الفصل الحادي والأربعون

يصف ما جرى للمستر بكوك حين دخل سجن فليت والسجناء الذين رآهم فيه، وكيف قضى الليلة الأولى.

***

وعطف المستر توم روكر — وهو السيد الذي رافق المستر بكوك إلى السجن — يمنة حين بلغ بداية ذلك السلم القصير، وتقدم من خلال باب حديدي مفتوح، فصعد سلمًا قصيرًا آخر، يفضي إلى ممر ضيق طويل، امتلأ بالأقذار، وانخفض سقفه، ورصفت بالحجارة أرضه، ولا يدخله النور إلا خافتًا ضعيفًا، من نافذة عند كل طرف من طرفيه المتباعدين.

وقال الرجل وهو يدس يديه في جيوبه، وينظر بقِلَّة مبالاة ومن فوق كتفه إلى المستر بكوك: «هذا هو السلم المؤدي إلى الردهة.»

وقال المستر بكوك: «أوه، أهو حقًّا»، وراح يلقي نظرة على درج مظلم قذر، يفضي إلى صف من القباب الرطبة الكئيبة المنظر، القائمة تحت الأرض، وأنشأ يقول: «أظن هذه هي الحجرات الصغيرة التي يحفظ السجناء فيها القليل مما لديهم من الفحم. هذه أماكن لا يسر أحدًا النزول إليها، ولكني أعتقد أنها مريحة للغاية.»

وأجاب الرجل: «نعم، لست أعجب من أن تكون مريحة، بعد أن رأيت فريقًا قليلًا من الناس يعيشون فيها ويجدون الراحة والدفء، هذه هي السوق يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «أتقصد حقًّا يا صديقي أن تقول: إن المخلوقات البشرية تعيش في هذه المحابس البشعة؟»

وأجاب المستر روكر بدهشة مزيجة بغضب: «ألم أقل ذلك، ولماذا لا أقوله؟»

وقال المستر بكوك مبهوتًا: «يعيشون! يعيشون فيها!»

وأجاب المستر روكر: «نعم، يعيشون فيها ويموتون أيضًا في أغلب الأحيان، أي شيء في هذا؟ ومن الذي يعترض عليه؟ نعم والله يعيشون فيها! وإنها لمكان طيب يعاش فيه. أليس كذلك؟»

والتفت الرجل بانفعال شديد إلى المستر بكوك ومضى يتمتم في هياج ظاهر بعبارات مستهجنة في حق عينيه هو وأوصاله ودمه، فرأى الشيخ أنه من الخير ألا يواصل الحديث أكثر من ذلك الحد، وبدأ المستر روكر يصعد سلمًا آخر لا يقل قذارة عن سابقه الذي كان يدور الجدل حوله، وتبعه المستر بكوك وسام وراحا يصعدان في أثره.

ووقف المستر روكر ليسترد أنفاسه عند وصولهم إلى ممر آخر ضيق مستطيل، كالذي اجتازوه من قبل وقال: «هذا هو موضع قاعة القهوة، والطابق الذي فوقه هو الثالث، والذي بعده هو الأخير، والغرفة التي ستنام الليلة فيها هي غرفة السجان وهي من هنا. تقدما.»

ومضى المستر روكر بعد أن قال ذلك كله في نفس واحد، يصعد درجًا أخرى، وهما يتبعانه، وكانت هذه الدرج تتلقى النور من عدة نوافذ قائمة على ارتفاع قليل من الأرض، وتطل على ساحة مفروشة بالحصباء يحدها جدار شاهق، تحمي قمته قضبان من الحديد مصبوبة في الخشب. وبدا من كلام المستر روكر أن تلك الساحة ميدان للكرة التي يتقاذفها اللاعبون بالمضارب، وتبين فيما بعد من أقوال هذا السيد ذاته أن هناك ساحة أخرى أصغر منها في ذلك الجزء من السجن، وهو أقرب أجزائه إلى شارع فرنجدن، وأنها تدعى الأرض المصورة؛ لأن جدرانها كانت يومًا مزدانة برسوم لعدة بوارج حربية ناشرة الأشرعة، وغيرها من الصور التي اعتاد رسام في السنين الخالية كان سجينًا في ذلك المحبس أن يرسمها على تلك الجدران في ساعات فراغه.

وبعد أن فرغ الدليل من سرد هذه المعلومات لينفس عن صدره بعض العلم الخطير الذي أوتيه، لا لتعليم المستر بكوك ما لم يعلم، انطلق بهما في ممر آخر، حتى انتهى أخيرًا إلى ردهة صغيرة في طرفه الأقصى، ثم فتح بابًا، وكشف عن غرفة لا يغري منظرها بالدخول، وهي تحوي ثمانية سرر حديدية أو تسعة.

وقال المستر روكر وهو يمسك بالباب بعد فتحه، وقد التفت نحو المستر بكوك التفاتة انتصار: «هاك غرفة طيبة.»

ولكن وجه المستر بكوك، عندما بدا له مكان مبيته، لم يكن يوحي بشيء كثير من الارتياح، فالتفت المستر روكر إلى سام ولر ليرى أثرًا من الشعور المتبادل، وكان هذا قد التزم إلى هذه اللحظة الصمت، وأخلد إلى الرزانة والوقار.

وقال المستر روكر: «هذه غرفة، ولا كل الغرف، أيها الشاب.»

وأجاب سام بإيماءة هادئة من رأسه: «إني أراها.»

ومضى المستر روكر يقول ببسمة رضى واغتباط: «لا يمكنك أن تحلم بأنك واجد مثلها ولا في فندق فرنجدن. هل يمكن؟»

ورد المستر ولر على هذا الكلام بإغماض إحدى عينيه بسهولة، ودون تكلف، وهي إغماضة يحتمل أن يؤخذ معناها على أنه يمكنه أن يحلم، أو على أنه لا يمكنه، أو على أنه ما فكر ولا حلم بشيء كهذا إطلاقًا، أو حسبما يتصور خيال القائل. وبعد أن أدى المستر ولر هذه الحركة، وفتح عينه، انثنى يسأل المستر روكر أي سرير من هذه الأسرة كان يعنيه بذلك المديح الذي وصفه به؟

وأجاب المستر روكر وهو يشير إلى سرير علاه الصدأ، في ركن من الحجرة: «هو هذا، إنه ليجعل الإنسان يستغرق في النوم حالًا، سواء أراده أو لم يرده.»

ونظر سام مليًّا إلى ذلك السرير نظرة اشمئزاز متناهٍ، وقال: «أحسب أبا النوم١ لا يعد شيئًا مذكورًا إذا قورن به.»

وقال المستر روكر: «لا يذكر مطلقًا إذا قورن بها.»

وقال سام وهو يلقي نظرة جانبية إلى سيده كأنما يريد أن يتبين هل بدت عليه أمارات تردد تثنيه عن عزمه: «وأظن أن الآخرين الذين ينامون هنا من السادات المهذبين؟»

وقال المستر روكر: «لا أحد سواهم، ومنهم واحد يتناول اثني عشر فنتًا من الجعة في اليوم، ولا يكف عن التدخين، حتى في أثناء تناول وجباته.»

وقال سام: «لا بد أنه شخص من الطراز الأول.»

وأجاب المستر روكر: «من الدرجة الأولى.»

ولم يضطرب جأش المستر بكوك من شيء بعد كل هذا الذي سمعه، بل ابتسم وهو يعلن أنه معتزم أن يختبر مدى تأثير هذا السرير «المخدر» في تلك الليلة. وبعد أن أبلغه المستر روكر أنه حر في الإيواء إلى الراحة في أي ساعة يراها، دون إعلان سابق أو أي إجراء شكلي، انصرف تاركًا المستر بكوك وسام واقفين في الممر.

وكان الظلام قد بدأ، أو بعبارة أخرى، كان قد أضيء في ذلك المكان بضع ذبالات من الغاز، لا يمكن مطلقًا أن تسمى نورًا، إلا على سبيل المجاملة للمساء الذي حل في الخارج. وكان الجو أميل إلى الدفء، فعمد بعض النزلاء في الغرف الصغيرة المتعددة التي تفتح على جانبي ذلك الممر، إلى ترك أبوابها مفتوحة قليلًا فجعل المستر بكوك يلقي نظرات عجلى عليها وهو يجتازها، في دهشة بالغة، وفضول كبير، فأبصر بأربعة رجال ضخام الأبدان أو خمسة، لا يكادون يتراءون في وسط غمامة كثيفة من دخان التبغ، وهم مشتبكون في حديث صاخب شديد الجلبة، عاكفون على جرار من الجعة لم يبق فيها غير أنصافها، أو يلعبون الميسر بورق قذر. وفي الغرفة المجاورة قد تلم العين بنزيل خلا إلى نفسه وراح على ضياء خافت منبعث من شمعة صغيرة يكب فوق رزمة من الأوراق الملطخة الممزقة، اصفرت من الغبار، وذبلت من البلى، وهو يكتب للمرة المائة، عرائض موجهة إلى عظيم لن تصل إليه، ولن تبلغ عينيه، أو لن يتأثر منها فؤاده. وفي غرفة ثالثة رجل وامرأته وطائفة من أولادهما، وهو يعد فراشًا صغيرًا فوق الأرض أو على بضعة مقاعد؛ ليبيت عليه الصغار من أولاده. وفي الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، ترتفع الجلبة، وتعبق رائحة الجعة، وتتعالى ذوائب التبغ، وتترامى أوراق اللعب مرة أخرى وهي أقوى مما شاهده من قبل.

وفي الممرات والدهاليز ذاتها، وخاصة فوق مدارج السلم، يتسكع فريق كبير من الناس، جاء بعضهم إليها؛ لأن غرفهم خاوية خالية من الأنيس، وآخرون منهم جاءوا لأن غرفهم كانت ملأى برفقائهم، شديدة الحر عليهم، وأغلبهم أتوا من القلق والضيق والضجر؛ لأنهم لم يؤتوا سر العلم بالوسائل التي يصح أن يستعان بها لتوطين النفس على ما هم فيه، أو معرفة ماذا هم صانعون بأنفسهم، وقد اختلف النزلاء صنوفًا، وتباينوا طبقات، من العامل البادي في الجلباب الفضفاض، إلى المسرف المتلاف المحطم في قميص النوم الصوف، الذي يلوك المرفق خارجًا من كمه، وإن تشابهوا جميعًا في النظرة، وتماثلوا جملة في السمات، فقد كان كل منهم يبدو القلق المستخف المتعاظم، المتشرد الذي تلوح سمات الخوف على معارفه، ولا تستطيع الكلمات أن تصفه، وليس في إمكان اللغة التعبير عنه، ولكن في وسع أي إنسان أن يدرك حقيقته إذا شاء يومًا أن يدركها، بدخول أقرب سجن للمدينين منه، والنظر إلى أول جمع من السجناء تقع عينه عليهم، بذلك الاهتمام الذي كان المستر بكوك ينظر به إليهم.

وقال المستر بكوك وهو يستند إلى السياج الحديدي القائم على رأس السلم: «يخيل إلي يا سام أن السجن للعجز عن أداء الدين ليس عقابًا قط؟»

وأجاب المستر ولر: «ألا تظن أنه كذلك يا سيدي؟»

وقال المستر بكوك: «ألا ترى كيف يشرب هؤلاء الناس ويدخنون ويصخبون؟ يستحيل أن يكونوا مكترثين كثيرًا بالسجن»

وأجاب سام: «آه! هذه هي الحقيقة تمامًا يا سيدي. أي نعم، إنهم غير مكترثين بالسجن، فهو فسحة في نظرهم، وأيام عطلة وفراغ، كلها شراب وسكر، ولعب. ولكن هناك آخرين، وأعني بهم أولئك الذين حطمهم السجن، وملُّوا المقام فيه، أولئك الذين انكسرت قلوبهم، فلا يتعاطون جعة، ولا يشتركون في لعب، أولئك الذين يودون أن يدفعوا ما عليهم لو استطاعوا، وتنقبض نفوسهم من الحبس، سأقول لك القصة تمامًا يا سيدي. الواقع أن الذين يقضون كل أوقاتهم في الحانة، لا يصيبهم السجن بأي ضرر، ولكن الضرر الشديد يصيب الذين لا ينقطعون عن العمل إذا استطاعوا. إن هذا ليس مساواة، كما اعتاد والدي أن يقول كلما وجد أن الكأس لا تحوي النصف شرابًا والنصف الآخر ماءً أي «بالتساوي»، وهذا هو العيب في الحياة يا سيدي.»

وقال المستر بكوك بعد أن فكر قليلًا وسرح مع خاطره: «أظن أنك على صواب يا سام، عين الصواب.»

ومضى المستر ولر يقول في لهجة المفكر المتأمل: «وقد تصادف من حين إلى آخر أناسًا أشرافًا يحبون السجن، ولكني ما سمعت في حياتي شيئًا يشبه قصة ذلك الرجل الصغير البدن القذر السحنة الذي يرتدي سترة رمادية، ولكن سر ذلك يرجع إلى تأثير العادة.»

وسأل المستر بكوك: «ومن يكون ذلك الرجل؟»

وأجاب سام: «هذه هي النقطة، بالذات، التي لم يعرف أحد يومًا سرها.»

– «ولكن ماذا فعل؟»

وأجاب سام: «فعل ما فعله خلق كثير أوفر علمًا ومعرفة في أيامهم يا سيدي، جرى في مباراة مع الشرطي وكان الفائز فيها.»

وقال المستر بكوك: «وبعبارة أخرى أظنك، تعني أنه استدان.»

وأجاب سام: «تمامًا يا سيدي، هو هكذا، وعلى مر الزمن كانت النتيجة أنه جاء إلى هنا بسبب هذه الاستدانة، ولم يكن الدين كبيرًا، كله تسعة جنيهات، مضروبة في خمسة نظير الأتعاب والمصاريف، ولكنه بقي هنا سبع عشرة سنة، وإذا كانت الغضون قد ظهرت على وجهه من طول السنين، فقد تراكم عليها القذر فأوقفها، فإن ذلك الوجه القذر، والسترة الرمادية، بقيا إلى النهاية كما كانا من البداية، وكان الرجل مخلوقًا وديعًا مسالمًا لا يعرف العدوان على أحد، وكان لا ينقطع عن الحركة والتنقل بحثًا عن أي إنسان أو يلعب الكرة ولا يكسب أبدًا، حتى أصبح الحراس والسجانون في النهاية يحبونه، فجعل يقضي كل ليلة في «عنبرهم»، يتحدث معهم، ويقص النوادر عليهم، وما أشبه ذلك. ففي ذات ليلة كان في العنبر كالعادة، مع صديق قديم له من بينهم، وإذا هو بغتة يقول له: لم أر السوق القريبة منا «يا بل» — وكانت سوق «فليت» في ذلك المكان وقتئذ — لم أرها من سبع عشرة سنة. وأجابه السجان وهو يدخن في قصبته، أعرف ذلك، فعاد يقول له: أود أن أراها ولو لحظة واحدة «يا بل»، وقال السجان، وهو يدخن بشدة، ويأخذ أنفاسًا قوية منها، ليوهمه أنه لا يفهم مراده: مرجح جدًّا، ولكن الرجل قال في لهجة مباغتة أشد من قبل: لقد خطرت الفكرة في رأسي، دعني أشهد الشوارع العامة مرة قبل أن أموت، وسأعود بعد خمس دقائق بالضبط إذا لم يصبني صرع فيمنعني من المجيء في الموعد. وقال السجان: وماذا يكون مصيري إذا أصابك الصرع بالفعل؟ وأجاب ذلك المخلوق الصغير الجسم: سيعيدني إلى مكاني من يجدني؛ لأن بطاقتي في جيبي يا بل — رقم (٢٠) الدور المخصص لقاعة القهوة. وكان هذا هو الواقع فعلًا حتى لقد اعتاد كلما أراد التعرف بأي وافد جديد، أن يخرج بطاقة صغيرة بالية من جيبه كتبت عليها هذه العبارة ذاتها دون شيء آخر؛ ولهذا لقب الرجل بقولهم: رقم (٢٠). ونظر السجان طويلًا إليه ثم قال أخيرًا بلهجة جد شديد: اسمع يا عشرين! سأثق بكلمتك، فلا توقع صديقك القديم في مصيبة. وقال السجين: كلا يا بل، أعتقد أن لدي شيئًا أفضل خلف هذا. وراح يضرب رأسه الصغير بكفه ضربة شديدة، وعندئذ انحدرت دمعة من كل عين من عينيه، وكان ذلك شيئًا خارقًا للمألوف؛ لأن وجهه لم يعرف الماء من زمن بعيد، وأمسك بيد السجان فهزها وانطلق.»

وهنا قال المستر بكوك: «ولم يعد مطلقًا.»

وأجاب المستر ولر: «أخطأت لأول مرة يا سيدي، فقد عاد قبل الموعد بدقيقتين، وهو يكاد يتميز من الغيط قائلًا: إنه أوشك أن يسقط تحت عجلات مركبة أجرة؛ لأنه لم يعتد الزحام، وأنه سيكتب إلى محافظ المدينة. ولكنهم في النهاية هدأوا خاطره، حتى سكن غضبه، وظل خمس سنوات بعد ذلك لا يطل يومًا على الشارع من باب السجن.»

وقال المستر بكوك: «وأحسبه قضى نحبه بعد ذلك.»

وأجاب سام: «كلا، لم يمت يا سيدي، فقد اشتدت به اللهفة على الذهاب ليذوق طعم الجعة في حانة جديدة على الطريق، وكان محل الشراب لطيفًا فراقه، حتى لقد جعل يتلهف على الذهاب إليه في كل ليلة، وكان له ما أراد، ولبث على هذا النحو عهدًا طويلًا، وكان يعود في كل مرة قبل إغلاق الباب بربع ساعة، وقد استمتع بدفء طيب، ولذة هنية، وأخيرًا بدأ يأنس للحانة ويسكن إلى الجلوس فيها، حتى أخذ ينسى الوقت، ولا يبالي مر الساعات، ويعود متأخرًا شيئًا، فشيئًا إلى أن كان صديقه الحارس يهم ذات ليلة بإغلاق الباب، ويدير المفتاح في القفل، وإذا هو يصيح قائلًا: انتظر يا بل لا تغلق الباب، وقال السجان: ماذا أرى؟ ألم تعد حتى الآن يا عشرون؟ لقد اعتقدت أنك عدت من وقت طويل. وأجاب الرجل الصغير الجسم مبتسمًا: كلا لم أعد. ففتح الحارس الباب بكل بطء وهو عابس غاضب وقال: إذن دعني أصارحك يا صاحبي برأيي: ما دمت في الأيام الأخيرة قد أخذت تجالس قرناء السوء وهو أمر لاحظته عليك مع الأسف الشديد، فلا أريد أن أتخذ معك إجراءً قاسيًا، ولكن إذا لم تلزم الجلوس مع الناس الطيبين، وتعد في الموعد تمامًا، وتتأكد أنك ستواظب عليه كما أنت متأكد الآن أنك واقف على رجليك، فلن أفتح لك الباب إطلاقًا. فلم يكد الرجل يسمع هذا القول من سجانه حتى انتابته رعشة بالغة، فلم يغادر السجن بعد ذلك أبدًا.»

وما أن فرغ سام من هذه القصة، حتى أخذ المستر بكوك يعود أدراجه في رفق إلى الطابق الذي تحته. وبعد بضع جولات في «أرض الصور» وكانت مهجورة أو تكاد؛ لأن الظلام كان قد ساد، أشار للمستر ولر أنه قد حان أن ينصرف ليقضي الليل في الخارج، وطلب إليه أن يلتمس له فراشًا في بعض الفنادق القريبة، ويعود في بكرة الصباح؛ ليتفقا على نقل ثياب سيده من فندق «جورج والرخم». وكان المستر صمويل ولر على استعداد لتلبية هذا الطلب، بكل هدوء استطاع التظاهر به، ولكنه مع ذلك أبدى شيئًا كثيرًا من التمنع والتردد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فراح يلمح عدة تلميحات بأنه سوف يرقد فوق الحصباء حتى ينقضي الليل ولكنه وجد المستر بكوك مصرًّا على انصرافه، غير ملق أذنًا إلى اقتراحاته، فاضطر أخيرًا إلى الانصراف.

ولسنا نخفي عليك أن المستر بكوك أحس انقباضًا شديدًا، وانزعاجًا بالغًا، لا من الوحشة، فقد كان السجن يعج بالناس، وتكفي زجاجة واحدة من النبيذ للظفر بأطيب الأنس، وأحسن الجلسات، إلى نخبة مختارة من السُّمار، دون حاجة إلى تكاليف التعارف، ومؤونة الرسميات، ولكن سبب انقباضه أنه كان وحيدًا في وسط هذا الزحام من السوقة، فأحس بضيق وألم موجع للقلب، وهو نتيجة طبيعية للتفكير في أنه بات سجينًا مقيدًا محتجزًا لا أمل له في الخلاص، ولكن فكرة إطلاق سبيله من ناحية الرضا بخبث أساليب ددسن وفج، والاستكانة إليها، لم تدُر في خلده لحظة واحدة.

وعاد إلى الممر الذي تقع فيه قاعة القهوة، وهو على هذه الحال من التفكير، وراح يمشي الهوينا ذهابًا وجيئة، وكان ذلك الموضع قذرًا إلى حد لا يطاق، وريح التبغ المتصاعدة خانقة، ولا تنقطع أصوات إغلاق الأبواب وفتحها بعنف، لكثرة الخارجين منها والداخلين، وكانت جلبة أصواتهم ومواقع أقدامهم مترددة الأصدية في ذلك الممر بغير انقطاع، ورأى شابة تحمل طفلًا بين ذراعيها، وهي لا تكاد تقدر على الدبيب من فرط النحول، وشدة البأساء، وهي رائحة غادية في الممر تتحدث إلى زوجها؛ لأنه لا يجد مكانًا آخر يتيسر له فيه الالتقاء بها، وفيما كانا يمران قبالته، سمع نحيب المرأة، وما كادت تستسلم على هذا النحو للأسى، حتى اضطرت إلى الاستناد إلى الجدار حتى لا تخر مغشيًّا عليها، بينما أخذ الرجل الطفل بين ذراعيه وحاول تسرية الهم عنها.

وإزاء هذا المشهد لم يطق المستر بكوك صبرًا من شدة تأثره، فصعد السلم إلى مرقده.

ولئن كانت غرفة السجان أخلى ما تكون من وسائل الراحة؛ لأنها شكلًا وموضوعًا أقل مئات المرات من أي سجن في الريف أو ملجأ للعجزة، فقد كانت مزيتها في تلك الحال الراهنة أنها مهجورة لا تحوي أحدًا غير المستر بكوك نفسه، فلا تعجب إذن له إذا ما جلس عند قدم السرير الحديدي الصغير ومضى يسائل خاطره، كم ترى هذا السجان يجمع في العام الواحد من تأجير هذه الغرفة القذرة؟ وبعد أن أقنع نفسه، بعملية حسابية، بأن إيرادها السنوي يكاد يعادل أجر عقار في شارع صغير في إحدى ضواحي لندن، انتقل إلى العجب من ذبابة سوداء أخذت تدب فوق سراويله، وماذا الذي أغراها بالمجيء إلى سجن حقير كهذا، وأمامها الفضاء الطليق، والأفق الرحيب تطير فيه كيف تشاء، وهو سبيل من التفكير أدى به إلى استنتاج لا يمكن مقاومته، وهو أن هذه الذبابة لا بد مجنونة، وما أن استقر هذا الرأي لديه، حتى بدأ يحس أن النوم آخذ بمعاقد جفنيه، فأخرج غطاء الرأس من الجيب الذي لم ينسَ في الصباح أن يدسه فيه احتياطًا، وبدأ برفق وأناة يخلع عنه ثيابه، ويدخل الفراش، ويستسلم للنعاس.

ولم ينقضِ نحو ربع ساعة في نعاس عميق كذلك السبات الذي يخيل للنائم أنه استطال به ثلاثة أسابيع، أو سلخ فيه شهرًا كاملًا، حتى استيقظ على صيحات تقول: «مرحى، رأسًا على عقب! وأقسم! يا زفير! اللعنة علي إذا لم تكن دار التمثيل هي نصف الكرة المناسب لك! ألقِ بالك منها! مرحى!»

وتلت هذه العبارات الصخابة عاصفة من الضحكات.

وما كاد هذا الصوت ينقطع حتى ارتجت الحجرة رجة عنيفة تركت نوافذها تتخبط في أطرها، والسرر ترجف في مواضعها، فاستوى المستر بكوك جالسًا في فراشه، ولبث بضع دقائق مستغرقًا في عجب صامت من المشهد الماثل أمام عينيه.

فقد رأى على أديم الغرفة رجلًا في سترة خضراء عريضة الحاشية، وسراويل من المخمل إلى الركبة، وجورب أسود من القطن، يرقص على النغم رقصة شعبية شائعة، في صور وأشكال مضحكة، وحركات هزلية ماجنة، اقترنت بغرابة ذلك الزي المستنكر الذي بدا فيه، فجعل مشهده نابيًا إلى حد لا يوصف، وكان ثمة رجل آخر، يظهر أنه في سكر بين، ويغلب على الظن أن رفاقه هم الذين احتملوه بينهم، فألقوه فوق السرير، ولكنه ما لبث أن استوى جالسًا فوقه، بين الأغطية وراح يغني ما استطاعت ذاكرته أن تستعيده من أغنية هزلية، وهو منطلق في الغناء بكل وجدانه، كما شهد رجلًا ثالثًا قد جلس فوق السرر يصفق للراقصين والمغني تصفيق الخبير العريف، ويشجعهما بأمثال تلك الصيحات المدوية التي أيقظت المستر بكوك من نومه.

وكان ذلك الرجل الأخير نموذجًا بديعًا من طبقة مهذبة لا ترى أبدًا في أكمل أشكالها، وأتم مظاهرها، إلا في هذه الأماكن وأشباهها. ومن الجائز أن تشهدها العين، في صورة غير كاملة، بين حين وآخر حول مرابط الخيل والحانات العامة، ولكنها في هذه الأحوال لا يمكن أن تبلغ ذروة تفتُّحها وإيناعها، إلا في هذه الحياض الدافئة، والمنابت الحارة، التي يكاد يذهب بنا الظن إلى أن التشريعات والقوانين لم تكفلها إلا لغرض واحد، وهو تنمية تلك الأكمام فيها.

وكان الرجل مرهف العود، زيتوني اللون، ذا شعر فاحم أثيث، وعارضين كثيفين مشجرين يتلاقى طرفاهما تحت ذقنه، ولبس حول عنقه ملفعة، فقد كان يلعب الكرة طيلة النهار، وكان قميصه مفتوحًا منحسرًا عن عنق ضخم ممتلئ، وفوق رأسه قبعة من النوع الفرنسي الشائع الذي لا يساوي أكثر من ثمانية عشر بنسًا، لها طرة أو ذيل متدلٍّ منها، وهي لحسن الحظ موائمة كل المواءمة لسترته المستطيلة إلى الركبتين. وكانت ساقاه طويلتين مصابتين من طولهما بوهن، يزينهما سروال «إكسفوردي» الطراز، صنع خصيصًا لكي يبرز تناسق هاتين الساقين كل الإبراز، وإن تُرك ذلك السروال مرسلًا بغير حمائل، وبدا فوق ذلك ناقص التزرير، فتهدل وترامى مطاوي وثنيات قبيحة الصورة على حذاء قصير، يكشف عن جورب أبيض قذر، وتلوح على الرجل في جملته أمارات رشاقة سوقية داعرة، وخبث مزدهٍ بذاته، معلن عن نفسه كل الإعلان، لا يتردد الإنسان في أن يؤدي أي ثمن لكي يراه.

وكان الرجل أول من فطن إلى المستر بكوك وهو ينظر إليهم، فراح يغمز بعينه «للزفير»، ويرجو إليه بجد ساخر ألا يوقظ السيد.

وقال «الزفير» وهو يتلفت ويتصنع الدهشة المتناهية: «يا الله! هذا صحيح! إن السيد يقظان إيه يا شكسبير! كيف الحال يا سيدي؟ وكيف حال ميري وسارة يا سيدي؟ والسيدة العزيزة العجوز التي في البيت؟ هلا تكرمتَ فوضعت تحياتي وسلامي في أول طرد صغير ترسله إليهم، قل لهم يا سيدي: إنه كان أولى بي أن أبعث بها إليهم قبل الآن، ولكني لم أفعل مخافة أن تنكسر في المركبة يا سيدي.»

وقال ذو العارضين الغزيرين، بلهجة المجون: «لا تغمر السيد بتحيات عادية وأنت تراه في لهفة على شيء يشربه. لماذا لا تسأل السيد ما الذي يتناوله؟»

وأجاب الآخر: «ويحي، لقد نسيت، ما الذي تحب أن تشربه يا سيدي؟ هل تريد نبيذ البورت يا سيدي، أو نبيذ الكريز، إنني أوصيك بالجعة يا سيدي أو لعلك تفضل البورتر عليها يا سيدي، اسمح لي بشرف تعليق قلنسوتك يا سيدي.»

وراح ينتزع طاقية من فوق رأس المستر بكوك، ويضعها في لحظة خاطفة فوق رأس السكران الذي اعتقد يقينًا أنه يشنف بصوته أذان جمع جامع، فاسترسل في أغنيته الفكهة بنغمة تبلغ من الحزن أشد ما يمكن أن تتصوره من الأنغام.

ولا نزاع في أن خطف «طاقية» من فوق رأس إنسان بوسيلة عنيفة، ووضعها فوق رأس شخص مجهول بادي المقاذر، مهما يكن، نكتة بارعة في ذاتها، لا يدخل مع ذلك في باب المزاح العملي، أو المزاح بالكد. ومن هذه الوجهة نظر المستر بكوك إليها تمامًا، وبلا أقل إشارة منه إلى قصده، وثب بقوة من فوق السرير، ولكز «الزفير» لكزة قوية سريعة في صدره تكفي لكي تحبس عنه جزءًا كبيرًا من ذلك الشيء الذي يحمل اسمه،٢ واسترد طاقيته ووقف في شجاعة وقفة الدفاع عن نفسه.

وقال المستر بكوك وهو متقطع الأنفاس من الغضب، والجهد الكبير الذي بذله في تلك الهجمة الفجائية: «والآن! هلما، أنتما الاثنان، هيا، أنتما معًا!» وبهذه الدعوة السمحة راح ذلك السيد الفاضل يوحي بالفكرة في حركة بمجمع قبضتيه، لإرهاب خصميه من طريق إظهار مدى علمه بالملاكمة.

ومن الجائز أن تكون هذه الجسارة التي لم تكن منتظرة إطلاقًا من المستر بكوك، أو أن تكون الصورة الغريبة التي وثب بها من فوق السرير، هي التي أحدثت أثرها في نفسي خصميه، فقد تأثرا فعلًا، وبدلًا من أن يحاولا اقتراف جريمة قتل، كما كان المستر بكوك، يعتقد جازمًا، أنهما سيقدمان عليها، وقفا ذاهلين لحظة، ومضى كل منهما ينظر إلى صاحبه، ثم انطلقا يضحكان ضحكات عالية.

وقال «الزفير»: «حسن والله، ما أعظم مهارتك! وأنا لهذا معجب بك، والآن عد إلى السرير وإلا أصابك البرد. أرجو ألا يكون في نفسك شيء؟» ومد إليه يدًا بدت أناملها الصفر الغلاظ أشبه بالأصابع التي تلوح أحيانًا على باب دكان صانع الكفوف.٣

وقال المستر بكوك من فوره وهو منشرح الصدر؛ لأنه بعد أن سكنت ثائرته، بدأ يشعر بالبرد في ساقيه: «ليس في نفسي شيء بلا شك.»

وقال الرجل ذو الشاربين الغزيرين، وهو يمد إليه يده اليمنى: «اسمح لي بشرف مصافحتك أيها الرجل النبيل.»

وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور يا سيدي.» وهز اليد المبسوطة إليه هزة طويلة مقترنة بجد بالغ، وعاد إلى فراشه.

وقال ذو العارضين الكثيفين: «إنني أدعى سمانجل يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «أنعم وأكرم.»

وقال الآخر ذو الجورب الطويل: «وأنا اسمي ميفنز.»

وأجاب المستر بكوك: «يسرني أن أسمع الاسم الكريم يا سيدي.»

وسعل المستر سمانجل: «احم.»

وقال المستر بكوك: «هل تكلمت يا سيدي؟»

وقال المستر سمانجل: «كلا، لم أتكلم يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «لقد ظننتك تكلمت يا سيدي.»

وكان كل ذلك بأدب ولطف، وزيادة في تهدئة الموقف، وإقرار الوئام، مضى المستر سمانجل يؤكد مرارًا وتكرارًا أنه يكِنُّ احترامًا شديدًا لشعور كل رجل مهذب، وهو إحساس يُشكر كثيرًا عليه، ويُحمد في الواقع منه؛ لأنه أبعد من أن يظن أنه يفهم ذلك الشعور أو يدركه.

وسأل المستر سمانجل: «هل أنت مقدَّم إلى المحكمة يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «مقدم إلى ماذا؟»

وقال المستر سمانجل: «المحكمة في شارع برتيوجل، المحكمة التي تنظر في الإفراج عن — أنت عارف!»

وأجاب المستر بكوك: «آه، كلا، لست كذلك.»

وانبرى المستر ميفنز يقول: «لعلك ستخرج، ربما.»

وأجاب المستر بكوك: «أخشى ألا يكون الأمر كذلك، لقد رفضت أداء بعض التعويضات، فجئت إلى هنا.»

وقال المستر سمانجل: «آه، لقد كان «الورق» سبب خرابي.»

وقال المستر بكوك بسلامة نية: «أحسبك يا سيدي تاجر أدوات كتابية، هل صدق ظني؟»

وأجاب المستر سمانجل: «تاجر أدوات كتابية؟ كلا، كلا، اللعنة والنقمة علي، لم أصل إلى مثل هذه الوهدة، أنا لا أشتغل بالتجارة، وحين أقول: «الورق» أقصد كشوف الحساب.»

وقال المستر بكوك: «آه، أنت إذن تستخدم الكلمة في هذا المعنى؟ فهمت.»

وقال سمانجل: «اللعنة، لا بد لكل سيد أن يتوقع المحن والشدائد وماذا يهمني من هذا؟ هأنذا في سجن فليت حسن جدًّا، وماذا يهمني؟ إنني لست أسوأ مما كنت في شيء، هل أنا أسوأ حالًا؟»

وأجاب المستر ميفنز: «كلا»، وكان الرجل على حق؛ لأن المستر سمانجل لم يكن فعلًا أسوأ مما كان، بل على أية حال أحسن، فقد أراد أن يوفر لنفسه «المؤهلات» التي تجعله جديرًا بالمكان الذي هو فيه، فاستحوذ بلا عمل ولا مقابل على شيء من الحلى والمجوهرات كان من عهد طويل قد وجد سبيله إلى حوانيت الراهنين.٤

وعاد المستر سمانجل يقول: «حسن جدًّا، دعنا من هذا، فهو أمر تجف له الحلوق، ولنرطب أفواهنا بقطرات من شراب الكريز المحروق، على حساب القادم الأخير، وسيحضره ميفنز وأشربه أنا، هذا تقسيم عادل للعمل يجدر بالسادة المهذبين، على كل حال. اللعنة علي!»

ولم يشأ المستر بكوك أن يتعرض لشجار آخر فوافق على الاقتراح بسرور، وسلم النقود إلى المستر ميفنز، وكانت الساعة تقرب من الحادية عشرة، فلم يضع هذا لحظة من الوقت، بل بادر في الحال إلى قاعة القهوة، لتأدية المهمة.

وما كاد يغادر الغرفة حتى همس سمانجل قائلًا: «ما الذي أعطيته؟»

وقال المستر بكوك: «نصف جنيه.»

وقال المستر سمانجل: «إنه لكلب لطيف رقيق شيطان، جهنمي لطيف، لا أعرف أحدًا يفوقه في ذلك كله، ولكن …» ووقف المستر سمانجل عن الكلام، وجعل يهز رأسه هزة المستريب. وقال المستر بكوك: «هل تظن أنه سيأخذ النقود لنفسه؟»

وأجاب المستر سمانجل: «آه، كلا، افهم مني، إنني لا أقول ذلك لا سمح الله، وكل ما قصدت أن أقوله هو أنه إنسان لطيف ولكن شيطان. ومن رأيي أنه لو ذهب أحد وراءه، لا لشيء سوى أن يتأكد من أنه لم يغطس منقاره في الجرة، قضاءً وقدرًا، لا عمدًا ولا قصدًا، أو لم يقع في خطأ ملعون يضيع النقود وهو صاعد السلم، لكان ذلك خيرًا. أنت يا هذا اذهب فانزل السلم مسرعًا وابحث عن ذلك السيد، هلا فعلت يا سيدي؟»

وكان هذا الرجاء موجهًا إلى رجل صغير الجسم عصبي هياب، ينم مظهره عن فاقة شديدة، وكان قد لبث طيلة الوقت جالسًا فوق سريره جلسة انحناء وانكسار، تلوح عليه سمات الذهول والحيرة من غرابة هذا الموقف الجديد المحيط به، وجدة الموضع عليه.

وقال سمانجل: «أنت تعرف مكان قاعة القهوة، فاذهب مسرعًا، وقل لذلك السيد: إنك جئت لمساعدته على حمل الجرة، ولكن قف، أقل لك، أقل لك عن طريقة نحاصره بها.» وراح المستر سمانجل ينظر نظرة مكر وخبث.

وقال المستر بكوك: «كيف؟»

وأجاب المستر سمانجل: «نرسل إليه رسولًا يقول له: إن يصرف الباقي في شراء لفائف كبيرة، فكرة بديعة! أسرع وقل له هذا؟ هل أنت سامع؟» وانثنى يلتفت إلى المستر بكوك قائلًا: «وبهذه الطريقة لا تضيع علينا النقود، أما اللفائف فسأدخنها أنا.»

وكانت هذه اللعبة بارعة كل البراعة، والطريقة التي أديت بها مقترنة بهدوء لا أثر فيه لأية حركة، وسكينة تامة لا ظل لأية خالجة عليها، فلم يشأ المستر بكوك الوقوف في سبيلها حتى لو أنه أوتي المقدرة على ذلك، وبعد لحظة عاد المستر ميفنز يحمل الشراب، فتناوله المستر سمانجل فصب منه ملء كأسين في قدحين صغيرين مخدوشين، قائلًا فيما يتصل بشخصه: إن السيد المهذب لا ينبغي له أن يكون مدققًا في هذه الظروف من جهته الخاصة، وأنه لهذا لا يتكبر ولا يترفع عن الشرب من الجرة ذاتها؛ ولكي يظهر إخلاصه، وصدق طويته، راح في شرب نخب رفقائه يفرغ النصف في جوفه.

ولما صفا الجو بهذا التفاهم البديع، وحل الوئام محل الخصام، شرع المستر سمانجل يطرف أذان سامعيه برواية عدة وقائع في مغامراته الغرامية، التي جرت له بين الفينة والفينة، وهي جميعًا تنطوي على عدة نوادر طريفة، تدور حول حصان أصيل، ويهودية رائعة أوتي كلاهما قدرًا فائقًا من الجمال، يتطلع إلى مثله الأشراف والسادات الأعلام في هذه البلاد.

وقبل أن تنتهي تلك الفقرات المقتطفة من تاريخ حياة ذلك السيد وصفحات ماضية، بوقت طويل، كان المستر ميفنز قد أوى إلى فراشه، وبدأ يغط في نومه الليل كله تاركًا ذلك الغريب الهياب والمستر بكوك يستأثران وحدهما بسماع تجاريب المستر سمانجل وأحداث حياته.

ولكن هذين السيدين الأخيرين لم يظفرا من الحوادث المؤثرة التي قصها عليهم راويها بالشيء الكثير الذي كان من الجائز أن يظفرا به، فإن المستر بكوك كان من لحظة طويلة قد عبث النوم بأجفانه وطاف بمآقيه، وإذا هو يشعر في شيء كالحلم أن ذلك السكران قد عاود التغني بأغنيته الفكهة، ولكنه تلقى من المستر سمانجل تلميحًا لطيفًا، من طريق الجرة، أن السامعين لم يؤتيا استعدادًا لسماع الغناء. فعاد المستر بكوك يهبط في وادي الكرى، وهو يشعر بشيء عابر مختلط عليه وهو أن المستر سمانجل لا يزال منهمكًا في سرد قصة طويلة، يبدو أن أهم نقطة فيها هي أنه في ظرف خاص أسلف ذكره، وسبق شرحه، قد عرف كيف عثر على مبلغ من المال وعلى سيد في وقت واحد.

١  في الأصل زهرة الأفيون.
٢  أي: يحبس عنه الهواء؛ إذ إن زفير بالإنجليزية تعني النسيم.
٣  أي: القفازات. كانت صنعة صاحب الحانوت، في تلك الأيام، ترسم على لافتته.
٤  يريد أن يقول: إنه سرقها من الحوانيت التي يرهن الناس فيها جواهرهم ومصوغاتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤