الفصل الرابع والثلاثون

هجوم الحلفاء الأخير في البلقان

وتسليم بلغاريا وتركيا والنمسا

في أوائل شهر أكتوبر سنة ١٩١٥ نزل جيش فرنسوي وبريطاني في سلانيك، وزحف شمالًا للاتِّصال بالجيش السربي ومساعدته على ردِّ غارة الجيوش البلغارية والنمسوية والألمانية والتركية التي تألَّبتْ عليه، ولكنَّه إذْ لم يتمكَّن من ذلك عاد أدراجَه إلى سلانيك، حيث انضمَّتْ إليه نجدات إيطالية وروسية، وأخذ يُعنَى بنقْل فلول الجيش السربي من كورفو إلى سلانيك، ويجدُّ في إعادة تنظيمه وتسليحه وإعداده إلى حين الحاجة، وما لبث أن تقدَّم شمالًا واستَوْلى على موناستير وما حولها.

وكانتْ حكومة اليونان قد وعدتِ الحلفاء بلسان كبير وزرائها فنزيلوس أن تشدَّ أزرهم في الغارة على غاليبولي، فعارَضَ ملكُها قسطنطين في ذلك واضطرَّ وزيره إلى الاستعفاء، ثمَّ مثَّل هذه الرواية عينها يوم دخول بلغاريا في الحرب مع ألمانيا، فخذل حليفتَه السرب ونكث بعهد حكومته لها، واضطر فنزيلوس إلى استقالة منصبه مرة ثانية. وفي ٢٦ سبتمبر سنة ١٩١٦ غادر فنزيلوس أثينا ومعه بعض كبار القوَّاد والضُّبَّاط والأعوان إلى كريت وغيرها من الجزر اليونانية. ومن ذلك الحين تألَّفتْ لجنة الدفاع الوطني، وجاهرتْ بانفصالها عن حكومة الملك في أثينا، وأخذتْ هذه النهضة تمتدُّ في الجزر وسلانيك، حيث ألقى فنزيلوس وأعوانه عصا ترحالهم، ثمَّ امتدَّتْ إلى الأسطول، وانحازتْ بعض بوارجه إلى أسطول الحلفاء، وأخذ جيش الدفاع الوطني في سلانيك ينمو ويزيد.

وكانتْ حكومة أثينا في هذا الوقت لاهية بتغيير الوزارات، وهي بين يدي الملك كريشة في مهبِّ الريح طائرة.

وفي ١٢ أكتوبر سلَّمتْ إلى الحلفاء — بناءً على بلاغ أمير البحر درتيج فورنيه — معظم بوارج أسطولها، وأجابتْ بعض المطاليب الأخرى، واعترفتْ دول الحلفاء بالحكومة اليونانية المؤقَّتة التي أنشأها فنزيلوس في سلانيك، وعزَّز الحلفاء الحاميات البحرية التي أنزلوها في بيريه وأثينا، وتدرَّجوا في التشديد على الملك قسطنطين، ثمَّ طلبوا في ٢٢ نوفمبر إخراج معتمدي ألمانيا وحليفاتها وتسليم عدد كبير من المدافع والبندقيات والقنابل وغيرها من المعدَّات الحربية.

وفي أول ديسمبر نزلتْ فصائل من جنود الحلفاء إلى أثينا فانقضَّ عليها الجنود، وجرَتْ معركةٌ بين الفريقين، قُتِل وجُرِح فيها من جنود الحلفاء نحوم مائتين، واسترجع الأميرال فورنيه الفصائل التي نزلتْ، واشتدَّ اضطهاد حزب الملك في أثينا لأنصار فنزيلوس. وفي ١٢ منه أعلن الحلفاء حصر بلاد اليونان، وأرسلوا بلاغًا نهائيًّا إلى حكومتها طالبين إخراج جيشها من تساليا، ونقل جانب منه إلى المورة، وتسليمهم إدارة سكة الحديد والتلغراف والبريد؛ فأجابتْ طلبهم.

وفي ١١ يونيو سنة ١٩١٧ تعيَّن المسيو جونار مندوبًا ساميًا لدول الحلفاء في بلاد اليونان، فأبلغ حكومتها وجوب تنازل الملك قسطنطين لِمَن شاء مِن بَنِيه ما عدا وليَّ العهد، فتنازَلَ لابنه الثاني الأمير إسكندر، وبرح أثينا في ١٥ منه إلى سويسرة؛ فرُفِع الحصار البحري، واستؤنفتِ الملاحةُ، وعادتِ الأمور إلى مجاريها. وفي ٢٨ منه ألَّف فنزيلوس الوزارة وتقلَّد رآستها ووزارة الحربية، وفي ٢٩ منه قطعتِ اليونان علاقاتها مع ألمانيا وحلفائها، واستدعتْ مندوبيها من عواصم بلدانهم، وفي ١٠ يوليو رجع المسيو جونار إلى فرنسا.

كان جيش الحلفاء في البلقان قد استَوْفَى حاجتَه من العَدد والعُدد، وانضمَّ إليه جانبٌ من الجيش اليوناني، وأُسنِدت قيادته العليا إلى الجنرال فرنشه دسبري خلف الجنرال سرايل، فشرع في هجومه الأخير يوم ١٨ سبتمبر — أي يوم شروع الجنرال أللنبي في تحرير سورية — وأخذ يدفع أمامَه صفوف البلغاريين والنمسويين والألمانيين شمالًا وشرقًا وغربًا، واستردَّ مكدونية الشرقية ومعظم بلاد السرب، واجتازتْ طلائع الحلفاء حدود بلغاريا، وحينئذٍ لم ترَ حكومتها بُدًّا من التسليم، فألْقَتْ سلاحَها وسلَّمتْ بلا شرط ولا قيد، وأُمضيتِ الهدنة معها في ٣٠ سبتمبر، وحَذَتْ تركيا حذْوَها فسلَّمتْ تسليمها، وأُمْضيتْ معها الهدنة في ٣١ أكتوبر.

ثمَّ واصل الجيش الفاتح تقدُّمَه شمالًا وغربًا، وهو يطارد فِرَق النمسويين والألمانيين ويمزِّق شملها، وقد قطعت طلائعُ السربيين مائة وستين كيلومترًا في ٨ أيام، وفي ٣ نوفمبر دخل الجيش السربي بلغراد.

وفي ١٤ أكتوبر استأنف الإيطاليون هجومهم بمؤازرة الفرنسويين والبريطانيين، وأخذوا يكرُّون على النمسويين ويُجلُونهم عن الحصون والمواقع، فأخرجوهم من إيطاليا واقتفَوْا آثارهم في أرض النمسا، واحتلُّوا تريستا وترنت وأوديني وغيرها، وأسروا منهم نحو أربعمائة ألف أسير، وغنِموا نحو ستة آلاف مدفع ميدان.

وحينئذٍ رأتْ حكومة النمسا أنَّ بناء إمبراطوريتها الضخم يتداعَى وينهار، وعِقْد اتِّحاد ولاياتها آخِذٌ في الانفراط والانتثار، ولم يَبْقَ لها أقلُّ أمل بما علَّلتْ به نفسها من الفوز والانتصار؛ فسلَّمتْ تسليم بلغاريا وتركيا بلا شرط ولا قيد، وأُمضِيتْ معها الهدنة يوم ٣ نوفمبر.

ومِن غريب الاتفاق أنَّ هذه الحرب انتهتْ من حيث ابتدأتْ، فمِن البلقان امتدَّتْ وانتشرتْ، ومن البلقان أخذتْ رِيحُها في الركود، ونارُها في الخمود.

طارتْ شرارتها من البلقانِ
وذَكت فعمَّت سائر البلدانِ
وقد انتهت منه كما ابتدأتْ به
فشُبُوبُها وخمودها سيَّانِ
لولا تصدِّي الترك لانطفأتْ على
عجلٍ ولم تشتدَّ في الثورانِ
لكنها بدخولهم بلغتْ مَدى
خمسين شهرًا فوقها شهرانِ
منعوا به عن روسيا الحلفا ولم
يكُ صرف هذا المنع في الإمكانِ
وجرَتْ على آثارهم بلغاريا
منضمَّةً معهم إلى الألمانِ
ولنصرة الحلفا انبرتْ رومانيا
وتأهَّبت للكرِّ في الميدانِ
لكنها ما أبطأتْ أنْ أحجمتْ
عنه تجرُّ ذلاذل١ الخذلانِ
واستأثر الألمانُ بالبلقان لم
يستنجِ٢ مِن يدهم سوى اليونانِ

•••

في الظَّاهر الْتَزموا الحيادَ وميلُهم
سرًّا إلى الألمان في رجحانِ
ولوَ انَّهم مُنِحوا الخيارَ لجاهروا
في الانضمامِ لهم بغير توانِ
لكنهم وبلادهم في قبضة الـ
ـحُلفا استخاروا خطة الكتمانِ
وجَرَوْا عليها منذُ شهرِ الحربِ لم
يألوا ولا كفُّوا عن الروغانِ
يترسَّمون خُطى المليكِ كأنَّما
في الأرض قسطنطينُ ربٌّ ثانِ
فجنى عليهم أن طحا بقلوبهم
ميلًا إلى «غليوم» أكبرِ جانِ
والناسُ في الدنيا كما قالوا على
دِين المَلِيك ومذهب السلطانِ

•••

بإشارة ابن حميهِ طاح بشعبهِ
في مقفرات الغيِّ والزَّيغانِ
ونسُوا يدَ الحلفا على اليونان والـ
إنسانُ مطبوعٌ على النسيانِ
لولا وزيرُهم الحكيمُ لأَوْغَلوا
في الكفر والإنكار للإحسانِ
«فنزيلس» الرجل الذي لبلاده
هو شائدٌ صرحَ العلاء وبانِ
كم واحد في الناس يسوَى أُمَّةً
كم أُمَّةٍ لم تسوَ مِن إنسانِ
وكفى بني اليونان فخرًا أنه
من شعبهم فنزيلس اليوناني
متفرِّدٌ بنزاهةٍ وعزيمةٍ
ذكراهما موضوع كلِّ لسانِ
وبحبه لبلاده شَغِفٌ وللـ
ـحلفاء في إخلاصِه متفانِ

•••

لو أنَّ «قسطنطين» راعى عهده
للسربِ يوم كريهةٍ وطعانِ
لم ينشبِ البلغار مخلبَ غدْرِهم
فيها ولم تصلَ لظى العدوانِ
لكنه عنها تخلَّف وهْي في
برُحائها جَهْدَ٣ البلاءِ تعاني
وبرأيِ مُرْشِده استخفَّ محذِّرًا
إياهُ شرَّ مغَبَّةِ العصيانِ
وله انبرى في الدردنيل معارضًا
فيما أراد فكان عنه الثاني٤
ونهاهُ عمَّا رامَ يوم غلبُّلي
فنأى عن الحلفاء نصرٌ دانِ
لم يألُ جهدًا أن يُعرقِلَ كلَّ ما
قصرُوا عليه السعيَ في البلقانِ
وعلى جنودهمُ اعتدى إذْ دارَه
وَطِئُوا وظنُّوا أنهم بأمانِ
حتى أتَوْهُ بغير ما يؤُتى به
أمثاله من صاحبي التيجانِ
وارتدَّ عنه وزيره ولأمرهِ
قد كان حتى الآن أكبر عانِ
وبخلعهِ صدَرَ القرارُ موقَّعًا
من مجلس الحلفا العظيم الشانِ
وأُقِيلتِ اليونانُ عثرتَها بهِ
وتبرَّأت من تهمة الشنآنِ٥
وجنودها انضمَّت إلى الحلفاء في
خوضِ الوغى المشبوبةِ النيرانِ

•••

واعتدَّ للحلفاء ثَمَّ جحافلٌ
من نخبة البُسَلاء والشجعانِ
ولَّوْا عليها «دسبري» البطل الذي
جلَّى بحنكته على الأقرانِ
فسطا وصال على بني النمسا وفي الـ
ـبلغار أثخن أيَّما إثخانِ
وعلى جناحَيْهم ضراغمُ سربيا
في الكرِّ ينقضُّون كالعُقبانِ
وعلى فلول بني فيِنَّا وصوفيا
كالأُسد واثبةً على القُطْعانِ
نثروا عقودَ جموعهم فتفرَّقوا
وتشتَّتوا في البِيدِ والقِيعانِ
فعنَتْ لهم بلغاريا ورجالُها
خرُّوا لدى الحلفا إلى الأذقانِ
وتضعضعُ البلغار في ألمانيا
هالَ القلوب وطاحَ بالأذهانِ
لم يهوِ هذا الركن من بنيانها
إلَّا تداعتْ سائر الأركانِ
والترك دانوا واحتذَوْا بلغاريا
وتقفَّتِ النمسا بني عثمانِ
وتلفَّتتْ ألمانيا فإذا بها
في عزلة المجذومِ والجربانِ
بالأمس كانتْ حولها أعوانُها
واليوم قد أمستْ بلا أعوانِ
وليوث «فوش» مثيرةٌ في جيشها التـ
ـفريق بين الهام والأبدانِ
تحتثُّ في تمزيقهم وتُذِيقهم
هولًا يُشيبُ مفارقَ الوِلدانِ
وعليه لم ترَ عندها بُدًّا من التـ
ـسليم للحلفاء والإذعانِ

•••

لا يستطيع العقلُ أن يتصوَّر الشـ
ـرَّ الذي جلبتْ على العمرانِ
لكنَّها لقِيَتْ جزا إيغالها
في البغي والعدوان والطغيانِ
فقضَتْ وقد صدَقَ الأُلى قالوا على الـ
ـباغي تدور دوائر الحدثانِ
١  ذيول.
٢  ينجُ.
٣  الحالة التي يُختار عليها الموت.
٤  مِن «ثنى» بمعنى كفَّ أو ردَّ.
٥  البغض المختلط بعداوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤