الفصل الرابع والخمسون

يصف من هو الطارق، ويحوي شئونًا أخرى من بينها أمور شيقة عن المستر سنودجراس وسيدة في مقتبل الشباب، وهي أمور ليست بأي حال غير ذات صلة بهذه القصة …

***

وكان الشيء الذي تراءى لعيني الكاتب المندهش غلامًا — غلامًا بدينًا إلى حد عجيب — يرتدي حلة الخدم، وقد وقف مستويًا فوق ممسحة الأرجل مغمض العينين كأنه نائم، ولم يكن الكاتب قد شهد في حياته غلامًا بدينًا إلى هذا الحد، في قافلة مسافرة أو في غير قافلة، وزاده عجبًا لبدانته ذلك الهدوء الذي كان يبدو على هيئته، ولا يتناسب عقلًا مع ما كان يرتقب من ذلك الطارق العنيف الذي كان ملحًّا في دقاته.

وقال الكاتب: «ما خطبك؟»

ولكن الغلام الشاذ لم يحر جوابًا، وإنما أومأ مرة وخيل إلى الكاتب أنه كان يرسل «شخيرًا» خافتًا.

وسأله الكاتب: «من أين جئت؟»

ووقف الغلام لا يأتي بحركة ولا إشارة، بل كان يتنفس بمشقة بالغة.

وأعاد الكاتب السؤال ثلاث مرات، ولكنه لم يتلق جوابًا، فهم بإغلاق الباب، وإذا الغلام يفتح عينيه فجأة، ويغمز بهما عدة مرات، ثم يعطس، ويرفع يده كأنه يهم بتكرار الدق، ولكنه إذ وجد الباب مفتوحًا، أرسل بصره حوله مندهشًا، وأخيرًا جعله يستقر على وجه المستر لوتن.

وسأل الكاتب بغضب: «أي شيطان جعلك تدق الباب بهذه الطريقة؟»

وقال الغلام بصوت خافت مهوم: «أي طريقة؟»

وأجاب الكاتب: «كأربعين سائقًا من سائقي عربات الركوب.»

وقال الغلام: «لأن سيدي قال لي: ألا أسكت عن الدق حتى يفتح لي الباب، خوفًا من أن يغلبني النوم.»

وقال الكاتب: «حسن، أية رسالة جئت بها؟»

وأجاب الغلام: «إنه تحت.»

وقال لوتن: «من هو؟»

قال: «سيدي، إنه يريد أن يعرف هل أنت هنا؟»

وخطر للمستر لوتن في هذه اللحظة أن يطل من النافذة، فأبصر مركبة مكشوفة تقل رجلًا ضخمًا متقدمًا في العمر، يتطلع في لهفة بالغة، فتجرأ وأشار إليه، فإذا الشيخ يقفز منها في الحال.

وقال لوتن للغلام: «أهذا الذي في المركبة سيدك؟»

فأومأ الغلام إيماءة الإيجاب.

ولم تعد حاجة إلى مواصلة الأسئلة، فقد ظهر عندئذ الشيخ «واردل»، وكان قد أخذ السلم جريًا، وحيا لوتن مسرعًا ودخل مهرولًا غرفة المستر بركر.

وصاح الشيخ: «مَنذا أرى؟ المستر بكوك! يدك يا بني! لماذا لم أسمع إلا أمس الأول بقصة تعذيبك لنفسك بدخول السجن؟ ولماذا تركته يفعل ذلك يا بركر؟»

وأجاب هذا بابتسامة وشم السعوط: «لم تكن لي فيه حيلة يا سيدي العزيز، أنت تعرف مبلغ عناده.»

وقال الشيخ: «بالطبع أعرف، بالطبع أعرف، ولكني مع ذلك أشعر بسرور صادق لرؤيته، ولن أتركه يغيب عن ناظري بعد الآن، في عجلة.»

وبهذه العبارات عاد واردل يهز يد المستر بكوك، وفعل قبل ذلك مع بركر، وتهالك على مقعد رحيب، ووجهه الأحمر المشرق يشع بسمات، وسمات صحة وعافية.

وأنشأ واردل يقول: «لقد وقعت أحداث جسام، هات سعوطك يا بركر، يا بني، إنها لأحداث لم يجر مثلها في أيامنا الخالية. لقد تغيرت الدنيا، إيه؟»

وسأل المستر بكوك: «ماذا تعني؟»

وأجاب واردل: «أعني؟! أعتقد أن الفتيات أصبحن جميعًا مجنونات، وقد تقول: إن هذا نبأ ليس جديدًا، وربما كان كذلك، ولكنه مع ذلك صحيح.»

وسأله المستر بركر: «ما أحسبك جئت إلى لندن بالذات، دون مدائن العالم كلها، لتقول لنا هذا يا سيدي العزيز.»

وأجاب واردل: «كلا، ما جئت لكي أقول هذا فقط، وإن كان السبب الأول في قدومي، كيف حال أرابلا؟»

وأجاب المستر بكوك: «في خير حال، وإني لواثق أنها ستسر بلقائك.»

وقال واردل: «يا لها من فتاة صغيرة معرضة عن حبيبها ذات عينين كحلاوين! لقد كنت أفكر في الزواج بها أنا نفسي في يوم من الأيام. ولكني فرح مغتبط بزواجها.»

وقال المستر بكوك: «وكيف وصل إليك النبأ؟»

وأجاب واردل: «جاء إلى ابنتي بالطبع، فقد كتبت أرابلا أمس الأول تقول: إنها تزوجت خلسة دون موافقة والد زوجها، فذهبت أنت لتأتي منه بالموافقة وإن كان رفضه لم يمنع القران، كما قصت عليها بقية الرواية ودقائقها، فرأيت أنه قد حان أن أقول شيئًا جديدًا لابنتي، فقلت: إن من أفظع الفظائع أن يتزوج الأولاد دون رضا آبائهم، وكلامًا من هذا القبيل، ولكني والله لم أستطع أن أحدث أي تأثير في نفسيهما، فقد قالتا: إنه لأفظع منه كثيرًا أن يكون زفاف بلا «شبينات»، وكأني في محاولة إقناعهن كنت أعظ جو نفسه.»

وكف الشيخ عن الكلام هنا لكي يضحك، ولما ضحك كفايته واصل الحديث قائلًا: «ولكن يبدو أن ليس هذا هو أحسن ما في القصة، إنه ليس إلا نصف الغزل والكيد والتآمر الذي كان يحدث في كل يوم، لقد كنا نمشي فوق «ألغام» خلال الأشهر الستة الأخيرة، وإذا «الألغام» تنفجر أخيرًا.»

وقال المستر بكوك وقد ارتد وجهه شاحبًا: «ماذا تعني؟ أرجو ألا يكون قد وقع زواج سري آخر؟»

وأجاب المستر واردل: «كلا! كلا! ليس الأمر سيئًا إلى هذا الحد.»

وسأل المستر بكوك: «ماذا إذن؟ أليس لي في الأمر شأن؟»

وقال واردل: «هل أرد على هذا السؤال يا بركر؟»

وأجاب المحامي: «إذا لم تورط نفسك بالرد عليه.»

وقال واردل: «بل لك فيه شأن.»

وسأل المستر بكوك في لهفة: «وكيف؟ ومن أية ناحية؟»

وأجاب واردل: «في الحقيقة إنك «لشاب» متحمس ملتهب المشاعر حتى أكاد أخاف من الكلام معك، ولكن إذا جاء بركر فجلس بيننا ليحميني من الأذى، اجترأت فتكلمت.»

وقام الشيخ فأغلق الباب، وتحصن بقدر آخر من سعوط بركر، وشرع السيد الكبير يفضي إليه بالنبأ العظيم فيقول: «الواقع أن ابنتي بللا التي تزوجت الفتى ترندل كما تعرف.»

وعاجله المستر بكوك نافد الصبر: «نعم، نعم، نعرف ذلك.»

ومضى الشيخ يقول: «لا ترعبني هكذا من البداية. إن ابنتي بللا بعد أن رأت أختها أميلي قد أوت إلى فراشها شاكية من «صداع» ألم بها عقب أن قرأت على سمعي كتاب أرابلا، جاءت فجلست بجانبي مساء ذلك اليوم وبدأت تتحدث عن مسألة زواج أرابلا وأنشأت تقول: «والآن يا أبتي، ما رأيك في هذه المسألة؟» قلت: أحسبها يا عزيزتي شيئًا جميلًا، وأرجو أن تنتهي بخير. وقد رددت على سؤالها بهذا الشكل؛ لأني كنت في تلك اللحظة جالسًا قبالة النار أتناول شرابي مفكرًا ساهمًا، وقد أدركت أن التفوه بكلمة لم أحسب حسابها من وقت إلى آخر، سيحملها على مواصلة الحديث. أن ابنتي صورتان طبق الأصل من أمهما العزيزة، وكلما تقدمت بي السنون زدت ميلًا إلى الجلوس وحدي معهما؛ لأن صوتيهما وملامحهما تعود بي إلى أسعد فترة في حياتي، وتردني عندئذ شابًّا كما كنت في تلك الأيام، وإن لم أبلغ ما كنت بالغه يومئذ من الخفة والمراح، وقالت بللا بعد صمت قصير: إنه زواج حب يا أبتي. قلت: نعم يا عزيزتي، ولكن أمثال هذا الزواج لا تبدو دائمًا أوفره سعادة.»

وقاطعه المستر بكوك بحماسة قائلًا: «أنا أشك في هذا، أنبهك إلى ذلك!»

وأجاب واردل: «جميل جدًّا، فلتشك في أي شيء تشاء حين يأتي دورك للكلام، ولكن لا تقاطعني.»

وقال المستر بكوك: «أرجوك المغفرة.»

وأجاب واردل: «هي لك، وقالت بللا وقد احمر وجهها قليلًا: إنني ليؤسفني يا أبتي أن أراك تعارض في الزواج الذي يأتي ثمرة الحب، قلت وأنا ألاعب وجنتها في رفق كما يفعل رجل خشن كبير مثلي أو في إمكانه أن يفعل. لقد كنت مخطئًا، وكان أولى بي ألا أقول ما قلت يا عزيزتي؛ لأن زواج أمك كان كذلك، وزواجك كان أيضًا من هذا النوع. وقالت بللا: ليس هذا ما أعنيه يا أبتي، الواقع أنني أردت أن أتحدث إليك عن أميلي»، وهنا أجفل المستر بكوك.

وقال واردل وقد كف عن الحديث: «ما الأمر الآن؟»

وأجاب المستر بكوك: «لا شيء، امض في حديثك»

ومضى واردل يقول فجأة: «إنني لا أحسن سرد القصص، فلأنته منها سريعًا، توفيرًا للوقت؛ ولهذا أقول بإيجاز، واختصار: إن بللا تشجعت أخيرًا فنبأتني أن أميلي في هم شديد، وأشجان بالغة، وأنها هي وصديقك الشاب سنودجراس يتكاتبان ويتراسلان باستمرار منذ عيد الميلاد الماضي، وأنها كانت تنتوي بحكم الواجب الفرار معه، تقليدًا حسنًا لصديقتها القديمة ورفيقتها في المدرسة، لولا شعورها بشيء من تبكيت الضمير، لفرط عطفي المستمر على كليهما، فأدركا أنه يحسن بهما أولًا مجاملتي بسؤالي هل لي اعتراض ما على زواجهما بالطريقة المألوفة. هذه هي الحكاية يا مستر بكوك، والآن هلا تكرمت فرددت عينيك إلى حجمهما الطبيعي، وأسمعتني رأيك فيما ينبغي عمله فأكون لك من الشاكرين!»

وكان للطريقة الحادة التي اتخذها ذلك الشيخ المرح في النطق بهذه الجملة الأخيرة ما يبررها ويقتضيها، فقد كان وجه المستر بكوك يبدو متغيرًا، شاعت أمارات الذهول فيه، وظهر عليه الارتباك، فكان غريب المنظر غير مألوفه، وجعل يردد في عبارات متقطعة ذاهلة: «سنود جراس! منذ عيد الميلاد الماضي!» وكانت هذه أول ما انفرجت عنه شفتا هذا الرجل الذاهل.

وقال واردل: «منذ عيد الميلاد الماضي، آه، هذا كلام واضح جدًّا، ولا بد من أننا كنا نضع على أعيننا منظارًا رديئًا، وإلا فكيف لم نكتشف ذلك من قبل؟»

وقال المستر بكوك وهو شارد اللب مفكر: «لا أفهم ذلك، في الحق لست مستطيعًا أن أفهمه.»

وأجاب الشيخ بحدة: «ولكنه كلام واضح لا يصعب فهمه. ولو كنت أصغر سنًّا مما أنت لعرفت السر من عهد بعيد.» وعاد واردل بعد تردد قصير يقول: «وفوق هذا فإن الحقيقة التي لا شك فيها أنني منذ أربعة أشهر أو خمسة جعلت ألح على أميلي أن تجتهد ما استطاعت — لجهلي التام بهذه المسألة؛ ولأني لا أحب مطلقًا أن أرغم شعور الفتيات على أي ميل إلى شيء لا يرتضينه — في الاستجابة لتودد شاب مهذب من جيراننا، واستقباله برضا وحظوة، ولست أشك في أنها كما تفعل الفتيات أرادت أن ترفع من قيمتها وتزيد من حماسة المستر سنودجراس وحرارة لهفته، فراحت تصور المسألة في أزهى الألوان، وتجلوها في ألمع الظلال وأفتن الصور، حتى وصلا معًا إلى الاعتقاد بأنهما حبيبان مضطهدان معذبان تعسان، فلا خلاص لهما ولا منجاة إلا الزواج سرًّا، أو الانتحار بالفحم، والسؤال الآن هو ماذا ينبغي أن تفعله؟»

وقال المستر بكوك: «وما الذي فعلته أنت؟»

قال: «أنا؟»

وأجاب المستر بكوك: «أعني ماذا كان منك حين نبأتك ابنتك المتزوجة بهذه القصة؟»

قال: «آه، كنت أبله بالطبع وتهوست.»

وهنا تدخل بركر وكان قد أصغى إلى هذا الحوار وهو يلوي سلسلة ساعته ليات مختلفة، ويعرك أنفه عركات شديدة كأنما يريد الثأر منه والتشفي فيه ويبدي أعراضًا أخرى للقلق، ونفاد الصبر فقال: «هذا صحيح، وطبيعي جدًّا، ولكن كيف؟»

وأجاب واردل: «استسلمت لغضب شديد حتى أرعبت أمي فاستولت عليها نوبة إغماء.»

وقال بركر: «هذا تصرف حكيم. ثم ماذا؟»

وأجاب الشيخ: «وظللت طيلة اليوم التالي متململًا ثائرًا، محدثًا إزعاجًا شديدًا، حتى تعبت أخيرًا من تكدير نفسي وجلب الشقاء على جميع الذين حولى، فاستأجرت مركبة من «ماجلتن» وشددت إليها خيلي، وجئت إلى المدينة، بحجة اصطحاب أميلي للقاء أرابلا.»

وقال المستر بكوك: «مس واردل إذن معك هنا؟»

وأجاب واردل: «بلا شك يا سيدي، وقد نزلنا في فندق أوزبورن في «الأدلفي» حيث هي في اللحظة الراهنة، ما لم يكن صاحبك المقدام قد فر بها عقب خروجي في هذا الصباح.»

وقال بركر: «إذن لقد رضيت؟»

وأجاب واردل: «أبدًا، لقد ظلت تبكي وتنتحب من ذلك الحين، حتى كانت الليلة الماضية بين الشاي وموعد العشاء، إذ مضت تتراءى بأنها تكتب خطابًا فتظاهرت من جانبي أنني لا أعرف شيئًا.»

وقال بركر، وهو ينقل عينه بين وجه المستر بكوك المفكر الساهم وبين وجه المستر واردل القلق المتلهف، ويتناول عدة قبضات متوالية من ذلك «المنبه» الأثير لديه: «أحسبك تطلب نصيحتي في هذا الأمر، أليس كذلك؟»

وأجاب واردل وهو ينظر إلى المستر بكوك: «أظن ذلك.»

وقال هذا: «بلا شك.»

وأنشأ بركر يقول وهو ينهض ويدفع بالمقعد إلى الخلف: «إذن استمعا. إن نصيحتي أن تنصرفا معًا، مشيًا على القدم، أو راكبين، أو منطلقين بأية وسيلة من وسائل الانتقال؛ لأنني تعبت منكما، واذهبا فتحادثا معًا في هذا الأمر، فإذا جاء الغد، ولم تستقرا فيه على شيء، فتعاليا أنبئكما بما ينبغي لكما أن تفعلاه.»

وقال واردل وهو لا يدري هل يبتسم أم يستاء من هذه اللهجة: «هذا رأي مريح.»

وعاد بركر يقول: «بوه! بوه! يا سيدي العزيز إنني أعرفكما أكثر مما تعرفان نفسيكما. وأعلم أنكما قد سويتما المسألة فعلًا، وفصلتما فيها اللحظة.»

وأخذ بركر بعد هذا القول يدفع بحُق السعوط صدر المستر بكوك أولًا، ثم صدر المستر واردل، وراحوا جميعًا يضحكون، وكان السيدان الأخيران أشدهم ضحكا، فعادا يتصافحان باليد دون سبب ظاهر أو داع معين.

وقال واردل لبركر، وهو يمشي معهما إلى الباب: «ستتعشى الليلة معي.»

وأجاب بركر: «ليس في إمكاني أن أعد يا سيدي العزيز، ليس في إمكاني أن أعد، ولكني سأطل في المساء على كل حال.»

وقال واردل: «سأنتظرك في الخامسة، والآن يا جو!» وبعد جهد أمكن إيقاظ «جو» من سباته، فانصرف الصديقان في مركبة المستر بركر، وكان لها مقعد في الخلف لمجلس الغلام البدين إشفاقًا عليه، ولو أنه كان يجلس على سلم العربة؛ لتدحرج من فوق مقعده وقتل نفسه في أول غفوة تستولي عليه.

ودرجت بهما المركبة إلى فندق «جورج والرخم» فوجدا أن أرابلا ووصيفتها قد بعثتا في طلب مركبة أجرة عقب تلقي رقعة صغيرة من أميلي تعلن فيها قدومها إلى المدينة، واستقلتاها في الحال إلى حي «الأدلفي». وكان لدى واردل عمل في العاصمة، فأرسلا المركبة والغلام البدين إلى الفندق، لإبلاغ القوم أن المستر واردل والمستر بكوك سيعودان معًا في الخامسة لتناول العشاء.

وعاد الغلام بهذه الرسالة، فنام نومة هادئة في مجلسه من المركبة، وهي تدرج به فوق أديم الطريق المرصوف بالأحجار، كأنه نائم فوق فراش وثير يهتز من تحته اهتزازًا على زنبرك ساعة، وبمعجزة أو أعجوبة استيقظ من تلقاء ذاته حين وقفت المركبة، فنفض نفسه نفضة قوية لتنبيه حواسه، وصعد لتأدية رسالته.

ولست أدري أكانت تلك الهزة قد أربكت حواسه، أم نبهتها ونظمتها، أم أيقظت في نفسه قدرًا كبيرًا من الأفكار الجديدة، حتى أنسته الآداب المألوفة والعرف العام، أم أنها قد عجزت عن أن تمنعه من النوم وهو يصعد مدراج السلم — وهو أمر جائز أيضًا — فالذي لا شك فيه أنه اندفع نحو قاعة الجلوس دون أن يدق الباب مستأذنًا، فإذا هو يبصر سيدًا يطوق خصر سيدته الصغيرة، وهو جالس جلسة المحب الوامق بجانبها فوق الأريكة، بينما تظاهرت أرابلا ووصيفتها بأنهما منشغلتان بالإطلال من نافذة في أقصى ركن من القاعة، فما كاد الغلام يشهد هذا المنظر الغريب، حتى أطلق صيحة دهشة، وأرسلت النساء في أثره صرخة، وانفرجت شفتا السيد عن سباب ولعنة، وجرى ذلك كله معًا في لحظة واحدة.

وقال السيد — ولا حاجة بنا إلى القول: أنه المستر سنودجراس: «أيها المخلوق المنكود، ماذا تريد هنا؟»

وأجاب الغلام البدين وهو مروع بكلمة واحدة وهي: «سيدتي.»

وسألته أميلي، وهي تدير رأسها نحوه: «ماذا تريد مني أيها المخلوق الأبله؟»

وأجاب الغلام البدين: «سيدي والمستر بكوك قادمان إلى هنا للعشاء في الخامسة.»

وقال المستر سنودجراس وهو يحملق البصر في الفتى الذاهل المروع: «انصرف من الحجرة!»

وأردفت أميلي في عجلة: «كلا، كلا، كلا، عزيزتي بللا، دبريني، ما العمل؟»

واجتمعت أميلي والمستر سنودجراس وأرابلا وميري معًا في ركن من القاعة، فتشاوروا في الأمر وتهامسوا بضع لحظات، بينما كان الغلام البدين يداعب النعاس عينيه.

وقالت أرابلا أخيرًا، وهي تنظر إليه بابتسامة ساحرة: «يا جو! كيف حالك؟»

وتبعتها أميلي قائلة: «إنك ولد طيب يا جو، لن أنساك يا جو.»

وقال المستر سنودجراس في أثرها وهو يتقدم نحو الغلام المبهوت، ويتناول يديه: «لم أكن أعرفك قبل الآن يا جو، هذه خمسة شلنات لك يا جو!»

وقالت أرابلا: «وأنا مدينة لك يا جو بخمسة أخرى للمعرفة القديمة.» وراحت تنعم بابتسامة ثانية أشد فتنة وسحرًا، على هذا «المتهجم» البدين.

وكان الغلام بطيء الإدراك فبدا في أول الأمر مرتبكًا لا يدري سببًا لهذا التحول الفجائي إلى الرضى عنه والعطف عليه، ولبث محملقًا متلفتًا في فزع غريب، وأخيرًا بدأت تلوح على وجهه العريض أعراض ابتسامة متناسبة مع حجم سحنته، ثم راح يدس كل نصف كراون في كل جيب في جيبيه، ويدخل كفه إلى المعصم فيه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة جشاء كانت هي الأولى والأخيرة في حياته.

وقالت أرابلا: «أحسبه قد فهمنا.»

وقالت أميلي: «يحسن أن نقدم إليه شيئًا يأكله في الحال.»

وكاد الغلام يضحك مرة أخرى حين سمع هذا الاقتراح، ولم تلبث ماري بعد تهامس قصير أن تركت الجماعة وقالت: «إنني عازمة على مؤاكلتك اليوم يا سيدي إذا لم يكن لديك مانع.»

وقال الغلام بلهفة: «تعالي من هنا، إن هناك فطيرًا بديعًا باللحم!»

ومشى الغلام في المقدمة يهبط السلم وهي في أثره، تفتن قلوب الخدم والغلمان، وتثير غضب الخادمات، حتى وصلا إلى قاعة الطعام، فإذا الفطير الذي تحدث الغلام عنه بلهفة وحماسة، وإذا بجانبه كذلك شريحة لحم وصحفة من البطاطس وجرة من الجعة الخفيفة.

وقال الغلام: «اجلسي، آه يا عيني، ما أبدع وما أبهج! إنني جائع أشد الجوع.»

وبعد أن ملى العين بلذة لا توصف، خمس مرات أو ستًّا، من وجه الفتاة، جلس عند رأس المائدة الصغيرة، واتخذت ميري مجلسها قبالته.

وقال الغلام وهو يغمس السكين والشوكة إلى المقبضين: «هلا تناولت شيئًا من هذا؟»

وأجابت ميري: «قليلًا إذا تفضلت.»

وقدم لها الغلام قطعة صغيرة واستأثر هو بقطعة كبيرة، وهمَّ بأن يقبل على الطعام، وإذا هو فجأة ينثني عنه، ويدع يديه وهما ممسكتان بالسكين والشوكة تتراخيان فوق ركبتيه، ويغمغم بصوت بطيء: «أقول: ما ألطفك!»

وكان هذا القول منه بلهجة إعجاب تسر الخاطر وإن بقيت في عيني الغلام نظرة المنهوم المفترس، وهي نظرة تكفي لجعل هذه التحية مزدوجة.

وقالت ميري متظاهرة بالخجل: «عجبًا يا جوزف! ماذا تعني؟»

وعاد الغلام يسترد شيئًا فشيئًا مكانه فوق المقعد، ويجيب بزفرة عميقة ولبث بضع لحظات مفكرًا، ونهل نهلة طويلة من الجعة، ثم عاد يتنهد، وأهوى بعد ذلك على الفطير بنهم شديد.

وقالت ماري بعد صمت طويل: «ما ألطف مس أميلي!»

وكان الغلام قد أجهز على الفطير، فحدق في وجه ميري بصره وأجاب قائلًا: «أعرف واحدة ألطف منها.»

وقالت ميري: «أحقًّا؟»

وأجاب الغلام بحماسة غير مألوفة منه: «نعم حقًّا!»

قالت: «وما اسمها؟»

قال: «وما اسمك؟»

قالت: «ميري.»

وأجاب الغلام: «هذا هو اسمها، وأنت هي» ومضى يبتسم ليزيد التحية قوة، وجعل عينيه وسطًا بين الغمز والحول، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه أراد أن يغازلها.

وقالت ماري: «لا ينبغي لك أن تكلمني بهذا الشكل، أظنك لا تقصد.»

قال: «ألا أقصد حقًّا — اسمعي.»

قالت: «نعم.»

قال: «هل ستأتين إلى هنا بانتظام؟»

قالت وهي تهز رأسها: «كلا، إنني منصرفة الليلة، ولكن لماذا؟»

وأجاب الغلام البدين بحرارة: «آه، لو أتيت لاستمتعنا وحدنا على الوجبات معًا!»

وقالت ميري وهي تطوي غطاء المائدة مصطنعة الحياء: «لعلي سآتي أحيانًا لكي أراك، إذا أنت تفضلت علي بهذا.»

وراح الغلام البدين ينقل عينه من صحفة الفطير إلى طبق اللحم، كأنما اعتقد أن الفضل المطلوب لا بد أن يكون متصلًا بشيء مما يؤكد، ثم أطلع نصف كراون من أحد جيبيه وأطال النظر إليه في عصبية ظاهرة.

وقالت ميري وهي تنظر بمكر إلى وجه السمين: «ألا تفهم مرادي؟»

وعاد ينظر إلى نصف الكراون، وقال بصوت خافت: «كلا.»

وقالت ميري: «إن السيدتين تريدان منك ألا تقول شيئًا للشيخ عن ذلك الشاب ووجوده في الحجرة، وأنا أيضًا أريد ذلك منك.»

وقال الغلام البدين، وكأنما قد هدأ باله كثيرًا فأعاد نصف الكراون إلى جيبه: «أهذا هو كل ما في الأمر؟ بالطبع لن أقول شيئًا.»

وقالت ميري: «المسألة هي أن المستر سنودجراس مولع بمس أميلي، ومس أميلي مولعة به، فإن أنت قلت شيئًا للشيخ، فسوف ينقلكم جميعًا إلى الريف البعيد، فلا تعود ترى أحدًا.»

وقال الغلام البدين بقوة: «كلا، كلا، لن أقول شيئًا.»

وقالت ميري: «هذا جميل منك، والآن قد حان لي أن أصعد لأساعد مولاتي على الاستعداد للعشاء.»

وقال الغلام البدين ملحًّا متوسلًا: «لا تذهبي الآن.»

وأجابت ميري: «لا بد، إلى الملتقى حتى حين.»

وإذا الغلام البدين، في حركة عبث ومجون كما تفعل الفيلة يبسط ذراعيه لينتهب قبلة، وإذ لم يكن الانفلات منه يقتضي خفة كثيرة، فقد استطاعت فاتنته الحسناء أن تتوارى قبل أن يرد ذراعيه إلى جنبيه، وأقبل من فرط استيائه يلتهم رطلًا أو نحوه من الشواء وهو شارد الخاطر، هائج العاطفة، وما لبث أن هبط في سبات عميق.

وكان هناك شيء كثير يقال في قاعة الجلوس، وخطط مختلفة تناقش أو ترسم خطوطها للفرار والزواج إذا ظل الشيخ واردل مقيمًا على قسوته، حتى لم يبق إلا نصف ساعة على موعد العشاء، حين نهض المستر سنودجراس مودعًا، وذهبت السيدتان إلى مخدع أميلي لترتديا ثيابهما استعدادًا للجلوس إلى المائدة، وتناول العاشق قبعته، وانصرف من الحجرة، ولكنه لم يكد يخرج من الباب حتى سمع صوت واردل وهو يتحدث بجرس مرتفع، فأطل من فوق السلم فرآه، وشهد بعض الناس في أثره، وهم يصعدون. ولم يكن المستر سنودجراس يعرف شيئًا عن الفندق، فلم يلبث من الارتباك أن عاد مسرعًا إلى الحجرة التي خرج منها، واجتازها إلى غرفة أخرى كانت قد أعدت غرفة نوم للمستر واردل نفسه، وأغلق برفق الباب، في اللحظة ذاتها التي دخل فيها الأشخاص الذين لمحهم على السلم حجرة الجلوس. فإذا هم المستر واردل، والمستر بكوك، والمستر نثنايل ونكل، والمستر بنجمن ألن، ولم يجد مشقة في تمييزهم من أصواتهم.
figure
ميري والفتى البدين.

وقال المستر سنودجراس لنفسه وهو يبتسم: «الحمد لله على أني عرفت بحضور البديهة كيف أتحاماهم»، ومشى على أطراف قدميه إلى باب آخر بقرب السرير، وهو يقول: إن هذا الباب يفضي إلى الردهة أيضًا، وفي إمكاني أن أتسلل بهدوء وأمان وأنصرف.»

ولم يكن هناك إلا عائق واحد يحول دون هذا التسلل الذي كان يرجوه، وهذا العائق هو أن الباب كان مغلقًا، والمفتاح منزوعًا من قفله.

وقال المستر واردل وهو يفرك يديه: «دعنا نذق اليوم أحسن ما لديكم من النبيذ يا غلام.»

وأجاب غلام الفندق: «سأحضر أحسن ما لدينا منه يا سيدي.»

قال: «وأبلغ السيدتين أننا وصلنا.»

«سمعًا وطاعة يا سيدي.»

وقد تمنى المستر سنودجراس أحر التمني وأصدقه لو أن السيدتين عرفتا أنه هو الذي وصل إلى هذا المأزق، وخطر له مرة أن يجترئ فيهمس من ثقب القفل مناديًا «يا غلام»، ولكن بدا له أن من المرجح أن يأتي غلام آخر إلى نجدته — فتكون الطامة، كما تذكر حادثًا مماثلًا لهذا الموقف الذي وجد نفسه فيه، وهو اكتشاف رجل منذ أيام مختبئًا في إحدى الحجرات بفندق مجاور، وظهر نبأ الحادث في النهر المخصص لحوادث «الشرطة» في تلك الصحيفة الصباحية فتهالك فوق حقيبة سفر كبيرة وقد تولته رعشة شديدة.

وقال واردل وهو ينظر في ساعته: «لن ننتظر بركر دقيقة واحدة، إنه على مواعيده لحفيظ، وسيأتي إذا قصد المجيء فعلًا، أما إذا لم يقصد فلا فائدة من الانتظار ها! أرابلا!»

وصاح المستر بنجمن ألن: «أختي!»، وطواها في عناقة «غرامية» متناهية.

وقالت أرابلا، وقد غلب عليها هذا المظهر من الحب: «آه، يا بن، أيها العزيز، ما أشد رائحة التبغ التي تعبق منك.»

وقال المستر بنجمن ألن: «أحقًّا، يا بلا؟ لعلي كذلك.»

ولعله كذلك فعلًا، فقد جاء لتوه من مجلس جمع من طلبة الطب، قضوا فترة في تدخين ومرح في غرفة صغيرة حول نار كبيرة.

قال: «ولكني في ابتهاج بلقائك، بارك الله فيك يا بلا.»

وقالت أربلا وقد انحنت إلى الأمام لتقبل شقيقها: «حسبك، لا تمسك بي مرة أخرى يا عزيزي بن؛ لأنك تطبق على صدري إطباقًا.»

وعند هذا الحد من الصلح والتراضي انثنى المستر بن ألن يترك لعواطفه وتأثير لفافات التبغ الطوال وحميا الشراب سبيل الغلبة عليه، فأدار عينيه في وجوه الحاضرين وقد بلل الدمع منظاره.

وصاح واردل وهو باسط ذراعيه: «ألا شيء يقال لي أنا؟»

وهمست أرابلا: «بل الشيء الكثير» وهي تتلقى عناق الشيخ وتهانيه. وتردف قائلة: «إنك لغليظ القلب جامد الشعور قاس مخيف!»

وأجاب الشيخ باللهجة ذاتها: «وإنك لصغيرة متمردة، وأخشى أن اضطر إلى منعك من دخول بيتنا، إن أمثالك ممن يتزوجن رغم أنف كل إنسان لا ينبغي أن يتركن طليقات في المجتمع.» وهنا أضاف الشيخ بصوت مرتفع: «ولكن تعالي، اجلسي بجانبي إلى العشاء. يا جو! يا عجبًا له، إنه يقظان!»

وكانت دهشة الشيخ بالغة حين تبين فعلًا أن الغلام في صحو ظاهر، كما يبدو من عينيه المفتوحتين على سعتهما، تبدوان كأنهما ستظلان كذلك، كما كان في منظره خفة ورشاقة لا يفهم السر فيهما، فقد جعل يضحك ويبتسم كلما التقت عيناه بعيني أميلي أو أرابلا، بل لقد قال واردل: إنه في وسعه أن يقسم أنه قد رآه مرة يغمز بطرف ناظريه.

وكان هذا التغير الذي طرأ على حركات الغلام البدين وسكناته، راجعًا إلى ازدياد شعوره بأهميته، والمركز الذي أحرزه من إشراك السيدتين له في أسرارهما وائتمانه عليها، فكانت تلك الضحكات والابتسامات والغمزات الكثيرة منه بمثابة توكيدات أبداها في تواضع ليشعرهما بالاعتماد على إخلاصه، والركون إلى أمانته. ولكن هذه الرموز والإشارات جاءت منه أدنى إلى إثارة الشبهة من إخمادها، وكانت مربكة لهما إلى حد ما أيضًا، فكانت أرابلا تجيب عنها من لحظة إلى أخرى بعبسة من وجهها، أو هزة من رأسها، ولكن الغلام البدين لم يفهم منها إلا أنها «تلميح» له بوجوب الانتباه والحيطة، فراح يعبر عن فهمه لها على هذا النحو بمضاعفة الضحك والابتسام والغمز بعينيه.

وقال المستر واردل بعد أن بحث عبثًا في جيوبه: «يا جو، هل تراني وضعت حق السعوط فوق المتكأ؟»

وأجاب الغلام البدين: «كلا يا سيدي.»

قال: «آه! تذكرت، لقد تركته على منضدة الزينة في هذا الصباح، اجر إلى الحجرة الملاصقة فأحضره.»

وذهب الغلام البدين إلى الحجرة الأخرى، وما أن غاب نحو دقيقة حتى عاد بحق السعوط، وبوجه أشد شحوبًا مما يكون وجه غلام بدين يومًا ما.

وصاح المستر واردل: «ما شأن هذا الغلام؟!»

وأجاب جو بعصبية: «لا شيء يا سيدي.»

وقال الشيخ: «هل رأيت أرواحًا؟»

وأردف بن ألن: «أو تناولت أشربة روحية؟»

وهمس واردل من فوق المائدة: «أظنك أصبت كبد الحقيقة، إن الغلام ثمل وأنا متأكد من هذا.»

وأجاب بن ألن أنه يعتقد ذلك، وكان مثله الخبير بهذا المرض، فلا غرو إذا شعر واردل بصواب ما لبث نصف ساعة يراود خاطره، وهو أن الغلام سكران.

وغمغم واردل: «ألقِ بالك إليه بضع دقائق، فلا نلبث أن نعرف هل هو كذلك فعلًا أو لا.»

وكان الغلام السيئ الحظ قد تبادل بضع كلمات مع المستر سنودجراس، فقد توسل هذا إليه أن يستعين سرًّا بصديق على إنقاذه من هذا المأزق الذي هو فيه، ثم دفع به هو وحق السعوط، مخافة أن يكون طول غيابه مدعاة إلى اكتشافه. وفكر الغلام قليلًا وقد بدا الاضطراب الشديد على وجهه وذهب يبحث عن ميري.

ولكن ميري كانت قد انصرفت عقب معاونة سيدتها على ارتداء ثيابها، فعاد الغلام إلى الحجرة وهو أشد اضطرابًا مما كان قبل.

وتبادل واردل والمستر بن ألن النظرات.

وقال واردل: «يا جو!»

– «نعم، يا سيدي.»

– «لماذا خرجت اللحظة؟»

ووقف الغلام ينظر يائسًا في وجوه الجميع وقال متلعثمًا إنه لا يعرف.

وقال واردل: «آه! لا تعرف؟ خذ هذا الجبن إلى المستر بكوك.»

وكان المستر بكوك في أحسن حال من الصحة والمرح والابتهاج على العشاء، وكان في تلك اللحظة مسترسلًا في حديث مع أميلي والمستر ونكل، وهو يهز رأسه ويحنيه بكل أدب، توكيدًا لأقواله، ويلوح في رفق بيسراه تعزيزًا لآرائه وملاحظاته، ووجهه طافح بالبشر والبسمات، فتناول قطعة جبن من الصحفة، وهم بالالتفات لمعاودة الحديث، وإذا الغلام البدين ينحني حتى جعل رأسه محاذيًا رأس المستر بكوك، وراح يضغط بإبهامه فوق كتفه، ويحرك تقاسيم وجهه أقبح ما شوهد من الحركات في حفلة تمثيل صامت في عيد الميلاد.

وقال المستر بكوك مجفلًا: «ما أغرب … ولكنه لم يتم كلماته، إذ رفع الغلام صلبه، وقد هبط في سبات عميق، أو تظاهر به.»

وسأل واردل: «ماذا جرى؟»

وأجاب المستر بكوك وهو ينظر بقلق إلى الغلام: «إن هذا الغلام لشاذ غريب كل الغرابة، وقد يكون عجيبًا أن أقول: إنه يبدو أحيانًا مذهولًا إلى حد ما أو مجنونًا، ولكني أقسم أن الأمر كذلك.»

وصاحت أميلي وأربلا معًا في وقت واحد: «أوه، يا مستر بكوك لا تقل ذلك.»

وقال المستر بكوك وسط صمت عميق ونظرات وجوم عام: «لست متأكدًا بالطبع، ولكن تصرفه في هذه اللحظة معي في الواقع مزعج جدًّا.» وهنا صاح المستر بكوك: «آه!» وقفز فجأة مطلقًا صرخة قصيرة، واستتلى يقول: «أرجوكما معذرة أيتها السيدتان، ولكنه في هذه اللحظة بالذات وخز ساقي بآلة حادة، الواقع أنه لا يؤمن جانبه.»

وزأر المستر واردل بغضب: «إنه سكران، دق الجرس، نادوا الخدم، إنه سكران.»

وقال الغلام وهو يجثو عند قدميه حين أمسك سيده برقبته: «أنا لست سكران! أنا لست سكران.»

وقال الشيخ: «إذن أنت مجنون، وهو شر وأدهى، نادوا الخدم.»

وأجاب الغلام البدين وقد بدأ ينتحب: «أنا لست مجنونًا، أنا عاقل.»

وسأل المستر واردل غاضبًا: «إذن لماذا تخز ساق المستر بكوك بآلة حادة ما دمت عاقلًا؟»

وأجاب الغلام: «لم يشأ أن ينظر إلي، وكنت أريد أن أكلمه.»

وقالت أصوات كثيرة في نفس واحد: «وماذا كنت تريد أن تقول له؟»

ووقف الغلام يزفر وينظر إلى غرفة النوم، ثم عاد يزفر ويمسح دمعتين بعقدتي خنصريه.

وقال واردل وهو يهزه: «ماذا كنت تريد أن تقول له؟»

وصاح المستر بكوك: «قف واسمح لي أن أسأله بنفسي.»

ماذا كنت تريد أن تقوله لي يا بني المسكين؟

وأجاب الغلام: «أريد أن أهمس لك.»

وقال واردل: «أحسبك تريد أن تقطع أذنه بأسنانك. لا تقترب منه. إنه شرير. دق الجرس، ودعوهم يأخذوه من هنا إلى الطابق الأسفل.»

وفي اللحظة التي أمسك فيها المستر ونكل حبل الجرس ليدقه، وقف عن دقه، حين رأى علامات الدهشة البالغة على الوجوه، فقد بهت القوم أن رأوا العاشق الأسير يخرج من غرفة النوم، بادي الاضطراب، وينحني انحناءة عامة لهم.

وصاح واردل وهو يرفع كفه عن رقبة الغلام، ويتراجع إلى الوراء مبهوتًا: «ها! ما هذا!»

وقال المستر سنودجراس معللًا: «لقد كنت مختبئًا في الغرفة المجاورة يا سيدي منذ عودتكم.»

وقال واردل بلهجة عتاب وتأنيب: «يا ابنتي أميلي، إنني أمقت الحقارة والغش. إن هذا أمر نكر لا مبرر له إطلاقًا، ومحرج أشد الإحراج، وما كنت مستحقًّا هذا من جانبك يا أميلي، ما هذا حقًّا بجزائي لديك!»

وقالت إملي: «يا أبت العزيز، إن أرابلا تعرف، وكل واحد هنا يعرف، وجو يعرف أن لا ضلع لي في هذا الاختباء، آي أغسطس بحق السماء أناشدك أن تشرح جلية الأمر.»

وكان المستر سنودجراس منتظرًا حتى يسمع له قول، فلم تكد أميلي تناشده الكلام، حتى أنشأ يقص كيف وقع في ذلك الحرج، وكيف كان الخوف من أن يثير خلافًا عائليًّا شديدًا قد دفعه إلى تجنب لقاء المستر واردل عند دخوله، وكيف لم يكن مراده أكثر من الانصراف من باب آخر، ولكنه وجده مقفلًا فاضطر إلى البقاء رغم أنفه. وقال: إنه لموقف أليم ذلك الذي أحيط به، ولكنه الساعة أقل أسفًا له؛ لأنه أتاح له الفرصة للاعتراف أمام أصدقاء الطرفين بأنه يحب ابنة المستر واردل حبًّا شديدًا مخلصًا صادقًا، وأنه فخور بأن يعترف على رءوس الأشهاد بأن ذلك الحب متبادل، وأنه لن ينسى، وإن بعدت الشقة بينه وبينها آلاف الأميال، أو فرقت بينهما المحيطات المترامية، تلك الأيام الهنية التي مضت منذ أول عهده، وما إلى ذلك ونحوه.

وانحنى المستر سنودجراس بعد إلقاء كلام في هذا المعنى، ونظر إلى قمة قبعته وتقدم نحو الباب لينصرف.

وهنا صرخ واردل قائلًا: «قف، وقل لي باسم كل ما هو …»

وعاجله المستر بكوك برفق، وكان يعتقد أن ما سيأتي أدهى وأمر: «بكل ما هو سريع الاشتعال.»

وقال واردل، متقبلًا هذا النعت بديلًا مما كان يهم بأن يفوه به: «باسم كل ما هو سريع الاشتعال، لماذا لم تنبئني بهذا كله من أول الأمر؟»

وتبعه المستر بكوك فقال: «أو تسره لي مثلًا؟»

وهنا انبرت أرابلا للدفاع: «عجبًا، عجبًا، ما جدوى هذا السؤال كله الآن، وبخاصة بعد أن كنت واضعًا عينك وقلبك الطموح على خطيب أكثر منه مالًا وأعز نسبًا، وأنت إلى جانب ذلك الهائج المتنمر كما تبدو الساعة، حتى ليفرق الجميع منك رعبًا، عداي أنا. ألا تقدم وصافحه واطلب له عشاء كرمًا منك وفضلًا؛ لأنه يلوح جائعًا، وهلم اسع علينا بالنبيذ ولا تبطئ؛ لأنك لن تطاق حتى تشرب زجاجتين منه على أقل تقدير.»

وجذب الشيخ الكريم أرابلا من أذنها، وقبلها بغير تردد ثم قبل ابنته كذلك بحب شديد، وهز يد المستر سنودجراس بحرارة.

وأنشأ الشيخ يقول بسرور: «إنها على حق في نقطة واحدة على كل حال، وهي طلب الشراب، دقوا الجرس ليأتوا لنا بالنبيذ!»

وجاء النبيذ وجاء معه بركر في الوقت ذاته، وتناول المستر سنودجراس الطعام على مائدة جانبية، ولم يكد يأتي عليه حتى قرب مقعده من أميلي دون أدنى معارضة من الشيخ الكبير.

وكان المساء بديعًا، وبدا المستر بركر النحيل القصير صافي المزاج إلى حد عجيب، وأقبل يقص نوادر هزلية مختلفة ويغني أغنية جدية، لا تقل إثارة للضحك من أقاصيصه ونوادره، ولاحت أرابلا فاتنة، وظل المستر واردل ممازحًا مداعبًا، وكان المستر بكوك في أشد حالات الانسجام، بينما راح المستر بن ألن صخابًا يرسل الزئير إثر الزئير، كما لبث العاشقان صامتين، وانطلق المستر ونكل يكثر من الكلام، وظل السرور مرفوفًا بجناحيه فوق الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤