الفصل الثاني عشر

يداوِم كَنْدِيد على أسفاره، مغامراتٌ جديدة

سار كَنْدِيد طويلًا من غير أن يعرف أين يذهب، وأخيرًا عَزَمَ على قصد الدنيمارك، حيث تسير الأمور على ما يُرام كما سمع، وكان حائزًا قِطَعًا قليلة من النقود، قدَّمها الأرمني إليه، فطَمِع أن يرى خاتمة رحلته بهذا المبلغ الضئيل، ويجعل الأملُ بؤسَه محتمَلًا، فيقضي أُويْقات طيبة، ويكون في فندقٍ — ذات يوم — مع ثلاثة سُيَّاح، فيحدِّثونه بحرارة عن الهيولى والمادة اللطيفة، فيقول في نفسه: «حسنًا، هؤلاء فلاسفة»، ويقول لهم: «إن الهيولى أمر لا مِراء فيه يا سادتي، فلا فراغ في الطبيعة، ويمكِن تصوُّر المادة اللطيفة جيدًا.»

ويقول له السُّيَّاح الثلاثة: «إذنْ، أنت على مذهب ديكارت.»

ويقول كَنْدِيد: «نعم، وعلى مذهب ليبنتز أكثر من ذلك.»

ويجيبه الفلاسفة قائلين: «يا لسوء ما أنت عليه! إن ديكارت وليبنتز خاليان من حُسن التمييز، وأما نحن فعلى مذهب نيوتن، ونُفاخِر بهذا، وإذا كنا نتجادل فلتقوية مشاعرنا أحْسَن من قبل، فكلُّنا على رأيٍ واحد، ونحن ننشُد الحقيقة، مقتفين أَثَرَ نيوتن، عن قناعة بأنه رجُل عظيم …»

ويقول كَنْدِيد: «قولوا مثل هذا عن ديكارت وليبنتز وبَنْغَلُوس، فهؤلاء العظماء يساوون غيرهم.»

ويجيب الفلاسفة قائلين: «أنت وقِحٌ يا صديقنا، أتعرف سُنن الانحراف والجاذبية والحركة؟ أقرأت الحقائق التي ردَّ بها الدكتور كلارْك على أوهام ليبنتزك؟ أتعلم معنى القوة الدافعة والقوة الجاذبة؟ أتدري أن الألوان تتوقف على الكثافات؟ أَلَدَيْك بعض الاطلاع على نظرية الضياء والتجاذب؟ أعندك وقوف على دور اﻟ ٢٥٩٢٠ سنة، الذي لا يطابق تاريخ الحوادث؟ كلَّا، لا ريب، إذ ليس عندك غير أفكار مختلة عن هذه الأمور. إذنْ، صهْ أيتها الذرَّة الحية الحقيرة، واجتنِب شتم العمالقة بقياسهم بالأقزام.»

ويجيب كَنْدِيد: «لو كان بَنْغَلُوس هنا يا سادتي، لحدَّثكم عن أمور رائعة؛ وذلك لأنه فيلسوف عظيم، وهو شديد الازدراء لنُيوتِنِكم، وبما أنني تلميذ له، فإنني أكون على رأيه أيضًا.»

ويَشتاطُ الفلاسفة غيظًا، فينقضُّون على كَنْدِيد، ويضربونه ضربًا مبرِّحًا فلسفيًّا جدًّا.

ويذهب عنهم الغضب، ويطلبون عَفْو بَطَلِنا عن شدتهم، وهنالك يتناول الكلامَ أحدُهم، ويُحسِن القول عن الحِلم والاعتدال.

وبينما كان يتكلَّم، مرَّت جنازة فخمة، فاتخذها فلاسفتنا فرصةً للحديث حول بُطْل الناس السخيف، فقال أحدهم: «أليس من الأصوب أن يقتصر أقرباء الميت وأصدقاؤه على حملهم التابوت المقدَّر بأنفسهم من غير موكب ولا ضوضاء؟ ألا يؤدي هذا العمل المأتميُّ — حين يوحي إليهم بفكرة الموت — إلى أشفى الآثار وأكثر المعلولات الفلسفية؟ ألا يُسفِر التأمل القائل: «إن هذه الجثة التي أحملها، هي جثة صديقي أو قريبي الذي عاد غيرَ موجود، ولا بد من أن أصير إلى ما صار إليه»، عن نقص الإجرام في هذه الكُرة الشقية، وعن رَدِّ من يعتقدون خلود الروح إلى الفضيلة؟ إن الناس شديدو الميل إلى إقصائهم عن أنفسهم فِكْرَةَ الموت، فلا يودُّون أن تلوح لهم صور قوية عنه، ولمَ إقصاء الأمِّ الباكية أو الزوج الباكي عن هذا المنظر؟ إن في نبرات الطبيعة النائحة، وفي صيحات القنوط الثاقبة تكريمًا لرُفات الميت أكثر من جميع أولئك اللابسين ثيابًا سودًا من رءوسهم إلى أرجلهم مع نادبات نكِدات، ومن جمع الكهنة الذين يُرتِّلون فرحين ما لا يفقهون من الأدعية.»

ويقول كَنْدِيد: «هذا قول حسن، ولو كنتَ تتكلم بمثله دائمًا من غير أن تضرب الناس لغدَوتَ فيلسوفًا عظيمًا.»

ويفترق سُيَّاحنا بإشارات ودٍّ واعتماد، وإذ يتوجه كَنْدِيد نحو الدنمارك دائمًا، فإنه يوغل في الغاب، متمثِّلًا جميع المصائب التي أُصيب بها في أصلح العوالم، ويزيغ عن الطريق العامة ويتيه، وكانت الشمس تميل إلى الغروب حينما تبيَّن خطأه، وتُعوِزه الشجاعة، ويرفع بَطَلُنا عينيه إلى السماء حزينًا، مستندًا إلى ساق شجرة، وينطق بما يأتي: «لقد طُفتُ في نصف العالم، فأبصرت انتصار الغدر والافتراء، ولم أحاول غير خدمة الناس، فاضطُهِدتُ، وأكرمني ملك عظيم بحُظوة وبخمسين ضربة سوط، وأصل إلى ولاية رائعة بساق واحدة، فأتمتع فيها بلذَّات، بعد أن ذُقتُ العلقم والغمَّ، ويأتيني كاهن فأحميه، ويلِج في البلاط بواسطتي، ثم أُحمَل على تقبيل قدميْه … ثم ألقى بَنْغَلُوس المسكين، وكان هذا، لأراه يُحرَق … وأجدني بين فلاسفة، بين هؤلاء الحيوانات الذين يُعَدُّون أكثر مَن على الأرض حلمًا واعتدالًا، فيضربونني بلا رأفة، ومع ذلك فإن كل شيءٍ صوابٌ؛ لأن بَنْغَلُوس قال هذا، ومع ذلك فإنني أَتعَسُ مَن في العالم.»

وتُقطَع تأملات كَنْدِيد بصوت حاد خارجٍ من مكان قريب كما يَلُوح، ويتقدَّم عن فضول، فيرى فتاةً تنتف شعرها عن يأس شديد، فتقول له: «كن مَن شئتَ، فاتْبَعني إذا كُنْت ذا قلب.»

ويسيران معًا، ولم يكادا يمشيان خطوات قليلة حتى شاهد كَنْدِيد رجُلًا وامرأة مُستلقِيَيْن على العُشب، وتدُلُّ سيماهما على شَرَف نفسهما وكرم أصلهما، وتَنِمُّ ملامحهما — مع ما اعتراهما من تشويه بفعل ما يُعانيان من ألم — على أَمْرٍ يقف النظر كثيرًا، فلم يستطع كَنْدِيد أن يَمْنَع نفسه من التوجُّع لهما، ومن السؤال بلَهَف عن علة تحوُّلهما إلى هذه الحال المُحزِنة، فتقول الفتاة: «إن اللذين ترى هما والديَّ»، وتلقي الفتاة نفسها بين ذرعانهما مواصلةً قولها: «أجلْ، إنهما سبب أيام بؤسي، وقد فرَّا اجتنابًا لشدة حُكْم ظالم، وقد فررت معهما راضيةً كل الرضا عن مقاسمتي شقاءهما، ظانةً أنني أستطيع أن أكسب بيديَّ الضعيفتين ما يحتاجان إليه من غذاء في البراري التي نَجُوبُها، ونقف هنا لننال قسطًا من الراحة، وأكتشف هذه الشجرة التي ترى، وأُخْدَع بثمرها … آه يا سيدي، إنني أكره العالم كما أكره نفسي، ولتتسلَّح ذراعُك انتقامًا للفضيلة المهانة، عقابًا لمن قتلتْ والدَيْها! اضْرِب … هذه الثمرة … قدَّمتُ منها إلى أبي وأمي، فأكلا ما قدَّمتُ طيِّبَيِ الخاطِر، وسُرِرْتُ بالوسيلة التي وَجَدْتُها، لإطفاء عطشهما الشديد الذي كان يؤلمهما … يا لَشِقْوَتي! الموت هو الذي عرَضتُه عليهما، هذه الثمرة سُمٌّ.»

اقشعرَّ جلد كَنْدِيد، وسال عرَقٌ بارد على بدنه من هذه القصة، وَقَفَّ شعرُ رأسه، وبادر بمقدار ما يَسْمَح له وَضْعُه لإسعاف هذه الأسرة التعسة، بيد أن السم تقدَّم فعلُه، وما كان أشفى ترياقٍ ليَقِف النتيجة المشئومة.

ويقول الأبوان المحتَضَران بصوت عالٍ: «بنتَنا العزيزة، أملَنا الوحيد! اغفري لنفسك كما نغفر لك، فالحنان البالغ هو الذي ينزع حياتنا … وأنت أيها الغريب الكريم، تفضَّل بالتفاتك إليها، فهي عزيزة النفس، مُحبَّةٌ للفضل، وهي وديعة، نتركها بين يديك، عادَّيْن إياها أثمن من ثروتنا الماضية بمراحل … أي زِنُوئيد العزيزة، تقبَّلي آخِرَ قُبُلاتنا، وامْزُجي دموعك بدموعنا. آه! ربَاه، يا لَفُتون هذه الأويقات عندنا! لقد فَتَحْتَ لنا باب السجن المظلم، الذي ما فتئنا نَضْنَى فيه منذ أربعين عامًا. أي زِنُوئيد الحنون نُبَارِكُكِ، وهل يمكن ألَّا تنسَي مطلَقًا ما أملاه حَذَرُنا عليك من دروس، وهل يمكن أن تحفظك هذه الدروس من الورطات، التي نكاد نَبصُر حدوثها تحت قدميكِ!»

فاضت روحهما بعد أن نطقا بهذه الكلمات الأخيرة، ولقي كَنْدِيد عناءً كبيرًا في رد زِنُوئيد إلى صوابها، وكان القمر يُنير هذا المنظر المؤثِّر، وطلعت الشمس قبل أن تملك زِنُوئيد الغارقة في الغم والحزن حواسَّها، فلما فَتَحَتْ عينيها التمست من كَنْدِيد أن يحفر قبرًا لدفن الجثتين، حتى إنها أعانَتْه بعزم عجيب.

ولما قاما بهذا الواجب، بكت بكاءً شديدًا، ويبعِدها فيلسوفنا من هذا المكان المشئوم، ويسيران طويلًا على غير هدًى، ويبصران أخيرًا كوخًا صغيرًا واقعًا في البرِّيَّة، يسكنه زوجان مُسِنَّان، مستعِدَّان لتقديم كل مساعدة — ضمن طاقتهما الضعيفة — إلى إخوانهما الذين يُرثى لهم، وكان ذانك الشائبان مِثْلَما يُوصَف به فيليمون وبوسيس لنا؛ وذلك أنهما كانا يتمتعان منذ خمسين سنة بلطائف الزفاف مع عدم معاناةٍ لمرارته مطلقًا، أي كانا يتمتعان بصحة تامة ناشئة عن القناعة وراحة البال، وبطباع لينة بسيطة، وبكَنز من الخلُق الصادق لا يفنى، وبجميع الفضائل التي يكون الإنسان مدينًا بها لنفسه وحدها، أي بهذه المُقَوِّمات التي يتألف منها ما أنعم الرب عليهما به من نصيب، ويُنظَر إليهما بعين الاحترام بين الأكواخ الأخرى، التي تغمُر ساكنيها سذاجة مباركة، فكانوا يُعَدُّون من ذوي الصلاح لو كانوا من الكاثوليك، وكانوا يَرَوْنَ من الواجب ألَّا يُعْوِزَ شيء أغاتون وسونام «وكان الزوجان يسمَّيان بهذين الاسمين»، فشمل إحسان هذيْنِ ذَيْنِك الطارئَيْن.

ويقول كَنْدِيد: «آه! إن من الخُسر العظيم أن أُحرِقْتَ يا بَنْغَلُوسي العزيز! لقد كنتَ على حق، ولكن ليس كل شيء خيرًا في جميع أجزاء أوروبا وآسيا التي طُفْتُ فيها معك، بل في إلدورادو التي يتعذَّر الوصول إليها، وفي كوخ صغير واقع في أبرد مكان في العالم وأجْدَبِه وأَوْحَشِه، ويا لَمَسَرَّةٍ أفوز بها لو كنتُ أسمعك تتكلَّم هنا عن النظام المقدَّر والذرَّات الحية! أجلْ، أودُّ لو أقضي بقية حياتي بين هؤلاء اللُّوثِريِّين الصالحِين، ولكن هذا يقضي بأن أعدل عن حضور القدَّاس، وبأن أُعرَّض لقدح الجريدة النصرانية فيَّ.»

وكان كَنْدِيد كثير الشوق إلى معرفة مغامرات زِنُوئيد، ولم يبيِّنْ لها رغْبَتَه هذه عن حذَر، وتلاحظه، فتملأ فارِغَ صَبْره بحديثها الآتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤