الفصل الرابع

استخدامات الفن وأسعاره

ارتبط الفن الطليعي، الذي تَأَمركَ مؤخرًا، للمرة الأولى بالأموال الطائلة. وهذا يعود إلى أن أهدافه الغامضة ومستقبله الملتبس قد تُرجما بنجاح إلى مصطلحات بسيطة؛ فمن الممكن أن نقرأ «أسهم النمو المضاربة» للحداثة غير التقليدية، و«جاذبية السوق» للجودة الظاهرية، و«التقادم التقني» لتغير الأذواق للضد، وهذا إنجاز لغوي للتبرُّؤ من تغير الموقف. إن الفن في النهاية ليس كما ظننا؛ فمن المنظور الأوسع، يتعلق الفن بالأمور المادية البحتة. إن الفن بكل جوانبه، متضمنًا قمته المتنامية، يُشبَّه بالقيم المألوفة. وبعد عقد آخر، سيكون لدينا صندوق استثمار تعاوني قائم على أوراق مالية في صورة صور مودعة في خزائن البنوك.

(ليو ستاينبرج، «معايير أخرى»، محاضرة ألقاها في متحف الفن الحديث، نيويورك، عام ١٩٦٨)

إن هذه الفقرة، لدى قراءتها بعد أربعين عامًا تقريبًا، تحمل السمة العجيبة لكونها مفاجِئة ومألوفة إلى حد بعيد. عندما كتب ستاينبرج هذا الكلام، كان الفن المعاصر لا يزال في طريقه إلى الوفاق مع المال، مع تخلص السوق من حالتها القديمة كمنطقة اختصاصية وضيقة، وكان هناك اندهاش مقتضب من تغير المشهد الناجم عن ذلك. وفي حين أن ذلك المشهد أضحى ببساطة البيئة المسلم بها التي يعمل الفن في إطارها، فإن المفاجأة سببها صراحة وصف ستاينبرج. إن الافتراض العام في الوقت الراهن هو أن الحديث عن هذا الأمر إما كلام مكرر أو فظاظة (أو كلاهما).

إن كلًّا من صُنْع الأعمال الفنية وبيعها يخضعان للسيطرة على نحو غير مألوف في السوق الفنية، غالبًا ما يوقِّع التجار عقودًا حصرية مع الفنانين الذين يُشجعون بناء على ذلك على إنتاج أنواع وأحجام وأعداد معينة من الأعمال الفنية أو يكلفون به. كم مرة شاهد المرء في المعارض التجارية منتجات فرعية مزدانة ومعلقة على الجدار لتجهيز متمرد ومعادٍ للتجارة في ظاهره؟ لأسباب واضحة، إن هذه التحريضات تبقى سرية في العادة. يخضع المشترون للمراجعة في التزامهم بجمع الأعمال الفنية، لأنه قد يكون من الخطير على سمعة فنان ما أو حتى السوق ككل حدوثُ بيع مفاجئ وغير متوقع لعمل فني. هناك قواعد تنظيمية أقل تحكُم ما يسمى ﺑ «السوق الثانوية» بالمزادات العلنية، لكن حتى في تلك المزادات، ليست السوق حرة. وبعيدًا عن الفضائح المتعلقة بتحديد الأسعار المنهجي؛ فالأسعار التحفظية تعيَّن، ودونها لا تباع الأعمال الفنية، إضافة إلى أن المزايدة تتعرض للتلاعب من جانب هواة جمع الأعمال الفنية والتجار.

يظهر تفسير هذا الموقف على أبرز نحو في الفنون المصنوعة في الوسائط القابلة لإعادة إنتاجها، فبمقدور الفنانين إنتاج صور فوتوغرافية أو أقراص مدمجة أو مقاطع فيديو بأعداد هائلة وبمال زهيد، وكذلك السعي لتحقيق ملكية واسعة لعملهم. مع ذلك، تنتج الأغلبية العظمى منهم إصدارات محدودة، وكل إصدار مرفق به شهادة توثيق، مقابل أسعار عالية للغاية. تمنح ملكيةُ مثل هذا العمل لمن يقتنيه مكانة اجتماعية، وبالتبادل، يمنح السعر المدفوع مكانة للعمل.

إن هذه هي السمة المميزة للفن مقابل المجالات الأخرى للثقافة الراقية؛ إذ تحقق المسرحيات، والحفلات الموسيقية أو الأوبرا الميزة الحصرية من خلال استيجابها حضور الجمهور للعرض المباشر (وبالطبع، بمقدور الفن الرفيع فعل هذا أيضًا)، أما الأشكال الأخرى — الرواية، والشعر، والموسيقى، والأفلام — فتنتج أعمالًا تخرج بصورة صناعية بأعداد هائلة ويمكن امتلاكها على نطاق واسع. لكن في الفن الرفيع وحده تكمن التجارة الأساسية؛ حيث إنتاج الأعمال النادرة أو الفريدة التي لا يستطيع امتلاكها سوى من هم على قدر كبير من الثراء، سواء كانوا دولًا، أو شركات، أو أفراد.

عندما ينتج الفن باستخدام أساليب حرفية، يصير معروض أي فنان محدودًا بصورة حتمية، وإذا كان الطلب على هذا العمل كبيرًا، فسترتفع الأسعار. لكن هناك الكثير من الفنانين ممن لا يزالون يوجدون القيمة من خلال استخدام مقادير هائلة من العمل اليدوي (الذي يقوم به الفنان أو في أغلب الأحوال مساعدوه) على أشياء غير قابلة لإعادة الإنتاج. إلا أنه على مدار التسعينيات اتجه عدد أكبر من الفنانين إلى استخدام الوسائط التقنية والقابلة لإعادة الإنتاج — على رأسها التصوير الفوتوغرافي والفيديو — حتى بدا تقييد الإنتاج شيئًا مصطنعًا بصورة متزايدة، أدى هذا الوضع إلى بعض الطرق الغريبة للغاية لصنع الأعمال الفنية؛ ففي عمل جيف كونز الأخير، يلتقط صورًا تجارية متنوعة، ويُجمِّعها ويغيِّر فيها باستخدام الكمبيوتر. عندما تنتهي هذه العملية، يجري إعداد نسخة مطبوعة عملاقة وتُسلم بعدها إلى مساعدي كونز الذين (على حد وصف روبرت روزنبلوم في كتالوج معرض جوجنهايم الألماني) يصنعون «بالدقة التحليلية التي تميز العاملين بالمجالات العلمية» تصويرًا فريدًا جاهزًا للبيع بالزيت على لوح الرسم. إن هذه المرحلة النهائية والأكثر ميكانيكية تؤكد على حالة القطعة الفنية باعتبارها عملًا فنيًّا فريدًا.

إن القيد المفروض على العرض يجعل السوق الفنية حالة استثنائية للغاية، إلى الحد الذي جعل الكثير من الخبراء الاقتصاديين راغبين عن تفسيرها باستخدام المصطلحات العادية. عادة، عند التسوق مثلًا لشراء علبة حساء، فإن السعر يقابل رغبة المشتري في المنتج، يمكن العثور على العلب المشابهة أو المطابقة في أماكن مختلفة وبأسعار مختلفة، وتتراوح تلك الأسعار حسب العرض والطلب. وعلى حد وصف نيل دي مارشي للموقف في كتاب عن تفكير علماء الاقتصاد في الفنون، ينطبق القليل من هذا الأمر على السوق الفنية. إن الموضة — وليس الاستخدام — لها تأثير كبير على الطلب؛ مما يحطم العلاقة المألوفة بين النفع والرغبة، كذلك يعد الكثير من الأعمال الفنية فريدًا؛ مما يحطم قوانين العرض، والتي تصير مسألة إما كل شيء أو لا شيء، من ثم لم يترسخ توازن يضاهي استجابة العرض والطلب لبعضهما البعض. والأسوأ من ذلك، لدى شراء شيء فريد من مورِّد احتكاري، لأنه لا تتوفر مقارنة مع أعمال أخرى، فمن الممكن ألا تجد معلومات سوقية موثوقة عن الصفقة.

في واقع الأمر، إن الوضع أكثر نمطية قليلًا؛ فكثير من الأعمال الفنية فريد، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يقارنها التجار والمشترون بأعمال يرونها مماثلة، خصوصًا أعمال نفس الفنان، رغم أن الحجم وتكلفة المواد والعمل الذي استوعبته القطعة الفنية كلها عوامل تلعب دورًا هي الأخرى. قد تكون أسعار المزادات بعيدة عن المؤشرات الخالصة لحكم السوق، لكنها — في بعض الأحيان على الأقل — تكون مقاربة للأسعار التي يحددها التجار. مع ذلك، تبقى السوق مفتقرة إلى المعلومات (كثير منها يبقى في طي الكتمان)، ويخضع العرض فيها للتنظيم، ويخضع الطلب للإدارة، أما التسعير فيتأثر بالموضة والظروف.

fig17
شكل ٤-١: جيف كونز، «دوائر».1

على النقيض من التصور العام واسع النطاق، المرتكز على الأسعار الرائعة للأعمال الضخمة التي تتحقق في المزاد (وهو تصور تعززه كثيرًا بالطبع دور المزادات نفسها)، فإن الفن بوجه عام ليس استثمارًا جيدًا، وبالتأكيد ليس على المدى البعيد، وأداؤه أردأ من الأسهم والحصص باستمرار. وفي حين أن بعض الفئات من الأعمال الفنية تزداد قيمةً بالفعل لبعض الوقت، فإن السعر الحقيقي للفن ينخفض غالبًا. إن المضاربة على الفن المعاصر منخفض الثمن هي استثمار محفوف بالمخاطر للغاية. قدَّم بيتر واطسون وصفًا مفصلًا عن الأداء الاقتصادي للفن، وزعم أن الاستثمار لا يكون منطقيًّا إلا على المدى القريب كمضاربة عالية المخاطر، وأن المبالغ الهائلة من المال لا تُجنى إلا عند بيع الأعمال الفنية إبان إحدى الانتعاشات السوقية المذهلة؛ من ثمَّ ليس من المفاجئ أن يكون شراء عمل فني يحظى بقيمة عالية بالفعل استثمارًا سيئًا على الدوام تقريبًا. أظهرت دراسات مختلفة أن الاستثمار في الفن على المدى البعيد يصل إلى نصف كفاءة الأنواع الأخرى من الاستثمار. هذا هو المقابل الذي يقدمه المرء لامتلاك عمل فني، وهو يفسر سبب أن عددًا قليلًا نسبيًّا من الأثرياء يهوون جمع الأعمال الفنية، ومن بين هؤلاء الذين يهوون الجمع، يجمع كثير منهم بهدف المتعة والوجاهة الاجتماعية بقدر الجمع بهدف الاستثمار.

إن الفن، شأنه شأن سائر أنواع الاستهلاك التفاخري، يزدهر في أوقات الوفرة ويذبل في أوقات العسرة. إن الفترة الزمنية التي نناقشها هنا مرتبطة بركودين، وكلاهما تفاقما بالحروب ضد العراق: الركود الأول تسبب فيه غربلة الشركات بعد انتعاش الثمانينيات؛ مما أدى إلى القضاء على الكثير من عمالقة المجال الفني. انخفضت قيمة اللوحات الضخمة (باهظة الثمن بدرجة هائلة) شبه التاريخية والتعبيرية الجديدة لأنسليم كيفر أو جوليان شنابل والتي كانت سجلًّا رائعًا لغزارة الإنتاج والأسلوب الفخم في الثمانينيات، وسرعان ما اختفت من صالات البيع (جنبًا إلى جنب مع عدد قليل من صالات البيع نفسها). وكانت إعادة تقديمها إلى السوق بعد عدة سنوات مسألة حساسة للغاية، حتى إن ناقدًا أعرفه كتب مقالة بكتالوج عن أحد هؤلاء العمالقة لمعرض تجاري، وكان تاجر الأعمال الفنية واقفًا إلى جانبه بكل ما في الكلمة من معنى.

كانت للتطورات باليابان أهمية في سرعة الركود في السوق الفنية وعمقه، وعلى وجه الخصوص نتيجة لضخامة حجم مشتريات اليابانيين من الأعمال الفنية على مدار الثمانينيات، وقد تعزز بفعل الزيادة الجامحة التي يتعذر إيقافها على ما يبدو في أسعار العقارات والأسهم، كذلك تفاقم انخفاض الأسعار نتيجة للفساد. قدم بيتر واطسون وصفًا تفصيليًّا حول الفضيحة التي استخدمت فيها الأعمال الفنية لغسيل أموال الفساد الضخمة لصالح ساسة فاسدين والجريمة المنظمة، كما التُفَّ حول القيود الحكومية المفروضة على التربح من العقارات عن طريق «شراء» البائعين للَّوحة الفنية شريطة أن يتم شراؤها منهم سريعًا ربما مقابل عشرة أضعاف السعر الأصلي. لم يتمثل الضرر هنا في مجرد الصفقات السرية التي عُقدت أو في التهرب الضريبي — وهي السمات الاعتيادية للساحة الفنية اليابانية — لكن في تشويه عمليات النصب للسوق. وفجأة، بدا أن الولع الياباني بدفع مبالغ مالية كبيرة مقابل لوحات انطباعية وما بعد انطباعية غير مرموقة لا يتعلق بسذاجة الذوق بقدر تعلقه بحسابات مجردة من المبادئ الأخلاقية. كان لانكشاف الفضيحة تأثير وخيم على السوق التي تعرضت لهزة أخرى بالإفلاسات اليابانية الشهيرة، وبالتهديد أن الأعداد الكبيرة من الأعمال الفنية التي بيعت إبان ذروة الازدهار الاقتصادي ربما تُباع فجأة؛ مما يؤدي إلى انخفاض أكبر للأسعار. عندما بيعت بعض الأعمال الفنية التي ارتبطت بعمليات الغش عام ١٩٩٣، كانت مقابل كسر بسيط (ما يقل عن واحد بالمائة) من الأسعار التي دُفعت في الأصل.

لم تؤثر الموجات الاقتصادية على حجم الأعمال الفنية التي بيعت فحسب، بل أيضًا على طابعها. يخضع فن الرسم الزيتي — أكثر الأشكال الفنية التي يسهل بيعها — لانتعاش متوقع مع كل ازدهار اقتصادي، فيما تنتقل الممارسات التجارية بصورة أقل صراحة — من بينها الفن الأدائي والأنماط المتنوعة للفن ما بعد المفاهيمي — إلى مكانة بارزة مع كل أزمة اقتصادية. يتكشف هذا الأمر في صراع مستمر بين السوق والأنماط التي تبدو غير رائجة (ربما تصب المصداقية في تجنب الأنماط السلعية الصريحة في نهاية المطاف في صالح السوق). إنها عملية ميكانيكية ويمكن التنبؤ بها؛ من ثم، نضرب مثالًا واحدًا، أسفر الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة في منتصف التسعينيات عن هجوم منسق على الفن السياسي الذي ساد الأعوام السابقة، ومحاولة متواصلة لإعادة اعتبار الجمال في الفن، وتأكيد رأي السوق باعتبارها الفيصل النهائي للذوق (سنعود إلى هذه النقطة في الفصل الخامس).

استغرق التعافي من انهيار عام ١٩٨٩ عدة سنوات، وتساءل الكثيرون هل ستستعيد السوق في يوم من الأيام ذروة ازدهار الثمانينيات. في حين أنه في الاقتصاديات النيوليبرالية المتقدمة — لا سيما الولايات المتحدة — كان النمو الاقتصادي قويًّا بدرجة كبيرة، ففي بلدان أخرى حدثت سلسلة من الكوارث: فوقعت صدمات إقليمية قاسية هددت بانهيار الاقتصاد العالمي في المكسيك (١٩٩٤)، وجنوب شرق آسيا (١٩٩٧)، وروسيا (١٩٩٨)، والأرجنتين (٢٠٠٢). إن تصورات هذه الفترة متنوعة على نحو مذهل، إذ تركن إلى الموقع الذي تنظر منه إلى تلك الفترة، من منظور الولايات المتحدة في أكثره، كانت فترة نمو مستدام وانخفاض للبطالة، ومن منظور المناطق التي مرت بالأزمات الإقليمية، كانت فترة كارثة اقتصادية، صاحبها في الغالب اضطرابات اجتماعية وسياسية وكوارث بيئية. انعكس هذا الانقسام بوضوح في الأنواع المختلفة للفن الذي أنتج في كل منطقة.

هذا لا يعني أن الفن في المناطق المضطربة عَكَس فحسب تلك الاضطرابات، لنأخذ المكسيك كمثال: في الأعوام التي تلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA (نافتا)، والتي خلقت تكتلًا تجاريًّا بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا عام ١٩٩٢، كان الفن المكسيكي الذي حظي بأكبر نجاح في السوق الدولية تهكميًّا وفارغًا من المحتوى السياسي، رغم الخراب الكبير والمقاومة الثورية في البلد نفسه. أشارت كوكو فوسكو إلى أعمال جابرييل أوروزكو، وفرانسيس أليس، وميجيل كالديرون كنماذج، واصفةً محاولة إدخال الفنانين الشباب الملهمين من الناحية المفاهيمية في السوق العالمية، بالتعاون مع المؤسسات الأمريكية؛ وبالتالي ترويج صورة محدَّثة للثقافة المكسيكية. تصف سينثيا ماكملين كيف أن هذا التحول جاء تحت قيادة إيميليو أزكاراجا — مؤسس شركة تيليفيزا، وأحد أشهر منتجي المسلسلات الاجتماعية بالمكسيك — بالمركز الثقافي للفن المعاصر بمكسيكو سيتي الذي يمتلكه. ارتبطت شركة تيليفيزا بحزب بي آر آي، الحزب الحاكم بالمكسيك على مدار سبعين عامًا حتى سقوطه عام ٢٠٠٠، وكانت المصالح التجارية والفن مترابطَيْن على نحو وثيق؛ لذا، عندما شهدت المكسيك أزمة اقتصادية عنيفة منذ عام ١٩٩٤ فصاعدًا — أغرقت أكثرية السكان في فقر مدقع وصل إلى حد المجاعة — استمرت سوق الفن المكسيكي المعاصر، الذي أصبح دوليًّا وارتبط بالمؤسسات متعددة الجنسيات، في انطلاقتها رغمًا عن ذلك. لم يكن بعض من هذه الأعمال معتدلًا ومنعزلًا فحسب، لكن أيضًا كان معاديًا على نحو فعال للمشاركة السياسية الشعبية؛ إذ أظهر حدث فرانسيس أليس وفيديو «قصص وطنية» (١٩٩٧) خرافًا مساقة في دوائر حول سارية علم عملاقة تقف في مركز ساحة زوكالو، الموقع التقليدي للحشود السياسية في مكسيكو سيتي.
fig18
شكل ٤-٢: فرانسيس أليس، «زوكالو».2

كان لفقاعة نمو البورصة في التسعينيات، المرتبطة على وجه الخصوص بصناعات التكنولوجيا المتقدمة، أثرًا تضخميًّا على أسعار الأعمال الفنية. تحققت مبالغ قياسية بالمزادات على مدار أواخر التسعينيات، وعندما انفجرت الفقاعة مرة أخرى — في أعقاب انهيار سعر أسهم الشركات المعتمدة على الإنترنت، والفضائح المحاسبية (من بينها تلك الخاصة بشركة إنرون)، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر — تراجعت السوق الفنية وقطاع المتاحف أيضًا، رغم أن تأثير التراجع حتى الآن كان أقل حدة من الركود السابق.

مع امتداد أمد الركود الاقتصادي، تبددت القناعات الظاهرية للعقد الماضي، وحتى تعاظُم القوة الاقتصادية الأمريكية ربما يكون وهمًا. استخدم روبرت برينر، في كتابه نافذ البصيرة «الازدهار والفقاعة»، تحليلًا بعيد المدى للموقف النسبي للكتل التجارية الصناعية العظمى منذ الحرب العالمية الثانية بغية إظهار أن الولايات المتحدة ضحَّت في بعض الأحيان بالمكسب الاقتصادي القريب (على سبيل المثال، من خلال حفاظها على قوة الدولار) في سبيل حصد فوائد تطور الاقتصاديات في بلدان أخرى على المدى البعيد، وخصوصًا في ألمانيا واليابان. أسفر انحسار السخاء الاستراتيجي في التسعينيات عن صعود مؤقت في فرص تفوق الولايات المتحدة وتراجع تلك الخاصة بشركائها التجاريين الرئيسيين، في تطور أدى إلى قدر كبير من التخويف من رجحان كفة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي. مع ذلك، مع مواجهة الركود في الولايات المتحدة، الذي تسبب فيه انهيار فقاعة الإنترنت، والفضائح المالية، وأخيرًا الحرب، مقرونًا بالكساد طويل الأمد في أوروبا وشرق آسيا، تطور موقف منذر للغاية.

إذا كان قد جرى التخفيف من آثار الركود على السوق الفنية حتى الآن، ولم تصل إلى مستويات انهيار عام ١٩٨٩، فهذا يعود إلى أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية تجعل من الفن استثمارًا أكثر جاذبية. كما شاهدنا، تسبب الركود الأخير في موجة من اختفاء الفنانين نتيجة لتغيُّر المناخ، وهو ما تزامن مع موت الكثير من فطاحل التعبيرية الجديدة الأمريكان والألمان. أما الركود الجديد، وهو أضحل لكنه أطول أمدًا، ربما ينتهي به المطاف بفعل الأمر نفسه. إذا كان الركود طويل الأمد — الذي يرجع في جزء منه لاتساع نطاق الاقتراض الأمريكي وطابعه المنهجي (الذي ازداد نتيجة للاقتطاعات الضريبية والإنفاق العسكري الضخم تحت إدارة الرئيس بوش) — متوقعًا؛ فمن ثمَّ سيصبح الطابع الكامل للسوق الفنية ومنتجاتها عرضة للتغيير مرة أخرى.

ربما تكون السوق الفنية غير مألوفة للمشترين، لكنها غريبة بالمثل للمنتجين. وفقًا لهانز آبنج، تحكم الخواص الفريدة للسوق على الأغلبية العظمى من الفنانين بالفقر المدقع. ورغم أن مكانة المهنة رفيعة للغاية (جزئيًّا؛ لأنها تدَّعي أنها منعزلة عن المسار العام للتجارة) ودخول قلة من الفنانين الناجحين فلكية، فإن الطبيعة الإجمالية لاقتصاد الفنون تتنصل منها الأطراف المشاركة فيه، لا سيما الفنانين، ممن يغضون الطرف أو ينكرون توجههم نحو المكافأة المالية. إن الفنانين يجهلون على نحو استثنائي احتمالات نجاحهم، وهم عرضة للمجازفة، وفقراء لكن ينحدرون من أسر ثرية (وهي حالة شاذة؛ لأن معظم الفقراء ينحدرون من أوساط فقيرة، لكن ليس على المرء التنقيب أكثر عن السبب وراء ذلك)، ويميلون إلى دعم أعمالهم الفنية من إيرادات أخرى. إن هذه العوامل، على حد زعم آبنج، تتسبب في أن يصير العالم الفني مزدحمًا، وتجعل من فقر الفنانين سمة هيكلية (في المملكة المتحدة، تضاعف عدد طلاب الفنون الجميلة الملتحقين بالكليات كل عام ثلاث مرات منذ عام ١٩٨١، متجاوزًا بكثير الزيادة العامة في أعداد الطلاب). إن فقر الفنانين يسهم في مكانة الفنون؛ نظرًا لأن النجاحات القليلة يجب أن يُنظر إليها على أنها منتقاة من مجموعة شاسعة، ويجب النظر إلى كافة الفنانين على أنهم يخاطرون بحياة الفقر في سعيهم وراء حرية التعبير.

يذكر آبنج أن سمات هذا الاقتصاد تشبه عصر ما قبل الرأسمالية، من ناحية أهمية الهبات والرعاية، والدور الذي تلعبه تلك الشخصيات في منحها. غير أن سمات أخرى تذكرنا أكثر بالمرحلة المبكرة من الرأسمالية، وعلى وجه التحديد النسبة الضئيلة للنجاحات إلى الإخفاقات. بوجه عام، إن السوق الفنية حيز مغلق عتيق ومصون، ومحصَّن حتى الآن من رياح الحداثة النيوليبرالية التي اجتاحت الكثير من الممارسات الأقل تجارية الأخرى. إن مكانة الفن تمنحه التميز الاجتماعي وشيئًا من الاستقلالية، حتى في بعض الأحيان من السوق الغريبة التي تشكل أساسه.

استقلالية الفن

قدَّم عالم الاجتماع نيكلاس لومان وصفًا فعالًا بدرجة كبيرة لاستقلالية الفن، فقد قارنه بالنظم الوظيفية الأخرى في المجتمع الحديث (على غرار العلوم والسياسة والقانون). يتمتع الفن بالميل نفسه نحو «الإغلاق الفعال»، وهو الدافع لاكتشاف وظيفته الخاصة والتركيز عليها وحدها. من وجهة نظر لومان، إن السمة الحصرية للفن تكمن في استخدامه للتصورات وليس اللغة، ومن ثم هو منفصل عن الأشكال الروتينية للتواصل، ربما يكون دوره هو إدماج الأشياء التي يتعذر توصيلها في شبكات الاتصال بالمجتمع (سنشاهد فيما بعد، على الأقل كوصف للفن الحديث، أن هذا الوصف يتناول مشكلة أن الفجوة بين الاثنين يبدو أنها آخذة في التضاؤل).

من وجهة نظر لومان، كلما حاول الفن غمس نفسه أكثر في الاتجاه العام للمنتجات والمناقشات في المجتمع، انتهى به المطاف معزِّزًا استقلاليته أكثر:

ليس من ديدن الشيء العادي أن يصرَّ على أن يعتبره الناس شيئًا عاديًّا، لكن العمل الذي يفعل ذلك يفضح نفسه بمسعاه هذا في حد ذاته. وما يقوم به الفن في مثل هذه الحالة هو إعادة إبراز تمايزه. لكن الحقيقة المجردة أن الفن يسعى إلى إلغاء هذا التمايز ويخفق في مسعاه هذا ربما توحي بالكثير عن الفن أكثر مما يستطيع فعله أي ذريعة أو نقد.

غير أن النظام الفني يحمل سمات مميزة؛ فالمشاركة فيه اختيارية (وهذا لا ينطبق بالطبع على علم الاقتصاد والقانون)، كما أنه يوعز بمستوى ضئيل فحسب من المشاركة (نسبة كبيرة من الشعب البريطاني، على سبيل المثال، ليست من مرتادي المعارض الفنية). إن وسيلته للتضمين والاستبعاد مستقلة عن تلك الخاصة بالنظم الأخرى، وهو مجال نشاط منعزل نسبيًّا (مرة أخرى، الصلة بين السياسة والقانون وثيقة للغاية، على سبيل المثال).

تعد رؤية لومان وصفًا منهجيًّا، لكنها مثالية أيضًا؛ إذ تتجاهل آثار الطبقة الاجتماعية والتميز، وضغوط السوق والدولة على الفن. بمقدورنا أن نكون أكثر دقة فيما يتعلق بمن يشارك في الفن، على سبيل المثال، دققت الدراسة الاجتماعية الشاملة التي أجراها بورديو ومعاونوه «حب الفن» النظر في عادات ارتياد المعارض والمتاحف لدى الأوروبيين، وأبرزت بشدة مدى توقف مثل هذا النشاط على التعليم. ببساطة، الأشخاص الذين يتمتعون بقدر أكبر من التعليم تزيد احتمالات ذهابهم إلى المعارض، ويشعرون بارتياح أكثر هناك، ويمكثون فترة أطول، ويكونون أكثر قدرة على الحديث عما شاهدوه هناك.

مع ذلك، يركز كتاب لومان على الاستقلالية الفعلية للفن، وهي التي تفسر على نحو ينطوي على تناقض اتصاله بالنظم الأخرى واستخدامها له. إن تلك الاستقلالية، وهي بعيدة تمامًا عن كونها أمرًا وهميًّا، ذات أهمية محورية للوظيفة الأيديولوجية للفن، وتحافظ عليها المؤسسات المختلفة للفن، من بينها الأوساط الأكاديمية (الكليات الفنية، وأقسام تاريخ الفن والثقافة المرئية)، والمتاحف، والهيئات المتخصصة. وأحيانًا ما يكون الفن الذي ينشر في تلك الأوساط متناقضًا مع ذلك الذي يحقق النجاح في السوق.

تحلل رؤية هاورد سينجرمان الرائعة عن تطور الفن كفرع من فروع الدراسة في الجامعات نتائج إضفاء الطابع المؤسسي على المنتجات الفنية. تسعى الجامعات إلى فصل الفنانين المحترفين عن الرسامين الهواة، ولا تنتظر من طلبة الفنون التمتع بمهارات يدوية، أو أنهم يجدون متعة ترويحية في عملهم، أو استخراجه من أرواحهم المعذبة. بل يتحتم عليهم إظهار معرفة مميزة يمكن اعتمادها، في لغة نظرية ومقصورة على فئة قليلة، تكفل السمة الحصرية لمهنة الفن ومكانتها. لا يتلقى الفنانون التدريب بالجامعات فحسب، لكن أحيانًا ينزلون بها باعتبارهم معلمين بدوام جزئي، أو كمؤدين متجولين يرافقون أعمالهم. إن الفن الأكاديمي الذي يصفه سينجرمان على نحو مقنع — المشتمل على فنون الفيديو والفيلم والأداء — عادة ما يستلزم حضور الفنان لعرض عمله على الأقل، ويروق للجمهور الأكاديمي، ويرتكز على المنح، والزمالات، والأعمال التي قدمها الفنان في المؤسسات الفنية. إن هذا العمل الفني الذي يرافقه الفنان ربما يحقق مبيعات، لكنه يحقق استقلالية عن السوق التجارية؛ لأن وقت الفنان هو ما يُشترى فضلًا عن عمله. كما أنه يحقق أيضًا الاستقلالية عن المسار العام للثقافة الجماهيرية، في مقابل التكيف مع مجموعة أخرى من الاهتمامات المؤسسية، تلك الخاصة بالجامعة الخاضعة للتدقيق المتزايد والإدارة الاحترافية. إن غرضه الأساسي هو توليد حوار بين المتخصصين، لكن النتائج أوسع نطاقًا بكثير عن ذلك؛ إذ تطال قدرًا كبيرًا من الخطاب الفني.

تتمثل النتيجة الأولى في أنه بغية إنشاء قسم للفنون لا بد أن يكون هناك كيان موحد ومحدود، يسمى «الفن». والثانية أن يكون قابلًا لإجراء أبحاث حوله، وأن يكون من الممكن وصف الكثير مما يقوم به الفنانون بحثًا. أما النتيجة الثالثة فأن يقتضي هذا المجال وصفًا بلغة متخصصة يُميِّز اكتسابُها المتخصصين الفنيين. إن جميع هذه النتائج تجنح إلى إنتاج فن يخاطب أفراد المجال الفني على أفضل وجه، ويستبعد الجمهور الأعرض.

هذه الاستقلالية ليست ثابتة، أو وحدوية، أو مسلمًا بها. إن عالم المتخصصين الذي يخدم السوق مختلف أيما اختلاف عن ذاك المرتبط بالأوساط الأكاديمية. في سبيل الحصول على فهم تقريبي — لكن يفي بالغرض — لهذا الأمر، سنقارن بين نموذجين بارزين: مجلة «فلاش آرت» (انظر جودة ورقها واستنساخ الألوان، وكذلك عدد الإعلانات التي تحملها وطابعها، والأسلوب السهل في الكتابة)، ومجلة «أكتوبر» المتخصصة، بأسلوبها المرئي المتحفظ، ورسوماتها التوضيحية أحادية اللون، وكتابتها النثرية المعقدة والرفيعة، وأعمالها النظرية المبهمة.

علاوة على ذلك، فإن التخصص الذي ترنو إليه الأوساط الأكاديمية — كما سنرى — موجَّه ضد مبدأ الشعبوية الذي تشجعه الدولة، وبدرجة محدودة، الشركات. إن متخصصي المتاحف من ذوي المهارات العالية ممن أمضوا سنوات في اكتساب الخطاب الفني المتخصص بجهد جهيد، يأمرون بالتغاضي عنه عند التواصل مع العامة؛ فالمعارض في الأماكن العامة لا بد أن يفهمها غير العارفين بالعالم الفني.

fig19
شكل ٤-٣: ليام جيليك، «مقترح تجديد مركز روزيم للفن المعاصر، مالمو».3

من الممكن تبيين هذه التوترات جيدًا في النقاش الذي أحاط العمل الناجح جدًّا الذي قدَّمه ليام جيليك، الذي ولَّدَ الفنانُ نفسه جزءًا كبيرًا منه.

بدت الشاشات والقواعد الشفافة ذات الألوان البراقة بمعرض وايت تشابل الذي أقامه جيليك، «طريق الغابات»، أنها تقدم صورة تجارية ليوتوبيا معمارية حداثية تجلب فيها شفافية الزجاج الضوء والنضارة والصفاء الذهني والانفتاح والطبيعة نفسها إلى المساحة الداخلية الكئيبة. إذا أخفق ذلك التصور، فهذا — على حد تعبير إرنست بلوخ اللافت للنظر — يعود إلى أن النافذة ذات الألواح الزجاجية التي تعود للثلاثينيات لم تطل على أي شيء مبهج، بل أطلت بالأحرى على العالم الرأسمالي والفاشي:

إن النافذة الضخمة التي أطلت على عالم خارجي يعمُّه الضجيج، كانت بحاجة إلى عالم خارجي مليء بالغرباء الفاتنين وليس بالنازيين، أما الباب الزجاجي حتى الأرض فاستلزم حقًّا إطلالة أشعة الشمس على المكان وتدفقها إليه، وليس أفراد البوليس السري النازي.

لطالما اهتمت أعمال جيليك بالموقف البيروقراطي والتكنوقراطي المعتدل الذي تُتخذ منه معظم القرارات — في العالم المتقدم على الأقل — من قِبَل الساسة ورجال الأعمال ورجال التخطيط والإدارة. وهو يسأل بإلحاح: كيف يمكن التحكم في المستقبل القريب في موقف ما بعد اليوتوبيا؟ وفي ظل الافتقار إلى الأهداف المطلقة للافتداء الديني والمساواة أو الأمة المتوائمة والنقية، ما الرؤية الضمنية التي تدفع المستقبل قدمًا؟ يستعين جيليك في صناعة العمل بمادة من عالم المؤسسات التجارية — على غرار الألوان والشعارات وخطوط الطباعة — ويضعها في إطار جمالي عابث. في ظاهره، يهدف هذا الأمر إلى أخذ آلية البيروقراطية الذرائعية والدفع بها في نزاع مع نقيضها: علم الجمال العابث. بيد أن هذه لم تكن المهمة التي نفذت تمامًا؛ لأنه في حين أن محصلة العرض التجاري والسياسي هي نتيجة ذرائعية (المعادل الحسابي للشراء أو عدم الشراء، أو صوت آخر لصالح مرشح في الصندوق)، فإن الوسيلة إلى تلك الغاية — الموجهة عبر الوعي الإنساني والتحكم في البيئة — مشبعة بالأيديولوجية والجمالية.

إن في صنع عمل يسعى إلى ضرب مثل على التأثير الأيديولوجي والجمالي للبيروقراطية على العالم أكثر منه التوثيق، تكمن الخطورة في أن يصير الفن مماثلًا لموضوعه. كان على جيليك التغلب ليس فقط على هذا الخطر، بل أيضًا على صعوبات صنع أعمال فنية وعرضها في المعارض. عولجت المشكلة الثانية بصورة جزئية بأسلوب التجرد، فأعماله وكتبه لا تبدو تعبيرية أو تهكمية، وهذا سبب للشعور بالراحة الهائلة لدى مرتادي المعارض التقليديين. يبدو أنها لا تزعم أنها تحظى بمكانة خاصة باعتبارها أعمالًا فنية، كما علق جيليك أن العمل الفني يصير إشكالية عندما يفترض الناس أنه يحمل أهمية متأصلة أكثر من البنى المعقدة الأخرى في العالم. مع ذلك تزيد هذه الخطوات، وهي نافعة في حد ذاتها، من الخطر الأول.

تتعامل أعمال جيليك مع هذا الخطر بعدة طرق — أبرزها العبث بالماضي القريب والمستقبل القريب — مُستخدِمةً وسيلة تستند إلى تفكير والتر بنجامين الذي نظر بالمثل إلى البنى التجارية العتيقة وغير العصرية — ممرات التسوق المقنطرة بباريس — بحثًا عن رؤى معمارية مثالية أذنت بيوتوبيا حداثية وشيوعية وشيكة. يتأمل جيليك البنى التجارية والإدارية لماضٍ آخر قريب لا يمكن استعادته حتى اللحظة، وهو السبعينيات، في سبيل جعل البنى الأيديولوجية والجمالية الحالية بارزة وغريبة.

ثمة طريقة أخرى، ألا وهي الهجوم على الحركة الإنسانية. إن لهو جيليك الجمالي، في حين يبدو أنه يوفر فرصة للمشاركة والعمل والحوار الديمقراطي، غالبًا ما يثبط تلك التوقعات، بالتنظيم الثابت للطاولات والكراسي الذي يتسم بالغرابة، ومن غير المحتمل أن يشجع على الحوار، وأيضًا بكتالوج المعرض الذي وضع بعيدًا عن متناول الجمهور، وكذلك بمخطوطة مزيفة ذات صفحات فارغة، وبوجه عام بالتنسيقات — رغم ألوانها التجارية المبهجة — التي تبدو معادية ومنفِّرة. من ثم ينكشف دور البيروقراطية — الإدارة غير الإنسانية للبشر — بدهاء. إن المعرض والمتحف — خادمَي المؤسسات التجارية بوضوح متزايد — هما المكان البارز لعرض هذا الكشف، رغم مكانة الأعمال الفنية نفسها — باعتبارها تمثيلًا لتلك الحالة بقدر ما هي رفض لها — تبقى متناقضة بشدة.

زعمت مشرفة المعارض إيفونا بلازفيتش، لدى كتابتها عن معرض «طريق الغابات»، أن جيليك: «أوجد فرصًا لنا للالتقاء، ولاسترداد فكرة المناقشة أو المشورة أو التجديد أو الإرجاء، ومن أجلنا كي نصير أبطالًا في صياغة سيناريوهات المستقبل المحتملة.» إن كلمة «لنا» في هذه العبارة غير محددة، مما يجعلها محلًّا للجدال، إن عمل جيليك يبدو بالفعل أنه يقدم تلك الفرص لنخبة محدودة من المعاونين، ومشرفي المعارض، وحتى هواة الجمع، وقد استخدمت مجموعات أكبر من مرتادي المعارض المساحات التي صنعها في أشكال متنوعة من اللهو أو النقاش. مع ذلك كانت الحواجز التي تحول دون مثل تلك المشاركة عالية، وربما أن طابع الحصرية، والتميز، والهرمية في حد ذاتها تضفي على الأشياء والنصوص التي قدمها الجاذبية التي تجلب إليها المجموعة الثقافية المتجانسة معها.

إن ما يظهره عمل جيليك جليًّا هو بعض من التوترات بين الخطاب الاحترافي للفن ووظائفه ومبادئه المثالية الأوسع. وإذا ما تمت المغالاة في التوجه الاحترافي للفن، فهذا سيقوِّض مرة أخرى مزاعم الفن للعالمية (ومن ثم الأسباب الداعية لحمايته). إذا تمت المغالاة في الإتاحة والذرائعية، فسيتلاشى تميُّز الفن عن سائر جوانب الثقافة بالنتائج نفسها.

إلى جانب هذه التوترات العامة بين النماذج المختلفة من الاستقلالية — التي أوجدها السوق والجامعة والمتحف — هناك بعض القوى الحديثة بعينها التي تهدد بتفكيك نسيج استقلالية الفن، وهي تحديث السوق الفنية، والمطالبات المتنافسة التي تروِّج لها الدولة والمؤسسات التجارية بأن الفن يجب أن يقدِّم نفعًا.

التحديث

ثمة بعض الدلائل على أن العالم الفني يتعرض لدفعة تحديثية بفعل التغير الاقتصادي والتكنولوجي. لقد مثَّل الابتكار التكنولوجي تهديدًا مستمرًّا على المنطقة المعزولة المصونة للفن. لم يجرِ استيعاب التصوير الفوتوغرافي إلا بالتأكيد على الحرفة اليدوية لإنتاج المطبوعة، ومن خلال أساليب أخرى سحبت حافز قابلية إعادة الإنتاج، على غرار استخدام مواد مستقطِبة للضوء (وهي مطبوعات فريدة وفردية)، ومؤخرًا — كما شاهدنا — تضخيم المطبوعات إلى حجم يناسب المتاحف. استُوعب فن الفيديو من خلال التقليل من شأن النقد الاجتماعي اليوتوبي له والتطلعات إلى مشاركةٍ وتوزيعٍ واسعَي النطاق لصالح ربطه بالتجهيز في الفراغ لصنع أشياء تبعث على الراحة ومرتكزة في المتاحف، تذكِّرنا بالرسم أو النحت.

ثمة تحدٍّ أكثر حداثة وجوهرية، وهو فنون الإنترنت. فمنذ منتصف التسعينيات فصاعدًا، بدأ الفنانون في استخدام شبكة الإنترنت لصنع أعمال ليست قابلة لإعادة الإنتاج فحسب، بل والتوزيع مجانًا أيضًا. يتسنى نسخ مثل تلك الأعمال على نحو مثالي من جهاز إلى آخر، وجزء كبير من الرموز التي تُشغلها متاح للمشاهدة والنسخ وإعادة الصياغة. إذا كانت ثقافة الإنترنت الخاصة بمشاركة البيانات تهدد حتى تلك المجالات التي تبنَّت مناهج الإنتاج الصناعي، فما مدى السوء الذي يبدو عليه الأمر مع الفن الذي لم يفعل ذلك؟ إن الملكية في مثل هذه الظروف ليست ذات أهمية كبيرة، لا سيما نتيجة لأن منظومة المعتقدات الخاصة بفنون الإنترنت تجنح إلى التركيز على الحوار أكثر من إنتاج أعمال مكتملة، ناهيك عن الغايات. إن فنون الإنترنت لا تتحدى الإنتاج والملكية وبيع الأعمال الفنية نفسها، بل تفتح مجالًا جديدًا ينتج فيه الفنانون أعمالًا غير مادية يمكن اعتبارها فنًّا، ويمكن أن تكون بعيدة عن تدخل التجار وبرامج المؤسسات الحكومية والمؤسسات التجارية. لقد كان لهذا الفن تأثير استثنائي، وسنعود إليه في الفصل الأخير.

من الدلائل الأخرى على التحديث دخول دُور المزادات الكبرى — التي أصبحت شركات مطروحة أسهمها للتداول العام بالبورصات، ومن ثم صارت ملزمة قانونًا بتحقيق أعلى الأرباح — إلى مجال الفن المعاصر. قدَّمت تلك الدور معارض أشرفت عليها شخصيات مرموقة وصاحبتها كتالوجات لها ثقلها، كسبيل لمساندة أعمال الفن المعاصر التي تأتي لاحقًا لعرضها للبيع، كما أنها حاكت الأماكن «البديلة» التي يديرها الفنانون عن طريق تقديم معارض في مبانٍ صناعية مهجورة، بل إنها اشترت وكالات بيع. كانت هذه الخطوات ناجحة في جزء منها نتيجة لأن الفنانين ارتئوا فائدة في كسر احتكار التجار. ومنذ الثمانينيات على الأقل، بيعت أعمال الفن المعاصر بالمزادات بصورة مربحة، وإن وجود مثل هذه السوق «الثانوية» في حد ذاته يوهن من احتكار التجار.

جاء هذا استجابة لظهور نوع من التجار وهواة الجمع في نفس الوقت، كما ساهم في ظهور هذا النوع أيضًا، وهم أشخاص يشترون بغرض الاستثمار القائم على المضاربة، غالبًا ما يكون خارج الدائرة العادية للمعارض، عبر المزادات أو هواة جمع آخرين. وفي المملكة المتحدة، يعد تشارلز ساتشي أبرز نموذج على هذا النوع؛ نظرًا لأنه يتاجر في الأعمال الفنية لأغراض المضاربة، ومجموعته من الأعمال الفنية مرتبطة بالموارد المالية لشركاته، كما أنه يشتهر بشرائه مباشرة من الفنانين أو حتى من معارض التصنيف. تتمثل نتيجة مثل هذا النشاط — كما أكد تيموثي كون — في تضاؤل سيطرة المعارض على الأسعار التي يضعها الفنانون، وأنه صار عليها الاستجابة لمكانة الفنان في السوق الثانوية. مع ذلك، يستطرد كون بقوله إن قدرًا كبيرًا من تحديد الأسعار ونقص الشفافية لا يزال موجودًا. تحدد المزادات أسعار عمل الفنانين، وكثيرًا ما تتعرض للتلاعب من قِبَل هواة الجمع أو التجار الذين يقدمون مبالغ أكثر من المتوقعة بغية تعزيز قيمة ممتلكاتهم. في عالم الفن، مثل هذه الممارسات المتعلقة بتحديد الأسعار والمتاجرة بناءً على معلومات داخلية، والتي يمكن أن تكون غير قانونية في أي مجال آخر من الاستثمار، تبقى شيئًا مألوفًا.

ثمة عامل آخر ألقى بظلاله بدرجة كبيرة على السوق، وهو جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية، وهذه ظاهرة حديثة إلى حد ما، تشكلت الغالبية العظمى من تلك المقتنيات الفنية بعد عام ١٩٤٥، تقريبًا منذ عام ١٩٧٥. استعرض ألكسندر ألبيرو في فترة مبكرة بعضًا من العواقب على مسار الفن المعاصر في كتابه المميز عن تسويق الفن المفاهيمي في وقت أضحى فيه جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية أمرًا هامًّا للمرة الأولى. جمعت المؤسسات التجارية الأعمال الفنية المبتكرة التي تعكس على نحو مواتٍ قِيَمَها الخاصة بالإبداع وريادة المشروعات، ورغم أنه كان نشاطًا محدودًا، منفصلًا عن الإدارة العامة للشركة، وغالبًا ما يكون مستندًا إلى اهتمامات المسئولين التنفيذيين الفردية وميولهم، فقد تغير جمع الشركات للأعمال الفنية مؤخرًا. بين المؤسسات التجارية الضخمة، أضحى جمع الأعمال الفنية جزءًا من خطة العمل، ويصمَّم بحيث يتوافق مع صورة الشركة، ولم يعد موجهًا للبحث عن شيء زخرفي فحسب لتعليقه على جدران المكتب، مع ذلك، يؤكد تشين-تاو وو في رؤيته عن جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية أنه لا يزال هناك تفضيل بين الشركات للأعمال السطحية الزخرفية التي لا يحتمل أن تثير الجدل حول القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية؛ فهذه الأعمال الفنية، في نهاية المطاف، الغرض منها أن تُشاهَد في إطار ليس خاصًّا تمامًا أو عامًّا تمامًا.

من الصعوبة بمكان تقييم أثر جمع المؤسسات التجارية للأعمال الفنية على الفن المعاصر؛ نظرًا لأن معظم الصفقات تظل في طي الكتمان. بمقدورنا تخمين أن هذا الجمع يشكل قدرًا هائلًا من مبيعات الفن المعاصر، لكن من الصعب تحديد هذا القدر بالضبط، وذلك لأن شراء الأعمال الفنية غالبًا ما يندرج ضمن ميزانيات العلاقات العامة أو الإنشاءات أو تأثيث المكاتب. ويستشهد وو بدراسة أجريت عام ١٩٩٠ زعمت أن جمع الشركات التجارية للأعمال الفنية في الولايات المتحدة مسئول عمَّا يقرب من عشرين أو ثلاثين في المائة من السوق الفنية في مدينة نيويورك، وخارج المدينة تصل هذه النسبة إلى نصف السوق الفنية تقريبًا. من الجائز أن حجم هذا الشراء المؤسسي الذرائعي يدفع السوق الفنية إلى أن تؤدي كسوق عادية.

يزعم آبنج أن هناك دلائل على أن الطابع الاستثنائي للاقتصاد الفني آخذ في التضاؤل، أحدها موقف الفنانين المبهم على نحو متزايد تجاه مكانة الفن، وزيادة النشاط الاقتصادي المكشوف. وفقًا لهذه الرؤية، من الممكن اعتبار كلٍّ من الفنانين الذين يهجون ادعاءات العالم الفني (على غرار فناني البنك الجماعي الذي اتخذ من لندن مقرًّا له وقد انفرط عقده الآن) وأولئك الذين يسعون وراء الثراء على نحو واضح (على غرار كونز وموراكامي أو هيرست) دلائل على أن المكانة الرفيعة للفن، وانفصاله الظاهري عن عالم التجارة المبتذل، لم يعودا بأمان. مع ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت هذه السمات هيكلية أم دورية، فترتبط بصعود وهبوط السوق. في نهاية المطاف، يسهل الإشارة إلى نماذج سابقة لكلا النوعين من الفنانين (سرعان ما يتبادر إلى الذهن فنانو جماعة «الفن واللغة» والفنان ورهول للنوع الثاني).

استخدامات الفن

ثمة تحديات جوهرية أمام استقلالية الفن تبدو أقل جدوى من تلك العناصر الخاصة بالتحديث. إن طابع الفن المتمم للنيوليبرالية آخذ في التجلي أكثر مع سعي كلٍّ من المؤسسات التجارية والدول، المدركة لغياب التجارة الحرة، إلى تضخيمه من خلال عمل مطالب ذرائعية من الفن. تريد المؤسسات التجارية استخدام الفن بغية ضمان ارتباطها بالعلامة التجارية التي لا يمكن شراؤها بالإعلان، وترغب الدولة في معالجة الآثار المدمرة للتجارة الحرة على التماسك الاجتماعي؛ من ثم، فكلتاهما تسعيان إلى مواجهة القوى الفعلية التي أطلقتاها بالاشتراك معًا، حتى إن الدول الغنية تشهد الانهيار الاجتماعي الذي تسبب فيه انعدام المساواة المتزايد؛ مما دفع الكثير من الناس نحو الفقر المدقع وانعدام الأمان، وتضع مزيدًا من الضغط على الطبقات الوسطى التي تدعم النظام الكلي للاستهلاكية. لقد رأينا أن ناعومي كلاين زعمت أن «تعهيد» الإنتاج للدول النامية مرتبط بالتأكيد الآخذ في التصاعد على الشعار والعلامة التجارية. وكجزء من هذا الهوس بصورة العلامة التجارية، أضحت مطالب الشركات من الأعمال الفنية أوسع نطاقًا وأكثر منهجية.

انتقلت الشركات من الرعاية الخيرية العرضية للفنون إلى بناء شراكات مع المتاحف أو الفنانين، والتي ترتبط فيها العلامة التجارية لأحدهما بالعلامة التجارية للآخر في مسعى لتعزيز كليهما، كما أنها التفتت أكثر إلى جمع الأعمال الفنية وتكليف فنانين بصناعة أعمال لها، وعرضها في معارض، وفي الآونة الأخيرة، إلى الإشراف حتى على معارض تقام في أماكن عامة.

fig20
شكل ٤-٤: داميان هيرست، «أبسولوت هيرست».4

هناك مثال معبِّر على هذا التحالف، وهو مشاركة سلسلة سيلفريدجز في مجال الفن في السنوات الأخيرة، والتي يفحصها كلٌّ من نيل كامنجز وماريشا لواندوسكا كجزء من مشروعهما «قيمة الأشياء». رعت سلسلة المتاجر متعددة الأقسام معرضًا باسم «النظرة الورهولية» بمعرض باربيكان عام ١٩٩٨، وانتهزت الفرصة لكساء نوافذ المعرض بمظهر ورشة عمل آندي ورهول التي يُطلق عليها «المصنع»، ولعرض جلسة تصوير أزياء مستوحاة من أعمال ورهول. ضم قسم الطعام على نحو متوقع أكوامًا من علب حساء من ماركة كامبل، وصناديق بريللو، وزجاجات كوكا كولا، جنبًا إلى جنب مع مطبوعات خاصة بورهول، كما كان هناك عرض لأفلام ورهول صاحبته دعايات ملائمة في قسم ملابس الرجال. بالطبع، كان ورهول ليحبذ هذه المعاملة تحديدًا، لكن هذا لم يكن سوى بداية لمجموعة من الخطوات الاستراتيجية التي اتخذتها سلسلة سيلفريدجز لاستغلال عالم الفن المعاصر لكسب الزبائن.

مثال آخر هو سلسلة إعلانات ولوحات ومنتجات أبسولوت التي أعيد إنتاجها كصفحات مجلات، والتي شكلت تحالفًا للعلامة التجارية بين الفنان وشركة مشروب فودكا، أطلق ورهول هذه السلسلة على نحو ملائم عام ١٩٨٥. لقد استمرت هذه الأعمال، التي جعلت العلاقة بين الفنان والشركة التجارية جلية إلى حد بعيد، حتى وقتنا الحاضر، صنعها الكثير من الفنانين البارزين، من بينهم كيث هارينج، وديفيد ليفينثال، وإد روشا، وفيك مونيز. على نحو مماثل، تحالف تاكاشي موراكامي — وهو فنان يسعى جاهدًا بصورة واضحة لتحقيق النجاح التجاري — مع شركة لويس فيتون لتصميم حقائب حققت مبيعات عالية للغاية، ومؤخرًا أُنتِج فيديو فني ترويجي لدار الأزياء هذه. وهذا الفيديو «مونوجرام سوبرفلات» (نسبة إلى حركة «سوبرفلات» ما بعد الحداثية التي أسسها موراكامي) هو نسخة محدثة من «أليس في بلاد العجائب»، تسبح فيه فتاة باحثة عن هاتفها المحمول، في عالم مثير للحيرة من شعارات الشركة. يعد هذا الفيديو منتَجًا مختلطًا تمامًا، لكونه إعلانًا طويلًا وفيديو رسوم متحركة بأسلوب موراكامي المميز، عُرض في القاعة الأولى من معرض فرانشيسكو بونامي للرسم الزيتي في بينالي فينيسيا عام ٢٠٠٣، وكذلك بمتاجر لويس فيتون الرئيسية على مستوى العالم، لتعزيز مبيعات حقائب موراكامي أكثر.

حتى وقت قريب، كانت مشاركة المؤسسات التجارية في الفنون منطقة غامضة، تكتنفها اتفاقيات سرية، ويسلط عليها الضوء في أوقات متقطعة بتلميحات نيِّرة في الأعمال الشهيرة لهانز هاكي التي خضعت لرقابته، والتي تناولت الصفقات الفاسدة للرعاة الفنيين أو الأنشطة التجارية لأفراد مجالس إدارة المتاحف. نحن محظوظون الآن لأننا نملك رؤيتين مهمتين مفصلتين عن مشاركة المؤسسات التجارية في الفن لتشين-تاو وو ومارك ريكتانوس، وكلاهما اضطر لكتابة عمله رغم السرية المحيطة بالموضوع؛ إذ لا ترغب المؤسسات الفنية أو الشركات الراعية في الإفصاح عن تفاصيل الاتفاقيات مع بعضها.

تركز رؤية وو على الدول النيوليبرالية والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتصف تفصيلًا عملية خصخصة الفن، في المملكة المتحدة على وجه التحديد، حيث سُحب تمويل الدولة من المتاحف وغيرها من المؤسسات الفنية. في كلا البلدين انتقلت المؤسسات التجارية إلى رعاية الأحداث الفنية، وتكليف الفنانين بأعمال فنية خاصة، وجمع الأعمال الفنية، وعرض مقتنياتها في أماكن عامة. في المملكة المتحدة كان تغيير الطابع السياسي على نحو مزعج للفن المعاصر هدفًا صريحًا لحكومة المحافظين تحت قيادة مارجريت تاتشر من خلال جعله أكثر اعتمادًا على قوى السوق، وبالمثل، دعم رونالد ريجان شخصيًّا تدخل الشركات في الفنون، بدءًا من شركات النفط والتبغ، من بين شركات أخرى.

إن للرعاية وغيرها من الصفقات الأطول أمدًا مع المؤسسات الفنية فوائد واضحة يمكن قياسها للمؤسسات التجارية. هناك اجتذاب لعملاء محتملين يصعب الوصول إليهم: جماهير الفن أكثر ثراءً ويتمتعون بقدر أكبر من التعليم في المتوسط من الجمهور العام؛ ومن ثم تقدرهم الشركات كثيرًا، كما أن هناك فائدة أخرى تأتي من المظهر الخيري للشركات. كثير من الشركات الراعية للفنون تعاني مشكلات متعلقة بصورة الشركة، وتسعى إلى تحسين سمعتها بالسخاء الثقافي. هذه هي الحال، على سبيل المثال، مع شركة بريتيش بتروليوم في تحالفها الطويل مع مؤسسة تيت. على نحو مماثل، كانت شركة التبغ الألمانية ريمستما راعية لمعرض «دوكيومنتا» التاسع للترويج لسجائر ويست من خلال علب سجائر وملصقات محدودة العدد، وتظهر النماذج في خلفية كتالوج الحدث. كما يمكن استغلال رعاية الفنون واسعة النطاق لتأثير سياسي. يقدم وو رؤية مثيرة للاهتمام عن مكائد شركة السجائر، فيليب موريس، وهي راعٍ رئيسي للفنون في الولايات المتحدة، والتي عارضت — بغير نجاح كما تبين — تشريعًا مقترحًا مناهضًا للتدخين في نيويورك عن طريق التهديد بسحب دعمها للفن كافة من المدينة.

كما أوضح وو وريكتانوس، تجني الشركات الكثير من الفوائد مقابل ما تقدمه من مال؛ لأنها ترعى المعارض — سبعون في المائة من تكاليف المعارض في أوروبا الآن تأتي من مصادر خاصة — فهي تحصل على أغلب الدعاية المرتبطة بتلك المناسبات. أما تمويل الباقي — الأمور غير الجذابة التي تبدأ من فهرسة المجموعات إلى صيانة مصارف المياه — فيقع على عاتق الدولة التي تقدم بنية تحتية مدعمة تعتمد عليها الهبات المحدودة للشركات.

كل هذا له تأثير مباشر على الثقافة. تملك الشركات معايير خاصة لا بد من الوفاء بها قبل تقديمها للرعاية، والمشروعات التي تقع خارج نطاق تلك المعايير لها فرصة مشاهدة ضئيلة، وبالطبع ليست في المعارض البارزة التي تعتمد على الصفقات مع الشركات. يذكر ريكتانوس أن المعايير الأساسية هي: هل مجال النشاط الثقافي يتوافق مع الأسواق الجوهرية للشركة (فمن غير المحتمل أن ترعى شركة نايك معرضًا لرامبرانت)؟ وهل من المحتمل أن يحظى العرض بتغطية إعلامية جيدة؟ وهل الأفراد أو المجموعات المعنية أهداف ملائمة للدعاية؟

لقد تفحصنا النتائج بالفعل في الفصل السابق، وهي: التأكيد على صورة الشباب، وانتشار أعمال تُنسخ جيدًا على صفحات المجلات، وظهور فنانين مشاهير، وأعمال تقترب من الثقافة السلعية وعالم الموضة، وتلعب دور عوامل جذب يسيرة للرعاة، وندرة في الأعمال النقدية، باستثناء في ظروف محددة وخاضعة للسيطرة. بالطبع، إن الشهرة المجددة مؤخرًا لهانز هاكي هي مثال على ذلك؛ حيث جرى في منتصف التسعينيات استعراض أعمال هذه الشخصية الموقرة من الماضي السياسي الراديكالي للفن المفاهيمي كتحفة أثرية منعزلة، الأمر الذي حمل معه (عكس نواياه بلا شك) نفحة ثقيلة من حنين آمن وواهن إلى الماضي.

ينزع الرعاة إلى إنتاج أعمال مذهلة وباهظة التكلفة، يعد فيها الإنفاق سمة جلية. إن هذا الاستهلاك التفاخري يؤكد على أهمية الفنان والمتحف والجهة الراعية في آنٍ واحدٍ، وهو يمثل قوة أخرى تحفز فنون التجهيز في الفراغ والفيديو الضخمة وغيرها من عروض التكنولوجيا المتقدمة. علاوة على ذلك، عندما تقدم المؤسسات التجارية الضخمة الرعاية أو تقيم تحالفات مع مؤسسة فنية، فهي تتوقع — في ضوء مداها العالمي وتوقعها الخاص بوفورات الحجم — المشاركة في ثقافة متعددة الجنسيات، وهذا ضغط مألوف آخر على الهيئات الفنية لجعل عروضها ذات نسيج هجين.

تأمُل المؤسسات التجارية إعلاء شأنها من خلال الارتباط بما لا يمكنها تجسيده، بما في ذلك العبث الحر في الفن الرفيع. كما يقول الشعار المشهور لشركة فيليب موريس الآن: «الفن ضروري لبناء شركة عريقة.» في الوقت نفسه — كما شاهدنا — تسعى الشركات جاهدة إلى اكتساب سمات إبداعية وثقافية. ذكر ريكتانوس أن حديث الشركات عن الفنون يسهم في إجازة الشركة باعتبارها تملك الإبداع، وكونها راعيًا أو تاجرًا أو — على الأقل — سمسارًا وجامعًا للأعمال الفنية، وكجزء لا يتجزأ من جمهور الفن؛ الجماعة التي ينبغي أن تروق لها الفنون. إذا ساعد الفن المؤسسات التجارية في هذه الأنشطة المتعلقة بتحسين صورتها والتي من شأنها زيادة الأرباح، فإن المخاطرة تكمن في أنه إذا أضحت هذه العملية واضحة أكثر مما ينبغي، فسيفقد الفن تشبُّعه بالاستقلالية التي تمنحه المكانة التي تخول له تنفيذ هذه الوظيفة.

تتمِّم مطالب الدولة مؤخرًا من الفن تلك الخاصة بالمؤسسات التجارية، فكلتاهما لها اهتمامات مشابهة في تعزيز الهدوء والتماسك والاحترام الاجتماعي في وجه رياح الدمار الإبداعي التي تسبَّب فيها النظام الاقتصادي الذي تلتزم الدولة بالترويج له باستمرار. تنظر حكومة حزب العمال في بريطانيا إلى الفن باعتباره وسيلة لتعزيز الاقتصاد، لا سيما فيما يسمى «الصناعات الإبداعية»، ومساعدًا على التنمية الإقليمية، وعقارًا اجتماعيًّا لمداواة الصدوع الاجتماعية المسببة للشقاق والتي حدثت نتيجة السنوات الطوال من حكم المحافظين. ينبغي أن ينعم الفن بالجودة دون أن يكون نخبويًّا، ويجب أن يجذب جماهير جديدة ومتنوعة. ثمة خطوات مماثلة في الولايات المتحدة، حيث ظهرت تبريرات لتمويل المنحة الوطنية للفنون — والذي طالما تعرض لهجوم السياسيين المحافظين — مؤخرًا أساسها أن الفن له أدوار يلعبها في البرامج الاجتماعية، من بينها خفض الجريمة، والإسكان، والتعليم. تتمثل خطورة مثل هذه الخطوات في كشفها عن الدور الذرائعي للفن، وهي أيضًا تكشف بوضوح شديد للغاية العلاقة بين الفن والدولة، والتي من المفترض — رغم كل شيء — أن تُبنَى على المثالية والقيم الإنسانية الخالدة. إذا موَّلت الدول الفنون بغية الإعلاء من نفوس المواطنين، فإن هذا التأثير يتحطم إذا جاب مستهلكو الفن تلك المعارض يفكرون في الاستراتيجيات الإعلانية والتنمية الإقليمية، أضحت هذه الأفكار لا يمكن تجنبها بصورة متزايدة. يستطيع الفن الوفاء فقط بالمطالب الذرائعية للشركات والدولة إذا أخفى المبدأ المثالي الخاص بالحرية وظيفته، ودُعم بحق انفصاله النوعي عن التجارة الحرة.

تشعر الدولة والشركات بالرضا عن وضع الفن بعيدًا عن نطاق مضاعفة الأرباح المجردة؛ فلدى شعوب كثيرة، تلعب الدولة دورًا كبيرًا في جمع الأعمال الفنية وعرضها، بما يلقي بظلاله على تحديد الذوق ومسار الكتابة الفنية. إذا كانت الأعمال الفنية سلعًا حقًّا شأنها شأن غيرها، ينبغي أن تكون الحكومات راضية عن ترك شرائها والاحتفاظ بها وتصريفها لقوى السوق. ورغم الاعتقاد أن السلع تقسم الهوية وتحددها أيضًا، بما يروق لدوافع متنافسة لدى الفرد، فإن ثمة افتراض مثير للريبة بأن العمل الفني داخل المتحف يشكِّل الترابط الاجتماعي حتى مع احتفائه بالاختلاف، ويعزز الذاكرة الجماعية حتى مع إعادة صياغته للمراجع المتنوعة والمتباينة وإعادة تجميعها.

إن نمو المتاحف في جميع أنحاء العالم على مدار التسعينيات لم يسبق له مثيل، من بين الأمثلة الكثيرة على المتاحف الجديدة: متحف تيت مودرن، ومتحف هيوستن للفنون الجميلة، ومتحف شيكاغو للفن المعاصر، ومتحف جوجنهايم في بلباو. حدد أدريان إليس على نحو مقنع بعضًا من الأسباب المحتملة وراء ذلك؛ أولًا: لطالما كانت المتاحف سبيلًا للتعبير عن المكانة الاجتماعية التي تمنحها الثروة، وفي التسعينيات أضحت تلك الثروة أكثر تركيزًا؛ من ثم فعل الأغنياء ما فعلوه على الدوام، الفارق أنهم باتوا أكثر غنى الآن. ثانيًا: تلعب المنافسة القومية والإقليمية دورًا، وقد تفحصناه بالفعل. ثالثًا: تحتاج البرامج الجديدة التربوية والترفيهية في المتاحف إلى مساحات أكبر. رابعًا: إن أنماط قضاء وقت الفراغ المتغيرة تعني التردد على المتاحف أكثر. أخيرًا: تخلق توسعات المتاحف المنافَسة بين المتاحف نفسها، فالبقاء على الحال نفسها فيما يتوسع كل شيء محيط لا يبدو خيارًا جذابًا. يستطرد إليس في جداله بأنه في ضوء حالة المتاحف التي ينقصها المال الكافي باستمرار الذي يجعل من الصعب عليها صيانة المباني والاحتفاظ بفريق العمل، غالبًا ما يتم اللجوء إلى هذا التوسع من منطلق حالة الضعف. تعتمد المتاحف على الإعانات المتضائلة بوجه عام من الدولة، والرعاية أو غيرها من الاتفاقيات مع الرعاة والشركات. من بين أكثر السبل شيوعًا لإعادة التمويل تقديمُ عروض محبوبة للغاية، والتوسع؛ فالحصول على تمويل خاص لمشروعات توسعية جذابة أيسر كثيرًا من دعم الإدارة الاعتيادية للمتحف. تكمن الصعوبة في مسألة التوسع في أنه على المدى البعيد، ما لم يحقق البرنامج نجاحًا كبيرًا بحيث يولِّد فرص تمويل أخرى كثيرة، يفاقم المشكلة الضمنية؛ مما يترك المتحف بمبانٍ أضخم تحتاج إضاءة وتدفئة وفريق عمل وصيانة. حثَّ الازدهار الاقتصادي إبان التسعينيات على مزيد من توسعات المتاحف، فمع الارتفاع السريع في البورصة أضحت المتاحف بصورة مباشرة وغير مباشرة على حد السواء أكثر ثراءً. لقد أحدث الركود الأخير توقفًا كبيرًا في الكثير من البرامج — من بينها تلك الخاصة بمتحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون ومتحف ويتني ومتاحف أخرى — وإغلاق فرعين لمتحف جوجنهايم، في منطقة سوهو بنيويورك ولاس فيجاس.

من نتائج هذا النمو الهائل، بوضوح، تحفيز إنتاج الأعمال الفنية. كما أوضح هاورد بيكر، لم نصادف يومًا متاحف فارغة نتيجة لنقص الأعمال الفنية الجيدة بدرجة كافية لعرضها؛ لذا لا بد أن تتسم معايير الحكم وكم الأعمال المنتجة على حد سواء بالمرونة لملء المتاحف. لقد كان هذا بلا شك حافزًا آخر في توسيع النطاق العالمي للفن المعاصر، وهو سبيل رئيسي لتوسيع حيز الإنتاج.

في هذه البيئة التي يحتدم فيها التنافس، ميَّزت المتاحف نفسها بعلامات تجارية. من أبرز الأمثلة على ذلك مؤسسة جوجنهايم، وهي امتياز عالمي للمتاحف، ومن أشهر فروعها جوجنهايم بلباو. توسعت مؤسسة جوجنهايم، تحت إدارة توماس كرينس، بفروع جديدة في برلين في إطار تحالف مع مصرف دويتشه بنك، وبفرعين آخرين تحولا إلى ضحيتين للركود (كما رأينا). كانت أكثر مشروعات المؤسسة جرأة في بلباو، التي كانت مدينة صناعية ثرية في السابق بعيدة عن درب المعالم السياحية، وانقسمت بفعل السياسة الانفصالية، والتي اشتملت على تفجيرات واغتيالات شنتها منظمة إيتا الانفصالية. جاء في الوصف المفصل لكيم برادلي، أن المتحف ارتبط بتطوير ميناء ومطار المدينة وبناء مترو أنفاق بالمدينة، والأهم من ذلك، متاجر التجزئة ومكاتب ومساكن. لقد كان نجاحًا فائقًا بكل تأكيد في تحويل بلباو إلى وجهة سياحية، وتميزت المدينة بالمبنى النحتي البارز لفرانك جيري، والذي كساه بمادة التيتانيوم. تكبدت الحكومة الإقليمية مبلغًا كبيرًا، لتغطية كافة تكاليف مشروع جوجنهايم بدءًا من وضع التصور للمكان وتصميمه وبنائه وحتى إدارته. أُنشِئ صندوق اقتناء بقيمة خمسين مليون دولار، مع أن الأعمال التي ستُبتاع ستبقى ملكية لمؤسسة جوجنهايم. والأهم من ذلك، كانت هناك رسوم مُعفَاة من الضرائب بقيمة عشرين مليون دولار لاقتراض باقي مجموعة جوجنهايم ولاستخدام العلامة التجارية. وقد جرى التسويق للمعرض للسائحين الأجانب في الأغلب، وكان مدى تعامل المتحف مع اهتمامات إقليم الباسك مثارًا لجدل ساخن في السنوات الأولى له. إضافة إلى أن مشترياته وعروضه، رغم المبلغ المالي الضخم الذي منحته الحكومة الإقليمية بغية تشكيل مجموعة إسبانية وباسكية، كانت «لأساتذة» أمريكيين وأوروبيين مشهورين. لقد رأينا أن فن التجهيز في الفراغ يضمن حضور جمهور الفن الملتزم، يستطيع البذخ المعماري فعل الأمر نفسه، وعادة ما يجتمع الاثنان في تضامن؛ إذ يستجيب التجهيز في الفراغ مع بيئته.

من منظور أوسع نطاقًا، بالنسبة لمنظمة فنية، فإن مؤسسة جوجنهايم مؤسسة تجارية تتسم بالشفافية بصورة خاصة، فمعارضها تركز على مصالحها المالية. كان معرض «فن الدراجة النارية» الأول ضمن عدد من المعارض التي بدا أنها توفر فرصًا للرعاة أكثر من تقديم عرض ثقافي. أما معرض «جورجو أرماني»، الذي أقيم في جوجنهايم نيويورك عام ٢٠٠٠، فكان عرضًا إطرائيًّا يرتبط، كما ظن البعض، بصفقة الرعاية المقدرة بخمسة عشر مليون دولار بين دار أزياء أرماني والمتحف. كان المعرض استعراضًا للبضاعة المتوفرة في الوقت الحالي أكثر منه استعراضًا تاريخيًّا لمنتجات دار الأزياء، ولم يقدم العرض أو الكتالوج شيئًا يعدو الاحتفاء بتصميمات أرماني. استأجر دار أزياء أرماني، في الواقع، المتحف لعرض إعلانات له.

تشير مشروعات جوجنهايم إلى توجهات أوسع نطاقًا؛ فقد ازدهرت العلامات التجارية في الساحة الفنية، فطوَّرت المعارض والمتاحف شعاراتها الجديدة بجهد جهيد منها لطبع السمة الخاصة بالعلامة التجارية لها في أذهان الناس. أسفر استخدام «تيت» بوصفها علامة تجارية (يشن العاملون بالتسويق هجومًا منهجيًّا ضد مواد محددة وغير محددة) عن كيان يفوق فروعها المادية المتعددة، ويحقق تضامنًا بين علامات تجارية مختلفة عبر صفقات، على سبيل المثال، لمباركة مجموعة من الطلاءات المنزلية التي تباع عند عملاق بيع المواد التي تحمل شعار «اصنعها بنفسك»، بي آند كيو. يكافح الكثير من الفنانين على نحو مماثل لاكتساب تمييز تجاري، وقليل منهم يحالفه النجاح، لقد أضحت تريسي إمين علامة تجارية تستمد منها أعمالها الفنية. إن مثل هؤلاء الفنانين الذين يمثلون علامات تجارية هم شخصيات مجازية ينفذون، على غرار الإنسان الآلي، سلوكًا معينًا ومتوقعًا إلى جانب نتاجات أخرى. في أحد الاجتماعات حول رعاية الفنون — أقيم بالجمعية الملكية للفنون عام ٢٠٠١ — عبَّر ممثل سيلفريدجز عن الأمر بصراحة: إن عرض صور لسام تايلور وود على واجهة المحال التجارية أثناء تجديدها يمثل توحيدًا لعلامتين تجاريتين، في صالح كلٍّ منهما.

لقد لاحظنا أن رعاية الشركات للمعارض تميل إلى مناهضة المحتوى النقدي أو الراديكالي. إن تمييز المعارض بعلامات تجارية لا يزال يمثل قوى أكثر فاعلية في إخماد الفكر النقدي. إذا أضحت الدار التي تعرض الأعمال الفنية شعارًا استثنائيًّا (يظهر على أكياس التسوق والحلي الصغيرة التي تباع بمتجر المتحف)، وإذا كان المتحف قد صَنع على نحو باهظ الكلفة نمطًا تسويقيًّا لنفسه يتسم بألوان وخطوط وصور معينة تشكل هوية العلامة التجارية، فإن محتويات المتحف هي الأخرى مميَّزة بعلامة تجارية بصورة ضمنية، حتى من خلال المواد التي تطلق عليها تسمية أو تشرح معلومات عنها. إن الاتجاه هنا هو إنتاج عروض تستعرض عملًا بعد الآخر بتزكية متساوية، كما لو أن الأعمال الفنية لا تتنافس أو تتعارض فيما بينها أبدًا. تحظى محتويات المتحف بغطاء تأميني، وهي تكتسب تمييزًا تجاريًّا بإدراجها الفعلي تحت الغطاء التأميني.

مع استيعاب المتاحف والمعارض الفنية للممارسة التجارية وبحثها عن جماهير أعرض وأكثر تنوعًا، تغير طابعها. يقول بورديو في كتاب «حب الفن» عن المتحف الأوروبي في أواخر الستينيات الذي لم يكن تغير بعد، فارضًا على مشاهديه فكرة أن ما يختبرونه هناك شيء مختلف أيما اختلاف عن الحياة اليومية:

… تعذُّر لمس الأشياء، والصمت الروحاني الذي يفرض نفسه على الزوار، والجمالية المتزمتة لوسائل الراحة، القليلة دائمًا وغير المريحة نوعًا ما، والغياب شبه المنهجي لأي معلومات، والهيبة العظيمة للزخارف والاحتشام …

إن زيارة متحف تيت مودرن كافية لإدراك قدر التغيرات التي وقعت؛ فلا تزال الدراما المعمارية تعمل على الترسيخ في ذهن المشاهد أهمية ما يراه، لكن النتيجة ليست مؤثرة. وتكتظ المعارض، التي تلعب دورًا ثانويًّا بالنسبة لوسائل الراحة ومساحات التجوال، بالناس الذين يجدون سعادة في التعبير عن أنفسهم، فالمعلومات غزيرة وهناك مجالات، على الأقل، يُشجَّع فيها التفاعل.

هذه التغيرات كانت من بين أسباب انفتاح الحيز المغلق للفن أمام عمليات العرض السلعي. يضغط توجهان من التوجهات التي تفحصناها في هذا الفصل في اتجاهين معاكسين: الإتاحة والأنماط الأكثر نموذجية للتسليع نحو الاندماج الجزئي على الأقل مع الثقافة التجارية، والمهنية الأكاديمية للفن نحو الاستقلالية والخطاب النخبوي. إن تدخل الدولة يخفف من حدة هذا التناقض؛ وذلك لأن الغرض الفعلي من المهنية، في المتاحف على الأقل، هو الاتصال العام الفعال.

ثمة مجالات تصل فيها استخدامات الدولة والمؤسسات التجارية للفن إلى توتر أكبر. تسعى الدولة إلى مجابهة تفريغ الديمقراطية من محتواها وتراجع الروح الاجتماعية التي تسببت فيها النزعة الاستهلاكية الجامحة، وهي النتيجة ذاتها لأفعال المؤسسات التجارية. إن الغاية الرئيسية للمؤسسات التجارية بيع سلع لجمهور يزداد ولعًا بالانتقاد، ويرتاب في أساليب التسويق التقليدية، كما أن منحنى سياسات الدولة يسير في اتجاه الاحتواء الاجتماعي وتوسيع نطاق جمهور الفن. تكمن مصالح المؤسسات التجارية في السمة الحصرية للفن في حد ذاتها والارتباط بالنخبة والمشاهير، وهو شأن مميز يكسبها مصادقة الثقافة الرفيعة والوصول إلى أرباح وتغطية إعلامية باستمرار، وكلما أصبحت تلك العلاقة أكثر شفافية، تلوث الفن بفعلها، فيبدو أنه ليس سوى جزء آخر من المسار العام للثقافة الجماهيرية بأداتها المرهقة للدعاية والشهرة. لا شك أن جلب مادونا لإعلان جائزة تيرنر بمتحف تيت عام ٢٠٠١ كان الهدف منه إكساب الحدث شهرة أكبر، وبالمثل إعلاء شأن نجمة البوب في غضون ذلك بربطها بالثقافة الرفيعة. مع ذلك، تجلَّت النتيجة في إدراك كل متفرج لموقعه، داخل النطاق المألوف تمامًا للثقافة الجماهيرية، ولعبت الأعمال الفنية المعروضة دور إلهاءات مشوقة إلى حد ما للمشهد الرئيسي الخاص بالسلوكيات السيئة للنجمة المتعطشة للشهرة.

إن حروب العلامات التجارية في التسعينيات جعلت الفن عنصرًا أشد أهمية في إدارة الصور التجارية، ربما يمكن لهذا الحط من مكانة الفن أن يستمر فحسب؛ فالمؤسسات التجارية التي تهتم بصورتها العامة أو المشاركة في «الصناعات الثقافية» لا يمكن أن تترك ميزة المساهمة في الفنون لمنافسيها. وعلى نحو نظامي، لا يسع المؤسسات التجارية سوى الاستمرار في تقويض استقلالية الفن، وهي الأساس الفعلي لجاذبيته.

يتمثل التناقض الجوهري في أن الفن الرفيع، من حيزه المنغلق العتيق والمصون، يروج للقوى الفعلية للنيوليبرالية، والتي إذا طُبقت على الفن ستؤدي إلى تدميره. يشير بنجامين بوكلو إلى أن النموذج الثقافي الذي تؤيده الدول أصبح مؤسسيًّا، كما ترغب المؤسسات التجارية في تقليل التجربة الجمالية للأزياء؛ وهذا النموذج — كما يذكر بوكلو — يتناقض بشدة مع المبدأ المثالي الديمقراطي للثقافة الذي تعرف فيه العامة نفسها وتدركه. إن أطياف هذه المبادئ المثالية لا تزال تتشبث بالفنون (ويستغلها فنانون أمثال جيليك)، كما أنها تظل ذات أهمية محورية في وجهات نظر الكثير من الناس تجاه الفن، بغض الطرف عن مدى عدم الوفاء بتوقعاتهم بانتظام. إن هذه القضية هي العنصر الأهم في معارضة استخدام الفن كخادم للتجارة والدولة، وسنعود إلى هذه النقطة في الفصل الأخير.

هوامش

(1) © the artist. Courtesy of Sonnabend Gallery, New York.
(2) © the artist. Courtesy of Lisson Gallery, London.
(3) © the artist.
(4) © 2004 V&S Vin & Sprit AB (publ). Courtesy of the artist.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤