، ولكنه كريم منك كل الكرم يا مستر بكوك أن تراعي مسألة وحدتي إلى هذا الحد، وتهتم بها كل هذا الاهتمام.»

وقال المستر بكوك: «الواقع أنني لم أفكر في ذلك إطلاقًا، ولكني أرى أن يكون في البيت إنسان يجلس معك كلما ذهبت إلى المدينة، هذا هو ما أردته، تأكدي أن هذا هو ما أردت.»

قالت: «سأكون سعيدة السعادة كلها بالتأكيد.»

قال: «وغلامك الصغير؟»

فقاطعته مسز باردل، وهي تنتحب انتحابة أمٍّ حين يُذكَر ابنها: «واكبدي له!»

قال: «وسيكون له هو أيضًا رفيق يؤنسه، رفيق خفيف الروح، يعلمه — بلا شك — من الألاعيب والحيل في أسبوع واحد ما لا يؤاتيه منها علمه في عام كامل.»

وابتسم المستر بكوك ابتسامة لطيفة ساجية.

وقالت مسز باردل: «أواه! أيها العزيز.»

فأجفل المستر بكوك.

وقالت باردل: «أواه … أيها الكريم، الحنون الطيب، اللعوب.» ثم نهضت من مخدعها وبلا سابق إنذار، وألقت ذراعيها حول عنقه، وأرسلت فيضًا من عَبَرَاتها، وأنغامًا متلاحقة من نحيب.

وصاح المستر بكوك من فرط دهشته قائلًا: «يا للعجب! … يا مسز باردل، أيتها المرأة العاقلة الأريبة، ويحي! يا له من موقف! أرجوك أن تراعي … يا مسز باردل … باردل حذار، ماذا عسى أن يقال إذا دخل أحد؟»

وصاحت باردل ثائرة هائجة: «ليدخلوا، فلن أفارقك ولن أتركك أيها العزيز الكريم الحدب الحنون …»

وراحت بهذه الكلمات تتشبث بنحره أكثر من قبلُ، وتزيده ضمًّا واعتناقًا.

ومضى المستر بكوك يقاوم بعنف وهو يقول: «رحمة بي، إني أسمع وقع أقدام على السلم، أَلَا كفِّي عن هذا، حسبك، هيا أيتها المخلوقة الطيبة! … كفي عني!»

ولكن توسلاته واحتجاجاته ذهبت سدى، فقد أغمي على مسز باردل وهي بين ذراعي بكوك، وقبل أن يتمكن من إلقائها فوق مقعد، دخل السيد باردل الصغير مؤذنًا بقدوم طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس.

ووقف المستر بكوك في مكانه جامدًا لا يتحرك، ولا ينطق نطقًا، وقف بحمله الجميل بين ذراعيه، وهو ينظر نظرات شاردة إلى وجوه أصحابه، دون أن يحاول مطلقًا أن يتقدم للسلام عليهم أو شرح موقفه، كما وقفوا هم محملقي الأبصار، بينما لبث السيد باردل بدوره يحملق في الجميع.

وكانت دهشة البكوكيين بالغة، وحيرة المستر بكوك متناهية، إلى حد كان من المحتمل معه أن يظلوا جميعًا وقوفًا في أماكنهم ريثما تثوب السيدة إلى نفسها، لولا أن بدت من ولدها حركة من أجمل الحركات، وأشدها تأثيرًا، وأبلغها دلالة على حبه البنوي، وكان الغلام في ثوب ضيق من قماش مضلع، تناثرت عليه أزرار نحاسية من حجم كبير، قد وقف في أول الأمر لدى الباب مبهوتًا مستريبًا، ولكن ما لبث أن تصور أن أمه لا بد من أن تكون قد اعتدي عليها، وما عتم هذا التصور أن استولى على خاطره الساذج، واعتقد أن المستر بكوك هو المعتدي، فلم يلبث أن راح يرسل صراخًا مروعًا، مزمجرًا عاويًا، ويندفع إلى الأمام ناطحًا برأسه، وبدأ بمهاجمة ذلك السيد الخالد في ظهره وساقيه، بلكمات وعضات أسنان بكل ما في ذراعه من قوة، وكل ما في هياجه وغضبه من عنف.

وقال المستر بكوك من أثر ما أحسه من الضرب واللكز: «خذوا هذا الغلام الشقي بعيدًا؛ إنه مجنون!»

وقال البكوكيون الثلاثة الذين عقدت الدهشة ألسنتهم: «ما الخبر؟»

وأجاب المستر بكوك بحدة: «لست أدري، أبعدوا هذا الغلام!» — وهنا احتمل المستر ونكل الغلام وهو يصرخ ويقاوم إلى الطرف الآخر من الحجرة — «والآن أعينوني على المسير بهذه المرأة إلى الدور الأول.»

وعندئذٍ قالت مسز باردل بصوت خافت: «أواه، إنني أحسن حالًا الآن.»

وقال المستر طبمن الجسور كعهدنا به: «دعيني أسر بك إلى الدور الأول من البيت.»

وصاحت مسز باردل بتشنج: «شكرًا لك يا سيدي، شكرًا لك.»

وسيق بها إلى الدور الأول، يصحبها ولدها البار.

وأنشأ المستر بكوك يقول عندما عاد صاحبه: «لست أتصور ما الذي دها هذه المرأة، فما كدت أعلن لها عزمي على الاستعانة بخادم، حتى استرسلت في هذه الحالة الشاذة التي وجدتموها فيها، هذا شيء عجاب!»

وقال أصحابه الثلاثة: «جدًّا!»

واستتلى المستر بكوك يقول: «لقد وضعتني في موقف حرج كل الحرج.»

وكان جواب الثلاثة قولهم: «جدًّا.» وهم يسعلون سعلة خفيفة، ويتبادلون نظرات الشك والارتياب.

ولكن ذلك لم يغب عن نظر المستر بكوك الثاقب، وشعر بأنهم مرتابون في صدق ما قاله، وتبيَّن له أنهم متهموه.

وأنشأ المستر طبمن يقول: «إن في الدهليز الآن رجلًا.»

فأجاب بكوك قائلًا: «إنه الرجل الذي حدثتكم عنه، فقد أرسلت إلى الضاحية في هذا الصباح أدعوه، تكرم يا مستر سنودجراس فادْعُه …»

واستجاب المستر سنودجراس، وفي الحال ظهر صمويل ولر، وابتدره المستر بكوك قائلًا: «أوه، أحسبك لا تزال ذاكري.»

وأجاب «سام» بنظرة وتعطف: «أظن ذلك، لقد بدأ ذلك الرجل بداية غريبة، لقد كان واحدًا ولكنه كثير عليكم، كما كان يغلبكم في السعوط مرة أو مرتين … أليس كذلك؟»

فقال المستر بكوك في عجلة: «دَعْنا من تلك القصة الآن، إني أريد أن أتحدث إليك عن أمر آخر، اجلس!»

وأجاب سام: «أشكرك يا سيدي.» وراح يجلس دون انتظار أمر آخر، وكان قد وضع قبعته القديمة البيضاء عند مدخل رأس السلم خارج الباب، ومضى يقول: «إنها — أيْ القبعة — «منظر» فقط، ولكن لبسها فوق الرأس مربك … وكانت قبل أن تزول عنها حافتها، تبدو قالبًا جميلًا كقالب من القرميد، ومع ذلك أصبحت أخف مما كانت قبل زوال حافتها، هذه نقطة، والنقطة الأخرى هي أن كل ثقب فيها يُدخِل الهواء، ولهذا أسميها «أنبوبة التهوية!»

ولم يكد ينتهي المستر ويلر من هذا التعبير عن عواطفه، حتى أرسل ابتسامة لطيفة إلى البكوكيين المجتمعين.

وعاد المستر بكوك يقول: «والآن فيما يتعلق بالأمر الذي دعوتك من أجله، بموافقة هؤلاء السادة.»

وقاطعه سام قائلًا: «هذه هي النقطة يا سيدي، عليَّ بها أو أخرجها، كما قال الوالد لابنه حين ابتلع قطعة من النقود!»

ومضى المستر بكوك يقول: «نريد أولًا أن نعرف هل من سبب يدعوك إلى الاستياء من مركزك الحالي؟»

وأجاب سام قائلًا: «قبل أن أرد على هذا السؤال أيها السادة أريد أولًا أن أعرف هل في نيتكم أن تعرضوا عليَّ مركزًا أحسن منه؟»

وهنا لاحت على وجه المستر بكوك ومضة من الطيبة الهادئة، وحب الخير، فذهب يقول: «أكاد أقطع العزم على استخدامك.»

قال: «أحقًّا؟»

وأومأ المستر بكوك إيماءة الإيجاب.

قال: «والأجر؟»

قال: «اثنا عشر جنيهًا في السنة.»

– «والكساء؟»

– «حلتان.»

– «والعمل؟»

– «القيام على خدمتي، والسفر معي ومع هؤلاء السادة هنا.»

وهنا قال سام بلهجة التوكيد: «اكتب العقد في الحال؛ لقد أصبحت أجيرًا في خدمة سيد واحد، وأنا موافق على الشروط.»

وسأل المستر بكوك: «هل قبلت إذن العمل؟»

قال: «بالتأكيد، وإذا كانت الثياب لائقة نصف لياقة المكان، فأنعم بها.»

وعاد المستر بكوك يسأله قائلًا: «وفي إمكانك بالطبع تقديم شهادة؟»

وأجاب سام: «سَلْ ربة فندق «الأيل الأبيض» عن ذلك يا سيدي.»

قال: «هل في إمكانك أن تحضر في هذا المساء؟»

وأجاب سام بفرح بالغ: «إذا كانت الملابس مُعَدَّة الآن، فأنا على استعداد الدخول فيها من هذه اللحظة.»

وقال المستر بكوك: «تعال في الثامنة من هذا المساء، فإذا كانت المعلومات المطلوبة مرضية، فسوف نعدُّها لك.»

وكان سلوك المستر ويلر لا غبار عليه، ولا لائمة إلا من حادثة واحدة تنمُّ عن نزق لطيف، شاركته فيها مساعدة خادمة، فلم يتردد المستر بكوك في إتمام العقد في ذلك المساء بالذات، وبتلك السرعة وذلك النشاط اللذين عُرِفا عن ذلك الرجل النادر، لا في تصرفاته العامة فحسب، بل في كل تصرفاته الخاصة أيضًا، بادر في الحال إلى أخذ خادمه الجديد إلى سوق من تلك الأسواق الرخيصة التي تباع فيها الثياب الجديدة والمستعملة، ويستغني فيها عن متاعب الشكليات، كأخذ المقاس، وتجربة الأزياء ونحوها، فلم يكد يحل الليل حتى تم تجهيز المستر ولر برداء رمادي اللون، وُضِعت عليه شارة «نادي بكوك»، وقبعة سوداء ذات شريط، وصدار قرنفلي اللون مخطط، وسراويل خفيفة، وأغطية ساق، وأنواع أخرى كثيرة لا يحدها الحصر.

وانثنى ذلك الإنسان الذي تحول فجأة كل هذا التحول يقول، وهو يتخذ مجلسه خارج المركبة الحافلة الشاخصة إلى «ايتانسويل» في صباح اليوم التالي: «إني لفي عجب! هل يراد مني أن أكون حاجبًا، أو سائسًا، أو حارس صيد، أو بائع بذور؟ فإني لأبدو خليطًا من هؤلاء جميعًا، ولكن لا بأس، إن فيه لتبديلًا للهواء، ورؤية كثير من المناظر، وقليلًا من العمل، وكل ذلك علاج للفاقة التي أشكو منها مر الشكوى … فَلْيحيَ البكوكيون …!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤