الفصل الرابع عشر

يحوي وصفًا موجزًا لجمعٍ تلاقَوا في فندق بيكوك، وقصة تاجر متجول.

***

إنه ليثلج الصدر، ويسر النفس، التحول من التفكير في شئون الحياة السياسية ونضالها وجلبتها، إلى الراحة والسكينة اللتين تلازمان الحياة الخاصة، ولم يكن المستر بكوك في الحقيقة نصيرًا لأي حزب بالذات، ولا منتميًا إليه كل الانتماء، ولكن حماسة المستر بت أوقدت مشاعره إلى حدٍّ جعله يشغل كل وقته، ويحشد كل اهتمامه؛ لمتابعة الإجراءات والتدابير التي جئنا بوصفها في الفصل السابق من كناشته ومذكراته، ولم يكن المستر ونكل أيضًا طيلة انشغال زعيمه بتلك الشئون، متبطلًا ولا متبلدًا، بل لقد مضى يخصِّص كل وقته للرياضات البهيجة، والرحلات الريفية اللطيفة مع مسز بت التي لم تكن تَدَع أية فرصة تسنح لها إلا انتهزتها؛ التماسًا للترفيه عن نفسها من تلك الحياة المملة الرتيبة التي ما فتئت تشكو منها.

وهكذا بينما كان هذان السيدان يقيمان في دار رئيس التحرير، وينزلان فيها منزلة الأهل والعشراء، كان المستر طبمن والمستر سنودجراس قد تُرِكا وحدهما ليستمتعا إلى حد كبير بالعيش على هواهما، ولم يكونا يعنيان كثيرًا بالمسائل السياسية، فراحا يقتلان الوقت في الاستمتاع غالبًا بكل ما تكفله الحياة في فندق بيكوك من صنوف اللهو وألوان التسلية، وهي لا تعدو لعبة «البليارد» في الطابق الأول منه، وألعاب «الكرة» في ساحة مهجورة من فنائه الخلفي، وكان المستر ولر مستكمل العلم بهاتين اللعبتين، فتولى تدريبهما على دقائقهما، وما خفي عليهما من أسرارهما التي لا يعرفها الأشخاص العاديون، وظل يلقِّنهما شيئًا فشيئًا حتى يألفا ممارستهما على الأيام، وهكذا استطاعا رغم حرمانهما كثيرًا من متعة لقاء المستر بكوك والانتفاع بمجالسه، أن يقضيا أوقاتهما بغير ملالة، وتمكَّنَا من تجنُّب السآمة والضجر.

ولكن مجالس المساء في الفندق لم تكن تخلو من مفاتن، مكَّنَتْ هذين الصديقين من التغلب على الدعوات التي كان «بت» الذكي الموهوب — رغم بلادته، وأحاديثه السقيمة — يوجِّهها إليهما، وكانت العادة أن تمتلئ في كل مساء «القاعة التجارية» في الفندق «بحلقة اجتماعية»، كان يطيب للمستر طبمن أن يلاحظ أفرادها، ويتأمَّل تصرفاتهم وآداب سلوكهم، ويألف المستر سنودجراس تدوين أقوالهم وأفعالهم في مذكراته.

وأكثر الناس يعرفون ما شأن تلك القاعات التجارية عادة، ولم تكن هذه القاعة في فندق «بيكوك» تختلف في شيء عن أمثالها في الفنادق الأخرى، أي إنها كانت قاعة رحيبة الجوانب، تكاد تلوح خالية من الرياش عارية، وإن كان ما فيها منه يوحي بأنه كان أحسن وأفضل منظرًا، حين كان أجدَّ وأحدث عهدًا، وقد وُضِعت في وسطها منضدة كبيرة، وعدة مناضد أخرى صغيرة في مختلف زواياها، وجملة منوعة الأشكال من المقاعد، وبساط قديم من البسط التركية يكاد يتناسب حجمه مع مساحة القاعة ذاتها تناسُب منديل غادة، وكانت الجدران ومقر الحارس مزدانة بخريطة أو خريطتين كبيرتين، وعدة معاطف «لوحتها الشمس»، أو ذهبت التقلبات الجوية بألوانها، وقلانس وقبعات مدلاة من صف مستطيل من المشاجب في ركن منها، كما ازدان الطنف بدواة من الخشب تحوي «بقية» قلم ونصف قرطاس، ودليلًا للمسافرين، ودليلًا للأعلام، وتاريخًا للأقاليم ينقصه الغلاف، وبقايا سمكة في تابوت زجاجي، وكان أفق القاعة مختنقًا بذوائب الدخان المتصاعد من اللفائف والقصبات، حتى أحالت القاعة قاتمة اللون، ولا سيما الأستار الحمر المغبرة التي تظلل النوافذ والشرفات. وكانت على الصوان الجانبي أنواع منوعة من الأشياء متجاورات متقاربات، كان أبرز ما فيها بضعة أباريق، وصناديق، وسياط، ولفاعات للسفر، وصينية للسكاكين والشوك، وآنية للتوابل والخردل.

وفي هذه القاعة كان المستر طبمن والمستر سنودجراس يجلسان في مساء اليوم الذي انتهت فيه الانتخابات مع عدة نزلاء آخرين، يدخنون ويشربون.

وأنشأ رجل بدين موفور العافية، يناهز الأربعين، أعور ذا عين سوداء شديدة البريق، يختلج فيها المكر والمجانة والولوع بالمزاح، يقول: «أيها السادة، نحن معاشر السادة، إن من عادتي أن أقترح شرب نخب الحاضرين، وأخص نفسي بشرب نخب «ماري»، إيه يا ماري!»

فأجابته الساقية، وهي تبدو غير مستاءة من هذه التحية التي وُجِّهت إليها: «الزمْ شأنك أيها المنكود.»

وقال ذو العين السوداء: «لا تنصرفي يا ماري!»

وأجابت الفتاة: «دَعْني وهذه القحة.»

وقال الأعور وهو ينادي الفتاة بعد أن تركت القاعة: «لا بأس! سأحضر إليك بنفسي يا ماري بعد لحظة، فلا تغضبي يا عزيزتي، وكوني مرحة.»

ومضى في حركة ليست بالشاقة، وهي الغمز بعينه السليمة للجميع؛ مما أثار ابتهاجًا متزايدًا في نفس رجل مكتهل ذي وجه قذر، وقصبة تبغ من الفخار، فراح يقول بعد سكون قصير: «النساء مخلوقات لطيفات.»

وأجاب رجلٌ شديدُ احمرارِ الوجه قائلًا من خلف لفافة في فمه: «آه، لا نزاع في ذلك.»

وعاد السكون يغمر المجلس عقب هذه القطعة الصغيرة من الفلسفة.

وانثنى ذو العين السوداء، وهو يملأ بالتبغ قصبةً هولندية كبيرة: «لا تنسَ أن في الدنيا أشياء ألطف من النساء وأظرف.»

فسأله ذو الوجه القذر: «هل أنت متزوج؟»

قال: «لست أستطيع أن أقول إنني كذلك.»

وأجاب الآخَر: «هذا هو ما خطر لي.» وعندئذٍ انتابته نوبات من الضحك لهذا الجواب، اشترك معه فيها رجلٌ ذو صوت هادئ ووجه رزين، اعتاد أن يوافق كل إنسان على ما يقوله.

وانبرى المستر سنودجراس في حماسة يقول: «إن النساء أيها السادة، رغم كل ما قيل ويقال عنهن، دعامة حياتنا، وسلوة عيشنا، ومتعة نفوسنا.»

وقال السيد ذو الوجه الساكن: «إنهن لكذلك!»

واعترض الرجل الأشعث قائلًا: «حين يَكُنَّ صافيات المزاج.»

وقال السيد الهادئ: «هذا صحيح جدًّا.»

وقال المستر سنودجراس، وكانت أفكاره قد عادت سراعًا به إلى «إملي واردل»: «إنني لا أقر هذا الاشتراط، وأعترض عليه بكل احتقار وكل غضب، أروني الرجل الذي يقول شيئًا ضد النساء، وأنا أعلن على رءوس الأشهاد أنه ليس رجلًا.»

وأخرج المستر سنودجراس «اللفافة الكبيرة» من فمه، وضرب المنضدة ضربة عنيفة بجميع كفه.

وقال الرجل الهادئ: «هذه حجة سليمة صائبة.»

وقال الأشعث مقاطعًا: «ولكنها حجة تحوي نقطة لا أوافق عليها.»

وقال السيد الهادئ: «وفي هذا القول بلا شك كثير من الحق يا سيدي.»

وقال التاجر المتجول ذو العين الواحدة: «في صحتك يا سيدي.» وراح يومئ برأسه للمستر سنودجراس إيماءة الموافقة.

وقَبِل المستر سنودجراس منه هذه المجاملة.

ومضى التاجر المتجول يقول: «إنني أحب دائمًا أن أسمع حجة صائبة، حجة قوية كهذه؛ لأنها تنعش الصدر كل الإنعاش، ولكن هذه المحاجة اليسيرة عن النساء قد ذكَّرتني بقصةٍ سمعتها من عمٍّ لي كبير في السن، وكانت ذكراها منذ لحظة هي التي حملتني على أن أقول: إن في الدنيا أحيانًا أشياء ألطف من النساء وأجمل.»

وقال ذو الوجه المحمر الممسك باللفافة الكبيرة: «أحب أن أسمع هذه القصة.»

وقال التاجر: «أحقًّا؟» ولم يرد، بل ظل يدخن بشدة بالغة.

وقال المستر طبمن، ولم يكن تكلم قبل هذه اللحظة: «وأنا كذلك.» فقد كان متشوقًا لزيادة مدخره من العلم والتجربة.

وقال ذو العين الماكرة، وهو يحيلها بالاختلاج أشد مكرًا: «أحقًّا تريد أن تسمعها، حسن جدًّا، سأقصها، ولكن كلا، ما أنا بقاصِّها؛ لأني أعرف أنكم لن تصدقوها.»

وقال المستر طبمن: «إذا قلت إنها حقيقة … فسأصدقك بالطبع.»

وأجاب التاجر الجواب: «على هذا الشرط إذن سأقصها، فهل سمعتم يومًا باسم بيت تجاري كبير يُدعَى بيلسن وسلام؟ ولكن ليس بذي بال أن تكونوا قد عرفتموه أو لم تعرفوه؛ لأنه بيت ترك التجارة من عهد بعيد، وقد وقع ما ستسمعونه للوكيل المتجول في خدمة ذلك البيت منذ ثمانين عامًا، وكان صديقًا حميمًا لعمي، وكان عمي هو الذي قصَّها على مسمعي، وقد جعل لها عنوانًا غريبًا، ولكنه كان قد اعتاد أن يدعوها:

قصة التاجر المتجول

وقد اعتدت أنا أن أقصها على النحو التالي:

في ذات مساء خلال أيام الشتاء، وحوالي الساعة الخامسة، حين أخذ الغسق يغمر الكون، كان رجل يستقل عجلة ذات حصان واحد، وهو يستحث حصانه المكدود على الطريق الذي يشق «براري مارلبرة» في اتجاه برستل، وكان من المحتمل أن يراه أحد من الناس، بل لا أشك في أن أحدًا من الناس كان لا بد أن يراه حتمًا، إلا إذا كان مَن عساه أن يمر به في تلك الناحية أعمى لا يبصر، وكان الجو من السوء، أو الليل من شدة البرودة والبلل، بحيث لم يكن ثمة شيء في طريقه غير هطل الأمطار، وغزارة الماء من حوله، فكانت العجلة تشق طريقها وحيدة مكفهرة مقرورة، ولو أن تاجرًا متجولًا في تلك الأيام لمح تلك العجلة الصغيرة المتجردة التي يضرب هيكلها إلى لون الطفل، وتبدو الحمرة على عجلاتها، وشاهد تلك الفرس الشموس الشكسة السريعة التي تبدو هجينًا بين حصانِ جزارٍ، ومهرةِ موزِّعِ بريد؛ لعرف في الحال أن ذلك التاجر لم يكن أحدًا غير «توم سمارت» الذي يعمل في خدمة بيت «بيلسن وسلام» في شارع «كاتيتن» بحي الأعمال في لندن، ولكن لم يكن ثمة أحد من التجار الجوالين في ذلك الطريق ليشاهده، فلبث أمره مجهولًا لا يدري مخلوق عنه شيئًا، وظل منطلقًا بعربته الطفلية اللون، وعجلاتها الحمراء الأديم، وفرسها الشموس السريعة الخطى، كأنما قد احتفظ الكل بالسر، فلبث الأمر مكتومًا على الناس مخفيًّا.

وفي الأرجاء المهجورة من هذا العالم بقاع أخف رحمة من «براري مارلبرة» حين تهب عليها الرياح العاتية، فإذا أضفت إلى هذا كله ذلك المساء المكفهر القاتم، والطريق الموحل الزلق، وهطل المطر الشديد، وجرَّبت ما يكون من الأثر بنفسك، على سبيل الاختبار الشخصي، أدركت قوة هذا الوصف كاملة، ووعيت رهبة ذلك المشهد جملة.

وكانت الريح تهب في الطريق، لا في اتجاه البلدة، ولا في الاتجاه المضاد، وكلا الأمرين لا يقل عن الآخَر سوءًا، بل كانت تهب في عرضه، تاركة المطر ينحدر ويميل كالأسطر التي كان الطلبة في المدرسة يسطرونها في كراساتهم؛ حتى تستقيم كتابتهم عليها، وقد تسكن الريح لحظة وتتلاشى، ويبدأ المسافر يوهم نفسه أنها قد تعبت، واضمحلت من هياجها السابق، فهدأت من روعها، وأخلدت إلى الراحة، وإذا هي تهب مرة أخرى، وتزمجر زمجرة، وتصفر صفيرًا بعيدًا، ثم تندفع فوق أعالي الرُّبَى، وتكتسح السهول، مستجمعة زفيفها وقوتها، وهي مقتربة، حتى تصطدم بإعصارها العنيف بالفرس والرجل معًا، ملقية بقطرات المطر العصيب في آذانيهما، وأنفاسهما الباردة الرطبة في مستدق عظامهما، وتنطلق مبتعدة في زئير يصم الأسماع، كأنما تسخر من ضعفهما، وتغتبط بانتصارها واعتدادها بشدتها وسلطانها.

ولبثت الفرس تعدو مرسلة الرشاش من حولها وسط الأوحال والمياه، متهدلة الأذنين، مطوحة بين لحظة وأخرى برأسها، كأنما تريد بهذه الحركة التعبير عن اشمئزازها من هذا المسلك الجاف الذي تسلكه عناصر الطبيعة، وإن احتفظت مع ذلك بسرعتها، حتى تعود الرياح فتهاجمها مرة أخرى بأشد وأقسى مما هاجمتها به من قبلُ، فلا تلبث أن تقف عن المسير فجأة، وتغرز قوائمهما الأربع في الأرض؛ حتى لا تكتسحها من مكانها، وهي رحمة أحاطت بها؛ لأنها لو انساقت مع الريح، وهي خفيفة، والعربة خفيفة مثلها، وتوم سمارت من الوزن الخفيف كذلك، لذهب الجميع يتدحرجون إلى أقصى أطراف الأرض، أو ريثما تهدأ الرياح، وأغلب الظن في كلتا الحالين أن الفرس والعربة الطفلية اللون ذات العجلات الحمر، وتوم سمارت ذاته، لن يعودا صالحين للخدمة بعد ذلك.

وقال توم سمارت، وكان مولعًا في بعض الأحيان بالسب واللعن: «لعنة الله على ذقني وطوقي، إن كان هذا سيطول شرحه، فَلْتنسفني الريح نسفًا.»

ولعلكم تسألونني: لماذا أبدى توم سمارت — بعد أن كادت الريح تطوح به — رغبةً في التعرض لهذه العملية مرة أخرى، ولكني لست أدري ما الباعث له على هذا، وكل ما أعرفه أنه قال ذلك فعلًا، أو على الأقل كان هذا هو ما اعتاد أن ينبئ عمي بأنه قال كذلك، وكلا الأمرين سواء.

وصاح توم سمارت: «لتنسفني الريح!» وصهلت الفرس كأن هذا هو رأيها في الموقف تمامًا.

ولكن توم سمارت راح يربت على عنقها بطرف سوطه قائلًا: «استجمعي قواكِ، ولا تبتئسي أيتها البنت العجوز، لا فائدة من مواصلة المسير في هذه الليلة، وأول منزل نصادفه في طريقنا سنبيت فيه، فكلما أسرعت في السير بلغنا المأرب المقصود، هلمي أيتها البنت العجوز، هلمي، ولكن برفق، برفق!»

ولست أستطيع طبعًا أن أقول: هل كانت تلك الفرس الشموس قد اعتادت سماع صوت توم إلى حدٍّ يكفي لأن تفهم المعنى المقصود، أو وجدت أن الجمود في مكانها أشد تعرضًا للبرد والزمهرير من متابعة المسير، ولكن كل ما أستطيع أن أقوله إنها ما كاد توم ينتهي من كلامه حتى نشرت في الفضاء أذنيها، وانطلقت بسرعة جعلت المركبة الطفلية اللون تجلجل حتى ليخيل إليك أن كل عجلة من عجلاتها الحمراء موشكة أن تطير من موضعها على العشب في براري مارلبرة، وحتى عجز توم نفسه — وهو السائق الماهر — عن إيقافها أو الحد من سرعتها، إلى أن وقفت من تلقاء ذاتها أمام فندق على قارعة الطريق في الجانب الأيمن منه، على مبعدة نحو ربع ميل من نهاية تلك التلال الكَلِئة.

وألقى توم نظرة سريعة على الطبقة العليا من المبنى، وهو يلقي باللجام إلى السائس، ويرشق السوط في مقعده، وبدا له أن المكان غريب قديم العهد، بُنِي من نوع من الحصباء، ومسقوف بالأخشاب، وله نوافذ منحدرة الشكل بارزة كل البروز إلى مشرع الطريق، وباب خفيض، وسقيفة مظلمة، ومدرجان عاليان يهبطان إلى البيت ولا يصعدان إليه، كالطراز المألوف في عصرنا الحديث، ولكنه كان على كل حال موضعًا يلوح عليه أنه مريح يبعث الرضى؛ إذ ينبعث من نافذة «موضع الشراب» فيه نور قوي بهيج، يلقي شعاعًا وهاجًا على الطريق، وينير العدوة الأخرى المقامة من العوسج، ومن الشرفة المقابلة ينبثق نور خفاق يبدو لحظة ضعيفًا لا يكاد يبين، ثم لا يلبث في اللحظة التالية أن يبرق بقوة من خلال الأستار المسدلة، موحيًا بأن نارًا متأججة تتقد داخل الحجرة، وما إن تبيَّن توم هذه الأمارات والشواهد بعين الجوابة الخبير بالأسفار، حتى ترجَّل عن العجلة بكل خفة ممكنة تواتت لأوصاله وأطرافه التي كان البرد يهرؤها، ودخل البيت.

ولم تكد تنقضي بضع دقائق حتى كان توم مستكنًا في الغرفة المقابلة لموضع الشراب، وهي الغرفة ذاتها التي خُيِّل إليه أنها تحوي نارًا مشوبة، وقد جلس قبالة نار متأججة فعلًا، غنية بالوقود من فحم، ورأى فوق المدفأة أكداسًا من الخشب، تكفي أن تتألف منها بضعة آجام، وقد راحت النار تزمجر وتطقطق، وتُحدِث صوتًا يكفي في حد ذاته لأن يدفئ قلب أي إنسان عاقل، وكان هذا كله مرفهًا على النفس، مريحًا للخاطر، ولكنه لم يكن كل شيء في الدار، بل كانت ثَمَّ فتاة رشيقة ذات عين براقة، وكعب نظيف، وهي تنشر غطاء أبيض متناهيًا في النظافة فوق الخوان، وفيما كان توم جالسًا، وقد أسند قدميه وهما في الخف إلى حاجز «الموقدة»، وولى ظهره إلى الباب المفتوح، استطاع أن يشهد على أديم المرآة المعلقة فوق الموقدة منظرًا فاتنًا، لما كان يحويه مكان الشراب من صفوف الزجاجات الخضر الذهبية، ومن قدور المخلل والأطعمة المحفوظة، وأنواع الجبن، ولحوم الخنازير السليقة، والقطع المستديرة من لحم العجول، كل أولئك قد صُفَّتْ فوق الرفوف بصورة مغرية، وشكل جذاب، ونظام بديع، وهو مريح كذلك، ولكن ذلك لم يكن كل ما هنالك أيضًا، فقد رأى في مكان الشراب أرملة غضة بضة قد جلست تشرب الشاي على أصغر وأبدع مائدة يمكنك أن تتخيلها، وهي قريبة من أوهج وأدق نار مشبوبة يمكن أن تُوقد، ويبدو على تلك الأرملة أنها في الثامنة والأربعين أو نحوها، ذات وجه مرفه مريح كمكان الشراب ذاته، والظاهر أنها ربة الفندق، وصاحبة الأمر والنهي في كل هذه الأملاك البديعة، والذخائر الممتعة، ولكن كان ثمة عيب واحد يغض من جمال الصورة، وفتون معالمها ودقائقها، وهو وجود رجل طويل مفرط الطول، في سترة سمراء، وأزرار براقة، وشاربين أسودين، وشعر فاحم متموج، كان يجلس إلى الشاي مع الأرملة، ولا يحتاج المرء إلى ذكاء وقاد لكي يتبيَّن أن الرجل يحاول إقناعها بأنه قد حان لها أن لا تبقى أرملة، وأن تنعم عليه بحق الجلوس في مكان الشراب طيلة الأعوام التي بقيت له في الحياة.

ولم يكن «توم سمارت» بالرجل الذي تنتزع به النفس إلى الهياج أو الحسد، ولكن منظر ذلك الرجل الطويل ذي السترة السمراء، والأزرار المقعرة الشكل البراقة، لم يلبث لسبب ما أن أثار حفيظته وغضبه الشديد، وخاصة لأنه مضى بين لحظة وأخرى يلاحظ، وهو في مجلسه قبالة المرآة، بعض حركات لطف ومودة تجري بين ذلك العملاق وتلك الأرملة، مما يكفي للإيحاء بأن ذلك الرجل الطويل قد أصاب عندها حظوة عالية كقامته.

وكان توم مولعًا بشراب «البنتش» الساخن، بل أجرؤ على القول بأنه كان به «جد» مولع، فبعد أن اطمأن إلى أن فرسه الشموس قد أحسن علفها، ومهد لها مربطها، وبعد أن أكل كل قطعة من الطعام الشهي الذي جعلت الأرملة تلقيه إليه بيديها، راح يطلب قنينة من «البنتش» على سبيل التجربة، وإذا كان ثمة شيء من مختلف فنون البيت وأساليب تدبيره، تُحسِن الأرملة إعداده أكثر من أي شيء سواه، فذلكم هو «البنتش» بالذات، وقد وافقت القارورة الأولى منه مزاج توم سمارت، وطاب لديه مذاقها، إلى حد أغراه بطلب أخرى في الحال، ولا يخفى أيها السادة أن «البنتش» الساخن شراب لذيذ ممتع غاية الإمتاع، في أي ظرف من الظروف، ولكنه في تلك الغرفة الدفئة القديمة، وقبالة تلك النار المتقدة الزائرة، وتلك الرياح القاصفة في الخارج حتى ليكاد كل لوح من الخشب في ذلك البيت يهتز ويتشقق من هول قصفها — كان ممتعًا في تقدير توم سمارت كل المتعة، فطلب قارورة أخرى، ثم ثالثة، ولست متأكدًا هل طلب واحدة بعد ذلك، ولكن الواقع أنه كلما أكثر من شرب البنتش الساخن، اشتد به التفكير في ذلك الرجل الطويل الفارع.

وأنشأ توم يحدِّث نفسه فقال: «لعنة الله على قحته، ما شأنه في مكان الشرب البديع؟ وأي عمل له فيه؟ إنه لقبيح الصورة دميم، لو أن للأرملة ذوقًا جميلًا لاختارت إنسانًا أحسن من هذا نوعًا ما.» ومضت عينه تنتقل بين الزجاجة المقامة فوق المدفأة، وبين الزجاجة الموضوعة فوق المائدة، وما إن شعر بأنه قد أمسى ثائر العاطفة، حتى أفرغ القارورة الرابعة في جوفه، وطلب الخامسة.

وكان توم سمارت أيها السادة لا يكف من قبل عن التعلق بالحانات، والولوع بالشراب، وكان كلُّ مناه من عهد طويل أن يقف في مشرب يملكه، مرتديًا سترة خضراء، وأربطة ركبتين، وحذاء مستطيلًا، وكانت نفسه أبدًا تهفو إلى الجلوس في مكان الصدارة من مجالس الشراب ومطارح السمر، ولطالما تخيل نفسه مقتعدًا كرسي الرياسة في حجرة يملكها، ويدير الحديث بلباقة وحذق، وأي أسوة حسنة هو المتجمل بها أمام زبائنه في الجناح المخصَّص للشراب، ولم تلبث هذه الأخيلة كلها والأماني الماضية أن خطرت في تلك اللحظة بباله، وهو جالس إلى قوارير شرابه بجانب النار التي تزأر في الموقدة، فلا عجب إذا هو شعر بغيظ شديد من مشهد ذلك الرجل المارد، وهو قد أوشك أن يظفر بهذا البيت البديع، بينما هو — توم سمارت — لا يزال يهفو في أثر أمنية بعيدة لا تقترب أبدًا، وبعد أن ظل طيلة بقاء القارورتين الأخيرتين أمامه يفكر مليًّا هل من حقه أن يخلق سببًا للاشتجار مع ذلك المارد؛ لأنه عرف كيف يظفر بالحظوة عند تلك الأرملة البضة، وانتهى به التفكير إلى نتيجة مقنعة، وهي أنه رجل أساءت الدنيا كثيرًا إليه، واضطهدته الأقدار، فمن الخير له أن يأوي إلى الفراش.

وتقدمته الفتاة الرشيقة، تصعد به سلمًا قديمًا رحيبًا، وتظلل شمعة الحجرة بكفها؛ وقاية لها من التيارات الهوائية التي تجد لها في ذلك البيت القديم الذي تخفق الأرواح فيه سبيلًا إلى التسرب خلال منافسه، والعبث فيه كما تشاء، دون أن تطفئ نور الشمعة، ولكنها مع ذلك قد هبت عليها فأطفأتها، مهيئة لخصوم «توم» فرصة اتهامه بأنه هو الذي أطفأها، ولم تكن الريح هي التي أخمدت أنفاسها، وإنه بينما كان يتظاهر بأنه يحاول إضاءتها، كان في الواقع يقبِّل الفتاة ويلثمها، وسواء كان هذا أو ذاك هو الصحيح، فقد تيسر الحصول على ضوء آخَر، وتقدَّمت به الفتاة في تيه من الحجرات والدهاليز حتى بلغ الغرفة التي أُعِدَّتْ لمبيته، فسلمت الفتاة مودعة، وتركته وحده.

وكانت الغرفة رحيبة ذات مرافق كبيرة، وتحوي سريرًا يصح أن يتسع لمنام طلبة قسم داخلي في إحدى المدارس، فضلًا عن صوانين للثياب من خشب السرو يتسعان لأمتعة جيش صغير، ولكن أشد ما استرعى نظر توم وأثار خياله مقعدٌ غريب رهيب المنظر، عالي المسند، تناهى في طرافة الشكل، وله وسادة من الدمقس المزين بالأزهار، وركبتان مستديرتان في أسفل ساقيه، مربوطتان بقماش أرجواني، كأنما يشكو من نقرس أصاب أصبع قدميه.

وخُيِّل إلى توم أنه دون سائر المقاعد كلها يبدو «غريبًا» حقًّا، وكان الأمر محتملًا أن ينتهي عند هذا الحد، فينشغل الرجل عنه، لولا أنه لاحظ على ذلك المقعد بالذات شيئًا آخَر، وإن لم يتبين فعلًا ما هو، فقد كان من الشذوذ والغرابة بحيث لا يماثله مقعد آخَر من كل المقاعد وقطع الأثاث التي شهدها في حياته، حتى لقد استهواه، واجتذب خاطره اجتذابًا، فجلس قبالة الموقدة، وظل يحملق البصر في ذلك المقعد القديم نصف ساعة، وهو لا يستطيع أن يسترد عنه عينه، ولا يشيح بوجهه دونه.

وراح توم يقول لنفسه وهو ينضو عنه ببطء ثيابه، ويطيل النظر إلى ذلك المقعد القائم بجوار مضجعه بشكله الغريب المرهوب: «لعمري ما رأيت في حياتي عجبًا كهذا في أيامي الخاليات.» وكان توم قد استحال «حكيمًا» فيلسوفًا من أثر «البنتش الساخن» الذي شربه، فمضى في نجواه يقول: «هذا غريب جدًّا، غريب جدًّا!» وانثنى يهز رأسه هزة الحكمة البالغة، ويلقي نظرة أخرى على المقعد، ولكنه لم يرَ شيئًا جديدًا يمكن أن يستخلص منه علة، أو يهتدي إلى سر، فدخل في فراشه، وتغطى بلحافه ليدفئ بدنه، وما لبث أن هبط في سبات عميق.

ولكنه بعد نصف ساعة أو قرابته استيقظ مجفلًا من حلم مضطرب، تراءت له فيه صور عمالقة ومَرَدة وقوارير من شراب، وكان أول شيء تمثَّل لخياله في يقظته، هو ذلك المقعد الغريب.

فقال في نفسه وهو يحاول إغماض أجفانه، ويُقنِع نفسه أنه عائد إلى النوم: «لن أعيرك نظرة بعد الآن.» ولكن النوم لم يطاوعه، فلم يلمح غير مقاعد غريبة تتراقص أمام عينيه، وتهز سوقها، ويقفز بعضها فوق ظهور بعض، وتحدث من الألعاب صنوفًا وألوانًا.

وأخرج توم رأسه من تحت الأغطية، وهو يقول: «ليس ثمة ضير من أن أشهد مقعدًا واحدًا حقيقيًّا، كما لو شهدت مجموعتين أو ثلاث مجموعات من الكراسي المزيفة، ونظر إلى المقعد فإذا هو قائم حياله ظاهر واضح على وهج النار المشبوبة في المدفأة، يبدو متحديًا مستفزًّا كدأبه.

وفيما كان يطيل البصر إليه، إذ بدا له فجأة أن تحوُّلًا متناهيًا في الغرابة قد عراه، فقد بدأ المسند العالي يتخذ تقاطيع وجه بشري مغضن كثير المكاسر كوجوه الشيوخ، واستحالت الوسادة الحريرية رويدًا رويدًا إلى صدار غريب ذي شقين، والركبتان المستديرتان إلى قدمين اثنتين منتعلتين خفًّا من قماش أحمر اللون، وبدا المقعد القديم أشبه شيء برجل متقدم في السن دميم الخلقة إلى حد بعيد، من شيوخ القرن الماضي، وهو مشتبك الذراعين، فاستوى توم في مرقده، وراح يفرك عينيه ليطرد الصورة الماثلة لهما، ولكن بلا فائدة ولا جدوى، لقد تمثل المقعد القديم أمامه رجلًا عجوزًا دميمًا، بل أدهى من ذلك وأنكى، راح يغمز بطرف عينه لتوم سمارت.

وكان توم بطبعه رجلًا ثابت الجنان غير هياب ولا وجل، وقد شرب خمس قوارير من البنتش الساخن، فلم يلبث بعد الإجفالة العابرة التي أحسها في بداية الأمر أن استشاط غيظًا منه بتلك القحة المتناهية، وأخيرًا عقد النية على ألا يسكت على هذه الجرأة، فراح يقول بلهجة غضب شديد، حين رأى ذلك الوجه القبيح لا يزال مستمرًّا في غمزه أكثر من قبلُ: «قُلْ لي أيها الشيطان اللعين ما الذي يدعوك إلى هذا الغمز لي على هذه الصورة؟»

وأجابه المقعد أو الرجل العجوز، أيًّا ما تحبون أن تدعوه: «لأنني أحب أن أغمز هكذا يا توم سمارت!» ولكنه كف مع ذلك عن الغمز، حين رأى توم يكلمه، وبدأ يضحك ويبدي نواجذه أشبه بقرد عجوز بلغ أرذل العمر.

وبهت توم حين سمعه يناديه باسمه، وإن تظاهر بأنه لم يرع منه ولم يبال: «كيف تعرف اسمي يا ذا الوجه القبيح الذي يشبه «كسارة» الجوز؟»

وقال السيد العجوز: «لا عليك ياتوم، لا عليك، ليست هذه هي الطريقة التي تخاطب بها مقعدًا قديمًا من خشب المجنة الأسبانية، اللعنة عليَّ، ما كنتَ مخاطبي بأقل من هذا احترامًا لو أني كنت مقعدًا مصنوعًا من قشرة لا من خشب صلب!»

وبدا الشيخ وهو يقول ذلك موحشًا غاضبًا، حتى لقد بدأ الخوف يسري في نفس توم من وحشة غضبه، فمضى يقول بلهجة أرق كثيرًا من لهجته الأولى: «لم أقصد أن أعاملك يا سيدي بأي استهزاء أو احتقار.»

وقال الشيخ: «ما علينا، قد يكون ذلك، ولكن اسمع يا توم.»

– «نعم يا سيدي.»

– «إنني أعرف كل شيء عنك يا توم، كل صغيرة وكبيرة، أنت فقير شديد الفقر يا توم.»

– «إني في الحق كذلك، ولكن من أين عرفت ذلك عني.»

وأجاب السيد العجوز: «لا تسأل عن ذلك، وأنت شديد الولوع بالبنتش يا توم.»

وكان توم قد هَمَّ بأن يزعم أنه لم يَذُقْ قطرة منذ عيد ميلاده الأخير، لولا أن التقت عينه بعين الشيخ، وتبيَّن له من نظراته أنه كان يعرف كل شيء، فخجل توم، ولزم الصمت.

وعاد الشيخ يقول: «اسمع يا توم، إن الأرملة امرأة جميلة، جميلة إلى حد بالغ، أليست كذلك يا توم؟» وانثنى العجوز يتخازر بعينيه، ويرفع إحدى ساقيه الواهيتين القصيرتين، ويبدو منعزلًا بشكل متناهٍ في القبح، حتى اشمأز توم من هذا التصرف النزق من رجل في مثل سنه.

ومضى العجوز يقول: «إنني وَلِيُّ أمرها يا توم.»

قال: «أحقًّا؟»

واستتلى العجوز يقول: «لقد عرفت أمها يا توم وجدتها، وكانت مولعة بي، هي التي حاكت لي هذا الصدار يا توم.»

قال: «أفعلت ذلك هي؟»

واسترسل العجوز قائلًا: «وهذا الحذاء، ولكن لا تذكر شيئًا من ذلك يا توم؛ لأني لا أحب أن يعرف أحد من الناس أنها كانت تحبني إلى هذا الحد، فقد يُحدِث ذلك بعض الكدر في الأسرة.»

وبدت على العجوز جرأة متناهية، قال توم سمارت في وصفها فيما بعدُ، إنه كاد يهم من تناهيها أن يجلس فوقه بلا ندامة أو أسف.

ومضى ذلك الشيخ المستهتر يقول: «لقد كنت في زماني أخا حظوة كبيرة عند النساء، وكم من مئات الغيد رحن يجلسن في حجري ساعات طوالًا لا يزايلنه، فما رأيك في هذا يا كلب؟»

وهَمَّ الشيخ بأن يقص عليه طرفًا من وقائعه الغرامية في شبابه، لولا أن استولت عليه نوبة صرير عنيفة، أعجزته عن المضي في قصصه.

وقال توم لنفسه: «هذا جزاؤك أيها الشيخ المتصابي!» ولكنه لم يقل للعجوز شيئًا.

وعاد هذا إلى حديثه فقال: «آه! لقد أصبحت أعاني كثيرًا من هذه العلة اليوم، لقد بدأت أشيخ يا توم، وكدت أفقد كل مقوماتي الحديدية وقضباني، وقد أُجرِيت لي أيضًا جراحة قبل الآن … وأُدخِلت قطعة صغيرة في ظهري، وكانت المحنة أليمة قاسية يا توم، عانيت منها عناءً شديدًا.»

وأجاب توم سمارت قائلًا: «أكبر ظني يا سيدي أنك عانيت كثيرًا.»

واسترسل العجوز يقول: «ولكن ليست هذه هي موضوع البحث يا توم، وإنما كل ما أريد أن أقوله أنني أريد منك أن تتزوج الأرملة.»

وقال توم في دهشة: «أنا يا سيدي!»

وأجابه العجوز: «نعم أنت.»

وصاح توم قائلًا: «بارك الله في جدائلك الموقرة يا سيدي …» — وكانت قد بقيت للشيخ بضع شعرات متناثرة من شعر الخيل — «إن الأرملة لن ترضى بي بعلًا لها.» وراح يزفر على كره منه، وقد خطر «البار» لخياله.

وقال الشيخ بقوة: «أحقًّا لن ترضى بك؟»

وأجاب توم قائلًا: «بلى، بلى، إن هنالك إنسانًا آخَر، رجلًا طويل القد، ملعون الشبه، ذا شاربين أسودين.»

وقال الشيخ: «اسمع مني يا توم، إنها لن ترضى به.»

وقال توم: «لن ترضى به! أحقًّا؟ لو وقفتَ في مكان الشراب أيها السيد الكبير لقلتَ غير هذا المقال.»

وصاح الشيخ قائلًا: «أف! أف منك! … أنا عارف كل شيء.»

قال: «وماذا تعرف؟»

وأجاب السيد الكبير: «تعاطي القبلات خلف الباب، وكل ما هو من هذا النوع أو نحوه.» ثم انثنى يرسل نظرة وقحة أخرى، أغضبت توم أشد الغضب؛ لأن سماع عجوز — كان أولى به أن يكون أعقل من ذلك وأحجى — يتحدث في هذه الأمور وأمثالها، شيء تعرفون جيدًا، أيها السادة، أنه أثقل ما يكون على النفس، وأسوأ ما يكون قيلًا.

ومضى الشيخ يقول: «إنني أعرف كل شيء يا توم، وقد شاهدت مثله يقع كثيرًا في زماني يا توم بين قوم لا أود أن أذكر لك أسماءهم، ولكن ذلك كله لم يأتِ في النهاية بنتيجة.»

وقال توم وهو ينظر إليه نظرة فضول: «لا بد من أنك شهدت العجب في شبابك.»

وأجاب الشيخ بغمزة مضطربة من عينيه، وزفرة أليمة من صدره: «لك أن تقول ذلك، إنني آخِر فرد من أسرتي يا توم.»

قال بفضول: «أَوَكانت كبيرة العدد؟»

قال: «اثني عشر يا توم، رفيعي الظهور حسانًا، تشتهي عينك أن تراها، ولم نكن كهذه الأجنة المجهضة التي شاعت في هذه الأيام، كلها أذرع، ومجرد طلاء يروقك منظره، وكان أجدر بك ألا تنخدع به.»

وسأله توم قائلًا: «وماذا صنع الله بالآخَرين؟»

وأجاب السيد العجوز وهو يرفع مرفقه إلى عينه: «لقد ذهبوا جميعًا يا توم وانقرضوا، لقد خدمنا خدمة شاقة، ولم يكن الآخرون في مثل قوة بنيتي، فأصلبهم النقرس في سوقهم وأذرعهم، ونُقِلوا إلى المطابخ وغيرها من المستشفيات، وحدث لأحدهم — وكان قد ابتذل طويلًا في الخدمة، وقاسى بلاء شديدًا — أن فقد قواه العقلية، وبلغ جنونه حدًّا اقتضى إحراقه، وهي نهاية مروعة يا توم.»

وقال توم سمارت: «مرعبة.»

وسكت العجوز لحظة، والظاهر أنه كان يغالب انفعالاته، ثم عاد يقول: «ولكني يا توم قد شردت عن الموضوع، إن ذلك الرجل الطويل يا توم أفلق، وغد، أثيم، وسوف يبيع كل الأثاث الذي يحويه هذا البيت بمجرد الزواج بالأرملة، ويلوذ بأذيال الفرار، وعندئذٍ ماذا ستكون العاقبة؟ سوف تجد المرأة نفسها وحيدة مهجورة ضاع مالها، وحل الخراب بدارها، وسوف ألفظ أنفاسي الأخيرة في دكان أحد الراهنين.»

وقال توم: «نعم، ولكن …»

وصاح الشيخ به قائلًا: «لا تقاطعني! أما عنك أنت يا توم، فلي رأي آخَر مختلف كل الاختلاف عن رأيي فيه؛ لأني أعرف حق المعرفة أنك يوم تستقر في مشرب وحانة عامة، لن تغادرها ما دام بين جدرانها شراب تتعاطاه.»

وقال توم سمارت: «إني لشاكر لك كل الشكر هذا الرأي الجميل في شخصي.»

واستتلى العجوز في لهجة الآمِر الناهي قائلًا: «ولهذا ستنالها، أما هو فلن يظفر بها.»

وقال توم في لهفة: «وما الوسيلة إلى منعه؟»

وأجاب السيد الكبير بقوله: «هذا السر الذي أكشفه لك: إنه متزوج فعلًا!»

وكاد توم يهب من فراشه، قائلًا: «وكيف يتواتى لي إثبات ذلك؟»

وأزاح السيد الكبير ذراعه عن جنبه، وأشار إلى إحدى الخزانتين، ثم أعاد في عجلة ذراعه إلى موضعها السابق، وانطلق يقول: «إنه قد نسي أنه في الجيب الأيمن من سراويله الموضوعة في تلك الخزانة، قد ترك خطابًا يرجو فيه أن يعود إلى زوجته الحزينة التي رُزِقت منه بستة — افهم مني يا توم — بستة ولدان كلهم صغار.»

ولم يكد الشيخ يفوه بهذه الكلمات، حتى بدت معالم وجهه تتلاشى شيئًا فشيئًا، وأخذ شكله يتوارى رويدًا، وغمرت غشاوة عينَيْ توم سمارت، وراح الشيخ يندمج تدريجًا في المقعد، ويتقمص تقمصًا، ويتحول الصدار الحريري إلى وسادة، والخف الأحمر إلى كيسين صغيرين من قماش أرجواني اللون، وبدأ الضياء يخفت قليلًا قليلًا، وارتمى توم سمارت فوق وسادته، وتولاه النعاس.

وأيقظه مطلع النهار من نومه الذي استولى عليه عقب اختفاء الشيخ، فجلس في فراشه، وراح يحاول عبثًا بضع لحظات أن يتذكر أحداث الليلة الماضية، فلم تلبث ذكراها أن تدافعت على خاطره، فنظر إلى المقعد، فإذا هو كما رآه من قبلُ مقعد غريب الشكل، رهيب المنظر، وخُيِّل إليه أنه لم يكن سوى خيالٍ بارعٍ قوي الأثر، ذلك الذي جعله يكشف وجوه شبه بين ذلك المقعد والشيخ الكبير الذي لا يزال ماثلًا لخاطره.

وقال توم بلهجة أجرأ في النهار مما كانت في الليل، والناس تعاودهم الجرأة في النهار عامة: «كيف أنت أيها العجوز المتصابي؟»

ولكن المقعد ظل جامدًا صامتًا لا يحير جوابًا.

واسترسل توم يقول له: «صباح أنكد.» ولكن المقعد لم يشأ أن ينساق إلى الحديث.

وقال توم: «إلى أي الخزانتين أشرت؟ أظنك لا تبخل عليَّ بهذا على الأقل.»

ولكن المقعد أيها السادة لم ينبس ببنت شفة.

وقال توم وهو يغادر الفراش بحذر بالغ: «لا عناء من فتحها على أية حال.»

ومشى صوب إحدى الخزانتين، فوجد المفتاح في القفل، فأداره وفتح الباب، وإذا هو يجد فعلًا سراويل في جوفها، فدسَّ يده في الجيب، فاطلع الخطاب عينه الذي تحدَّث الشيخ الكبير عنه.

وأنشأ توم يقول، وهو ينظر إلى المقعد، ثم إلى الخزانة، ثم إلى الخطاب، ثم عاد ينظر إلى المقعد: «هذا شيء غريب، غريب كل الغرابة!» ولكنه لم يجد ما يقلل من هذه الغرابة التي أحارته، فخطر له أنه يحسن به أن يرتدي ثيابه، ويُنهِي قصة الرجل الطويل بغير إبطاء، ليخرج من الشقاء الذي هو فيه، وانطلق ينزل السلم، معددًا الحجرات التي يجتازها في طريقه، بعين فاحصة متقصية، عين المالك العتيد، متصوِّرًا أنه ليس من المستحيل أن تصبح تلك الحجرات وما حوت من رياش ملك يمينه، وما إن بلغ الطبقة الدنيا من الفندق حتى لمح الرجل الطويل واقفًا في مكان الشراب الدفيء الصغير، واضعًا يديه خلف ظهره، كأنه في بيته الذي لا ينازعه فيه أحد، ولم يكد يرى توم حتى ابتسم له ابتسامة فارغة، ولو رآها مراقب عابر، لظن أنه إنما ابتسمها ليبدي أسنانه البيض، ولكن توم سمارت تصور أن الشعور بالنصر كان يغمر المكان الذي كان يتمثل لخاطر ذلك المارد، وهو يبتسم على تلك الصورة؛ فراح يضحك في وجهه، وينادي ربة الفندق إليه.

قال وهو يغلق باب البهو الصغير على إثر دخولها: «طاب صباحك يا سيدتي.»

وأجابته الأرملة قائلة: «صباح الخير يا سيدي، أي طعام تريده لفطورك يا سيدي؟»

وكان توم مشغولًا بإعداد الكلام الذي يصح أن يفتح به الموضوع، فلم يُجِبْ، ومضت هي قائلة: «إن عندنا لحم خنزير مملَّحًا شهيًّا للآكلين، ودجاجة باردة سمينة، فهل أجيء بهما يا سيدي؟»

وأيقظت هذه الكلمات توم من سبح أفكاره، وازداد إعجابه بالمرأة وهي تتكلم، فقال في نفسه: «يا لها من مخلوقة مدبرة! يا لها من مرفهة أريبة!»

وابتدرها توم سائلًا: «مَن يكون ذلك السيد الواقف في مكان الشراب يا سيدتي؟»

قالت وهي تشعر بخجل عابر: «إنه يُدعَى جنكنز يا سيدي.»

فعاد يقول: «إنه رجل طويل.»

فأجابت: «إنه رجل بديع جدًّا يا سيدي، وسيد لطيف للغاية.»

وقال توم: «آه!»

قالت وهي حيرى من سلوكه: «هل من شيء آخَر تريده يا سيدي؟»

قال: «نعم يا سيدتي العزيزة، هل تتكرمين بالجلوس لحظة؟»

فبدت الدهشة عليها، ولكنها جلست، فجلس هو كذلك بجوارها، ولست أدري كيف حدث ذلك أيها السادة، ولكن عمي اعتاد أن يقول لي: إن توم سمارت نفسه قال إنه لا يعرف كيف حدث ذلك هو أيضًا، ولكن الواقع أن راحة كف توم لمست بوسيلة من الوسائل ظهر يد الأرملة، فاستقرت عليه، وهو منطلق يقول بلهجة المتلطف الذي يعرف حق المعرفة أنه كذلك: «يا سيدتي العزيزة، إنكِ لجديرة بزوج بديع جدًّا، إنك فعلًا كذلك.»

وقالت الأرملة، وهو ما كان منتظرًا أن تقوله: «يا إلهي!»

وكانت طريقة توم في التمهيد للحديث غير مألوفة، إن لم نَقُلْ أدعى إلى إثارة الدهشة والذهول، ولكن يجب أن نراعي عاملًا له أثره، وهو أنه لم تكن عينه قد وقعت عليها قبل الليلة البارحة.

ومضى توم يقول: «إنني لا أحب الملق، بل أمقته وأسخر منه يا سيدتي، إنك حقًّا جديرة بزوج يستحق أشد الإعجاب، وسوف يكون السعيد الموفَّق، كائنًا مَن يكون.»

وفيما كان توم يقول ذلك، انطلقت عينه على غير إرادة منه، تنتقل هائمة بين وجه الأرملة، وتلك الخيرات المحيطة به من كل ناحية.

وبدت الأرملة أكثر حيرة وارتباكًا مما كانت من قبلُ، وهمت بالنهوض، ولكنه ضغط يدها برفق كأنما أراد أن يحتجزها، فلبثت في مجلسها، والأرامل أيها السادة لسن بالخوافات، كما اعتاد عمي أن يقول.

وقالت ربة البيت الغضة البضة في شبه ضحكة: «إنني على يقين أنني مدينة لك كثيرًا يا سيدي لحسن رأيك، وإذا قُدِّر لي يومًا أن أتزوج مرة أخرى …»

وقاطعها توم سمارت، وهو ينظر بخبث شديد من الطرف الأيمن لعينه اليسرى: «أتقولين إذا؟»

قالت وهي ضاحكة ضحكة كاملة في هذه المرة: «والله إني لأرجو حين أفعل ذلك أن يكون لي زوج كالذي وصفتَه.»

وقال توم: «جنكنز مثلًا؟»

وصاحت الأرملة: «يا إلهي يا سيدي!»

ومضى يقول: «أوه، لا تقولي لي إنني أعرفه!»

وقالت الأرملة مستجمعة شجاعتها إزاء تلك اللهجة الغامضة التي تحدَّثَ توم بها: «إنني لعلى يقين أن مَن يعرفه لا يعرف عنه سوءًا.»

وقال توم سمارت: «احم؟»

وبدأت الأرملة تعتقد أنه قد حان لها أن تبكي، فأخرجت منديلها، وسألت توم: هل يريد أن يهينها؟ وهل يرى من أدب السيد المهذب أن يطعن في حق سيد آخَر من خلف ظهره؟ وإذا كان عنده ما يقوله، فلماذا لا يقوله لذلك الرجل مواجهة، بدلًا من ترويع امرأة مسكينة ضعيفة على هذا النحو؟

وأجاب توم قائلًا: «لن أتردد في قوله له، ولكني أردت أولًا أن تسمعيه أنت.»

قالت وهي تطيل النظر إلى وجهه: «وما هو؟»

قال وهو يضع يده في جيبه: «ستذهلين لسماعه.»

وعادت الأرملة تقول: «إذا كان ما تريد أن تقوله أنه يطلب مالًا، فإني أعرف ذلك مقدَّمًا، فلا تتعب نفسك في ترديد ما أعلمه.»

وقال توم سمارت: «أف! هذا هراء، لا شأن له ولا خطر، أنا نفسي أريد مالًا، ليس هذا هو ما أعني.»

وصاحت الأرملة المسكينة قائلة: «رباه! ماذا يمكن أن يكون إذن؟»

وقال توم سمارت: «لا تراعي!» وبكل رفق راح يُخرِج الكتاب وينشره قائلًا بلهجة المتشكك: «ولكني أرجو أن لا تصرخي!»

قالت: «كلا! كلا! دَعْني أنظر الكتاب.»

قال: «أَوَلست مستسلمة إلى إغماء أو شيء من هذا القبيل؟»

قالت: «لا عليك! لا عليك! دَعْني أرَ الكتاب.»

قال وهو يضع الكتاب في كفها: «ها هو ذا.»

أيها السادة، لقد سمعت عمي يقول: إن توم سمارت قال إن ولولة الأرملة حين علمت بالسر كانت تنفذ في أي فؤاد قُدَّ من الصخر، وكان توم بالطبع رقيق القلب كريمه، ولكن تلك الصرخات نفذت فيه إلى الصميم، وظلت الأرملة تهتز وتقلب كفيها وهي تقول: «أواه، ما أشد خبث الرجال ومكرهم!»

وقال توم سمارت: «إنه لأمر مرعب يا سيدتي العزيزة، ولكن هدِّئي من روعك.»

وصاحت الأرملة: «أواه، لا أستطيع تهدئة روعي، لن أجد أبدًا رجلًا سواه يمكن أن أحبه كل هذا الحب الذي أوليته إياه.»

وقال توم سمارت: «بل ستجدينه يا عزيزتي!» وترك دمعة من أكبر الدموع حجمًا تنحدر من عينيه رثاء لنكبة الأرملة، وكان توم سمارت في فورة عطفه، وثورة رحمته، قد طوق خصرها بذراعه، وكانت في اشتداد حزنها قد أمسكت بيده، وتطلعت إلى وجهه، وابتسمت من خلال عَبَراتها، فأطلَّ هو على مُحَيَّاها، وابتسم من ثنايا دموعه.

ولم أستطع أيها السادة أن أعرف يومًا هل قَبَّل توم الأرملة في تلك اللحظة بالذات، أو لم يقبِّلها، فقد اعتاد أن يقول لعمي إنه لم يفعل ذلك، ولكني منه في شك مريب، وأكاد أعتقد فيما بيننا أيها السادة أنه قد فعل.

وعلى أية حال، لقد استطاع توم أن يطرد الرجل الطويل من الباب الأمامي بعد نصف ساعة من ذلك الموقف الذي جرى، وتزوَّج بالأرملة بعد شهر، واعتاد أن يطوف أرجاء الإقليم في عربته الطفلية اللون ذات العجلات الحمر، والفرس الشموس السريعة الخطى، حتى اعتزل العمل بعد ذلك بعدة سنين، وذهب إلى فرنسا مع زوجته، وانتهى الأمر بهدم ذلك البيت القديم على مر الأيام.»

وهنا قال ذلك الشيخ الفضولي: «هل تأذن لي في سؤالك: ماذا كان من أمر المقعد؟»

فأجاب التاجر الأعور قائلًا: «لقد لوحظ عليه أنه بات يكثر من الصرير والطقطقة في ليلة الزفاف، ولكن توم سمارت لم يستطع أن يجزم هل كان ذلك منه تعبيرًا عن فرحه، أو شكوى من ضعفه وإلحاح العلة عليه، وإن كان يحسب الثانية هي أقرب إلى الحقيقة؛ لأن المقعد لم يَعُدْ يتكلم بعد ذلك التاريخ.»

وقال الرجل الأشعث الأغبر وهو يعيد ملء قصبته: «وهل صدَّق كل إنسان هذه القصة، أو وجدت مَن يكذِّبها؟»

وأجاب التاجر المتجول: «لقد صدَّقها الجميع إلا خصوم توم، فقد قال فريق منهم: إنه اخترعها اختراعًا. وقال آخرون: إنه كان سكران منزوفًا، فتوهمها توهمًا، وأمسك بالسراويل خطأ قبل أن يذهب إلى النوم. ولكن الناس لم يأبهوا يومًا بما قال أولئك الخصوم.»

– «وهل قال توم إن كل ما فيها صحيح؟»

– «بل كل كلمة من كلماتها.»

– «وماذا قال عمك؟»

– «كل حرف من حروفها.»

وعقب الرجل الأشعث الأغبر بقوله: «لا بد من أنهما كانا لطيفين.»

وأجاب التاجر الجوابة: «أي نعم، في منتهى اللطف فعلًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤