شو

رفيق حياتي
figure

أحسن ما اقتنيت في حياتي هو ذكرى برنارد شو، فقد لقيته حين كانت لحيته لا تزال صهباء، وتحدثت إليه وسمعت خطبه وقرأت مؤلفاته، وإني لأحس إحساس أولئك الذين نغبطهم ممن عاصروا أفلاطون أو أرسطوطاليس، واستمتعوا بحديثهما، وقرءوا وناقشوا مؤلفاتهما، ورأوا ضمائرهما الذهنية تتفشى في حياتهم. ولقد عرفته في عام ١٩٠٩، ورافقته إلى سِنِيه الأخيرة إلى أن مات في الرابعة والتسعين، وهي أربع وتسعون سنة من الخلود. ولقد درست فلسفته فكان لي منها توجيه وإرشاد.

ولكني لم أنتفع بمؤلفاته قدر ما انتفعت بحياته، وفلسفته التي — إلى مدى بعيد — تنبع من حياته أكثر مما تتألف من أفكاره، أو أن حياته قد اندمغت في أفكاره فعاش عيشًا فلسفيًّا. ولست أنكر النشوة الذهنية التي كنت أجدها عندما أقرأ له مؤلفًا جديدًا، ولكن الإيحاء الدائم والتنبيه المزعج لأسلوب عيشي واختيار أهدافي، إنما كانا ينبعان من حياته أكثر من مؤلفاته. فقد تناول برنارد شو حياته كما لو كانت مادة خامة، وجعل يعتملها ويصوغها حتى أخرجها تمثالًا جميلًا. وقد ألَّف نحو أربعين كتابًا ودرامة، ولكن أعظم مؤلفاته هو حياته.

وإني ألتفت كثيرًا إلى المؤلفين من هذه الناحية؛ أي كيف ألَّفوا حياتهم وصاغوها وجعلوا منها بناء جميلًا، كما لو كانوا يرسمون صورة أو ينحتون تمثالًا أو يصفون بطلًا في قصة أو درامة؟

وإني لأذكر هنا روسو، وجيته، وغاندي، وفولتير، فإن كلًّا من هؤلاء قد ألَّفوا الكتب العظيمة، ولكن أعظم ما ألَّفوه هو حياتهم، ولو أنه طُلب إليَّ أن أؤلف في ترجمة برنارد شو وفلسفته كتابًا يحتوي عشرة مجلدات لوجدت هذا الواجب سهلًا أنهض به راضيًا في شهور. ولكني أجد صعوبة كبرى في كتابة هذا الفصل عنه، وهي صعوبة الإيجاز والضغط والاختيار، ويجب أن أبدأ بكتابه الأكبر وهو حياته، فإنه اتبع أسلوبًا من العيش يتفق وكلمته:

وإنما يكون الإنسان فاضلًا إذا أعطى المجتمع الذي عاش فيه أكثر مما أخذ منه.

ومعنى هذا أن المجتمع قد كسب بحياته فضائل وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا وحكمة.

وقد نظر إلى جسمه كأنه تحفة غالية، وفهم من الطهارة أكثر مما نفهم فجعلها في أمعائه؛ إذ رفض أن يجعل جسمه خيانة لجثث الحيوانات. والتزم الطعام النباتي وعاش ٩٤ عامًا سليمًا، فبرهن على أنه كان بصيرًا بالغذاء الملائم للتعمير والصحة، وقد كان التعمير بعض أهدافه، كما كان بعض فلسفته، فإنه كان يقول: إن أعمارنا قصيرة لا تتسع للدرس والعمل والاستمتاع، ويجب أن نعيش نحو ثلاثمائة سنة على سبيل العلاج الوقتي لمشكلاتنا الاجتماعية، أما الهدف الأخير فيجب ألا تقل أعمارنا فيه عن أُلوف السنين؛ لأنه إذا طالت أعمارنا اهتممنا بالدنيا وأصلحناها، أما ما دامت أعمارنا قصيرة فإننا نخطف اللذة والمتعة، ولا نبالي إصلاح هذه الدنيا؛ لأننا زائلون منها قريبًا.

وقد أحبَّ واشتعل في نفسه لهبُ العشق فلم يطفئه، ولكنه أيضًا لم يؤججه حتى لا يحترق به، فقد عرف الممثلة «إلين ترى» وكانت الروعة في الجمال والحكمة في العيش، وكانت تجمع إلى هذا ذكاء الإحساس، فكان يذهب إليها كل مساء ويراها وهي تمثِّل، فإذا كان الصباح التالي كتب إليها خطابًا يتسامى فيه بحبه وبسط لها أعاجيب من إحساسه وذكائه في تفطن وحماسة. ولم يقابل أحدهما الآخر. وقد طبعت مراسلاتهما بعد ذلك، وهي جديرة بأن تكون دليلًا للمحبين الذين يرتفعون بالحب إلى الثلث الأعلى من الجسم البشري.

ولم يحظَ بتعليم جامعي ولا مدرسي، ولكن أوروبا الفهيمة عرفت فيه بعد ذلك أسمى نفس بشرية تعيش في عصرنا، ذلك أنه جعل سِنِي عمره الطويل جميعها سني دراسة. ومؤلفاته هي مشكلات اجتماعية قد سلط عليها جهده وذكاءه فدرسها وأخرجها في درامة كوميدية فنية، نقرؤها أو نراها على المسرح، فنحس بالضمير الواخز، والعامل الحافز حتى حين نضحك من أشخاصها ووقائعها. وقد كان المسرح قبله ميدانًا للشخصيات، فأحاله إلى ميدان للأفكار، وكان ميدانًا للتبذخ بوصف الحياة في القصور، أو صلصلة السيوف، أو الخيانة الزوجية الرخيصة، بإيجاد الشخص الثالث بين الزوجين، فجعله مكانًا للتفطن في معاني الحب والبطولة، ومعايش الفقراء والمبئوسين، ومعالجة الطموح الديني وتطور الإنسان بعد آلاف السنين. وكل هذه المشكلات كانت مشكلاته الخاصة التي درسها؛ لأنها بعض تربيته.

عرف برنارد شو الفقر والثراء، وعرف الكفاح في السياسة والفلسفة والعلم والأدب، وصرخ صرخة فولتير في مأساة دنشواي، وكشف عن لؤم السياسة الإمبراطورية البريطانية في الحرب الكبرى الأولى، ونال جائزة نوبل فسلمها لجمعية تنمية العلاقات بين نِرِوج وبريطانيا. ودفع ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال. ولم يعرف قط التدخين، وكان يقاطع الخمر إلى ما قبل وفاته بنحو عشر سنوات. وطاف حول الدنيا، وصادق العظيمين سدني ويب وزوجته، وكانا يرتفعان إلى مستواه في روح البر بالدنيا، وكانا يمتازان بالدراسة الاقتصادية.

•••

قبل أن ألقى برنارد شو وجهًا لوجه كنتُ قد قرأت بعض مؤلفاته، فوجدت القوة التحريرية فيها تعادل أو تزيد على ما لقيته في فولتير ونيتشه، ولما التقيت به في الجمعية الفابية في لندن أحسست كأني إزاء أجمل رجل في العالم؛ فقد كان مهديد القامة، أحمر شعر اللحية والرأس، وكان في نغمات صوته صحلة خفيفة محببة. وكانت كلماته للساسة الإنجليز بشأن دنشواي قد جعلتني أحس كأنه واحد منَّا نحن المظلومين المضرورين المشنوقين؛ لأنه بكى كما بكينا. ولم أترك له كلمة بعد ذلك لم أقرأها إلى يوم وفاته، بل إن حبي له قد حملني إلى أن أقتدي به في التزام الطعام النباتي، وبقيت على ذلك سنة كدت أموت في نهايتها من الهزال، ولم يكن هزالي بسبب المذهب النباتي وإنما كان لجهلي قيمة البيض واللبن عند النباتيين.

كان برنارد شو يعد نفسه صحفيًّا قبل كل شيء، وقد رأينا نحن فيه الفيلسوف العميق، والمؤلف المسرحي المبدع، والأديب الرصين، بل أحيانًا العالِم الذي يستطيع أن يجادل العلميين في أخص نظرياتهم، ولكنه كان يجهل كل هذه الكفاءات بقوله إنها «صحفية» من حيث إنها تتصل بالمشكلات العصرية، والصحفي العالمي يجب أن يرتفع في تفسير هذه المشكلات ومعها إلى المستوى الفلسفي، وأن يكون العلم والأدب بعض شئونه الدراسية.

ولد برنارد شو في عام ١٨٥٦، أي: قبل افتتاح قناة السويس بثلاث عشرة سنة، وكانت سنُّه ٢٦ سنة حين وطئت أقدام الإنجليز أرض وطننا، ولست أذكر هذين التاريخين اعتباطًا، ذلك أن الحادث الأول قد أبرز مصر في وجدان الأوروبيين، وأما الحادث الثاني فقد أبرز للمفكرين من الإنجليز رجال حزب الأحرار ودناءتهم ورياءهم بشأن الحرية التي داسوها في مصر، ونفوا زعيمها العظيم إلى سيلان، وكان من هذا أن مكر بعض الأحرار في ترك حزب الأحرار وإنشاء الجمعية الفابية لنشر الدعوة الاشتراكية، وكادت هذه الجمعية التي التحقتُ أنا بها، والتي أحالتني من شرقي خافٍ إلى أوربي متمدن، كانت السبب الأول لإيجاد حزب العمال الذي أسندت إليه رئاسة الحكومة البريطانية أكثر من مرة، وكان برنارد شو أحد مؤسسيها وأكبر داعية لنشر الاشتراكية الفابية؛ أي التدريجية التي تحلل وتعالج دون أن تثور وتهدم.

عاش برنارد شو طوال عمره وهو يدعو إلى الاشتراكية، وقد اتخذ الطرف اليساري منها هذه السنين الأخيرة من عمره، ولكنا على الرغم من أننا نجد أن نظرياته ثورية، فإن خططه كانت عملية؛ وهو لذلك يُعنى أكبر العناية بالبحث في مسائل المجالس البلدية التي يجد فيها بؤرة العمل الاشتراكي، وهو أفلاطوني الذهن حين يتحدث عن العمال؛ إذ يستصغر شأنهم ويقول بإيجاد صفوة معينة لمعالجة الساسة، وكأنه هنا فاشي يتحدث، كما كان يتحدث موسوليني، ولكن فترات اليأس هذه قليلة عنده، وسرعان ما كان يفيق منها إلى الاعتماد على الشعب. وهو بالطبع عدو الاستعمار وعدم الاستغلال، ويقول بالتأميم. ومؤلفاته رسائل وكتبًا عن الاشتراكية عديدة وهي تتسم جميعها بأنها شعبية وإيضاحية. واختصاص برنارد شو الأدبي هو التأليف المسرحي، وهو يضع لكل درامة أو كوميديا مقدمة قد تزيد أحيانًا على مائة صفحة، يوضح فيها وجهته الفلسفية التي حملته على تأليف هذه المسرحية، بل هو أحيانًا يزيد على المقدمة بملحق يبرز أو يشرح فيه بعض ما احتاج إلى إيجازه على لسان أحد الممثلين، ومن هنا نقرأ الدرامة أو الكوميديا كأنها كتاب مستقل زيادة على قيمتها المسرحية. وأسلوب برنارد شو هو الأسلوب العصري؛ أي الأسلوب الديمقراطي، فهو يكتب للشعب بلغة الشعب، وهو لا يعرف التبذخ أو التظرف فضلًا عن التبهرج، ونحن نقرؤه كما لو كنا نقرأ مؤلفًا في الدين أو الفلسفة أو التاريخ، ومرجعه — أي: مرد جذوره — في المسرح، هو «هنريك إبسن» الذي جعل الدرامة الأوروبية اجتماعية.

وقد ألَّف برنارد شو في بداية حياته الأدبية كتبًا في الدفاع عن إبسن، ولكن إبسن كان فنانًا مسرحيًّا قبل أن يكون باحثًا اجتماعيًّا، أما برنارد شو فعكس ذلك؛ إذ هو باحث اجتماعي قبل كل شيء، وهو يستعمل المسرح وسيلة لشرح المشكلات الاجتماعية، وليس هو مع ذلك الوسيلة الوحيدة، وقد بحث الدين ومستقبل الإنسان، والحب، والحكومة، والبغاء، والفلسفة في نحو ثلاثين أو أربعين مسرحية، ومعظم مسرحياته كوميديات قد طعَّم فيها التفكير الاجتماعي بالفكاهة، وقد تجددت المسارح الأوروبية بهذا الاتجاه الجديد الذي ابتدعه هنريك إبسن، ودعمه برنارد شو، فالدرامة الأوروبية واقعية، تجابه الحقائق وتعالج المشكلات، وليست رومانتية خيالية تعيش في الأحلام والأماني.

•••

الكلام عن فلسفة برنارد شو يحتوي أيضًا بحث ديانته وأدبه وفنه؛ لأنه يعالجها جميعها بالروح الديني، وقد ولد قبل أن يظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» بثلاث سنوات، ورأى واشتبك في المعارك الثقافية حول هذا الموضوع، ورأى الصدمة التي أحدثتها العقيدة الجديدة، وهي أن الإنسان والحيوان من أصل واحد.

وعندما نقرأ درامته الكبرى «الإنسان والسوبرمان» نحس أن هذا الكتاب هو الامتداد لكتاب أصل الأنواع، كما هو إيمان ديني جديد يدعو إليه برنارد شو خلاصته أن ارتقاء الحضارة في المسكن والملبس والتنقل ليس ارتقاءً للإنسان، وإنما الارتقاء الصحيح هو أن يطول عمره إلى ألف سنة، ويزيد مخه إلى كيلو جرامين، وأن يكون حصينًا من الأمراض منذ ولادته إلى يوم وفاته، وهذا هو السوبرمان الذي يجب أن يُستولد من الإنسان بالانتخاب الحكومي، بحيث يكون منا كما نحن من القردة، أعلى في سلم التطور، وأذكى ذهنًا وأسلم غرائز.

وقد اصطدم برنارد شو مع الداروينيين من حيث إيمانه بأن الصفات المكتسبة تورَّث، وأن الوراثة ليست جامدة كما اعتقد فيسمان. وفي السنة الماضية عندما احتدم النقاش بشأن هذا الموضوع بين ليسنكو الذي دافع عن وراثة الصفات المكتسبة، وبين القائلين بأنها لا تورث، وأن الوسط لا يؤثر في تغيير العناصر الوراثية، وقف برنارد شو إلى صف ليسنكو، أو قل إلى صف لا مارك قبيل مائتي سنة.

وديانة شو كما نفهمها من مؤلفاته ومن حياته أيضًا هي الديانة البشرية التي تنأى عن الغيبيات، فإن درامته عن المسيحية «أندروكليس والأسد» تحملنا على الاعتقاد بأنه لا يختلف عن رينان في بشرية المسيح، وأن الله كائن في الإنسان، ولكن إله برنارد شو هو قوة الحياة التي تقف خلف التطور، وتعمل للارتقاء وتسير مكافحة نحو النور والحب. وإلى هنا تقف «غيبياته»، غيبيات لا ترضي المؤمن، ولا تُقنع الملحد، وهي أقرب الأشياء إلى برجسون، وعندي أنها بعض رواسب القرن التاسع عشر التي علقت به هو وبرجسون، كما تعلق أساليب الطفولة بالرجل الناضج، وهو يقول: «إنسان بلا دين هو إنسان بلا شرف.» وهذه عبارة سلبية قد استنتجها من حياته؛ إذ هو لم يؤلف قط كتابًا أو رسالة إلا بروح الدين، أي بروح المسئولية أمام المجتمع، بل ماذا أقول؟ أمام البشر والأحياء والتطور! ومن هذه العبارة أيضًا نفهم أن نظرته للدين اجتماعية أخلاقية.

ومهمة الفلسفة هي في النهاية إيجاد النظريات، والجاهل يحتقر النظريات، ويزعم أنه عملي، ولكن ليس هناك من الأشياء العملية ما هو أفضل من النظرية الحسنة؛ لأننا نقتصد بها، ونستغني بها عن كثير من المجهود العابث. وكلاهما برنارد شو وبول سارتر يقول بحرية الفرد من حيث حقه في أن يعمل كما يشاء، ولكن الهدف يختلف بينهما، فإن برنارد شو يبغي من هذه الحرية خير المجتمع، من حيث إن حرية الإنسان تسير به نحو الخير إذا أدى الخير، ونحو الهلاك إذا قدم الشر، فالمجتمع كاسب من هذه الحرية، دعوا السكير والنَّهِم والمستهتر والمجرم يمارس كلٌّ منهم حريته؛ لأنها في النهاية ستقضي عليه بالهلاك فينتفع المجتمع. ولكن بول سارتر يقول في خسة فلسفية ليس لها نظير: «أنا وحدي» وعلى المجتمع السلام. وبرنارد شو مثل ولز، ينظر النظرة البيولوجية للإنسان فيقول بضرورة التطور، أجل إن التطور هو الديانة الأصلية عند شو.

مات برنارد شو وكان أجمل الأساطير في حياتي، ولقد رافقته وتعلمت منه، وحاولت أن أقتدي به، فكنت أصل أحيانا وأُقَصِّر أحيانًا، ولقد حرصنا بالقدوة والعمل على أن نمارس الأدب لخدمة الجمهور، وبعض هذه الخدمة أن نجعل ساستنا وقادتنا متمدنين مستنيرين، وهذا هو ما حاولت، ولكني للأسف لم أنجح.

ولقد أوصى بأن يحرق جثمانه في المرمدة، وقد أُحْرِقتْ زوجتُه فيها من قبل، كما أُحرق جثمانا صديقه ولز وزوجته، وهذا الاحتراق هو طهارة أخرى مارسها شو في موته كما مارس النباتية في حياته.

•••

مما يستحق الملاحظة أن الأمم العربية جميعها فهمت النهضة على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر، ومن الوطني المستبد، فطالبت بالاستقلال والدستور، واعتقدتْ أن كل شيء من أمانيها قد تم. ولكن الأمم الأوروبية فهمت النهضة أو النهضات المتوالية فيها على أنها قبل كل شيء تحرير الضمير البشري، ففصلت الدين من الدولة، وكافحت التقاليد، وتمردت على سلطة البابا، وألغتها واعتنقت العلوم، ومارست الفنون التي تعمل للتنوير الذهني والسعادة البشرية، وهذا ما لم تفكر فيه الأمم العربية إلى الآن مع أنها تحمل من أعباء الظلام ما يرهق الضمائر ويسود العقول.

والناهضون في أوروبا هم علماؤها وأدباؤها وليسوا ساستها، وهم جاليليو الذي خالف الكنيسة وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس، هم لوثر الذي انفصل من البابا وترجم الكتاب المقدس، هم دافنشي الذي قال بأن الجبال كانت البحار تغمرها، هم داروين الذي أرجع الإنسان والحيوان إلى أصل واحد، هم رينان الذي قال ببشرية المسيح، هم إبسن الذي رفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية.

هؤلاء هم الناهضون الذين غيروا أوروبا، وبرنارد شو واحد منهم، فإنه بأسلوب عيشه ومؤلفاته المسرحية دعانا إلى حياة الطهر، ومكافحة النفاق الاجتماعي، وكانت مهمته تحرير الضمير البشري من الخرافات والتقاليد والجبن الفكري، وبعث الآمال في مستقبل البشر على هذه الأرض. وصحيح أنه كافح قوات الظلام التي يمثلها الاستعمار والاستبداد، ولكنه كافح أيضًا، وبقوة أكبر، قوات الظلام التي تمثلها التقاليد وموروث العقائد الغيبية.

ولو فهمنا نحن المصريين دلالة النهضات الأوروبية وعملنا لتحرير ضميرنا، لكان لنا إلى جنب الحرية السياسية حرية أخرى أكفل للسعادة، وأعمل لتكوين الشخصية، ولكان لنا منها موقف آخر حيال المشكلات الاقتصادية والأخلاقية والثقافية، وفي هذه الحال ما كان لمستبد أن يحبس عقولنا بقوانين تحد من حرية الصحافة، أو يسلط علينا بوليس الأفكار؛ كي يعين لنا ما يجوز وما لا يجوز أن نفكر فيه ونكتب عنه.

أجل، إننا ما زلنا بعيدين عن دلالة النهضات الأوروبية!

•••

ليس من الصدق أن أزعم أني اقتديت ببرنارد شو فإنه رفع نفسه إلى مستوًى عالٍ من «العيش الساذج مع التفكير السامي» وعاونه على ذلك وسط متمدن لم أجد أنا مثله إلى يوم خلع فاروق في مصر، حيث يكافأ الرذل على رذيلته، ويعاقب الفاضل على فضله، والأصل في هذه الحال المعكوسة هو الإنجليز من ناحية والتقاليد الشرقية من أخرى، ولكني حاولت، وكررت المحاولات، ولم أتعب ولم أسأم. وخير ما أخذت عن برنارد شو هو هذا الروح العلمي الذي يسود مؤلفاتي فإني مثله علمي الذهن، أدبي الوسيلة، فلسفي الهدف، أمتاز بالتفكير العلمي، والتعبير الأدبي، وهذا إلى أنه حبب إليَّ الاشتراكية ونقلها عندي من منطق العقل إلى عاطفة القلب. أجل إنه جعلها ديانتي العملية فليس البر عندي إحسانًا وصدقة، وإنما هو البرنامج الاشتراكي الذي يوفر لكافة الشعب طعام الجسم، وغذاء الذهن، وحرية الضمير، والإقدام على المستقبل، وهو بعد داروين الذي جعلني أستمسك بالتطور، وأجعل منه الديانة المذهبية لحياتي، وفكري وموقفي البشري. وقد كان هو يقول بالحاجة إلى «وزارة للتطور» تعمل لترقية السلالات البشرية، وهذا تفكير يعلو علوًّا عظيمًا على الصغائر التي يشتبك فيها صغار الأدباء.

وحين أعود إلى الأفكار التي بثها في نفسي برنارد شو، وحين أنظر إلى الدنيا من عدسته، أحس السرور والغضب والإقدام والشجاعة والجهد والإرادة، أجل أحس أن حياتي ترتفع إلى مقام التاريخ وأن لوجودي دلالة فلسفية.

•••

مات برنارد شو بعد أن ملأ الدنيا بفكاهاته، وهي فقاقيع الحكمة فكنا نضحك ونتعلم. نحن الآن أقل ثراء في النفس وذكاء في العقل مما كنا في أيامه، وقبل أن يموت بأيام قال زعيم الفكاهة هذا يصف عالمنا في عام ١٩٥٠: إن بين كل أمة وأمة حربًا باردة، وبين كل فرد وفرد من أبناء الأمة الواحدة حربًا باردة، وبين كل إنسان ونفسه حربًا باردة!

هذا ما قاله زعيم الفكاهة، وهي كلمات موجعة تصف عالمنا التعس الحاضر.

•••

لما مات برنارد شو أطفئت الأنوار في نيويورك خمس دقائق، وكذلك أُغلقت المدارس في الهند يومًا كاملًا، وجرى مثل ذلك أو قريب منه في أقطار أخرى، ولكن مصر لم تفعل شيئًا من هذا، كأنها تعيش في ذهول لا تقدِّر القيم الأدبية والاجتماعية في العالم، والواقع أنها كذلك.

ولو كانت هناك أمة مدينة لبرناردشو لكانت مصر، فإن الصفحات القليلة التي كتبها عن دنشواي تحمل من غلواء الذهن والعاطفة ما ينظمها في عداد الأدب العالمي والبلاغة السامية، وستعيش هذه الصفحات وسيقرؤها — كما قرأها — الملايين الذين سيغضبون من الاستعمار وسيعرفون منها حق مصر وباطل بريطانيا. ولو كنا أمة عصرية لنقلنا إلى لغتنا جميع مؤلفات برنارد شو، ولكانت هذه المؤلفات جديرة بأن تُحدِث نهضة اجتماعية وأدبية، فإن تفكيرنا السياسي جامد، ونشاطنا الأدبي إما رجعي يتعمق ظلام القرون الماضية، وإما سطحي يتبهرج بالألوان على صفحات الجرائد والمجلات كأنه عبث الصبيان؛ ولذلك ما كان أحوجنا إلى التوجيه السيكلوجي الاجتماعي الذي يتسم به أدب برنارد شو، بل ما أحوج الأديب والسياسي معًا إلى هذا التوجيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤