غاندي

داعية الاستغناء
figure

وُلد غاندي إنسانًا ومات قديسًا. ولم يكن غاندي مؤلفًا من حيث فن التأليف الكتابي وإخراج الكتب، ولكنه ألَّف ما هو خير من الكتب، ألَّف حياته التي كانت مصباحًا منيرًا نحو أربعين سنة للبشر من جميع الطبقات، وقد كانت دعواته أو رسالاته متعددة، فقد دعا إلى الوطنية الهندية ومحاربة الاستعمار وإلى الاستقلال والحرية، كما دعا إلى المغزل والمنسج وإلى الطعام النباتي، ولكن كل هذه الدعوات كان يسودها روح القداسة. ولذلك نستطيع أن نقول إن دعوته الأولى هي القداسة؛ ذلك أن وطنيته لم تكن للهند وحدها، وإنما كانت إخاءً بشريًّا لسكان هذا العالم كله. ولم يكن كفاحًا دمويًّا قائمًا على البطش والدم، وإنما كان مقاومة سلبية تنهض على حض الهنود على ألا يتعاونوا مع المستعمرين لهضم حقوقهم وضغط حرياتهم، ولم يكن تدينه لديانة آبائه فقط — أي الهندوكية — إذ هو كان يجعل صلاته حافلة جامعة للإنجيل والتوراة والقرآن، والكتب الهندوكية المقدسة، وقد صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوكيين والمسلمين على الإخاء، وبذلك رفع السياسة إلى مستوى القداسة. وقد كتب تاريخ حياته في أسلوب شعبي ساذج يخلو من التبرج؛ لأنه لم يكن كاتبًا أديبًا لعوبًا، ومن هذا الكتاب نُحسُّ قداسته، ونهفو إلى ذكراه في حنين وحنان معًا، كما نهفو إلى ذكرياتنا للأم الحبيبة أو للعشيقة التي أوسعتنا سعادة السنين، أو للابن الذي حملناه على صدورنا وقبَّلنا وجنتيه الطريتين. وذكرى غاندي عندي هي نشوة يغمرني فيها إحساس فني كذلك الإحساس الذي أنتعش فيه حين أرى الشفق الزاهي والحقول النضرة والرسم الرائع. وليست عظمة غاندي من ذلك النوع الذي يحملنا على احترامه؛ إذ ليس هناك مكان في قلوبنا لذكراه سوى الحب، وحيث يكون الحب العميق لا يكون الاحترام.

وإني لأكتنز كنوزًا نفيسة في حياتي لا أرضى بها بدلًا، هي أني عشت وعاصرت تولستوي وبرنارد شو وشفيتزر وغاندي، وكلهم قديس، وليست قداستهم من ذلك النوع القديم حين كان ينزوي الراهب في صومعته بعيدًا عن المجتمع كي ينشد خلاص نفسه بالصلاة؛ لأن هذا الراهب هو في صميمه أناني يطلب الخلاص لنفسه فقط، ولكنَّ هؤلاء القديسين العصريين كانوا يتألمون ويصومون ويكافحون من أجل خلاص البشر، وقد استطاعوا أن يغيروا الأوزان والقيم البشرية، وأن يغرسوا في قلوبنا حبًّا جديدًا وأن يعلمونا أسلوبًا فلسفيًّا للعيش.

مات غاندي في سنة ١٩٤٧ وهو أعظم رجل في العالم، ومع ذلك كان كل ما يملك عنزة تُدِرُّ له اللبن، وشملة تكسو جسمه لا يزيد ثمنها على ثلاثة أو أربعة قروش. وكان يغزل بيده ويكتب ويشتري القليل من الفواكه أو الجبن بما يكسب؛ وبذلك نصب غاندي أمام العالم كله مثالًا يحتج به على أساليب عيشتنا الاقتنائية، ويوضح لنا أن السعادة والشرف والمكانة أيسر من أن نتكلف من أجلها جميعًا هذا الجهد، بل هذا العذاب في اقتناء المال والهرولة التعسة التي نعيش بها من أجل التكاثر بهذا المال.

والفهم العام للنسك هو أنه عادة أو رهبنة دينية قد نشأت في الأمم الشرقية، وهو كذلك إذا فهمناه على أنه انزواء في صومعة. ولكن الحرمان الذي فرضه على نفسه كلٌّ من برنارد شو وتولستوي وغاندي وشفيتزر هو نسك آخر، نسك غربي ينهل على أسس من الثقافة الغربية غايته خدمة المجتمع، وإنهاض البشرية وتجديد القيم الاجتماعية، بل إنه ليس نسكًا؛ لأن المعنى الأصيل للنسك أنه الحرمان من بعض الملذات في الطعام أو الشراب أو اللباس أو السكنى أو إشباع الشهوات، ولكن هؤلاء الأربعة الناسكين لم يحسوا، وهم يحرمون أنفسهم ما نحسب أنه متاع، أنهم قد فقدوا شيئًا لأنهم قد أخذوا بقيم جديدة تجعل ما نعتز أو نلتذ أو نفخر به من ثراء أو اقتناء تافهًا لا يحرص عليه الرجل العظيم بل لا يباليه.

حادثة واحدة في حياة غاندي تدلنا على أن استغناءه لم يحمل معنى القهر، وهو انقطاعه عن الاتصال الجنسي منذ بلغ الرابعة والثلاثين، فهو لم يكن يقصر نفسه على هذا الحرمان، ولم يكن يحس أنه حرمان؛ ذلك لأن الآمال والآفاق التي كان يترامى إليها تفكيره كانت تغمر نفسه، وتشغل كل وقته وتهيب به، بما تحمل من عظمة ومجد، أن ينسى ما دونها من ملذات أخرى. فهو لم يكن يشتهي طعام اللحم، أو الاتصال بالمرأة، أو اقتناء الثراء؛ لأن نفسه كانت مغمورة بما هو أسمى. فالانكفاف هنا ليس قهريًّا أمريًّا، وإنما هو سيكلوجي؛ أي إن غاندي قد سد القنوات في شهواته؛ لأنه جمعها كلها نهرًا واحدًا نحو غاية موحدة هي الإنسانية.

وكي يفهم القارئ هذه الحال عليه أن يذكر مثلًا ذلك الأب الذي يفقد ابنه الحبيب، فإن كثيرًا من الآباء في هذه الحال يحسون صدودًا عن المرأة كأن الشهوة الجنسية قد أصبحت حرامًا لا يجوز لهم الاستمتاع بها بعد أن ثكلوا الابن الذي أحبوا. وهذا الصدود هو في منطق النفس نذر لشيء آخر، وكان نذر غاندي الذي سد قنوات شهواته جميعها تقريبًا هو حب البشر، واستقلال الهند، ومحو النجاسة، وطرد الإنجليز.

•••

ومما ينبهنا في حياة غاندي أنه على الرغم من المسحة البدائية الساذجة التي تبدو بها صورته لنا، إنما كان غريبًا في ذهنه عصريًّا في فكره، بل أكاد أقول إنه كان ماركسيًّا في أسلوب كفاحه للإنجليز، من حيث إنه فهم الاستعمار على أنه استغلال للأرض والبشر في الهند لمصلحة الإنجليز فجعل مكافحته قائمة على الاستكفاء الاقتصادي بتعميم المغزل والمنسج ومقاطعة المصنوعات الإنجليزية.

ولم تكن دعوته للمغزل إطارًا لهذه الآلة اليدوية الصغيرة على مصانع الغزل والنسيج التي يعمل فيها على الحديد والنار، وإنما هو وجد أن ظروف الهند، وهي ظروف الحرمان والفاقة والفراغ، مع الجوع في الريف وترصد الإنجليز لأية نهضة اقتصادية وتصديهم لقتلها في المهد، كل هذا جعله يفكر في الوسيلة التي تعم البيوت الهندية حيث يعمل الأب والأم والأبناء في العمل دون أن يستطيع الإنجليز أن يتدخلوا ويمنعوها.

والمتأمل للحركات الوطنية في مصر والهند وتركيا يجد ظاهرة تستحق الالتفات، هي أن جميع الوطنيين في هذه الأقطار الذين قادوا هذه الحركات قد امتازوا بثقافة أوروبية وأخذوا بالقيم والأوزان الأوروبية. أما الشرقيون الذين نشئوا في حضن الثقافات التقليدية الدينية أو الاجتماعية فلم يدركوا هذه الحركات، ولم يستطيعوا أن يعدوها بتفكيرهم؛ فإن دعاة الوطنية الهندية طلاك وغاندي ونهرو قد تعلموا جميعهم في أمر واحد هو أن أتاتورك مقاطعًا مجاهدًا في مقاطعته للأخلاق الشرقية.

وهذا هو الشأن أيضًا في مصر حيث نجد أن الزعامة الوطنية والانتهاض القومي العام والدعوة للاستقلال يحمل علمها ولا يزال يحمله أولئك المصريون الذين تعلموا في أوروبا أو أخذوا بالثقافة الأوروبية، وما تحمل من أوزان ونظم جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع.

وقد كان الاستعمار البريطاني في الهند يؤيد تقديس البقرة، ويؤيد نظام المنبوذين ويؤيد حجاب المرأة؛ لأن أعظم ما يؤخر هذه الأمم الشرقية هو هذه التقاليد المحجرة، بل لولا هذه التقاليد لما استطاع الاستعمار أن يطأ بقدميه أرض الهند أو مصر. ولعلنا لا ننسى هنا أن الإنجليز كانوا يعارضون حركة قاسم أمين بشأن تحرير المرأة، وكانت ناظرة المدرسة السنية الابتدائية للبنات تصر على اتخاذهن للبرقع، ولكن الاستعمار مذهب غربي وهو مع أنه يدوس الأمم الشرقية، لا يزال يحمل في طياته السم الذي يقتله في النهاية؛ لأنه ينقل معه الثقافة الأوروبية التي تحيل بعض الشرقيين إلى أوربيين في الذهن والعاطفة والنظرة، وهؤلاء يفكرون وينتهون إلى دعوة الاستقلال والتحرير من شيئين معًا؛ وهما الاحتلال الأجنبي وأيضًا التقاليد المحتجرة. ولذلك ما كاد الهنود يُجلون الإنجليز حتى عمدوا أول ما عمدوا إلى إلغاء نظام الطبقات الذي كان يؤيد بقاء المنبوذين، وولوا منبوذًا وزارة المعارف، كما منحوا المرأة حق المساواة بالرجل في الميدان الاجتماعي، وأيضًا حق الانتخاب للبرلمان وللوزارة، وهم في ذلك يشبهون مصر.

وليس شيء في الدنيا أسوأ من الاستعمار الأجنبي سوى التقاليد الشرقية المتحجرة، وليس شيء في الدنيا أسوأ من التقاليد المتحجرة سوى الاستعمار الأجنبي، ولكن مع ذلك حين أتأمل بعض الأمم التي لا تزال تعيش في استقلالها واستبداد تقاليدها أحس كأني أرغب في استعمار أجنبي يصفعها الصفعة المنبهة التي توقظها وتنبهها وتحملها على إلغاء تقاليدها.

•••

ثلاثة رجال يبرزون في حياة غاندي من حيث تكوينه وتوجيهه في التفكير الاجتماعي، وهؤلاء هم: ثورو وتولستوي وروسكين، وكانوا جميعًا من المتمردين على الحضارة الأوروبية يحاولون الارتداد عنها إلى ما هو أبسط وأقل تعقدًا، وأميل إلى الخدمة والتعاون دون السلطة والاستثمار، ولا يستطيع المتأمل لنشاط هؤلاء الثلاثة، الدارس لأفكارهم ونظرياتهم ومثلياتهم، أن يقول إنهم كانوا على بصيرة تامة بالحضارة الأوروبية ومنتهاها، ولكن تمردهم كان بمثابة التنبيه إلى ما فيها من أخطار تلصق بالمجتمع الاقتنائي الذي انتهت إليه حيث يعيش كل فرد وغايته الاقتناء والإثراء في مباراة عنيفة قاتلة.

كان ثورو أمريكيًّا، وُلد في عام ١٨١٧ ومات في عام ١٨٦٢، واشتغل بالتعليم وبغيره، ولكنه في عام ١٨٤٥ ترك حياة المدن وهاجر إلى الغابة، حيث بنى لنفسه كوخًا، وجعل يعيش حياة بدائية بصيد السمك من بحيرة قريبة، ويأكل الثمار البرية، ويعمل بالأجرة في الحقول القريبة، وكان يقضي معظم وقته في تأمل الحيوان والنبات في الغابة وهو واضع عبارة «العصيان المدني» التي أخذها عنه غاندي، وكان يعني بهذه العبارة أن لكل فرد الحق في أن يستقل بشخصيته، ويرفض العادات والمطامع الاجتماعية، ويعيش وفق مثلياته الخاصة، وهو عاصٍ لا يخضع للمجتمع، وبقي إلى عام ١٨٤٧ بالغابة حين عاد إلى المدينة وعاش مع صديقه «إمرسون» وألَّف كتابًا بعنوان «والدن أو الحياة في الغابة»، وهو يروي في هذا الكتاب اختباراته، وكيف أن حاجاته جميعًا من لباس وغذاء وسكنى لم تكن تكلفه سوى القليل من الجهد والقليل جدًّا من النقود.

وواضح أن غاندي حين ترك المدن وآوى إلى معتكفه في الطبيعة يقنع بما تدره عليه عنزته من اللبن والجبن، وأيضًا بقنوعه بتلك الشملة التي كان يشتمل بها دون أي لباس آخر، إنما كان يستضيء بثورو في حياته في الغابة. ومكافحته للإنجليز الاستعماريين بشعاره «العصيان المدني» يعود إلى القدرة على الاستغناء، فإنه نبذ الرفاهية فضلًا عن البذخ وقنع بالقليل الذي لا يستطيع الإنجليز أن يحرموه منه، وكان ثورو على الدوام في ذهنه: رجل قانع يعمل عندما يحتاج ويرتاح ويتأمل الشمس والشجر والماء والسحاب عندما لا يحتاج، والحضارة القائمة تدعونا إلى الاقتناء والإثراء والجهد والمباراة، ولكن عبارة ثورو هي كيف نستغني؟ وليس كيف نقتني؟

أما تولستوي فليس هناك من يجهله، فقد ولد في عام ١٨٢٨، ومات في عام ١٩١١، وكان فنانًا عظيمًا يؤلف القصص الخالدة كما كان أخلاقيًّا متمردًا على الحضارة أيضًا مثل ثورو، وقد حرمته الكنيسة الروسية؛ لأنه ألَّف كتابًا عن إيمانه وصف فيه المسيح باعتبار أنه إنسان عظيم لا أكثر، وأن دعوة المسيح إلى الحب البشري هي الخلاص لجميع الناس وأن «ملكوت الله» كما جاء في الإنجيل ليس حياة أخرى بعد الموت، وإنما هو في قلوبنا وأنفسنا وعالمنا هذا، وأنه يتحقق بالحب بين البشر. وقد عاش في الأرض التي ورثها عن عائلته، وحاول تسليم هذه الأرض للفلاحين، ولكن عائلته منعته، وكان يصنع الأحذية بنفسه للفلاحين، كما أنه أنشأ مدرسة لأولادهم وأصدر مجلة في التربية، وقبل وفاته بنحو عشرة أيام خرج هاربًا من بيته يريد أن يرضي ضميره ويعيش كأحد الفلاحين.

وقرأ غاندي مؤلفاته وهو في أفريقيا الجنوبية فتأثر بها كثيرًا، وكان أن أسس ما سماه «مزرعة تولستوي» حيث كان يُعلم أبناء الهنود ويزرع أرض المزرعة، ومن هنا نشأت عنده فكرة التعلم بالعمل، وهي الفكرة التي أحالت التعليم إلى تربية.

ويرى كثير من الناقدين أن الخطة التي اتبعها غاندي في مكافحته للاستعمار في الهند وهي «المقاومة السلبية»؛ أي تقبل العدوان في صمت وثبات إنما ترجع إلى تعاليم تولستوي في شرحه للمسيحية، هذا الشرح الذي جلب عليه حرمان الكنيسة له حتى قال رومان رولان الأديب الفرنسي المعروف: «وحسبي ما قلت كي أبين أن غاندي كان ينطوي على قلب إنجيل خافق تحت كساء من الإيمان الهندوكي.» أما روسكين الذي أحبه أيضًا غاندي فكان من الأدباء الإنجليز، وقد وُلد في عام ١٨١٩، ومات في عام ١٩٠٠، وألَّف عددًا كبيرًا من الكتب في الفنون والأخلاق والاجتماع، ولما مات أبوه عام ١٨٥٥م ترك له ثروة قدرت وقتئذٍ بمبلغ مائة وخمسين ألف جنيه، فلم يمتلكها بل تبرع بها للمنشآت الاجتماعية والتعليمية وقنع هو بأن يعيش بقلمه.

•••

لم يكن غاندي يضع القواعد كي يتقيد بها، وإنما كان يفرض القاعدة أو المبدأ للاسترشاد الأخلاقي في الخطة العملية؛ ولذلك نجد أن التزامه للمقاومة السلبية لم يكن جامدًا؛ إذ هو كان يلجأ إلى العمل الإيجابي من وقت لآخر؛ أي إن «العصيان المدني» لم يكن عنده ركودًا أو اعتزالًا أو خمودًا، وإنما كان أيضًا عصيانًا مباشرًا كما نرى في حادث الملح. ذلك أن الحكومة الهندية كانت في استغلالها الإمبراطوري تحتكر صناعة الملح، وهو إدام أو تابل يحتاج إليه كل فرد، فالكسب عظيم منه والضرورة تكفل رواجه الدائم، ورأى غاندي في سنة ١٩٣٠ أن ها هنا فرصة يجب أن تُستغل لتحريك التمرد على الاستعمار وتجرئة الشعب الهندي على عصيان القوانين، والأخذ بالشجاعة فدعا إلى مظاهرة شعبية تبدأ من معتكفه حيث كان يقيم إلى شاطئ البحر حيث الملاحات الحكومية.

وهناك يخالف غاندي القانون عمدًا وينزل المتظاهرون إلى الملاحات ويحملون الملح مجانًا، وكافح المستعمرون هذه المظاهرة بكل الوسائل ووجدوا من الهنود أنفسهم من أيَّدهم في تزييف هذه الحرية أو شلها، فمنعوا القطارات من السفر إلى الشاطئ، ومنعوا الخطابات، وعطلوا الصحف وراقبوها وأوفدوا البوليس والجيش يحمل كل فرد منهم هراوة ضخمة، ثم أنحوا على المتظاهرين بالضرب أو بالأحرى بالخبط حتى تحطمت الرءوس والأجسام، وخضبت الأرض بالدماء، وألقوا القبض على رأس الفتنة، وداعية العصيان غاندي.

ولكن كل هذا لم يهزم المتظاهرين، وبقي العصيان يفشو ويزداد وامتلأت السجون وفاضت، فأسس الإنجليز حظائر من الأسلاك يحبسون فيها الثائرين، وأصبح المسجونون يعدون بمئات الألوف، وانتشر روح التمرد في جميع أنحاء الهند فامتنع المالكون من أداء الضرائب، واستقبال ألوف الموظفين، وتراءى للإنجليز أن الثورة تسير في طريق النجاح وأن الأداة الحكومية قد شُلَّت، وعندئذٍ فكروا في أسلوب آخر للمكافحة، فإنهم إلى جنب الضرب والاعتقال عمدوا إلى الحكم بالغرامات، ولكنها كانت تجربة تعلم منها غاندي وتعلم الهنود كيف يكافحون وفهموا وفكروا ودبروا.

وفي عام ١٩٣٩ عند شبوب الحرب الكبرى الثانية ترك غاندي هذا الأسلوب القديم للمكافحة، ودعا دعوة أخرى هي «اتركوا الهند»، وترك الإنجليز الهند في عام ١٩٤٨ وتحقق الاستقلال.

•••

وكان الهنود يعيشون أيام الإنجليز في تقاليد الفقر والجهل والمرض، وليس شيء يعمل للذلة والهوان مثل هذه العناصر الثلاثة التي تجمع شرور العالم كلها، وهي العون الأول للاستعمار؛ ولذلك حاربها غاندي جميعها بطراز جديد من المدارس يلائم ظروف القرية الهندية، وهذا الطراز هو ما يسمى الآن «التربية الأساسية».

في عام ١٩٤٥ كتب أينشتين عن غاندي هذه الكلمات البليغة:

إن غاندي يتزعم الشعب الهندي، لا تؤيده في هذه الزعامة أية سلطة خارجية، وهو سياسي لا يقوم نجاحه على الحيلة أو المهارة في الوسائل الفنية، إنما على القوة الاقتناعية في شخصيته، وهو مكافح مظفر يحتقر على الدوام أساليب العنف، وهو حكيم متواضع قد تسلح بالإرادة كي يتناسق سلوكه، وقد أرصد كل قواه لأن ينهض بشعبه ويرقى بمصيره، وقد جابه توحش أوروبا بوقار إنسانيته، ولذلك كان على الدوام يرتفع عليها. إن الأجيال القادمة سوف تشك في أن إنسانًا مثل هذا سعى بقدميه على أرضنا.

وهذه كلمات عظيم قد رأى العظمة في غيره وفطن إليها.

•••

علمنا غاندي أيضًا أن حكمة الحكيم ليست بالاقتناء، وإنما هي بالاستغناء، وأننا نستطيع أن نحقق السعادة والمكانة، وأن ننجز وعد حياتنا على الأرض، بالقليل من الحاجات دون هذا البذخ الذي يضنينا بلوغه ثم لا يسعدنا الحصول عليه، وأن ضرورات العيش من مسكن وملبس ومطعم قليلة، بل إننا إذا أقللنا منها عشنا على أحسن حال كما تتوافر لنا بهذه القلة القوة والوقت للاستمتاعات العالية، وعلمنا نحن الشرقيين أن الاستعمار عدو لا شك فيه، ولكن هناك ما هو أعدى منه لنا، وهو الاستمساك بعادات وتقاليد وقيم ثقافية واجتماعية شرقية لا يصلح أن تبقى في القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤