الفصل الثامن

شرح وافٍ للموقف، والتدليل على أن طريق «الحب الصادق» ليس «سكة حديدية».

***

كانت السكينة المخيمة على ضيعة «دنجلي ديل» المنعزلة، وكثرة أفراد «الجنس اللطيف» فيها، واللهفة والقلق اللذين أبدينه نحو المستر تراسي طبمن — عوامل اجتمعت لتنمية تلك الأحاسيس الرقيقة التي أنبتتها الطبيعة، وغرزتها في أعماق صدره، والتي تبيِّن الآن أنها قد قُدِّر لها أن تتركز حول شخص واحد محبَّب جميل …

لقد كانت الغيد الصغيرات مليحات، وآدابهن فاتنة، وأمزجتهن ومنازعهن مألوفة، لا شذوذ فيها ولا نبو عمَّا عُرِف من الأمزجة، وشوهد في مظهر العمة العانس شيء من اعتزاز واعتداد، وفي مثبيتها نذير يقول لك حذار من الاقتراب، وفي العين روعة لا تخلوها في أنضر أيامها حقًّا يميزها عن أية أنثى وقعت عليها عين المستر طبمن في يوم من الأيام، ولكن الجلي الواضح أنه كان بينه وبينها شيء من تماثل الطباع، وتوافق «الأرواح»، بل شيء من التشابه الغريب في العواطف والأحاسيس، وكان اسمها أول ما ارتفع إلى شفتيه وهو جريح مستلقٍ فوق الحشائش، وكانت ضحكاتها الهستيرية أول صوت طرق أذنه حين حُمِل إلى البيت، ولكن هل كان جزعها عليه راجعًا إلى «حساسية» محببة، ورِقَّة شعور لم يكن في الإمكان مغالبته أو كبته في أية حالة مماثلة، أو كان مبعثه شعورًا أقوى من ذلك أثرًا وإحساسًا أطغى من ذلك سلطانًا، شعورًا ليس في إمكان أحد من خلق الله أن يوقظه في نفس امرأة وصدرها؟

هذه هي الشكوك والهواجس التي ألحت على خاطره وهو راقد ممدَّد على الأريكة، بل هذه هي الشكوك والخوالج التي اعتزم أن يقطع فيها برأي في الحال، ويتخذ فيها قرارًا حاسمًا لا حول عنه إلى الأبد.

وكان الوقت مساءً، وقد ذهبت إيزابللا وإميلى تتمشيان مع المستر ترندل، واستولى النعاس على السيدة العجوز وهي في مقعدها، وغطيط الغلام البدين ينبعث رتيبًا خافتًا من المطبخ البعيد، والجواري البضَّات الغضَّات مسترخيات في مقاعدهن عند الباب الجانبي يستمتعن ببهجة المساء وفتونه، ولذة المغازلة «في غير إثم» مع بعض الفلاحين الملحقين بالمزرعة.

وفي خلوة جلس المستر طبمن والعمة العانس لا يعنى أحد بهما، ولا يعنيان بأحد، ولا يحلمان إلا بنفسيهما، بل هنالك جَلَسَا كزوج من قفاز مطوي، متلاصقين متجاورين.

وأنشأت العمة العانس تقول: «لقد نسيت أزهاري.»

وقال المستر طبمن بلهجة الحض والاحتثاث: «هيا نسقيها الآن …»

وقالت هي برثاء وتلطف: «أخاف عليك أن تُصَاب بالبرد من هواء المساء!»

قال وهو ينهض: «كلا … كلا … بل سيفيدني الخروج … دعيني أذهب معك.»

وتمهلت الغادة لتصلح من الرباط الذي علقت فيه ذراعه اليسرى، وتناولت ذراعه اليمنى، واقتادته إلى الحديقة.

وكانت ثمة خميلة في الطرف الأقصى منها تحوي عيدانًا من زهر العسل والياسمين والنباتات الزاحفة، وهي خلوة من تلك الخلوات الحلوة التي يبنيها البشر لسكنى العناكب.

وتناولت العمة العانس «رشاشة» كبيرة كانت ملقاة في ركن، وهمت بأن تغادر الخميلة لو لم يحتجزها المستر طبمن، ويجرها إلى مقعد قريب منه.

قال: «يا آنسة واردل.»

فارتجفت، حتى لقد وجدت حصوات في الأرض طريقها عرضًا إلى جوف الرشاشة؛ فاهتزت كما تهتز «شخشيخة» الوليد.

وعاد المستر طبمن يقول: «يا آنسة واردل … إنك لمَلَك كريم!»

وصاحت راشل، وقد احمرت وجنتاها احمرار لون «الرشاشة» ذاتها: «يا سيد طبمن!»

وقال ذلكم «البكوكي» البليغ: «أي والله … إنني أعرف ذلك حق المعرفة.»

غمغمت السيدة بدلال قائلة: «يقولون إن النساء جميعًا ملائكة!»

وأجاب هو قائلًا: «إذا صح ذلك، فماذا عسى أن تكوني «أنتِ» إذن، وبأي شيء يمكن أن أقارنك، في غير رياء أو ادعاء … أين تلك المرأة التي تُشبِهك … وأين أرجو أن أعثر على هذا المثال النادر من الإبداع والجمال مجتمعين … وأين تراني متلمسًا … أواه …» وتمهل المستر طبمن، وراح يضغط اليد التي أمسكت بمقبض الرشاشة السعيدة.

وأمالت السيدة برأسها إلى ناحية، وهمست في رفق قائلة: «يا للرجال من غشاشين!»

وصاح هو قائلًا: «إنهم لكذلك … إنهم لكذلك، ولكن ليس الرجال جميعًا بالخداعين، بل هناك على الأقل واحد لن يتغير أو يتحول … واحد يقنعه أن يكرِّس كل حياته لسعادتك … ولا يحيا إلا في عينيك، ولا يتنفس إلا في ابتسامتك، ولا يحمل عبء الحياة الفادح إلا من أجلك …»

وقالت السيدة: «أيمكن أن يكون لرجل كهذا وجود؟»

وأجاب المستر طبمن المتلهف مقاطعًا: «يمكن أن يوجد! … بل هو فعلًا موجود … إنه هنا يا آنسة واردل.»

وقبل أن تفطن إلى ما هو مُقدِم عليه، راح يجثو على ركبتيه عند قدمَيْها.

وأهابت راشل به: «يا مستر طبمن … انهض!»

وكان جوابه الجريء: «أبدًا … أواه … يا راشل!»

وأمسك بيدها المتراخية، فهوت الرشاشة إلى الأرض، في اللحظة ذاتها التي أدنى فيها يدها من شفتيه، وهو يغمغم قائلًا: «أي راشل، قولي إنك تحبينني.»

وأجابت العمة العانس مطرقة: «يا مستر طبمن، لا أكاد أقدر على قول هذه الكلمات … ولكن كل ما أستطيع أن أقوله هو أنك لست بالذي لا أهتم به.»

وما كاد المستر طبمن يسمع هذا الاعتراف، حتى أخذ يفعل ما يحث الانفعال الشديد على فعله، وما يفعله كل إنسان دائمًا إذا وجد نفسه في مثل هذا الموقف، وإن كنا نحن قليلِيْ المعرفة بهذه المسائل وأمثالها … لقد استوى واقفًا، وأحاط بذراعه جيد العمة العانس، وطبع على شفتيها عدة قبلات، تلقَّتْها بعد أن أظهرت طبعًا ما ينبغي إظهاره من المغالبة والمقاومة، بكل هدوء ورضى، لا ندري كم من عشرات القُبَل مثلها كان من المحتمل أن يطبعها المستر طبمن على شفتَيْها، لو لم تجفل السيدة إجفالة لا تصنُّع فيها، وتصرخ صرخة مروعة، قائلة: «يا مستر طبمن! إننا مراقبان … لقد اكتُشِف أمرنا!»

فتلفَّتَ المستر طبمن حوله، فرأى الغلام البدين واقفًا جامد الحركة، محملقًا بعينيه الكبيرتين المستديرتين في الخميلة، وإن لم يبدُ على وجهه أي انفعال ولا أقل تعبير، حتى ليعجز أقدر الخبراء بعلم الفراسة، عن تأويل ذلك بأن مرجعه إلى الدهشة، أو مرده إلى الفضول، أو إلى أية عاطفة أخرى من العواطف المعروفة التي تخالج صدور البشر.

ولبث المستر طبمن يجيل البصر في وجه الغلام البدين، وظل هذا يحملق البصر فيه، وكلما تبيَّن الفراغ المطلق في سحنة الغلام، ازداد اقتناعًا بأن الغلام إما أنه لا يعرف، أو لم يفهم شيئًا مما كان جاريًا أمام عينيه، ولهذا انثنى بعد هذا الاقتناع يقول بكل هدوء وثبات: «ماذا جئتَ تريد هنا يا سيدي؟»

figure
الغلام البدين يستيقظ …

فكان جوابه على الفور: «العشاء مهيَّأ يا سيدي.»

قال وهو ينظر إليه نظرة نفاذة: «هل أتيت هذه اللحظة فقط يا سيدي؟»

وأجاب الغلام البدين: «في هذه اللحظة ذاتها.»

وعاد المستر طبمن يحدجه بنظرة قاسية، فلم يلمح في عينيه غمزة، ولا اختلاجة في معارفه.

وتناول المستر طبمن ذراع العمة العانس، ومشى بها إلى البيت، وفي إثرهما انطلق الغلام البدين.

وهمس لها قائلًا: «إنه لا يعرف مما جرى شيئًا.»

وقالت العمة العجوز: «وهو كذلك.»

وسَمِعَا صوتًا من خلفهما يشبه صوت ضحكة مكبوتة، فالتفت المستر طبمن بسرعة، ولكنه لم يستطع أن يصدِّق أن هذا الصوت انبعث من ذلك الغلام، فلم تكن تبدو على وجهه بارقة من مرح، أو خالجة ضحك … ولكن كل وجهه ينمُّ عن اللهفة على الطعام.

وهمس المستر طبمن: «لا بد من أنه كان غارقًا في النوم.»

وأجابت العمة العانس: «لا شك عندي مطلقًا في ذلك.» وضحكا من أعماقهما.

ولكن المستر طبمن كان مخطئًا، فإن الغلام البدين لم يكن كما توهَّم غارقًا في النوم، بل كان يقظان صاحيًا، منتبهًا إلى كل ما جرى.

وانقضى العشاء دون أن يحاول أحد تجاذب أطراف الحديث، فأما السيدة العجوز فقد أوت إلى فراشها، ومضت إيزابيللا واردل تكرس نفسها للمستر ترندل خاصة، بينما خصت العمة العانس المستر طبمن بكل اهتمامها، وبدا على «إملي» الانشغال بشيء بعيد … لعل أفكارها كانت في إثر سنودجراس الذي لم يَعُدْ إلى الآن.

ودقت الحادية عشرة … والثانية عشرة … والواحدة بعد نصف الليل، ولما يصل السادة بعدُ، وبدأ الذهول يستقر على الوجوه كلها … أتراهم سطا اللصوص عليهم في الطريق، وهل يصح لهم أن يرسلوا بعض الخدم ومعهم المصابيح ليبحثوا عنهم في كل مكان يُرجح أنهم اتخذوا منه طريقهم إلى البيت، أم ينبغي … صه … ها هم أولاء قد وصلوا … يا عجبًا ما الذي أخَّرهم كل هذا الوقت … ها هو ذا صوت غريب لم تألفه الأسماع … لمَنْ يكون هذا الصوت؟ … وبادر القوم سراعًا إلى المطبخ حيث ترددت الجلبة وتعالت، فلم يلبثوا أن طالعتهم أكثر من لمحة من حقيقة الحال وواقعه.

فقد بدا المستر بكوك واضعًا يديه في جيبيه، وقبعته مرخية تمامًا على عينه اليسرى، وقد استند إلى «منضدة» المطبخ، وهو يهز رأسه من جانب آخَر، ويرسل فيضًا متتابعًا من ألطف وأرق الضحكات، بلا أقل سبب ظاهر أو باعث معقول، بينما راح المستر واردل، وقد احمر وجهه أشد الاحمرار، يمسك بكف سيد غريب، ويرسل فيضًا من عبارات الصداقة الأبدية، أما المستر ونكل فقد أسند ظهره إلى الساعة الأثرية، وأخذ يتوعد في كلام خافت متلعثم كل مَنْ يقترح عليه أن يأوي إلى فراشه، بتحطيم رأسه، بينما تهالك المستر سنودجراس على مقعد، وهو في أسوأ حال من التعب والعجز والسكر يمكن أن يتصورها الخاطر، وقد بدت بكل علاماتها وأماراتها في كل ناحية من معارف صفحته المعبِّرة.

وراحت السيدات الثلاث يسألن قائلات: «ما الخبر؟ هل من شيء يستوجب الاهتمام؟»

فأجابهن المستر بكوك قائلًا: «لا شيء … إننا كلنا … بخير … يا مستر واردل … ألسنا بخير؟»

وأجاب الرجل الممراح قائلًا: «أظن ذلك … يا عزيزاتي، أقدم إليكُنَّ صديقي المستر جنجل … صديق المستر بكوك، وقد جاء في زيارة قصيرة.»

وسألت إملي في قلق شديد: «هل من شيء أَلَمَّ بالمستر سنودجراس يا سيدي؟»

وأجاب الغريب: «لا شيء يستوجب الاهتمام يا سيدتي … عشاء بعد الكريكت … حفلة باهرة … أغانٍ «مفتخرة» نبيذ معتق … نبيذ جيد … جدًّا يا سيدتي … نبيذ …»

وغمغم المستر سنودجراس بصوت متقطع: «لم يكن النبيذ هو السبب … بل سمك السلمون …

وفي هذه الحالات لا يكون الذنب للنبيذ، ولكن الذنب للسلمون.»

وانثنت إملي تقول: «ألا يحسن أن يذهبوا إلى فراشهم يا سيدتي … وليحمل اثنان من الغلمان السيد إلى مخدعه …»

وقال المستر ونكل بعناد: «لن أذهب إلى الفراش.»

وقال المستر بكوك بقوة وجرأة، وهو لا يكُفُّ عن الضحك والابتسام: «لن يحملني في هذه الدنيا غلام …»

وقال المستر ونكل مخافتًا لاهثًا: «مرحى!»

وردَّد المستر بكوك الصدى بقوله: «مرحى!» ومضى ينزع قبعته عن رأسه، فألقى بها على الأرض، ورمى في جِنَّةٍ منظارَه في وسط المطبخ، وهو من هذه الفعلة المجونية ضاحك مقهقه.

وشرع المستر ونكل يصيح في نغمة عالية، ثم يخفضها: «لنشرب زجاجة … أخرى!»

وهوى رأسه إلى صدره، وتمتم مكررًا عزمته الغلابة على أن يظل ساهرًا، لا يأوي إلى فراشه، ويعبِّر عن أسفه الصادق على ما فرط منه في حق طبمن في الصباح، وهبط وادي الكرى سريعًا، فحمله وهو على هذه الحال إلى فراشه شابان عملاقان تحت إشراف الغلام البدين بنفسه، ولم يلبث المستر سنودجراس أيضًا أن ترك له العناية به، وتقبَّل المستر بكوك ذراع المستر طبمن المبسوطة إليه، وتوارى في هدوء، وهو أشد من قبلُ ابتسامًا، وأكثر ضحكًا، وأما المستر واردل فبعد أن ودَّع أفراد الأسرة كلها وداعًا أليمًا، كأنه قد أَمَرَ بأن يساق إلى المشنقة في الحال، ترك للمستر ترندل شرف حمله إلى الطبقة العليا من البيت، وأوى إلى فراشه بعد محاولة فاشلة في سبيل التظاهر بكل ما يقتضيه الوقار والجد.

وقالت العمة العانس: «يا له من منظر بشع!»

وقالت الفتاتان معًا: «ويثير الاشمئزاز …»

وقال المستر جنجل: «مخيف … مروع …» وهو يبدو رزينًا متَّزِنًا، وكان قد سبق صحابه بزجاجة ونصف زجاجة، ومضى يقول: «منظر شنيع … جدًّا …»

وهمست العمة العانس للمستر طبمن: «يا له من رجل ظريف!»

وهمست إيزابللا واردل كذلك: «جميل الملامح أيضًا.»

وقالت العمة العانس: «بلا شك.»

وتذكر المستر طبمن عندئذٍ واقعة الحال مع أرملة روشستر؛ فانشغل باله واضطرب خاطره.

ولم يُفِدْ الحديث الذي تلا ذلك، واستغرق نصف ساعة في تهدئة هواجسه.

وطفق الزائر الجديد يُكثِر من الكلام، ولم تكن حكاياته ونوادره ليفوقها شيء، غير أدبه الجم، ولطفه المتناهي، وأحس المستر طبمن أنه كلما ارتفعت مكانة «جنجل» في القلوب ارتدَّ هو إلى الظل، وفقد موضعه، فظل ضحكه مفتعلًا، ومرحه مصطنعًا، وحين وضع صدغيه أخيرًا بين أطواء لحافه وأغطيته، مضى يتصور في سرور شنيع مدى الاغتباط الذي كان يشعر به، لو أنه استطاع في تلك اللحظة أن يدسَّ رأس «جنجل» بين الفراش الريشي والحشية ليخنقه خنقًا.

واستيقظ الغريب — الذي لا يعرف الكَلَال، ولا ينتابه الإعياء — مبكرًا في الصباح، ولا يزال رفقاؤه في مراقدهم من أثر إفراطهم في الليلة البارحة، ومضى ينشط ويؤدي من الحركات الرياضية ما يزيد في بهجة مائدة الفطور ولذة الطعام، وكانت محاولاته وجهوده موفَّقة ناجحة إلى حد جعل السيدة العجوز الصماء تلح عليه أن يحكي لها نادرة أو نادرتين من أحسن نوادره من خلال جهاز سمعها، بل لقد تنزَّلت من عليائها لتقول للعمة العانس: إنه — أيْ «جنجل» — فتى جسور لا يعرف الحياء … وهو رأي وافقت عليه كل ذوات قرباها الحاضرات، وأقررنه على الأثر.

وكان من عادة السيدة العجوز في كل صباح صافٍ في فصل الصيف أن تذهب إلى الخميلة، التي كان السيد طبمن قد انكشف فيها أمره، وقد بدأ الغلام البدين بإحضار قبعة صغيرة من الحرير الأسود اللون، كانت معلقة في مشجب خلف باب مخدع السيدة العجوز، ثم جاء بلفاعة كثيفة من القطن، وعصا غليظة ذات مقبض كبير، وما أن وضعت السيدة العجوز القبعة على رأسها، وتلفت بلفاعتها على مهل، واتكأت على العصا بإحدى يديها، وبالأخرى استندت إلى كتف الغلام البدين، ومشت الهوينى إلى الخميلة، حيث اعتاد الغلام أن يتركها لتستمتع باستنشاق النسيم العليل نصف ساعة أو نحوه؛ فيعود أدراجه إليها، ويسير بها عائدة إلى البيت.

وكانت السيدة العجوز دقيقة في ملازمة هذه العادة، ومعنية بكل دقائقها وجزئياتها، وقد انفرطت ثلاثة أعوام متوالية، وهي في كل صيف تجري عليها، فلم تنحرف يومًا أقل انحراف عن شيء منها، فلا عجب إذا هي أحست ببعض الدهشة في ذلك الصباح بالذات حين رأت الغلام البدين لم ينصرف من الخميلة، بل خطا بضع خطوات، ثم تلفت بحذر حوله في كل ناحية، وعاد يمشي نحوها مختلسًا الخطى في شكل يثير أشد العجب.

وشعرت السيدة العجوز بوجل … وأوجست خيفة — وكل العجائز أبدًا موجسات — وكان أول خاطر تبادر إلى ذهنها أن الغلام المتورم يريد أن يمسها بأذى بالغ لينتزع النقود الصغيرة التي لديها، وكانت توشك أن تصرخ طالبة النجدة، لولا أن الكبر والعجز قد أفقداها من زمن بعيد القدرة على الصراخ، فقنعت بمراقبة حركاته، وهي في رعب شديد لم يلبث أن ازداد حين رأته يقترب كثيرًا منها، ويصيح في أذنها بلهجة مضطربة، وإن بدت لها هي متوعدة مهدِّدة: «… يا سيدتي …!»

واتفق في تلك اللحظة أن كان المستر جنجل يتمشى في الحديقة بجوار الخميلة، فسمع صيحة الغلام لها، فوقف ليستمع إلى مزيد، وكانت لوقوفه واستراقه السمع ثلاثة أسباب، أولًا: أنه كان خاليًا من كل عمل، وفضوليًّا. وثانيًا: أن مثله لا يعرف التردد مطلقًا، ولا وخز الضمير. وثالثًا وأخيرًا: أنه كان في خفية عن الأنظار خلف بعض الزهر وقصار الشجر.

هنالك وقف … وهنالك أرهف السمع.

وعاد الغلام البدين يصيح: «يا سيدتي!»

فأجابت السيدة العجوز وهي راجفة: «إيه يا جو … لقد كنتُ لك يا جو سيدة كريمة حانية، وقد أحسنتُ إليك أبدًا، وأكرمت مثواك، ولم تُكلَّف يومًا بعمل يفدحك، وكان لك من الطعام القسط الوفير.»

وكانت هذه العبارة الأخيرة مناشدة منها لأشد حواس الغلام البدين تأثرًا، فبدا ذلك عليه، فراح يجيب مؤمنًا عليها: «أعرف ذلك حقًّا …»

وانثنت العجوز — وقد استردت بعض الشجاعة — تقول: «إذن ماذا تريد أن تفعل الآن؟»

قال: «أريد أن أجعل بدنك يقشعرُّ …!»

وبدا هذا القول منه تعبيرًا عن عرفانه للجميل شبيهًا بتعبير إنسان متعطش للدم، فلم تفهم السيدة العجوز تمامًا ما هي الوسيلة التي يريد أن يستعين بها للوصول إلى هذه النتيجة، وعاودها رعبها السابق.

وراح الغلام البدين يسألها قائلًا: «ماذا تظنين أني رأيته في هذه المظلة الليلة البارحة؟»

قالت وهي فزعة من هذه اللهجة الجديدة، التي اتخذها ذلك الغلام السمين: «يا ويحي … ماذا رأيت؟»

قال مترددًا: «السيد الغريب … الذي جُرِحت ذراعه … وهو يُقَبِّل ويحتضن …»

فعاجلته مقاطعة: «مَنْ يا جو …؟ أرجو أن لا تكون خادمًا من خدم البيت.»

وزأر الغلام البدين في أذن العجوز: «بل شر من ذلك وأدهى!»

قالت: «أإحدى حفيداتي …؟»

قال: «أسوأ من ذلك وأدهى!»

قالت وقد ظنت ذلك أقصى حدود الفظاعة البشرية: «أتقول: شر من ذلك وأدهى؟ … مَنْ تكون إذن … يا جو؟ … أصرُّ على أن أعرف.»

فتلفت الغلام البدين بحذر حوله، وراح يصيح بعد أن انتهى من الحيطة واطمأن: «مس راشل.»

وعندئذٍ صرخت السيدة العجوز بصوت صافر قائلة: «من هي؟ ارفعْ صوتك قليلًا.»

وصرخ الغلام البدين في أذنها: «مس راشل!»

قالت: «ابنتي!»

وراحت الإيماءات المتتابعة التي أومأها الغلام اللحيم، يعبِّر بها عن الموافقة، تحيل خدَّيْه السمينين أشبه بالفالوذج المترجرج.

وعادت السيدة العجوز تقول: «وهل كانت راضية منه بما فعل؟»

وقال الغلام البدين، وقد تسلَّلت بسمة مومضة إلى قسمات وجهه: «لقد رأيتها هي أيضًا تُقَبِّله!»

ولو استطاع المستر جنجل من مخبئه أن يشهد وجه السيدة العجوز، وما علاه في تلك اللحظة عند سماعها هذا النبأ؛ لَانفجرت منه على الأرجح ضحكة مدوية تنمُّ عنه، وتكشف عن مختبئه بجوار تلك العريشة، ولكنه ظل مصغيًا مرهفًا أذنيه، فسمع عبارات متقطعة كقولها: «بدون إذني … وفي هذه السن التي وصلت إليها … وأنا عجوز مدبرة … كان أولى بها أن تنتظر حتى أموت …» وعندئذٍ سمع مواقع حذاء الغلام البدين، ومواطئه فوق الحصباء، وهو منصرف تاركًا السيدة العجوز وحدها.

ولعل من أعاجيب المصادفات — وإن كان هو الواقع — أن المستر جنجل كان بعد خمس دقائق من وصوله إلى «ضيعة مانور» في الليلة الماضية قد اعتزم في أعماق نفسه أن يضرب حصارًا في الحال حول قلب تلك العمة العانس، فقد كان له من الفطانة ما يكفي لكي يتبين أن طريقته المرتجلة كانت مستحبَّة لدى موضع هجومه، ومركز حصاره، وكان يساور نفسه شيء أقوى من مجرد الظن أنها تملك أحب ما يُقتنَى في هذه الدنيا، وأعز ما يُملَك … وهو … المال … فلم تلبث أن خطرت له فكرة العمل السريع المُلِحِّ على إزالة منافسه من طريقه بأية وسيلة، فاعتزم في الحال اتخاذ خطط معينة تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، دون إضاعة لحظة واحدة، وقد رأينا فيلدنج١ يقول لنا: إن مثل الرجل كمثل نار، والمرأة كمثل قطعة صوف، وإن أمير الظلام — أيْ إبليس — هو الذي يحكمها فيحدث ضوءًا، ويبعث وهجًا. ولم يكن يخفى على المستر جنجل أن الفتيان للعمات العوانس كالغاز المستعمل للبارود، فانتوى أن يبادر إلى تجربة مدى الانفجار وأثره.

ومضى في زحمة نفسه بالأفكار والخواطر، بعد هذا القرار الخطير الذي اتخذه، يتسلل من مخبئه متسترًا بالشجر، حتى اقترب من البيت، والظاهر أن الحظ كان له حليفًا، فقد تبيَّن أن المستر طبمن والسادات الآخرين قد غادروا الحديقة من الباب الخلفي في تلك اللحظة بالذات التي دخلها فيها، وعرف أن الفتاتين قد خرجتا وحدهما، عقب تناول الإفطار مباشرة، وأن الجو خالٍ، والظروف مواتية.

ورأى باب قاعة الإفطار مفتوحًا قليلًا فأطلَّ منه، فوجد العمة العانس تغزل، فسعل، ورفعت بصرها إليه وابتسمت، ولم يكن التردد من خُلُقه، فوضع أنملته فوق شفتيه بشكل غامض وحركة مجهولة، وتقدَّم فأغلق الباب.

قال في جد مصطنَع: «اغفري لي يا مس واردل تطفُّلي على قِصَر العهد بتعارفنا … لا متسع من الوقت للكلفة … لقد اكتشفتُ الأمر كله.»

وقالت العمة العانس بشيء من الدهشة لمباغتته، وظهوره على تلك الصورة الفجائية، وبعض الشك في سلامة عقله: «سيدي!»

قال وهو يهمس همسة مسرحية: «صه … الغلام البطين … ذو الوجه الطري كالفطير … المستدير العينين … الوغد الأثيم …»

وهنا هز رأسه هزة معبرة، فاضطربت العمة العانس، وتولاها الوجل.

قالت وهي تحاول جاهدة اصطناع الهدوء: «أظنك تقصد جوزف يا سيدي؟»

قال: «نعم … هو جو ذلك اللعين … ذلك الكلب الضخم جو … لقد أبلغ السيدة الكبيرة … السيدة الكبيرة مغضبة … حانقة … هاذية … العريشة … طبمن يُقَبِّل ويحضن … وكل الأشياء التي من هذا القبيل … إيه … يا سيدتي … إيه!»

قالت: «إذا كنتَ قد أتيتَ إلى هنا يا مستر جنجل لتهينني …»

وأجاب جنجل الصفيق: «لا إطلاقًا … بتاتًا … لقد سمعت القصة … جئتُ لأحذرك من الخطر … أقدِّم خدماتي … لأمنع الثرثرة … لا بأس … ظُنِّيها إهانة … سأغادر الحجرة.»

واستدار كأنما يريد أن ينفذ وعيده.

فانفجرت العمة العانس باكية وهي تقول: «ماذا أفعل؟ إن أخي سيغضب، وسيشتد حنقه.»

وقال المستر جنجل: «بالطبع سيغضب …» وتمهل هنيهة، ثم عاد يقول: «بل سيتهيج، ويحنق لعرضه.»

وصاحت العمة العانس في نوبة أخرى من اليأس: «أواه يا مستر جنجل، ماذا يمكن أن أقوله له؟»

قال بكل برود: «قولي: إن الغلام البدين كان يحلم.»

فلم تكد تسمع هذا الاقتراح حتى خطف شعاع من أمل في خاطرها، ولاحظ المستر جنجل ذلك، فاستغله لمصلحته فاستتلى قائلًا: «ما أسهل هذا وما أيسر! … غلام خبيث … امرأة جميلة … الغلام البدين سوف يساط … وتنتهي الحكاية … بسلام.»

ولسنا ندري هل سَرَّ العمة العانس رجحان كفة نجاتها من عواقب هذا الاكتشاف الذي حدث في أسوأ الأوقات، أو خفَّف وصفه لها بقوله: «امرأة جميلة» من حدة غمِّها، ولكنا نعلم أنها شعرت بشيء من الخجل، وراحت تلقي على المستر جنجل نظرة شكر، ورنوة عرفان.

وتنهَّد ذلك السيد الذي أوحى بالفكرة، وأرسل زفرة من أعماقه، ونظر مليًّا إلى وجه العمة العانس، وأجفل إجفالة مسرحية، ثم استرد عينيه فجأة.

وقالت العمة العانس في نغمة حانية: «يلوح لي يا مستر جنجل أنك لست سعيدًا، فهل تسمح لي بأن أبدي لك عرفاني لتدخلك الكريم، بأن أسأل عن سبب حزنك، والعمل إذا أمكن على إزالته.»

فأجفل المستر جنجل إجفالة أخرى وقال: «ها … إزالته … إزالة حزني … وأنت تخلعين حبك على رجل لا يدرك هذه النعمة، ولا يقدِّرها حق قدرها … رجل يفكر الساعة في كسب رضى ابنة أخي … الإنسانة التي … ولكن لا يصح لي أن أتكلم … إنه صديقي … ولست أريد أن أكشف النقاب عن مساوئه … يا مس واردل … وداعًا!»

ولم يكد يتم كلماته هذه، وهي الكلمات الوحيدة المتصلة المتتابعة التي عُرِف يومًا عنه أنه فاه بها، حتى رفع إلى عينَيْه بقايا منديل لاحظناه من قبلُ، والتفت ناحية الباب.

وأهابت به العمة العجوز: «قِفْ يا مستر جنجل، لقد لمَّحت عن المستر طبمن تلميحًا معيَّنًا، فاشرحه.»

قال بلهجة المحترفين — أيْ الممثلين: «أبدًا … أبدًا …» ولكي يُظهِر أن لا رغبة له في أن يُسأَل سؤالًا آخَر، راح يسحب كرسيًّا، ويدنيه من مجلس العمة العانس، ويستوي فوقه.

وقالت العمة العانس: «أتوسل إليك يا مستر جنجل وأتضرع … إذا كان هناك سر مخيف يتصل بالمستر طبمن … فاكشفه.»

فألقى بنظره على وجه العمة، وأنشأ يقول: «وهل أستطيع … هل أستطيع أن أرى … مخلوقة محبَّبة … تقدم على مذبح … الجشع المجرد من الإحساس؟»

وتظاهر بأنه يغالب عدة انفعالات متعارضة بضع لحظات، ثم انثنى يقول بصوت خافت أجش: «إن طبمن لا يريد منك إلا … مالك!»

فصاحت العانس بغضب شديد قائلة: «يا له من وغد!»

وهنا تبددت شكوك المستر جنجل … لقد عرف أنها تملك مالًا … فاسترسل يقول: «وفوق هذا يحب أخرى.»

وصاحت العانس: «أخرى … ومن تكون؟»

قال: الفتاة القصيرة … ذات العينين السوداوين … ابنة الأخ … إملي.»

وساد سكون …

ولو أن في العالم كله إنسانًا واحدًا كانت العمة العانس تكِنُّ له كراهية مميتة، وتطوي الجوانح على غيرة متأصلة منه، لكان هذا الإنسان هو ابنة الأخ تلك بالذات، فلا عجب إذا تغيَّر في الحال وجهها، وغمر الاحمرار عنقها، وراحت تطوح برأسها في صمت واحتقار يفوق كل وصف.

وأخيرًا أنشأت تقول، وهي تعض شفتيها، وتكبح جماح حقدها: «هذا لا يمكن، لا أصدق!»

قال: «راقبيهما.»

قالت: «سأفعلن.»

قال: «وراقبي نظراته.»

قالت: «إني لفاعلة.»

– «وهمساته.»

– «سأفعل.»

– «وسيجلس بجانبها إلى المائدة.»

– «فَلْيجلس.»

– «وسيتملقها.»

– «ليتملقها؟»

– «وسيبدي لها كل عناية ممكنة.»

– «دَعْهُ.»

– «وسيجفوك.»

وهنا صاحت العمة العانس قائلة: «يجفوني … يجفوني، وهل تراه فاعلًا؟» ورجفت من شدة الغيظ، وخيبة الأمل.

قال: «وستقتفين نفسك بنفسك.»

قالت: «لأفعلن.»

قال: «وهل ستظهرين له روحك؟»

قالت: «وإني لفاعلة.»

– «ولن تكون لك به صلة بعد ذلك.»

– «أبدًا.»

– «وستتقبلين أحدًا آخر …»

– «نعم.»

– «حقًّا.»

وراح المستر جنجل يجثو عند قدميها، ولبث طويلًا في جثوته، حتى نهض حبيبًا مقبولًا عند العمة العانس على شرط واحد … وهو أن تظهر خيانة المستر طبمن جلية واضحة.

وكان عبء الإثبات من واجب المستر الفرد جنجل، فمضى يبرز الدليل في ذلك اليوم بالذات على مائدة الغذاء.

وكادت العمة العانس لا تصدِّق عينيها، حين رأت المستر تراسي طبمن يجلس بجانب «إملي» يرنو إليها، ويهمس ويبتسم؛ «إغاظة» في المستر سنودجراس، فلم يوجِّه كلمة ولا نظرة، ولا رنوة واحدة إلى التي كانت موضع معزَّته وحبه في المساء المنصرم.

وجعل المستر واردل يقول لنفسه: «لعنة الله على ذلك الغلام، لقد سمع هذه القصة من أمه … لعنة الله عليه … كان نائمًا بلا شك … ذلك كله من نسج الخيال.»

وكانت العمة العانس في تلك اللحظة ذاتها تقول لنفسها: «يا للخائن! لم يخدعني المستر جنجل العزيز … أوه، كم أنا لذلك الشقي الأثيم كارهة!»

ولعل في الحديث الذي نحن هنا مورِدوه شرحًا كافيًا لسِرِّ هذا التحول الغريب في ظاهره، الذي بدا من جانب المستر تراسي طبمن.

كان الوقت مساءً، والمنظر في الحديقة، وكان هناك شبحان يسيران في طريق جانبي، أحدهما أميل إلى القِصَر والبدانة، والآخَر أدنى إلى الطول والنحول، وكان الرجلان هما المستر طبمن، والمستر جنجل.

وبدأ الرجل البدين الحوار.

قال: «لست أدري كيف فعلت ذلك؟»

وأجاب الآخَر: «بديع … مفتخر … لو كنت في مكانك لما فعلت أحسن من ذلك، ولا أفضل … لتكرر الدور عينه غدًا … وفي كل مساء … إلى حين صدور تعليمات أخرى.»

قال: «وهل تريد راشل مني أن أثابر؟»

قال: «بالطبع … وإن كان ذلك على الرغم منها … ولكن لا بد مما ليس منه بد … لتحويل الأنظار … وإزالة الشبهات … خائفة من أخيها … تقول: إنه لا حيلة غير ذلك … وإنه يستمر عدة أيام قليلة لا أكثر … وعندما تعمى أبصار الكبار في السن هنا … تقدم فتوج سعادتك بأكاليل الانتصار.»

قال: «أَوَلم تحملك إليَّ رسالة ما؟»

قال: «حب. أعز الحب وأغلاه، أزكى التحيات … وفاء ثابت لا يتغير … فهل أقول لها عنك شيئًا؟»

قال: «لا شيء سوى أن تبيِّن لها كم أني مشوق متلهف للخطة التي أستطيع فيها أن أدعوها «مليكتي»، ولا تبقى ضرورة لكل هذا التصنع والرياء.»

قال: «بلا شك … بلا شك … لديك مزيد أحمله إليها؟»

وهنا تناول المستر طبمن المسكين يد صاحبه، وهو يقول: «أواه يا صديقي … لك مني أصدق الشكر على كريم عطفك المبرأ من الغرض، واغفر لي إنْ كنت قد ظلمتك، ولو كان ذلك الظلم مجرد تفكير مرَّ بخاطري؛ فظننتك مزاحمي، أو قائمًا في طريقي … أيها الصديق العزيز، هل يتاح لي يومًا أن أرد إليك هذا الجميل؟»

فأجاب المستر جنجل قائلًا: «لا تتكلم عن ذلك، ولا تتحدث.» وأمسك عن القول كأنما تذكَّر شيئًا فجأة، ثم مضى يقول: «والشيء يُذكَر بالشيء … هل معك عشرة جنيهات أنت في غنى عنها؟ … لي غرض معين أريد تنفيذه … وسأردها إليك في غضون ثلاثة أيام.»

وقال المستر طبمن من صميم قلبه: «أظن معي … أَقلت بعد ثلاثة أيام …»

قال: «بعد أيام ثلاثة ليس أكثر … انتهى كل شيء على ما يرام … لا حوائل أخرى، ولا صعاب.»

ومضى المستر طبمن يعد النقود في كف صاحبه، وجعل هذا يدسها قطعة قطعة في جيبه، وهما يسيران صوب البيت.

وقال جنجل: «حذار … ولا نظرة واحدة.»

وأجاب المستر طبمن: «ولا رنوة حتى.»

– «ولا مقطعًا من كلمة.»

– «ولا همسة هامس.»

قال: «بل ليكن كل اهتمامك منصرفًا إلى بنت الأخ … وأَظْهِرْ بعض الجفوة للعمة على الأقل … على سبيل تضليل العجائز الآخرين.»

قال بصوت مرتفع: «سأحاذرن.»

وقال المستر جنجل في نفسه: «وسأحاذر أنا أيضًا.» ودخلا البيت.

وتكرر مشهد ذلك الأصيل في ذلك المساء، والأصائل والليالي الثلاث التالية، حتى إذا كان مساء اليوم الرابع، بدا رب الدار منشرح الصدر رائق المزاج؛ إذ اقتنع أن ما ادُّعِي على المستر طبمن لا أساس له، كما كان هذا الأخير مغتبطًا راضيًا؛ لأن المستر جنجل أبلغه أن مسألته لا تلبث أن تنتهي، وكذلك بدا المستر بكوك، وهو قلما يبدو عكس ذلك، والمستر سنودجراس أيضًا؛ لأنه بدأ يغار من المستر طبمن، والسيدة العجوز؛ لأنها كسبت في لعبة «الويست»، وبالمثل كان المستر جنجل ومس واردل؛ لأسباب ذات بالٍ فيما يتصل بهذا التاريخ المليء بالأحداث، حتى يصح أن نُفرِد لشرحها الفصل التالي.

١  كاتب إنجليزي معروف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤