الفصل الخامس عشر

وصول فُلهُل، سفرٌ إلى كوبنهاغ

كان كَنْدِيد وزِنُوئيد يتحاوران حول صُنع الربِّ، وما يجب على الناس من عبادته، وحول الواجبات التي تربط بَعْضَهم ببعض، ولا سيما الصدقة التي هي أنفع فضائل العالَم، وما كانا ليكتفيا بالكلام الفارغ الخلاب، فقد كان كَنْدِيد يعلِّم الفتيان ما يجب من احترامٍ لأحكام القانون المقدسة، وكانت زِنُوئيد تعلِّم الفتيات ما يجب عليهن نحو آبائهن وأمهاتهن، وكان الاثنان متفِقَيْن على إلقاء بذور الدين الخصيبة في الأذهان الناشئة، وبَيْنَا كانا يقومان بهذه الأعمال الدينية ذات يوم، أنبأتْ سونامُ زِنُوئيد بوصول شريف شائب مع خدم كثير للبحث — لا ريب — عن زِنُوئيد الحسناء، نظرًا إلى الأوصاف التي ذكرها لها، ويَتْبَع هذا الشريف سونام عن كَثَب، ويدخُلُ في الوقت نفسه تقريبًا مكان وجود زِنُوئيد وكَنْدِيد.

ويُغشى على زِنُوئيد عندما رأته، ولكن بما أن فُلهُل لم يتأثر بهذا المنظر المؤثِّر، فإنه أمسكها بيده، وجَذَبَها بعنف أعاد وعيها إليها، ولم يكن هذا إلا لتسكُب سيلًا من الدموع. ويقول لها بابتسامةٍ لاذعة: «أيْ بنتَ أخي، لقد لقيتُك ضِمنَ عِشرةٍ ناعمة، ولا أَحارُ مِنْ تفضيلِكِ إياها على الإقامة بالعاصمة، في بيتي، بين آلكِ.»

وتجيب زِنُوئيد: «أجلْ يا سيدي، إنني أفضِّل الأماكن العامرة بالبساطة وحُسن السريرة على مَقَرِّ الخيانة والخديعة، ولن أرى إلَّا بنفورٍ ذلك المحلَّ الذي بدأتْ فيه مصائبي، ذلك المحلَّ الذي قامَتْ فيه أدلةٌ كثيرة على سوء أخلاقك، ذلك المحلَّ الذي ليس فيه أهلٌ سواك.»

ويجيب فُلهُل بقوله: «تفضَّلي باتباعي ولو أُغميَ عليك مرةً أخرى.» قال هذا، جارًّا إياها، آمرًا بأن تركب مَحمِلًا أُعدَّ لها، ولم يكن لديها من الوقت غيرُ ما تقول فيه لكَنْدِيد أن يَتْبعها، وغير ما تَشْكُر فيه لمُضيِّفَيْها، واعدةً بأن تكافئهما على قِراهما الجميل.

ويرقُّ أَحَد خدم فُلهُل للألم الشديد الذي ألمَّ بكَنْدِيد، ويظنُّ أنه لا فائدة له من الفتاة الدنماركية غير ما توحي به الفضيلة المُعذَّبة، فيعرِض عليه السفر إلى كوبنهاغ، ويُسهِّل له وسائله، ويصنع له أكثر من هذا، وذلك أنه أَلقى في رُوعِه إمكان قبوله في عداد خدم فُلهُل، إذا لم يكن لديه من الوسائل غير الخدمة ما يتخلَّص به من الورطة، ويقبل كَنْدِيد ما عَرَض عليه، فلما وصل قدَّمه رفيقه القادم على أنه قريب له ضامنًا إياه، ويقول له فُلهُل: «أيها الخبيث، أودُّ أن أَمْنَحك شرف الاقتراب من رجُل مثلي، ولا تنسَ مطلقًا ما يجب عليك من احترامٍ بالغٍ لإرادتي، وأبصِرها مقدَّمًا إذا كنتَ من ذوي البصائر الكافية، واذكُر أن رجُلًا مثلي ينحطُّ إلى مخاطبة بائس مثلك.»

ويجيب فيلسوفنا بتواضع كبير عن هذا الكلام المخالف للأدب، ويُلبَس في اليوم نفسه مِثْلَ ثياب خدم سيده.

ومن السهل أن يُتَمَثَّلَ مقدار حيرة زِنُوئيد وسرورها، عندما عَلِمتْ أن عاشقها بين خدم عمها، وقد أحدثتْ لكَنْدِيد فُرصًا عرَفَ أن يغتنمها، وقد تعاهدا على الثبات في كل ابتلاء، وكانت تعتري زِنُوئيد ساعات ضيق، فتلوم نفسها أحيانًا على حبِّها لكَنْدِيد، فتُحزِنه بأهوائها، غير أن كَنْدِيد كان يعبُدها، عالمًا أن الكمال ليس من نصيب الإنسان، ولا سيما المرأة، وكانت زِنُوئيد تستردُّ حُسن مزاجها بين ذراعيه، وما كانا عليه من قَسْر زاد ملاذَّهما، ولا يزالان سعيدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤