الفصل الأول

الاقتراب من هُوَّة العنف والفَوْضَى

أورد محلِّلو مجموعة جولدمان ساكس، تحت قيادة آريون إن مورتي، في تقريرٍ لهم أن النِّفْط الخام قد يرتفع سعرُه لما بين ١٥٠ و٢٠٠ دولار للبرميل في غضون عامَيْن مع استمرار عجْز المعروض عن مسايرة الطلب المتزايِد من جانب الدول النامية … وقد كَتَب محلِّلو جولدمان ساكس في تقرير بتاريخ الخامس من مايو يقولون: «تبدو احتمالية وصول سعر برميل النِّفْط إلى ١٥٠–٢٠٠ دولار مرجَّحة بدرجة متزايِدة على مدار الفترة المُقبِلة الممتدَّة من ستة أشهر إلى أربعة وعشرين شهرًا، وإنْ كان التنبُّؤ بالذروة النهائية لأسعار النِّفْط وكذلك الفترة المتبقية لهذه الدورة التصاعدية لا يزال يكتنفُهُما عدمُ اليقين.»

«مورتي من جولدمان ساكس يقول: إن سعر برميل النِّفْط «من المرجح» أن يَصِل ما بين ١٥٠ و٢٠٠ دولار.» نيسا سوبرامانيان، بلومبرج، ٦ مايو، ٢٠٠٨

***

fig1
شكل ١-١: أحد العمال بحقل سبوريشيفسكويا النِّفْطي في سيبيريا يتفقَّد الضغطَ على رأس إحدى الآبار، الثلاثاء ٢٤ يونيو ٢٠٠٣. (تصوير ديميتري بلياكوف/بلومبرج نيوز.)

عام ٢٠٠٨ ارتفع سعر النِّفْط بدرجة شديدة لدرجة أنه هَيْمن على الخطاب العالمي ووسائل الإعلام العالمية. وقد هدَّدتِ الزيادة القاسية في سعر الوقود بالنسبة إلى المستهلِك النهائي بزعزعة استقرار الاقتصاد العالمي. كانت أسعار الوقود تدفع العالم إلى إنفاق حصة أكبر مما ينبغي من الدخل ليس فقط على الوقود نفسه، وإنما كذلك على الحبوب مع زيادة رقعة منتجات الطاقة البديلة على حساب زراعة المحاصيل الغذائية.

والحلول التي اقتُرحَت إلى الآن — بداية من «تعليق فَرْض ضرائب الوقود خلال فترة الإجازات» إلى مناشدة السعودية زيادة المعروض — لم تَعْدُ كونَها مسكِّنات وقْتية، وليست حلولًا طويلة الأمد. كما كانت الأسباب المُقْترَحة وراء ارتفاع أسعار النِّفْط محلَّ خلاف؛ فهل المتسبِّب هو الدول العربية، التي تتصرَّف بوصفها اتِّحادًا احتكاريًّا للنِّفْط؟ أم أن المتسبِّب هو المليارَا صينيٍّ وهنديٍّ الذين تُمارِس طبقاتُهم الوُسْطى طلبًا لا يُمكِن الوفاء به على الموارد الشحيحة؟ أم هل هناك حِلْفٌ شيطاني من نوع ما من جانب شركات النِّفْط الغربية الكبيرة ضد برامج الطاقة البديلة؟ أم هل المتسبِّب هم مضاربو وول ستريت؟ وما الذي ستفعله أسعار النِّفْط المتزايِدة بالاقتصادات التي لم تتعافَ بعدُ من أزمة الرَّهْن العقاري الأخيرة؟

لم ينجحِ الغربُ في تبيُّن الإشارات التحذيرية لتصاعد أسعار النِّفْط بالسرعة الكافية. فحتى وقت قريب — في سبتمبر ٢٠٠٣، حين كانت أسعار النِّفْط أقلَّ من ٢٥ دولارًا للبرميل — كان الأمريكيون نادرًا ما يُظهِرون أيَّ اهتمام بالنِّفْط. ولم تَحدُث شكوى من طرف المستهلكين النهائيين للوقود إلا إبَّان فترة حظر النِّفْط العربي القصيرة، وإنْ كانت مؤثِّرة، عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٤، حين تَضَاعَفَتْ أسعار النِّفْط أربعة أضعاف من دولارين أو ثلاثة دولارات للبرميل في نهاية عام ١٩٧٢ إلى ١٢ دولارًا بنهاية عام ١٩٧٤.

ومع مطلع الألفية الجديدة، بدأتِ اللامبالاة الحميدة التي كنَّا نشعر بها كمجتمع نحو النِّفْط في التحوُّل إلى فضول مبهم، ثم إلى هَوَس. فعَلَى حين غِرَّة، بدا أن أعمال النِّفْط تتسم بروح «الغرب المتوحِّش» بدرجة أكبر مما كان عليه الحال خلال الحقبة التي أعقبت أول اكتشافات النِّفْط في الولايات المتحدة واتَّسَمت بالمغامرة. كنا نريد حلَّ لُغْز وقوعنا في هذه الأزمة ومعرفة السبب وراء قدرة كل طاغية أو شركة ناشئة في ركن قصيٍّ من العالم على السيطرة على أسلوب حياتنا المعتمد على الطاقة. كنا نظن أننا نستطيع تحديد السبب وراء ذلك الارتفاع السريع في أسعار النِّفْط، وبعدها قد نتمكَّن من عكس اتجاه ذلك التيار والعودة إلى «الأيام الخوالي الطيبة» التي كان النِّفْط فيها متاحًا على الدوام ولم يكن يتعين علينا التفكير بشأنه. كان هذا هو الأمل قبل أن تتسبب التحولات الأخيرة في مجال الطاقة في عملية إعادة توزيع ضخمة للثروة النِّفْطية العالمية، وقبل أن تظهر إلى النور مجموعة جديدة خطيرة من اللاعبين في مجال النِّفْط، متسبِّبةً في خَلْق قواعد جيوسياسية جديدة ووضعِنا على مسارٍ نحو الفوضى والعنف. وكي نتفهَّم الكيفية التي وصلنا بها إلى هذا الموضع، علينا أن ننظر إلى ما كنا عليه قبل ذلك.

حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان المستهلِك الأساسي للنِّفْط هو الولايات المتحدة، وكانت قُوَى العرض والطلب داخل سوق النِّفْط تُحافِظ على وضْع متوازِن. ففي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانتْ قُوًى ذات نفوذ، وتحديدًا «الأخوات السبع» — وهو المصطلح الذي يُشير إلى مجموعة من شركات النِّفْط الأمريكية والأوروبية — كانت تَملِك زمامَ الأمور. لكنْ مع توالي الاكتشافات النِّفْطية الجديدة، بدأتْ مقاليد القوة تتحول إلى شركات النِّفْط القومية بالدول النامية. كان الأعضاء الأصليون لمنظمة الأوبك شركات نفط قومية، لكنها كانت بالأساس تحت سيطرة السعودية، التي حاولت الحِفَاظ على الاستقرار في عالم النِّفْط، ولم تكن — باستثناء مواقف معدودة بارزة — تاريخيًّا من شركات النِّفْط القومية الجديدة التي كانت تَستَخدِم مواردَها الطبيعية كسلاح عُدْوان؛ أيْ لم تكن من «الدول النِّفْطية المعتدية».

الأخوات السبع الأصلية

(١) ستاندرد أمريكان أويل أوف نيوجيرسي (إكسون لاحقًا).

(٢) رويال دَتش شِل.

(٣) شركة النِّفْط الأنجلو-فارسية (بريتيش بتروليَم لاحقًا).

(٤) ستاندرد أمريكان أويل أوف نيويورك (موبيل لاحقًا).

(٥) تكساكو أمريكا (تكساكو لاحقًا).

(٦) ستاندرد أمريكان أويل أوف كاليفورنيا (شيفرون لاحقًا).

(٧) جَلف أويل.

(١) صعود نجم شركات النِّفْط القومية

في البداية، كانت شركات النِّفْط الكبرى فقط هي المسيطِرة على عمليات التنقيب عن النِّفْط وإنتاجه، لكن الدول النِّفْطية الجديدة كانت مُتلهِّفة لانتزاع السيطرة على صناعاتها النِّفْطية من أيدي شركات النِّفْط الدولية الكبرى، ومِن ثَمَّ بدأتْ تَرَى فرصةً لتحقيق استقلالها.

حدثتْ نقطة التحوُّل الفاصِلة — التحول في ميزان القوى — من النظام النِّفْطي القديم إلى النظام النِّفْطي الحديث في أوائل سبعينيات القرن العشرين. كان الحدث جَلَلًا، ليس من حيث تأثيره المالي بقدْر ما كان كذلك من حيث تأثيره السياسي. فحين أعلنتِ السعودية الحَظْرَ النِّفْطي بين عامي ١٩٧٣ و١٩٧٤ خلال حرب أكتوبر (يوم الغفران)، كانت تلك المرة الأولى التي وَاجَهَ فيها العالَمُ نقصًا في الإمداد النِّفْطي، وذلك حين استُخدِم النِّفْط سلاحًا سياسيًّا.

وفي ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، استيقظ نَمِرٌ وفِيلٌ نائمان من سُبَاتِهما. فقد احتاجتِ الآلتان الاقتصاديتان لكلٍّ مِن الصين والهند — بتعدادهما السكاني الذي يتجاوز المليارَ نسمة لكلٍّ منهما ورغبتِهِما في خَلْق طبقة وُسطَى خاصة بهما — النِّفْطَ من أجْل دفْع نموِّهما وتحقيق حلم الرخاء.

غازبروم تهدف إلى دخول نادي التريليون دولار مع وصول سعر برميل النفط إلى ٢٥٠ دولارًا

شكل ١-٢: قال أليكسي ميلر، المدير التنفيذي لشركة غازبروم: إن سعر برميل النِّفْط سيصل إلى ٢٥٠ دولارًا «في المستقبل المنظور»، وهو ما يُعادِل زيادةً قدْرُها نحو ٨٥ بالمائة من السعر الحالي، وأضاف: إن القيمة السوقية لشركة الطاقة الروسية ستتضاعف ثلاث مرات بحيث تصل إلى تريليون دولار في وقت قريب من عام ٢٠١٥. (الإمداد النِّفْطي المتناقِص أدَّى إلى إحداث تحوُّل متواصِل في ميزان القوى في خريطة الدول النِّفْطية، ليس فقط بين القُوَى العُظمَى ومنافسيها من شركات النِّفْط الكبرى، وإنما أدَّى أيضًا إلى مَيْل ميزان القوى من اللاعبين القُدَامَى إلى شركات النِّفْط القومية في الدول النامية الصغرى ذات الحكومات غير المستقرة (المصدر: بلومبرج).)

كان في مصلحة السعودية «زعيمة» دول الأوبك، على الدوام، أن تُبقِيَ على أسعار النِّفْط منخفضة بما يكفي؛ بحيث لا يشعر المستهلكون أبدًا بأي ضغط يَدفَعُهم إلى البحث عن مصادر بديلة للطاقة. سعَى السعوديون إلى تنظيم أسعار النِّفْط من خلال تنظيم مقدار النِّفْط الذي يَضخُّونه. في الماضي، حين كانت الأسعار تنخفض أكثر مما ينبغي، كانت السعودية تَخفِض سقف الإنتاج، وحين كانت الأسعار ترتفع أكثر مما ينبغي كانت تَرفَع سقف الإنتاج.

عمل هذا النظام على نحو طيب إجمالًا. ولم يَجِد الغرب دافعًا يحثُّهم على الإقلاع عن إدمانهم للنِّفْط، الذي كان أسلوبُ حياتهم المترسخ الفاخر يعتمد عليه. لكنِ الآن صار هناك حراك جديد نتيجة الطلب القادم من العملاقين الآسيويين البازغين. فقد بدأتِ الهند والصين تُمارِسان ضغطًا شديدًا للغاية على مزوِّدي النِّفْط لدرجة أن السعودية وَجَدَتْ أنه من العَسِير عليها أن تُبْقِي أسعار النِّفْط منخفضة.

يحلم حُكَّام دول العالم الثالث بالعثور على النِّفْط في أراضيهم؛ إذ يُمثِّل الأمرُ لهم ما يمثله الفوز باليانصيب؛ فالبعض يحلمون بجَلْب الخيرات لشعوبهم، فيما يسعى غيرهم ببساطة إلى إثراء جيوبهم. لقد صارتِ الساحة ممهَّدة من أجْل التحوُّل القادم في ميزان القُوى، بعيدًا عن الهيكل القَوِيِّ المستقر ونحو حقبةٍ مقبولٍ فيها فعلُ أيِّ شيء، حقبة من اللامركزية والدول النِّفْطية المعتدية.

مثَّل صعود نجم شركات النِّفْط القومية، ومن بينها بعضٌ من أقوى المشاريع النِّفْطية في العالم، مؤشِّرًا محوريًّا على وجود نظام نفطي عالمي جديد الآن. وقد بَدَتِ النزعة نحو ارتفاع أسعار النِّفْط — تلك النزعة التي لم تكن قضيةً تُذكَر من قبلُ قط — وكأنها تَحظَى بحضور دائم مُخِيف بحلول بدايات الألفية الجديدة. فلم يمسَّ أي ملمح للنظام النِّفْطي الجديد حياة ذلك العدد الكبير من الناس على نحو مباشر وعلى أساس يومي مثلما فعلت أسعار النِّفْط المرتفعة.

لم تكن القضية بشأن النِّفْط وحسب، وإنما أيضًا بشأن «نوعية» النِّفْط؛ إذ إن النوعية المفضَّلة من النِّفْط هي الخام «الحُلْو الخفيف»، بينما الأقل نوعيًّا من حيث التفضيل الخامُ «المُرُّ الثقيل»، وتتفاوت درجة الخام بينهما. وقد ارتبطتِ الاختلافات بين هذه الدرجات بكل من المناطق التي أُنتجت فيها والتكنولوجيا والنفقات المرتبطة بتكرير الأنواع المختلفة علاوة على استخراج مشتقات مفيدة منها.

(١-١) أنواع النِّفْط

للنِّفْط الخام أنواع عِدَّة يُحدِّدها كلٌّ مِن محتوى الكِبْرِيت ودرجة اللزوجة. فالنِّفْط الذي يشتمل على محتوًى مرتفِعٍ من الكِبْرِيت يُشار إليه بأنه «مُرٌّ»، بينما النِّفْط ذو المحتوى المنخفض من الكِبْرِيت يُسمَّى النِّفْط «الحُلْو». ولأن الكِبْرِيت من الملوِّثات، هناك تشريعات متزايدة للطاقة «النظيفة» تَحُدُّ من استخدام المشتقات المحتوية على الكِبْرِيت.

ترتبط «اللزوجة» بكثافة أو ثخانة المُنتَج الخام (سواء في صورته السائلة أو الشبيهة بالقطران). ويُعتبر النِّفْط الخام القطراني نفطًا «ثقيلًا»، فيما يكون النِّفْط الخام الأكثر سيولة نفطًا «خفيفًا».

بصورة عامة، يمكن استخراج مشتقات مختلفة من كل نوع من أنواع النِّفْط، لكن النِّفْط المُر الثقيل يحتاج عملية تكرير أغلى، والكثير من مصافي التكرير ليست مجهَّزة بحيث تستطيع تكرير النِّفْط المُر الثقيل. يعني هذا أن صورة العرض والطلب الخاصة بالنِّفْط لا تعتمد فقط على سلعة وحيدة وإنما تعتمد أيضًا على العرض والطلب الخاص بمنتجات محددة وعلى قدْرة التكرير المتاحة. البنزين، على سبيل المثال، يكون عليه طلب كبير في السوق الأمريكية في أشهُر الصيف، فيما يزداد الطلب على المازوت (زيت التدفئة) خلال أشهُر الشتاء.١
«المشتقات الخفيفة» تتضمن المشتقات الخفيفة كلًّا من البروبان والبيوتان والنفتا والبنزين. الخام الحلو الخفيف، الذي يتَّسم بانخفاض كلٍّ من درجة اللزوجة ومقدار الكِبْرِيت فيه، هو أكثر الشرائح المنفردة شعبية من حيث الطلب. (أوروبا، على سبيل المثال، آخذة في التحوُّل تدريجيًّا إلى المركبات الأكثر كفاءة العاملة بالديزل.) لكن للأسف، يُمثِّل الخام الحلو الخفيف خُمس الإنتاج العالمي فقط. وأهم الدول المنتِجة له الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (خام بحر الشمال «برنت»)، ونيجيريا والعراق وغرب أفريقيا.
«المشتقات الثقيلة» تتضمن المشتقات الثقيلة كلًّا من المازوت وزيت الوقود. وأهم الدول المنتِجة للخام المرِّ الثقيل السعودية والكويت وإيران وفنزويلا وروسيا والمكسيك.

(٢) الدول النِّفْطية الجديدة المعتدية

كانت التغيرات التي بدأتِ الحدوث في سبعينيات القرن العشرين بسيطة، وعادة ما كان يصعب رؤيتها في وقتها، بَيْدَ أنَّ تلك التغيرات خَلَقَتْ تحولًا في ميزان القوى. ويبدأ استكشافنا للنظام النِّفْطي الجديد بدولتين من دول أفريقيا؛ دولة تشاد، ودولة ساو تومي وبرينسيب. فعلى مدار قرون، عانت هاتان الدولتان من فقر مُدْقِع في الموارد، لكن الآن في القرن الحادي والعشرين، تُسارِع هاتان الدولتان الخُطَى للانضمام إلى نادي منتِجي النِّفْط. وليستِ المفارقة واحتمالات التنافس السلمي أو العنيف بخافية على أحد.

هوامش

(١) بلاتس لمعلومات الطاقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤