الفصل الرابع والأربعون

يتناول عدة شئون صغيرة جرت في سجن فليت، والمسلك الغريب الذي بدا من المستر ونكل، وكيف استطاع الموظف السجين الحصول أخيرًا على أمر بالإفراج عنه.

***

وتأثر المستر بكوك أشد التأثر بذلك الإخلاص الذي أبداه سام، فلم يواته إظهار شيء من الغضب أو الاستياء من هذه الخطة العجلى التي اتخذها، والتطوع لدخول سجن المدينين إلى أجل غير مسمى، ولكنه أصر على شيء واحد، وهو مطالبته بأن يعين اسم الدائن الذي اعتقله، ولكن المستر ولر أصر من جانبه على ألا يصارحه به، قائلًا مرة بعد أخرى: «لا فائدة يا سيدي من إصرارك على معرفة اسمه … إنه مخلوق مؤاذ، سيئ النفس، دنيوي النزعة، حقود، لا يترك ثأره، قاسي القلب لا يعرف الرحمة، يصدق عليه ما قاله القسيس الورع عن الشيخ المصاب بالاستسقاء حين قال: إنه يعتقد على العموم أنه يفضل أن يترك ما يملك لزوجته على أن يبني كنيسة به.»

وقال المستر بكوك وهو يحاوره: «ولكن لا تنسَ يا سام أن المبلغ المطلوب من الضآلة بحيث لا يصعب الوفاء به، وإذا كنت قد نويت أن أبقيك معي فاذكر مبلغ الفائدة الكبيرة التي سوف تعود علي إذا أنت بقيت خارج هذه الجدران.»

وأجاب المستر ولر بجد بالغ: «أنا شاكر لك يا سيدي كل الشكر، ولكني أفضل ألا أفعل.»

– «تفضل ألا تفعل ماذا يا سام؟»

– «أفضل ألا أهين نفسي بتقديم رجاء واستعطاف لخصمي الذي لا يعرف الندامة.»

وقال المستر بكوك وهو مسترسل في محاجته: «ولكن ليس في طلبك إليه أخذ ماله يا سام رجاء ولا صنيع.»

وأجاب سام: «عفوًا يا سيدي إذا قلت: إن الوفاء بالمبلغ هو في ذاته صنيع كبير؛ لأنه لا يستحق شيئًا، هذه هي المسألة يا سيدي.»

وهنا عرك المستر بكوك أنفه في شيء من الغيظ فرأى المستر ولر أنه من الحكمة تغيير الموضوع فقال: «إنني عقدت العزم على ذلك بوصفه مبدءًا يا سيدي، وإنك عاقد عزمك أيضًا على هذا الاعتبار ذاته. وهو أمر يذكرني بحكاية الرجل الذي قتل نفسه استمساكًا بالمبدأ، وقد سمعت بالطبع هذه الحكاية يا سيدي.» ووقف المستر ولر عن الكلام وألقى نظرة مضحكة على سيده، من طرفي عينيه.

وأجاب المستر بكوك وقد أخذ شيئًا فشيئًا يعاود الابتسام، على الرغم من القلق الذي أحدثه عناد سام في نفسه: «ليس في المسألة بالطبع، إن صيت هذا السيد لم يصل يومًا إلى سمعي.»

وصاح المستر ولر: «هل صحيح يا سيدي؟ إنك تدهشني، لقد كان الرجل كاتبًا في مصلحة حكومية يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «أحقًّا؟»

وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، وكان أيضًا سيدًا لطيفًا من النوع المدقق المرتب، الذي يضع قدميه في دلاء الماء الساخن الصغيرة المصنوعة من المطاط الهندي، كلما كان الجو مطيرًا باردًا، وليس له من صديق يحتضنه غير صدار من جلود الأرانب البرية يدفئ به صدره، وكان يقتصد في النفقة حرصًا على المبدأ، ويلبس في كل يوم قميصًا نظيفًا حرصًا على المبدأ، ولا يكلم أحدًا من أقاربه أبدًا، حرصًا على المبدأ، مخافة أن يستقرضوه شيئًا.

وكان في الجملة، والحقيقة، شخصية لطيفة إلى حد غير مألوف. فكان يقص شعره مرة في كل أسبوعين اتباعًا للمبدأ، ويتعاقد على ثيابه من قبيل المبدأ، من الناحية الاقتصادية، فلا يتعدى ثلاث حلل في السنة، ويرد القديمة إلى البائع، وقد بلغ من تمسكه بالنظام في حياته أن اعتاد أن يتغدى كل يوم في مطعم معين لا يتغير، حيث يدفع شلنًا وتسعة بنسات لقاء قطعة من لحم الفخذ، فيأخذ من هذا الجزء حقه كاملًا، متخيرًا منها أحسن القطع، كما كان صاحب المحل يقول في أغلب الأحيان والدموع متساقطة على وجهه، دع عنك الطريقة التي اعتاد أن يحرك بها النار في الموقدة إذا حل الشتاء، والتي يضيع بسببها ما قيمته أربعة بنسات ونصف بنس في اليوم، فضلًا عن الألم الذي كان يحز في صدر رب المقهى وهو يراه محركًا جذواتها، فقد كان يفعل ذلك بعظمة غير مألوفة، وأبهة مستغربة، ويصيح في كل يوم وهو داخل: «الصحف، بعد أن ينتهي السيد من قراءتها، احرص على «التايمز» يا تومس، ودعني ألقِ نظرة على المورننج هرالد، حين لا تكون في يد أحد، ولا تنسَ أن تحضر «الكرونكل»، وآتني الآن «بالادفرتيزر»١ من فضلك، ثم يجلس وعيناه لا تغادران التطلع إلى ساعة الجدار، فيندفع نحو الباب قبل الموعد الذي اعتاد بائع الصحف الحضور فيه بالصحيفة المسائية، بربع دقيقة؛ لينتظره ويتناول النسخة منه، فيكب على قراءتها باهتمام شديد وتدقيق ظاهر، حتى يجعل رواد المحل الآخرين من التململ والانتظار يكادون ييأسون، أو ينتابهم الجنون من فرط القلق، وعلى الأخص شيخ ضيق الصدر سريع الغضب، حتى لقد اضطر إلى مراقبة حركاته وسكناته في تلك الفترة خشية أن يرتكب عملًا جنونيًّا بسكين القطع التي أمامه على المنضدة.

وهكذا كان يجلس يا سيدي في أحسن موضع من المحل ثلاث ساعات متوالية، لا يتناول شيئًا فيها بعد الغداء، سوى النوم، ثم ينصرف إلى مقهى يبعد بضعة شوارع فيطلب قدرًا قليلًا من القهوة وأربع فطائر، فإذا فرغ منها انكفأ إلى بيته في كنسنجتن وأوى إلى فراشه.

وحدث في ذات ليلة أن مرض مرضًا شديدًا فبعث في طلب الطبيب، وجاء الطبيب في مركبة خضراء ذات سلم أشبه بما كان عند «ربنصن كروزو» ينزله حين يخرج من المركبة، ويرفعه حين يدخلها، تجنبًا لنزول سائقها ليرفعه عنه، فيكتشف الناس أن السائق يرتدي سترة «الحلة» فقط دون السروال المناسب لها، ويسأله الطبيب ماذا بك؟ فيقول: مريض جدًّا، ويقول الطبيب: ما الذي أكلته؟ ويجيب قائلًا: لحم عجل مشويًّا، ويسأله الطبيب ما هي آخر أكلة تناولتها؟ فيقول المريض: فطير، وعندئذ يقول الطبيب: هذا هو السبب، وسأرسل إليك في الحال علبة حبوب، فلا تعد إليها بعد الآن، ويقول المريض: لا أعود إلى ماذا، إلى الحبوب؟ ويجيب الطبيب: كلا، بل الفطير أقصد، ويسأل المريض وقد استوى جالسًا في فراشه: ولماذا؟ لقد قضيت خمسة عشر عامًا آكل أربع فطائر في كل ليلة عملًا بالمبدأ. ويجيب الطبيب: خير لك إذن أن تقلع عن أكلها عملًا بالمبدأ، ويعود المريض فيقول: إن الفطائر لا ضرر منها يا سيدي، ويرد الطبيب قائلًا بحدة: إن الفطير مضر يا سيدي. فيقول المريض وقد بدأ يستسلم شيئًا ما: ولكنه رخيص جدًّا، وأسعاره في هبوط مستمر، ويجيب الطبيب: ولكنه سيجعلك تدفع فيه ثمنًا غاليًا، مهما يكن سعره زهيدًا، حتى ولو دفعوا لك نقودًا لتأكله، إن أربع فطائر في كل ليلة ستنهي أجلك في ستة شهور.

وهنا يطيل المريض النظر في وجه الطبيب، ويعمل حسابًا في ذهنه ثم يقول أخيرًا: هل أنت واثق من هذا يا سيدي؟ ويقول الطبيب: إنني أراهن على سمعتي الطبية بأنه صحيح. ويسأله المريض: كم فطيرة تعتقد أنها كفيلة بقتلي في الحال إذا أنا أكلتها مرة واحدة؟ ويجيب الطبيب: لا أدري، فيعود يسأله: هل تعتقد أن فطيرًا من هذا النوع بنصف كراون يكفي؟ ويقول الطبيب: أظنه يكفي، ويقول المريض: هل تعتقد أن فطيرًا بثلاثة شلنات كفيل بذلك؟ ويجيب الطبيب: مؤكد. وهنا يقول المريض: حسن جدًّا، طاب ليلك.

وفي صباح اليوم التالي ينهض من فراشه، ويطلب إيقاد نار في الموقدة، ويأمر بإحضار فطائر بثلاثة شلنات، فيحمصها جميعًا، ويأكلها كلها، ويضرب نفسه بالرصاص لينتهي من الحياة.

وقال المستر بكوك فجأة: «ولماذا فعل ذلك؟» فقد أفزعته كثيرًا هذه النهاية المحزنة التي ختمت بها القصة.

وقال سام: «تسألني يا سيدي لماذا فعل ذلك؟ فلعله تأييدًا لمبدئه الأكبر، وهو أن الفطير لا يضر، ولكي يدلل على أنه ليس بالرجل الذي لا يستطيع أحد أن يثنيه عن طريقه أبدًا.»

وبهذا الانتقال المتكرر من موضوع إلى موضوع للابتعاد من الموضوع الهام، مضى المستر ولر يواجه أسئلة سيده وتحقيقاته، في الليلة التي جاء ليتخذ في السجن منزله، ووجد المستر بكوك أن الاحتجاج لا يجدي، فلم يسعه أخيرًا إلا التسليم على كره منه والموافقة على أن يستأجر فتاه مسكنًا له بالأسبوع من إسكاف أصلع يعرض غرفة ضيقة في أحد الدهاليز العليا، فنقل المستر ولر إليها حشية وأغطية استأجرها من المستر روكر، وما أن حل الوقت الذي أوى فيه إلى فراشه، في تلك الليلة، حتى شعر بأنه نزل سهلًا، ولقي أهلًا، وكأنه ولد في السجن ونشأ فيه ودرج، وأن أهله نبتوا وترعرعوا فيه منذ ثلاثة أجيال أو تزيد.

وقال المستر ولر لصاحب الغرفة، حين أوى كلاهما إلى الفراش: «هل تدخن دائمًا بعد الدخول في الفراش أيها الديك العجوز؟»

وأجاب الإسكاف: «نعم أيها الفروج الصغير.»

وقال سام: «هل تسمح لي أن أسألك لماذا تضع فراشك تحت هذه المنضدة الخشبية؟»

وأجاب الإسكاف: «لأنني تعودت أن أنام في سرير بأربعة أعمدة قبل مجيئي إلى هنا، ووجدت أرجل المنضدة الأربع مؤدية هذا الغرض تمامًا.»

وقال سام: «أنت شخصية ممتعة يا سيدي.»

وأجاب الإسكاف وهو يهز رأسه: «ليس عندي شيء من هذا النوع، وإذا كنت تريد أن تلتقي بصنف جيد منه، فإني أخشى أن تجد بعض الصعوبة في الحصول على هذا الطلب في مكتب التسجيل هنا.»

وقد جرى هذا الحوار القصير والمستر ولر ممدد فوق حشيته في طرف من الحجرة، والإسكاف راقد فوق فراشه في طرف آخر منها، وهي مضاءة بنور شمعة عادية، ووهج قصبة التبغ المشتعلة في فم الإسكاف، تحت المائدة، كأنه جذوة فحم متقد. ولم يلبث هذا الحديث على قصره أن أثار في نفس المستر ولر ميلًا شديدًا إلى رب الحجرة، فاستند إلى مرفقه، وراح يطيل النظر إليه، ويتفحص شكله، ولم يكن قد وجد قبل ذلك متسعًا من الوقت أمامه لفحصه أو شعر بميل إلى تأمل معارفه.

وكان الرجل أصفر اللون — كشأن معاشر الأساكفة كلهم — ذا لحية شائكة ككل الأساكفة ووجه غريب الصورة، هادئ الطبع، كأنه قطعة معوجة المعالم، من كف صانع، تزدان بعينين لا شك في أنهما كانتا في زمن ما بهيجتي التعبير؛ لأنهما لا تزالان ترسلان بريقًا ملتمعًا. وكان الرجل يلوح في الستين، ويعلم الله كم عمره في السجن، فلا غرو إذا كان ما يبدو عليه من نظرات تقترب من المرح، أو تدنو من حدود الرضى، غريبًا بعض الغرابة، وكان قصير القامة، ضئيل البدن يتراءى، وهو مكوم في فراشه في نحو ما يجب أن يكون عليه من الطول بغير ساقيه، وكانت القصبة التي في فمه حمراء كبيرة الحجم، وكان يدخن وينظر إلى ضوء الشمعة، وهو في قناعة وسكينة نفسية يحسد عليهما.

وقال سام بعد صمت قصير: «هل تقيم هنا من وقت طويل؟»

وأجاب الإسكاف، وهو يعض طرف قصبته خلال كلامه: «اثني عشر عامًا.»

وقال سام: «لإهانة المحكمة؟»

وأومأ الإسكاف إيماءة الإيجاب.

ومضى سام في شيء من التجهم: «ولماذا تتشبث بهذا العناد وتبدد حياتك الغالية هنا في هذه الزريبة الواسعة؟ لماذا لا تسلم أمرك لله، وتبلغ رياسة المحكمة أنك متأسف جدًّا على إهانتها وأنك لن تعود إليها بعد الآن؟»

ووضع الإسكاف القصبة في ركن فمه ريثما يبتسم، ثم ردها إلى مكانها الأول، ولكنه لم يحر جوابًا.

وعاد سام يقول ملحًّا على سؤاله: «لماذا لا تفعل؟»

وأجاب الإسكاف: «آه، إنك لا تفهم هذه المسائل حق الفهم، ما الذي تظن أنه كان السبب في تدمير حياتي؟»

وقال سام وهو يصلح في ذبالة الضياء: «أظن أنها ترجع من البداية إلى وقوعك في الدين، أليس كذلك؟»

وأجاب الإسكاف: «لم أستدن درهمًا في حياتي، حاول مرة أخرى.»

وقال سام: «إذن لعلك اشتريت بيوتًا، وهي نقطة تعد بصريح القول «جنونًا»، أو أولعت ببناء العمارات، وهو اصطلاح طبي يعادل قولك: مرض لا ينفع فيه دواء.»

وهز الإسكاف رأسه وقال: «جرب ثانية.»

وقال سام بلهجة المستريب: «أرجو ألا تكون قد لجأت إلى المحاكم؟»

وأجاب الإسكاف: «لم أفعل ذلك ولا مرة في العمر، ولكن الواقع أن حياتي دمرت بسبب مال تركه لي أصحابه.»

وقال سام: «ما هذا الكلام؟ ما هذا الكلام؟ ليت خصمًا لي غنيًّا حاول «تدمير» حياتي بهذه الطريقة، إذن لتركت له أن يحاول.»

وأجاب الإسكاف بهدوء وهو يدخن في قصبته: «أخشى ألا تصدق ما أقوله، ولك حق، ولو كنت في مكانك لما صدقته ولكنه مع ذلك صحيح.»

وقال سام، وهو يكاد يصدق ذلك فعلًا، من نظرة الإسكاف إليه: «وكيف كان ذلك؟»

وأجاب الإسكاف: «إليك القصة: حدث لشيخ كنت في خدمته في الريف، وتزوجت بقريبة له فقيرة ماتت رحمة الله عليها، وله مني الحمد والثناء على أن عجل بها، أصيب في ذات يوم بنوبة فذهب.»

وقال سام وكان النعاس يدب إلى عينيه بعد كثرة أحداث اليوم ومتاعبه: «إلى أين؟»

وأجاب الإسكاف، وهو يتكلم من أنفه من شدة لذته بالتدخين: «وما يدريني إلى أين ذهب، لقد مات.»

وقال سام: «آه، قل لي هذا، ثم ماذا؟»

وأجاب الإسكاف: «ثم ترك وراءه خمسة آلاف جنيه.»

وقال سام: «كرم منه أن يفعل ذلك.»

ومضى الإسكاف يقول: «ألفًا منها تركها لي؛ لأني تزوجت قريبته، أأنت فاهم؟»

وغمغم سام: «جميل جدًّا.»

واستتلى الإسكاف قائلًا: «وكان له عدد كبير من أبناء الإخوة، وبنات الأخوات، ظلوا يشتجرون ويختلفون فيما بينهم طول الوقت على أمواله وأملاكه، فجعلني منفذًا لوصيته، وترك الباقي لي أمانة لتوزيعه عليهم طبقًا للوصية.»

وقال سام: «وماذا تقصد بقولك: أمانة؟ ما الفائدة إذا لم يكن المال نقدًا وعدًّا؟»

وأجاب الإسكاف: «هذا اصطلاح قانوني ليس إلا.»

وقال سام وهو يهز رأسه: «لا أظن ذلك، فليس في هذا «الدكان» شيء يسمى «أمانة»، ولكن مع ذلك استمر.»

ومضى الإسكاف يقول: «ولما هممت بتنفيذ نصوص الوصية، عمد أبناء الإخوة وبناتهم، لخيبة أملهم في الظفر بالمال كله، إلى إرسال «إنذار»٢ لي من اتخاذ هذا الإجراء.»

وسأل سام: «وما هذا؟»

وأجاب الإسكاف: «إجراء قضائي، يراد به قولك: هذا لا يكون.»

وقال سام: «فهمت، أي إنه «نسيب لقانون» الهافهز كاركاس الذي يتحدثون عنه. وماذا حدث بعد ذلك؟»

ومضى الإسكاف يقول: «ولكن لما وجدوا أنهم لن يتفقوا فيما بينهم، وأنهم لن يحصلوا على حكم ضد الوصية، ما دام هذا الخلاف مستحكمًا، سحبوا «الإنذار» وقمت بدفع جميع «الأنصبة»، ولكن ما كدت أفعل؛ حتى رفع أحدهم قضية يطلب فيها إبطال الوصية، وعرضت القضية بعد أشهر من تاريخ رفعها، في قاعة خلفية في دار قريبة من «مقبرة بول»، وبعد أربع جلسات استغرقت كل منها يومًا كاملًا، أجل النطق بالحكم أسبوعًا أو أسبوعين للبحث، ثم قرأت الحيثيات التي استغرقت ست صفحات، ثم حُكم بأن صاحب الوصية لم يكن سليم العقل، وإنني ملزم برد المال كله والمصاريف والأتعاب، فاستأنفت وعرضت القضية على ثلاثة سادات أو أربعة كسالى نائمين، كانوا قد سمعوها بجملتها في المحكمة الأولى حيث يعملون محامين بلا عمل، وكل ما هنالك من فارق أنهم في هذه يسمون «أطباء»، وفي تلك يسمون «مندوبين»، إن كنت تفهم ذلك، فما كان منهم إلا أن أيدوا حكم القاضي الابتدائي، وبعد ذلك لجأنا إلى المحكمة العليا، حيث نحن إلى الآن وسأبقى دائمًا، وكان المحامون الذين وكلتهم عني قد قبضوا كل الألف التي أخذتها من عهد طويل، ومن أجل التركة كما يسمونها، والمصاريف والأتعاب؛ وأنا هنا لأني مدين بعشرة آلاف، وسأبقى هنا حتى أموت، مرقعًا النعال، وقد رأيت بعض السادات يتحدثون عن عرض الأمر على البرلمان، وكان ممكنًا أن يفعلوا ذلك لولا أنهم لم يجدوا متسعًا من الوقت للمجيء إلي، ولولا أنني العاجز عن الذهاب إليهم، وقد سئموا كتبي الطويلة إليهم، وأعرضوا عن المسألة بتاتًا … هذه هي قصتي كما يشهد الله، لا تنقص كلمة عن الحقيقة ولا تزيد، كما يعرفها خمسون شخصًا في هذا السجن وخارجه حق المعرفة.

وسكت الإسكاف ليتحقق من أثر هذه القصة في نفس سام، ولكنه وجده قد استغرق في النوم فنفض الرماد من القصبة، وزفر وألقاها من يده وسحب الغطاء إلى ما فوق رأسه، واستسلم هو أيضًا للنوم.

وكان المستر بكوك جالسًا إلى طعام الفطور، في صباح اليوم التالي، بينما كان سام منهمكًا في غرفة الإسكاف يمسح حذاء سيده وتلميعه وتنظيف غطاءي ساقيه الأسودين، وإذا هو يسمع دقًّا بالباب، وقبل أن يتمكن المستر بكوك من الإذن للطارق بالدخول، ظهر رأس من فوقه قلنسوة من القطيفة الخليطة بالقطن، وتبين له منهما أن القادم هو المستر سمانجل بعينه.

وقال ذلك السيد الفاضل شافعًا سؤاله بعشرين إيماءة من رأسه أو أربعين: «كيف الحال؟ أريد أن أقول: هل تنتظر أحدًا في هذا الصباح؟ فقد رأيت ثلاثة أشخاص لطاف جدًّا يسألون عنك، ويدقون كل باب في الردهة مما جعل الزملاء الذين اضطروا إلى فتح الأبواب ينهرونهم ويشتبكون بهم أشد الاشتباك.»

وقال المستر بكوك: «يا لله، ما أحمق مسلكهم، نعم، لا شك في أنهم أصدقاء لي كنت أرتقب زيارتهم أمس.»

وصاح اسمانجل بحماسة بالغة وهو يمسك المستر بكوك من يده: «أصدقاؤك! لا تقل أكثر مما قلت، إنهم أصدقائي أنا كذلك من هذه اللحظة، وأصدقاء ميفنز أيضًا، ذلك الكلب الجهنمي اللطيف المهذب، أليس كذلك؟»

وقال المستر بكوك مترددًا: «لا أعرف عن السيد إلا النزر اليسير، بحيث لا …»

وقاطعه اسمانجل قائلًا وهو يمسك بكتفه: «أعرف ذلك، وستعرفه كثيرًا على الأيام، وسترتاح إليه وتسر به، إن هذا الرجل يا سيدي — وهنا اتخذ وجهه سمات الجد — قد أوتي ملكة فكاهة بارعة تشرف مسرح دروري لين.»

وقال المستر بكوك: «أحق ما تقول؟»

وأجاب اسمانجل: «يمين الله إنه لكذلك، اسمعه وهو يموء كالقطط الأربع في عجلة اليد، إن له مواءً خاصًّا لكل قطة منها، أقسم لك بشرفي إن هذه هي الحقيقة، وهذه كما تعلم براعة فائقة، ولا يسع المرء إلا أن يحب من أوتي هذه الملكات، ولكن له عيبًا واحدًا، وهذا العيب اليسير قد ذكرته لك كما تعلم.»

وراح المستر اسمانجل يهز رأسه هزًّا تقترن فيه الثقة بالعطف، وأحس المستر بكوك أنه يتوقع منه أن يقول شيئًا، فلم يجد مندوحة عن قول: «آه» وهو ينظر بعين قلقة إلى الباب.

وقال المستر اسمانجل وهو يرسل زفرة مستطيلة: «آه! إنه رفيق أنيس يا سيدي، ولا أحسبني عرفت رفيقًا أكثر أنسًا منه وأرق جاشية في مكان ما، وإن كان فيه ذلك العيب الوحيد، ذلك أنه لو أن شبح جده نهض من قبره ووقف أمامه في هذه اللحظة يا سيدي لطالبه بقرض على ورقة دمغة من فئة ثمانية عشر بنسًا.»

وصاح المستر بكوك: «يا عجبًا!»

وأضاف المستر اسمانجل يقول: «نعم، ولو أنه استطاع أن ينشره مرة أخرى من قبره، لعمد في شهرين وثلاثة أيام من هذا التاريخ إلى تجديد الدين.»

وقال المستر بكوك: «هذه أخلاق عجيبة جدًّا، ولكني أخشى أن يكون أصدقائي، ونحن نتحدث هنا اللحظة في ارتباك شديد لعجزهم عن الاهتداء إلى مكاني.»

وقال المستر اسمانجل وهو يتقدم نحو الباب: «سأدلهم على الطريق، طاب يومك، وسوف لا أزعجك في فترة اجتماعهم بك هنا، أنت تعرف ذلك، إلى الملتقى.» ولكنه لم يكد يفوه بالكلمتين الأخيرتين حتى وقف فجأة وأغلق الباب، بعد أن كان قد فتحه، ومشى في خطى رفيقة نحو المستر بكوك ودنا منه متسللًا على أطراف قدميه، وقال في همس خافت: «هل في إمكانك أن تتكرم علي في قرضي نصف كراون حتى نهاية الأسبوع القادم؟»

ولم يتمالك المستر بكوك من الابتسام، ولكنه عرف كيف يحتفظ بجده ووقاره، فأخرج المبلغ المطلوب ووضعه في كف المستر اسمانجل، فلم يلبث هذا مع عديد الإيماءات والغمزات الغامضة القصد، المستغلقة المراد، أن توارى للبحث عن الغرباء الثلاثة، ولم تمضِ لحظة حتى عاد بهم، فسعل ثلاث سعلات، وهز رأسه عدة مرات، توكيدًا للمستر بكوك أنه لن ينسى الوفاء، وصافح الجميع في شكل جذاب، وانطلق في النهاية منصرفًا.

وأنشأ المستر بكوك يقول وهو يصافح أصحابه واحدًا بعد الآخر، مبتدئًا بالمستر طبمن، فالمستر ونكل، ثم سنودجراس، وكانوا هم الزائرين الذين سلف ذكرهم: «إني لفرح بلقائكم.»

وتأثر الصحاب الثلاثة كثيرًا، وهز المستر طبمن رأسه حزينًا آسفًا، وأخرج المستر سنودجراس منديله، وهو في انفعال لا يقوى على إخفائه، وتراجع المستر ونكل إلى النافذة فعطس عطسًا شديدًا.

وقال سام وقد جاء في تلك اللحظة يحمل الحذاء وغطاء الساقين: «صباح الخير أيها السادة، وبعدًا للحزن والكآبة، كما قال الصبي الصغير عند وفاة معلمته في المدرسة. مرحبًا بكم في هذه «الكلية» أيها السادة!»

وقال المستر بكوك وهو يربت على رأس سام، وقد جثا عند قدمي سيده ليلبسه الغطاء: «إن هذا الأحمق عمل على أن يعتقل لكي يكون قريبًا مني.»

وصاح الثلاثة في دهشة: «ماذا؟»

وأجاب سام: «نعم أيها السادة، إنني … أثبت قدميك يا سيدي من فضلك — إنني هنا سجين، محجوز كما قالت السيدة.»

وصاح المستر ونكل بحماسة لا يعرف باعثها: «سجين!»

وأجاب سام وهو يتطلع إليه: «نعم يا سيدي، ما الخبر يا سيدي؟»

وقال المستر ونكل بلهجة سريعة: «لقد كنت أرجو يا سام، لا شيء … لا شيء.»

وكانت لهجة المستر ونكل وهيئته تنمان عن شيء من الاضطراب والتردد، فطن المستر بكوك إليهما، فنظر إلى صديقيه الآخرين نظرة مستفسرة.

وقال المستر طبمن جوابًا عن هذا السؤال الصامت بصوت مرتفع: «لسنا نعرف، فقد لبث في اضطراب شديد خلال اليومين الماضيين، وأمسى على غير عادته، في كل حركاته وتصرفاته، حتى لقد خشينا أن يكون في الأمر شيء، ولكنه نفى لنا ذلك نفيًا قاطعًا.»

وقال المستر ونكل، وقد تغير لونه من نظرة المستر بكوك المستطيلة إليه: «كلا، كلا، ليس ثمة شيء في الواقع، أؤكد لك أن ليس ثمة شيء يا سيدي العزيز، ولكني مضطر إلى مغادرة المدينة إلى أجل قصير في عمل خاص، وكنت أطمع في استئذانك لتسمح لسام بمرافقتي.»

وبدا المستر بكوك أشد دهشة من قبل.

ومضى المستر ونكل يقول متلعثمًا: «وأعتقد أن سام لم يكن ليمانع في ذلك أو يعترض عليه، ولكن مقامه هنا سجينًا جعل الأمر بالطبع مستحيلًا؛ ولهذا أجدني مضطرًّا إلى الذهاب وحدي.»

وما كاد المستر ونكل ينتهي من هذا الكلام حتى شعر المستر بكوك في شيء من الدهشة أن أنامل سام أخذت ترتعش وهي تتناول غطاء ساقيه، كأنه قد دهش أو بوغت، وتطلع هذا إلى المستر ونكل أيضًا حين فرغ من قوله، وبدا عليهما أنهما تفاهما، وإن كانت النظرة التي تبادلاها قد جرت في لحظة واحدة.

وقال المستر بكوك بحدة: «هل تعرف شيئًا عن هذا يا سام؟»

وأجاب سام وقد بدأ يدخل الأزرار في العرى بخفة غير معهودة: «كلا يا سيدي، لا أعرف.»

وقال المستر بكوك: «هل أنت متأكد يا سام؟»

وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، أنا متأكد إلى هذه اللحظة، وأثق أنني لم أسمع شيئًا في الموضوع قبل الآن.» وهنا نظر إلى المستر ونكل ثم أردف قائلًا: «وإذا جاز لي التخمين فليس لي أي حق في قول شيء؛ لأني أخشى أن يكون ظني خاطئًا.»

وصمت المستر بكوك لحظة ثم مضى يقول: «لست أملك حق الإمعان في البحث عن أمور تتصل بشئون صديق لي ومسائله الخاصة، مهما يكن هذا الصديق حميمًا، ولكني أجتزئ في الوقت الحاضر بقولي: إنني لا أفهم هذا إطلاقًا، فلندع الحديث عنه، فإن فيما قلنا الكفاية.»

وراح المستر بكوك يدخل بالحديث في موضوعات مختلفة، وأخذ المستر ونكل يهدأ شيئًا فشيئًا، وإن لم يكن هدوؤه تامًّا، وكان لديهم من الموضوعات الشيء الكثير، فلبثوا في الحديث بسبيلها حتى انقضى الصباح بسرعة، وعندما أحضر المستر ولر في الساعة الثالثة بعد الظهر إلى مائدة الغداء الصغيرة فخذًا مشوية من الضأن، وفطيرة ضخمة من اللحم المفري، وصحافًا منوعة من الخضر، وقدورًا من الجعة أقامها فوق المقاعد أو على المتكأ الطويل أو حيثما وجد لها مكانًا صالحًا، كان كل منهم في لهفة على إعطاء هذه الوجبة حقها من الإنصاف، على الرغم من أن اللحم كان قد اشتري وأنضج، والفطير صنع وخبز في مطبخ السجن القريب منه.

وتلا الطعام زجاجة أو زجاجتان من النبيذ الجيد، كان المستر بكوك قد أوفد رسولًا لشرائهما من حانة هورن في حي الأطباء، وقد تكون الزجاجة أو الزجاجتان أحق بأن توصف بأنها زجاجة أو ست زجاجات لأنهم ما كادوا يفرغون منها وينتهون من شرب الشاي، حتى دق الناقوس منبهًا الغرباء إلى وجوب الانصراف.

وإذا كان سلوك المستر ونكل في الصباح غامضًا لا يعرف أحد له سببًا، فقد أمسى رهيبًا غريبًا كل الرهبة والغرابة حين استعد لتوديع صديقه، وهو متأثر بما كان يعتمل من الأحاسيس في صدره، ومن النصيب الذي تناوله من الزجاجة أو الزجاجات الست. فقد تباطأ حتى انصرف صديقاه المستر طبمن والمستر سنودجراس. وعندئذ تناول كف المستر بكوك بحرارة وقد بدت على وجهه أمارات عزم قوي عميق مختلط إلى حد مخيف بأصدق آيات الحزن وأبلغ سماته.

وقال المستر ونكل بين فكيه المنقبضتين: «طاب ليلك يا سيدي العزيز.»

وأجاب المستر بكوك بحرارة وهو يضغط يد صديقه الشاب: «بوركت أيها الصديق العزيز.»

وصاح المستر طبمن من جانب الدهليز: «والآن، هيا بنا.»

وأجاب المستر ونكل: «نعم، نعم، حالًا، طاب ليلك!»

وقال المستر بكوك: «طاب ليلك.»

وكثرت التحيات وتكررت مرارًا ولا يزال المستر ونكل ممسكًا بكف صديقه مجيلًا البصر في وجهه بتلك النظرة الغريبة ذاتها.

وقال المستر بكوك أخيرًا حين كادت ذراعه تخدر من كثرة هزها: «هل من خطب؟»

وقال المستر ونكل: «لا شيء.»

وأجاب المستر بكوك وهو يحاول انتزاع ذراعه: «إذن طاب ليلك.»

وغمغم المستر ونكل وهو متشبث بمعصم صديقه: «يا صديقي، البار بي، أيها الخل الكريم المجيد، لا تقسُ في الحكم علي، ناشدتك الله حين تعلم أنني لما رأيت الحوائل تدفعني إلى اليأس.»

وهنا عاد المستر طبمن فظهر لدى الباب وهو يقول: «والآن، هل أنت آت أو تريد أن نغلق الأبواب فلا نستطيع خروجًا؟»

وأجاب المستر ونكل: «حاضر، حاضر، هأنذا.» وانتزع نفسه بجهد بالغ وانصرف.

وبينما كان المستر بكوك يرسل بصره في الدهليز على أثرهم في دهشة صامتة، إذ ظهر سام ولر عند رأس السلم، ووقف لحظة يهمس في أذن المستر ونكل.

وقال هذا بصوت مرتفع: «اطمئن بلا شك واعتمد علي.»

وقال سام: «شكرًا لك يا سيدي، أرجو ألا تنسى يا سيدي.»

وأجاب المستر ونكل: «كلا بالطبع.»

ورفع سام يده إلى قبعته وقال: «أتمنى لك التوفيق يا سيدي، كان بودي أن أذهب معك، ولكن المعلم أحق بالتقديم.»

وقال المستر ونكل: «إن بقاءك هنا يزيد كثيرًا من فضلك.»

وراحوا يهبطون السلم.

وعاد المستر بكوك إلى غرفته وهو يقول: «هذا شيء عجاب.»

وجلس إلى المنضدة واستغرق في التفكير وعاد يقول: «ماذا عسى أن يكون هذا الشاب فاعلًا؟»

ولبث في مجلسه هذا فترة من الوقت يفكر في الأمر ويتدبره، وإذا هو يسمع صوت روكر السجان يستأذن في الدخول، فقال: «تفضل.»

وقال المستر روكر: «لقد أحضرت لك وسادة أطرى وأنعم يا سيدي، بدلًا من الوسادة الموقوتة التي جئتك بها في الليلة الماضية.»

وقال المستر بكوك: «شكرًا لك، ألا تتناول كأسًا من النبيذ.»

وأجاب المستر روكر وهو يتقبل الكأس المقدمة إليه: «إنك لكريم جدًّا يا سيدي، في صحتك.»

وقال المستر بكوك: «أشكرك.»

وقال المستر روكر وهو يضع القدح بعد تناوله ويتفحص بطانة قبعته قبل رفعها إلى رأسه: «يحزنني أن أنبئك أن مؤجر غرفتك في حالة سيئة الليلة يا سيدي.»

وصاح المستر بكوك: «ماذا؟ السجين الموظف في المحكمة؟»

وقال المستر روكر، وهو يدير القبعة في يده ليأتي باسم الصانع إلى أعلى اليمين، وهو ينظر إليها: «إنه لن يبقى كذلك طويلًا يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «إنك تجعل الدم يجري في عروقي باردًا، ماذا تعني؟»

وأجاب المستر روكر: «لقد مضى عليه عهد طويل وهو يشكو ذات الرئة، وقد ساء الليلة تنفسه، وكان الطبيب قد قال منذ ستة أشهر: إن تبديل الهواء قد ينقذه.»

وصاح المستر بكوك: «يا رب السموات، هل كان القانون يقتل هذا الرجل قتلة بطيئة خلال هذه الأشهر الستة؟»

وقال المستر روكر وهو يزن القبعة من حواشيها في كلتا يديه: «لا أعرف عن هذا شيئًا، وأحسبه كان سيصاب بالعلة ذاتها في أي موضع آخر، وقد قصد إلى المستشفى في هذا الصباح، فنصح الطبيب بوجوب محاولة الإبقاء على قواه ما أمكن، فأرسل السجان إليه نبيذًا وحساءً وأشياء أخرى جاء بها من بيته. ليس الذنب ذنب السجان يا سيدي، كما تعلم.»

وأجاب المستر بكوك بعجلة: «طبعًا، ليس الذنب ذنبه.»

وقال المستر روكر وهو يهز رأسه: «ولكني مع ذلك أخشى أن تكون نهاية الرجل قد حلت، وكنت منذ لحظة أراهن «ندى» على هذا الرأي بشلن مقابل ستة بنسات، ولكنه لم يقبل الرهان وهو على حق تمامًا، شكرًا لك يا سيدي طاب ليلك.»

وقال المستر بكوك بلهجة الجد: «قف، وأين ذلك المستشفى؟»

وأجاب روكر: «فوق الغرفة التي كنت نائمًا فيها، سأريكها إذا أردت الذهاب.» وتناول المستر بكوك قبعته بحركة سريعة، دون أن ينبس بكلمة، وتبع الرجل في الحال.

وتقدم حامل المفاتيح في صمت وراح في رفق يرفع مزلاج الباب، ويشير إلى المستر بكوك بالدخول. وكانت الحجرة رحيبة الجوانب عارية من الأثاث، مقفرة، لا تحوي غير سرر عرجاء من الحديد، كان شبح رجل راقدًا على سرير منها، وانيًا شاحبًا حط السقام عليه فبدا كالأموات، وكان تنفسه أليمًا بطيئًا، وهو يئن من ألم شهيقه وزفيره، وقد جلس بجانب السرير رجل قصير القامة كبير السن يضع مبذلة إسكاف فوق ثوبه، ويستعين بمنظار مقوس على قراءة آيات من الكتاب المقدس بصوت مرتفع، وكان ذلك الرجل هو الإسكاف أو الوارث السعيد الحظ الذي مر بك نبؤه.

وألقى المريض يده على ذراع الشيخ الجالس بجانب سريره وأشار إليه أن يكف عن التلاوة، فطوى الرجل الكتاب ووضعه فوق الفراش.

وقال المريض: «افتح النافذة.»

ففعل، ولم تلبث ضوضاء المركبات، ورجرجة العجلات، وصيحات الرجال والغلمان، وسائر أصوات الجماهير وجلبة الزحام، وحركة الأعمال، وهرج الحياة العامة، أن اندمجت فاستحالت باختلاطها إلى همهمة عميقة سابحة في فضاء الحجرة وأفقها، تعلو عليها من لحظة إلى أخرى ضحكة صخابة، أو نغمات من أغنية عالية، أطلقها أحدهم في وسط ذلك الزحام المصطخب، فتصدم الأذن لحظة، ثم تتبدد في غمرة الأصوات المترددة ومواقع الأقدام، واصطفاق أمواج بحر الحياة اللجي المتقاذف المتدفق لا انقطاع له، خارج الأسوار. وهي أصوات مزعجة أليمة لمن يصغي إليها في هدوء لحظة ما، فكيف بأثرها المؤلم المحزن في نفس الجالس بجانب فراش الموت!

وقال المريض بصوت خافت: «لا هواء هنا، إن المكان يفسده، وكان عهدي به نقيًّا متجددًا، حين كنت أمشي طليقًا منذ سنين، ولكنه حين يمر بهذه الجدران ينقلب حارًّا ثقيلًا كثيفًا لا أستطيع أن أتنفسه.»

وقال الشيخ: «لقد تنفسناه من عهد طويل معًا، لا عليك، لا عليك.»

وساد السكون لحظة، بينما اقترب القادمان الجديدان من السرير، وانثنى المريض فمد يده وتناول بها كف زميله الشيخ فقربها منه، ولبث يضغطها في رفق ومودة بين يديه ويطيل الإمساك بها غير تاركها من قبضته.

وأنشأ بعد هنيهة يقول بأنفاس متقطعة وصوت خافت أشد الخفوت، حتى لقد اضطر الوقوف من حوله إلى الانحناء وتقريب أذانهم من الفراش لالتقاط الأصوات المتقطعة التي تخرج من شفتيه المصفرتين: «أرجو أن يذكر القاضي الرحمن الرحيم العقاب الأليم الذي لقيته في الأرض عشرين عامًا يا صديقي، عشرين عامًا في هذا القبر المخيف! وقد انكسر قلبي حين مات ولدي الصغير، ولم أستطع أن أظفر ولو بقبلة منه وهو في نعشه الصغير، وظلت وحشتي من ذلك الحين في وسط هذه الضوضاء، وهذا الصخب، أليمة كل الألم، مروعة كل الترويع. ليغفر الله لي! فهو على مماتي البطيء الرخي في وحدتي ووحشتي، خير شهيد.»

وشبك يديه، وغمغم بكلام آخر لم يستطيعوا أن يسمعوه، وهبط في نوم، نوم بادئ الأمر؛ لأنهم شهدوه مبتسمًا.

ولبثوا لحظة يتهامسون، وانحنى الحارس على الوسادة، ثم ارتد عنه مسرعًا، وهو يقول: «يمين الله، لقد أفرج عنه.»

وكان ذلك حقًّا ولكنه كان وهو حي أشبه الناس بالموتى، فلم يعرفوا متى فارق الحياة.

١  نطقها سام التازر لجهله بنطقها الكامل.
٢  إعلان قضائي caveat.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤