إليوت سميث وأصل الحضارة

figure

حين أتأمل الشخصيات العظيمة التي أثَّرت في حياتي تغييرًا أو توجيهًا، وأبحث القوة الجذبية التي جذبتني إليها، أجد أنها ثلاثة طرز:

فأما الطراز الأول فهو أولئك الذين تتسم حياتهم أو مؤلفاتهم بغلواء حين يحيون أو يفكرون على القمة والذروة. فَهَمُّ نيتشه في جنونه المقدس، يُحيل حياته إلى مغامرة فلسفية، ويدعونا إلى أن ننسلخ من رواسب الخرافات الماضية ونتولى بأنفسنا مصير مستقبلنا، وهَمُّ دستوفسكي في غلواء الحب الغامر للبشر، والإحساس الديني الذي تتذبذب به أوتار نفسه. وهَمُّ غاندي الذي يكافح إمبراطورية سوداء بكلمات عذبة من الطهر والشرف فيخجل منه العالم ويسلم باستقلال الهند.

وأما الطراز الثاني فهو أولئك الذين أعطوني منهجًا للحياة، فهَمُّ جيته الذي عاش طالبًا مدى حياته يزيد وجدانه بالتوسع في الثقافة والزيادة من الاختبارات، ويشتغل بالسياسة والأدب والعلم والفنون، وهَمُّ برنارد شو يجعل من أدبه كفاحًا للظلم والاستبداد والدناءة والقبح، وهَمُّ «ﻫ. ج. ولز» يرفع الصحافة إلى مقام الفلسفة، فيدرس شئون العالم إلى تدين بشري جديد كأنه إحساس يغمر قلبه وعقله.

وأما الطراز الثالث فهم أولئك الذين أعطوني المعارف الخصبة أو الأفكار الحوامل، مثل فكرة التطور التي أحدثت لي مركبات ثقافية، كأنها العقدة النفسية في المريض تدأب في تفرع، ولكن مع التسلل والتستر. ولقد استطاعت هذه الفكرة الداروينية أن تجعل حياتي جميعها استطلاعًا دائمًا. وهَمُّ فرويد الذي حملني على دراسة العشرات من الكتب. وهَمُّ «إليوت سميث» الذي فتح لي من أبواب التاريخ البشري ما لا أزال أنفذ منه إلى ميادين فسيحة من الفهم والعلم.

هؤلاء علموني … أكسبوني بالحياة الغالية التي عاشوها على القمم إيحاءات كأنها صلوات بالقلب، أو أعطوني منهجًا أعيش به عيش الخدمة والكرامة والشرف مع الرضا بالتضحية، أو غرسوا في ذهني غراسًا صالحة تنمو وتتفرع كأنها نبت ينير خلايا المخ ويسطع أنوارًا تقشع ظلام الجهل.

•••

التاريخ هو في صميمه درس العوامل الجغرافية والاقتصادية التي أثرت وغيرت المجتمعات البشرية، التي عاشت في بقعة معينة من الأرض. وتاريخ مصر هو جغرافيتها، هو زراعتها التي أوجدت مجتمعًا مستقرًّا يثبت في مكانه ثبات الزراعة في الأرض.

وليس لأمة تاريخ ما لم يكن هناك تفاعلات اقتصادية بين الأفراد بحيث تؤدي هذه التفاعلات إلى إيجاد مؤسسات، مثل المحاكم والمعابد ونحوهما، أما ما دام ليس هناك مؤسسات، كما هي الحال بين الإسكيماويين حول القطب الشمالي، فإنه لن يكون هناك تاريخ.

ثم ما دام كل فرد يكسب لنفسه وأولاده فقط، ولا يستطيع أن يزيد، فإن المجتمع لن يستطيع أن يدخر مقدارًا من المال لإيجاد هذه المؤسسات الاجتماعية التي يحتاج إليها، ولذلك ليس عند الإسكيماويين حكومة؛ لأنه ليس هناك فائض من كسب الأفراد يكفي لإيجاد مجموعة المؤسسات التي نسميها حكومة، ولذلك أيضًا ليس لهم تاريخ.

وقد كان الإنسان قديمًا يعيش في الغابات كما لا تزال تعيش القردة العليا، وكان يجمع طعامه ولا ينتجه، والفرق عظيم جدًّا بين الجمع وبين الإنتاج، فإن البشر ينتجون طعامهم هذه الأيام، ولذلك بلغوا ٢٣٠ مليونًا في حين أنهم كانوا لا يزيدون على أربعة أو خمسة ملايين حين كانوا يجمعون الطعام من الغابات جمعًا، أي يلتقطون الثمرة البرية، أو يقتلعون الجذور الطرية، أو يصيدون الوحش، أو يأكلون الحشرات والزواحف وسائر الحيوان. ولكن ليس الفرق بين الجمع والإنتاج كميًّا فقط؛ لأن هذا الفرق هو في صميمه فاصل بين الإنسان البدائي الساذج الجوال، وبين الإنسان المتمدن المستقر الذي عرف الزراعة؛ أي عرف الإنتاج.

وهنا قيمة إليوت سميث.

•••

كان إليوت سميث أستاذًا للتشريح في كلية (مدرسة) قصر العيني، قبل نحو أربعين أو خمسين سنة، وقد تعلم على يديه كثير من أطبائنا مثل علي إبراهيم، وجورجي صبحي، وأحمد شفيق، وكانت له هواية إلى جنب الحرفة، وكان كما هو المألوف يهتم بهوايته وبحرفته، بل انتهى في أخريات حياته إلى احتراف الهواية، وهذه الهواية هي تاريخ مصر.

ولكنه لم يكن يدرس تاريخ مصر كي يتعرف على تاريخ مصر، وإنما كان يهدف إلى درس تاريخ الحضارة البشرية في العالم كله عن طريق الدرس لأصول الحضارة المصرية التي انتشرت حول ضفتي النيل في العشرة آلاف سنة الأخيرة.

واستطاع أن يثبت أن مصر هي أصل الحضارة للعالم كله؛ وليس ذلك لأن أسلافنا كانوا أذكى من سائر البشر؛ وإنما لأن جغرافية مصر قد تفاعلت مع الإنسان المصري بما لم يتفاعل أي وسط آخر مع الإنسان، فكانت النتيجة ظهور الحضارة في مصر.

وبهذه النظرية نقل إليوت سميث دراسة الحضارة من تعدد الأصل إلى وحدته، كما سبق أن فعل داروين حين رد الأحياء إلى أصل واحد، وأصبحنا نتتبع تطور الحضارة وتنقُّلها من قُطْرٍ إلى آخر عن سبيل الكلمات والآثار والعادات الفرعونية. ولهذا الرأي الجديد مدرسة يعد تلاميذها بالألوف، ولا تقل المؤلفات في تأييد هذا الرأي عن ثلاثمائة كتاب في لغات مختلفة.

وقد كانت مؤلفات إليوت سميث عندي انبلاجًا ذهنيًّا قادني إلى دراسات مختلفة، كما أثمر مركبات ثقافية ما زلت في اشتباكتها. وقد ألَّفت كتابي: «مصر أصل الحضارة» وأنا في غبطة الفرح بهذا الفهم الجديد للدنيا والبشر، ولا يعدل هذه الغبطة عندي سوى اهتدائي إلى نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» وهي النظرية التي جعلت التاريخ علمًا يقاس ويوزن، وليس روايات لذيذة أو مصادفات غير معللة، والحق أن نظرية الأصل المصري للتاريخ البشري كله تستند في أساسها إلى العوامل الاقتصادية، وأهمها هذا النيل الذي يروي الوادي فينتج الزرع.

•••

وبؤرة البحث عند إليوت سميث تنحصر في أن الإنسان البدائي الذي كان يجمع الطعام جمعًا من الغابات رأى في مصر على توالي السنين أن فيضان النيل يعم الوادي في مواعيد معينة كل عام، حتى إذا انحسر انطلقت النباتات وكست الأرض بالخضرة النضرة التي كان يجد فيها طعامًا، كما كان يجد فيها صيدًا لوفرة الحياة الحيوانية، ففهم بالتكرار أن الماء هو أصل الحيوية، وهو أصل النبات، فشرع يحتجز الماء هنا ويطلقه هناك، ويضبط الري، وهذه هي الهندسة الأولى. وظهر عندئذٍ التخصص: مهندسون ينظمون الري، وفلكيون يعينون الأوقات الزراعية، وهؤلاء لا يزرعون وإنما يعيشون بالفائض من المحصول. وهنا تنشأ الحكومة التي يرأسها مهندس أو فلكي تُنسب إليه صفات الألوهية؛ لأنه يدري ما لا يدريه غيره من الهندسة أو الفلك، وهو يعيش كأنه ملك، بل ملك يطاع، فإذا مات أصبح قبره معبدًا، كما نرى في عصرنا كيف يميز العامة الممتازين بأضرحة يتبركون بها ويزورونها، وأرض مزروعة تحتاج إلى حدود تحترم من الجيران، وإلى أوصاف تعيَّن للزراعة، وإلى محكمة تعاقب المعتدي على الحدود أو المحصول، وإلى صناع يصنعون الآلات الزراعية، وكل هؤلاء لا يزرعون. فنشأ من ذلك الحكومة والتجارة والفنون، وهذه هي الحضارة. ثم يموت العظماء فتنشأ الأضرحة العظيمة التي تستحيل إلى معابد، وهذا هو الدين البدائي.

ويجب ألا ننسى هنا أن كلمات القمح والبُر والحِنْطة هي جميعًا فرعونية؛ وذلك لأن أسلافنا هم الذين زرعوها لأول مرة في التاريخ، وعينوا أسماءها. ولعله كانت هناك فروق بين بذور القمح أدت إلى تعدد هذه الأسماء. والزراعة هي الأساس الأول الذي نبتت عليه الحضارة الأولى، أما قبل الزراعة فلم يكن هناك غير التجوال للبشر، بلا ثقافة غير المعارف القليلة الخاصة بالصيد، والتقاط الثمار، واقتلاع الجذور، فالزراعة أوجدت الاستقرار بدلًا من التجوال، وبسطت الآفاق لثقافة الفنون والعلوم ونظام الحكم.

•••

وإلى هذا نفهم كيف نشأت الحضارة الأولى في مصر، وبقي علينا أن نعرف كيف خرجت من مصر إلى سائر العالم. وقد استطاع إليوت سميث أن يكشف لنا عن أسرار النفس البشرية، أو بالأحرى يهتدي إليها عن طريق البحث في انتقال الحضارة المصرية الأولى إلى أقطار العالم المختلفة. فهو يوضح لنا أن غاية الإنسان البدائي أن يطيل عمره وأن يتقي الموت. ونحن نعرف من التحنيط أن المصري القديم كان يعتقد في سذاجة أنه ما دامت الجثة قد حُنِّطت واستحالت إلى مومياء متقنة، فإن الحياة ستمتد بها في العالم الآخر. وكان التحنيط يحتاج إلى بعض المواد النباتية والمعدنية من الأقطار البعيدة، وهذه المواد كانت تقف الفساد في الجثة كما تكسبها عطرًا حسنًا. وتنقَّل المصريون في جلب هذه المواد، ونقلوا معهم حضارتهم إلى أقطار بعيدة، وخاصة عندما نعرف أن بعض البعثات المصرية كان ينقطع بها الطريق، فلا تعود بل تبقى في قُطر ناءٍ بين شعب غريب بدائي لا يعرف الزراعة، فتنقل هذه البعثة إلى هذا الشعب الفنونَ المصرية، وتعيش هناك إلى الأبد. ومن هنا نعرف لماذا وُجد تمثال الرب آمون في روسيا بالقرب من جبال أورال، ولماذا عُبِدَ ربُّ الشمس في مكسيكا، كما عُبد في مصر، من حيث إحاطته بالثعبان، ولماذا حُنِّطت الجثة في أمريكا على الطريقة المصرية، ولماذا وُجدت الأهرام في إيطاليا والسودان، ولماذا توجد في اللغة الفنلندية كلمات فرعونية، ولماذا ترجع أبجدية الخطوط في جميع اللغات إلى الهيروغليفية المصرية، ولماذا يعمِّم التقويم المصري (الشهور والأيام) أوروبا بل العالم كله إلى الآن، ولماذا بُنيت المعابد وذُكرت الأساطير على الطريقة المصرية، بل لماذا يوصف إمبراطور اليابان بوصف الفراعنة، ابن الشمس؛ أي ابن رع، وأخيرًا لماذا تكون الحبوب الأولى التي يأكلها الإنسان ولا يزال يأكلها مصرية الاسم كما سبق أن ذكرتها وهي: قمح، بُر، حِنطة.

وفي مصر يُسمِّي الأقباط أسقفهم أحيانًا باسم إيسوذوروس، وفي أوروبا تسمَّى المرأة باسم إيسيدورا، ومعنى الاسمين «عبد إيسيس»؛ أي الربة إيسيس، وكهنة مصر الآن هم ورثة الكهنة أيام الفراعنة، وكانت شارة الكاهن المصري القديم ذلك الثعبان الذي كان يحيط بالرب رع، وهو — أي الثعبان — لا يزال شارة الأسقف القبطي، وهو يُرى على رأس عصاه إلى الآن. ولكن لما كان الكاهن المصري طبيبًا وساحرًا أيضًا، فإن الثعبان هو الآن شارة الطبيب في أوروبا. وفي اللغة العربية لا يزال معنى الطب هو: السحر، الكهانة. بل هناك إشارات صغيرة تدل على تسلسل الثقافة الفرعونية من منف وطيبة إلى باريس ولندن، اعتبر قول الأوربيين: «يوم أحمر وليلة حمراء» للدلالة على أوقات السرور والقصف والاحتفال، ونحن نقول في مصر «ليلة حمراء» في هذه المعاني أيضًا، والأصل هو عادة أسلافنا في كتابة أيام الأعياد بمداد أحمر، والعيد قصف ولهو.

هذه الثقافة المصرية القديمة التي تفشَّت في العالم القديم لم يكن من الضروري أن يكون القائمون بها مصريين؛ لأن البعثة المصرية التي وصلت إلى الصين مثلًا حيث تركت التمساح وجعلت تمثاله شعارًا للصينيين ليست هي التي ذهبت إلى أمريكا، وأوجدت التحنيط وعبادة الشمس التي تحيط بها هالة الثعبان؛ لأن هذه البعثة التي ذهبت إلى أمريكا كانت في الأغلب هندية أو صينية أو جاوية قد تأثر أفرادها بالثقافة المصرية.

وأذكر البقرة هاتور المصرية، وأذكر تقديس البقرة في الهند، وأذكر أيضًا ملوك أفريقيا المتوحشين، وكيف يضربون الجهات الأربع بالقوس، كما كان يفعل الفراعنة عندما كانوا يتولون العرش رمزًا إلى الاستيلاء على العالم. بل أذكر أيضًا دعوى الحق الإلهي لملوك أوروبا، وهي الدعوى التي كافحتها الشعوب الديمقراطية، ولا ننسى دعوى الألوهية عند الفراعنة. بل هناك ما يرجِّح أن معظم الأسر المالكة في العالم يرجع إلى أصل فرعوني؛ وذلك لأن كل بعثة كانت تخرج من مصر لجلب المواد والطيوب للتحنيط كان يرأسها أحد أفراد أسرة فرعون، فإذا لم ترجع البعثة صار هذا الفرد ملكًا على البقعة التي كانت تحتلها بعثته حتى إذا استقر العرش الجديد خرجت بعثة أخرى … إلخ.

ولم يكن التحنيط الباعث الوحيد لهجرة المصريين إلى الأقطار البعيدة، فإن الإنسان المصري الذي كان يرغب في بقاء حياته بالتحنيط، كان أيضًا يحب أن يطول عمره على الأرض قبل التحنيط، فكان يجمع الودع ويحمله للمشابهة العظيمة بين الودعة وبين عضو التناسل في المرأة؛ ذلك أنه كان يعتقد أن هذا العضو هو أصل الحياة، ومن هنا هذا الاشتقاق العربي وهو «الحياة من الحيا»؛ أي عضو التناسل في الأنثى. ثم صار أيضًا يجلب الذهب ويصوغه ودعًا لجماله، ثم نقل ميزة الودعة إلى الذهب، فصار الذهب يُطلب لذاته؛ لأنه يطيل الحياة مثل الودعة، بل صار الذهب إكسير الحياة، الذهب حجر الفلاسفة، الذهب أصل النقود، كل هذا من الاعتقاد المصري القديم بأنه — أي الذهب — يطيل العمر.

ثم أذكر بعد ذلك الكيمياء التي نشأت من الرغبة في إحالة المعادن إلى ذهب، بل ماذا أقول؟ إن كلمة كيمياء نفسها مصرية، وهي خيمي أو كيمي؛ أي مصر، أي الأرض السوداء. والكيمياء هي «العلم المصري».

وبعد الذهب صار الإنسان المصري يجلب الأحجار الكريمة اعتقادًا بأنها تطيل العمر، وما زلنا في مصر نشفي العين العليلة بتعليق حجر عليها أو فوقها … وما زلنا ننشد البخت بضرب الودع، وكلمة «المرجان» تنطوي على معنى الحياة الطويلة في الفارسية.

وإطالة أعمارنا على الأرض بالذهب والأحجار الكريمة، وإطالة أعمارنا بعد الموت بالتحنيط، كلتاهما دفعت الإنسان المصري إلى الهجرة إلى الأقطار النائية، فتفشَّت الحضارة المصرية بهذه الهجرة في أنحاء العالم، وأخرجت الإنسان من التوحش وجمع الطعام من الغابات إلى التمدن وإنتاج الطعام بالزراعة، والزراعة أوجدت الحكومة، والدين، والفلك، والحساب، والهندسة، والبناء، والقانون.

•••

نشأ الدين البدائي في مصر، وكانت غايته استبقاء الحياة بعد الموت بتحنيط الجثة، فإذا كان الميت عظيمًا صار إلهًا بعد موته. فلما عُرفت الزراعة أصبح للدين مهمة أخرى هي إخصاب الأرض وإنتاج المحاصيل. وإلى عصر الإسكندر بقي هذا التفكير البدائي حتى إن كهنة مصر قد حالوا الإسكندر إلى إله، وقرن آمون لا يزال منقوشًا على النقد الإغريقي الباقي من أيامه، ولا يزال الكهنة يباركون على الزراعة في أوروبا إلى الآن. ومن الممارسات الدينية الباقية نعرف الكثير من نشأة الدين المصري القديم، فإن البخور كان يطلق على تمثال الميت كي يكسبه رطوبة وعرقًا كأن الحياة قد عادت إليه، وقد نشأت الفنون من هذه الثقافة الدينية القديمة، فإن التمثال صُنع أولًا كي تلجأ إليه الروح إذا كان الجسم قد فسد، والرسوم التي تروي لنا حياة الميت قد احتاجت إلى الرسامين والمعبد، وهو في الأصل الضريح الذي احتاج أيضًا إلى البنائين والنحاتين.

وجميع الفنون الحديثة ترجع إلى بؤرة مفردة هي الضريح المصري ومركباته السيكلوجية، ورسم الميزان للعالم الآخر مألوف لا يخلو منه معبد، وهو يعين الجنة التي تحوي الشجر والثمر للبررة، كما يعين جهنم التي تحتوي النار للفجرة، ومن هنا ظهر معنى العدل. بل إن تحنيط الميت هو الأصل في توبلة الطعام؛ لأن الملح والطيب والأفاوية التي كان يحتاج إليها الميت صارت تستعمل في الطبخ كي يطيب الطعام، ومن هنا كان القول العامي المألوف في أيامنا أن الطعام «محنط»؛ أي متوبل.

ودراسة التاريخ المصري القديم هي دراسة البدايات: بداية الزراعة، وبداية الصناعة، وبداية الحضارة والثقافة. وإن الغيبيات التي سادت الأذهان البشرية نحو ستة آلاف سنة لتتكشف واضحة الأسس مفهومة البناء عندما ندرس الضريح المصري.

•••

لم أكن أنبعث في دراساتي للفراعنة بباعث وطني، ولم يكن لفتوحات تحتمس ورمسيس وأمثالهما ذلك الوقع الذي يحسه أولئك الذين يستخدمون التاريخ لإشعال الوطنية، بل كذلك لم تكن دراسة التاريخ عندي محض السرد القصصي والتراجم والحروب، وظني أنه لو لم يكن وراء دراسة الفراعنة هذه النظرية القائلة بانتشار الثقافة من بؤرة الضريح المصري لما كان التفاني يزيد على المطالعة العابرة. ولكن هذه النظرية كانت تحوي العديد من المركبات الثقافية التي جذبتني وحملتني على التفطن لأصول الحضارة، ومن هنا إغراؤها القوي لاستمرار الدراسة، وإحساسي نحو الفراعنة هو لذلك بشري وليس وطنيًّا.

ولقد قرأت «فجر الضمير» للمؤرخ الأمريكي «بريستد» وهو يشيد بالأخلاق العالية للمصريين قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة، بل إنه يقارن بين الأخلاق التي دعا إليها موسى في الوصايا العشر، وبين الأخلاق المصرية فيقول بأفضلية هذه على تلك، ويضرب المثل بأن موسى قد حرَّم الشهادة بالزور فقط، ولكن المصريين قد حرَّموا الكذب إطلاقًا، والكذب بالطبع يشمل شهادة الزور، ولكن ليس العكس كذلك.

ولكني، أنا المصري، أحسُّ أني أبعد ما أكون عن هذا الإحساس، يجب أن ندرس التاريخ بالروح البشري، وأن نذكر أنه إذا كانت مصر قد أنشأت الحضارة الأولى فإن الفضل في ذلك يعود إلى النيل الذي قهر المصري على أن يتعلم الزراعة لمواظبة فيضانه ولانبساط الوادي، وليس لذكاء فذٍّ في أسلافنا.

•••

والحضارة عالمية قد أسهم كل شعب بنصيب فيها، وإذا كان للمصريين فضل الاختراع للكتابة، فإن للهنود فضل الاختراع للأرقام، وما كان يمكن أن تكون هناك نهضة علمية لولا هذه الأرقام الهندية. ولولا الإغريق لما انفصلت الحقائق الفنية والعلمية عن «المعارف» الدينية؛ أي ما كان يمكن للمنطق أن يتغلب على العقيدة. ولولا الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية العربية، لما تعارفت الشعوب هذا التعارف الذي انتهى بوجداننا البشري الحاضر.

ومع أني قد قرأت في هذه النظرية وارتباطها نحو خمسين أو ستين كتابًا فإني ما زلت في اشتباكاتها أترصد مكتشفاتها الجديدة في جميع أنحاء العالم، وأحس بأواصر الأجيال الماضية التي تربطنا نحن المصريين بكافة البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤